استقـلال لبنان والربيع العربي

الحركة الثقافية – انطلياس

2011/11/16


مداخلة د. عصام خليفة

        من البديهي ان نطرح في مقدمتنا تحديداً للمصطلحات:

1-   الاستقلال يعني قدرة الدولة على ممارسة سيادتها على أراضيها ومياهها الإقليمية والأجواء الواقعة فوقهما1.

2-وربيع العرب: هو المصطلح الذي أطلق على تحرك الشعوب العربية المطالبة بالحقوق والحريات وتحسين أوضاعها الدستورية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية والسياسية والثقافية وذلك انطلاقاً من تونس. والأرجح ان جذور هذا المصطلح تعود الى ما أطلق على تحرك الشعوب الأوروبية عام 1848 فيما سمي Printemps des peuples، وذلك بهدف تحقيق الأهداف التي دعت اليها الثورة الفرنسية (المساواة والحرية والإخاء).

اغلب البلدان العربية تعاني من البطالة ومن الفقر (نسبة الفقر تتراوح بين 28.6% في لبنان و 30% في سورية و 59.9% في اليمن وفي مصر 40.9%) ويمكن ان نقدّر ان هناك 65 مليون فقير عربي (يعيشون على دولارين في اليوم)2 وقد قدر عدد العاطلين عن العمل في المنطقة العربية بـ 25 مليون عاطل عام 2010.

        والبلدان العربية عانت من مخاطر الاعتماد المفرط على الأسواق العالمية لتأمين الحاجات الغذائية، حيث ارتفعت الاسعار بنسبة 40% (عام 2008)3. ونسبة انتشار الجوع في سورية، على سبيل المثال، لا تقل عن 4% من السكان4. والقصور الغذائي ينعكس على وضع الاطفال ويؤدي الى قصور في الأداء الدراسي والتسرب (40% من العرب البالغين اميّون وتشكل النساء 3/2 من هذا العدد). وتغرق البلدان العربية واحداً بعد الآخر الى ما دون خط الفقر المائي5

        وعلى صعيد آخر يأتي موضوع الصحة على درجة متدنية من سلم الاولويات بالنسبة الى الميزانيات والبرامج الخاصة بالتنمية في البلدان العربية. وثمة خلل في النظم التعليمية على مستوى المدرسة وعلى مستوى الجامعة (ويهاجر حوالي ربع متخرجي الجامعات)، وثمة مشاكل دونية المرأة، ولا تشغل المرأة سوى 3.5% من المقاعد البرلمانية، كما عبّر 51% من الشباب عن رغبتهم في الهجرة ووجهتهم المفضلة البلاد الاوروبية. وفي امكان 1.6% فقط من السكان استخدام الانترنت وهي نسبة تقل عما هي عليه في اية بقعة من العالم. ويبلغ ما ينتجه العرب من الكتب 1.1% من مجموع الانتاج العالمي، وتشكل الكتب الدينية 15% منها. ويوجد 35 صحيفة لكل الف عربي مقابل 285 للألف في البلدان المتطورة، ويبلغ عدد الكتب المترجمة الى اللغة اليونانية (التي لا ينطق بها سوى 11 مليون نسمة) خمسة اضعاف ما يترجم الى العربية. وسيدخل سوق العمل 100 مليون بحلول العام 2020 وهناك حاجة لخلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة.

        ومن جهة أخرى ثمة اختلافات اثنية ودينية وطائفية ولغوية ارتبطت بنزاعات متأصلة وتاريخية في أغلب البلدان العربية. واغلب هذه البلدان خضعت، لفترات طويلة، للاحكام العرفية او احكام الطوارئ حيث تم تعليق العمل ببعض بنود الدساتير واحكام القانون. فتعطلت الحريات وانتشر نهج الاعتقال والسجن والتعذيب دون مبرر وتعطلت حرية الاعلام (عام 2008 كانت حالة الطوارئ مفروضة في ستة بلدان عربية). هذا الوضع ادى أيضاً الى تعطيل استقلالية القضاء وانتشار الفساد، والى بروز حركات المعارضة التي اطلق على بعضها صفة الارهاب.

        في مواجهة هذا الواقع طرحت جملة مشاريع للاصلاح: منها تقرير التنمية البشرية العربية 2002 – وتقرير العام 2003. ومنها ما اعلنته ادارة جورج بوش الابن (في 20 ايلول 2005) والذي سمي مشروع الشرق الاوسط الكبير (G.M.O)6. وبموازاة الخطة الاميركية طرحت المبادرة الفرنسية – الالمانية للاصلاح في الشرق الأوسط7 كما طرحت الجزائر نصاً لتعديل ميثاق الجامعة العربية، واطلق اعلان برشلونة الذي تم تبنيه في المؤتمر الاورو- متوسطي في 27 – 28 نوفمبر عام 1995، كما تم اعلان تونس للقمة الأولى لرؤساء دول وحكومات الحوض الغربي للبحر المتوسط (6 كانون الاول 2003).

        هذه خطوط عامة لمشاريع اصلاحية طرحت لتغيير اوضاع المنطقة العربية مع العلم ان احداث ايلول في نيويورك، ومحورية الصراع العربي – الاسرائيلي تبقى طاغية في حضورها على مستوى العالمين العربي والاسلامي من جهة وعلى المستوى الدولي من جهة أخرى.

        لكن ما كان مفاجئاً للجميع الحراك الشعبي في تونس ومصر خاصة، وفي ليبيا لاحقاً وما يستمر حصوله في اليمن وسوريا حتى الآن والاسئلة التي تفرض نفسها في هذا المجال:

1-هل سيتمكن الشعب السوري من تحقيق التغيير باتجاه الحرية والديمقراطية مع الحفاظ على وحدة المجتمع والدولة؟ ام ان الصراع الدموي سيستمر ويتطور ليدخل مرحلة الاقتتال الطائفي ويؤدي الى تفكيك المجتمع والدولة في سورية؟

2-وهل سيتمكن النظام الاقليمي العربي المتمثل بالجامعة العربية من معالجة الازمة السورية دون تدخل القوى الخارجية بما فيها تركيا وايران؟ ام ان تركيا وايران اصبحتا جزءاً عضوياً مؤثراً في المسألة السورية وفي النظام الاقليمي، وهذا الامر يستتبع تدخلاً دولياً محتماً؟ وان التسويات التي سيتم الوصول اليها ستكون على حساب استقلال الدول والشعوب العربية ولمصلحة القوى الخارجية الفاعلة؟

3-هل تستطيع القوى الاسلامية باجنحتها المختلفة (اخوان – سلفيون من السنة، والمتأثرون بفكرة ولاية الفقيه من الشيعة) ان تتكيف مع فكرة المواطنة والدولة المدنية؟

4-هل نستطيع الرهان على ان التغيير الذي سيحصل سيتجه نحو احترام الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان؟ ام ان ما يخطط للمنطقة هو المزيد من التفكك (مراجعة برنارد لويس في كتاب مستقبل الشرق الأوسط).

5-والدولة اللبنانية التي تعاني من تفكك السلطات فيها هل ستبقى مع المجتمع اللبناني بمنأى عن الصراع العنفي الدائر في الداخل السوري، ام ان العنف سيصل الى مكونات المجتمع اللبناني المنقسم والمستنفر بين 8 و 14 آذار؟ وان العنف المندلع في الداخل السوري سيطال قوات اليونيفل في الجنوب؟

وهل تستطيع قوى من رحم المجتمع المدني ان تتصدى للمسار العنفي الآتي وتحول دون وصوله الى المجتمع اللبناني باعتبار ان هذا الوطن قد نال حصته من العنف في المراحل السابقة وآن له ان يرتاح وينعم بالسلام الأهلي؟!

6-وماذا عن دور اسرائيل في كل ما جرى ويجري من خلال إصرارها على السياسة الاستيطانية ورفضها الموافقة على حل الدولة الفلسطينية من خلال تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة. وهل ان غنى لبنان بالمياه – ومؤخراً بالنفط والغاز في مياهه الاقليمية – هو من الأسباب التي تؤدي بإسرائيل للعمل الى تغذية ايصال لبنان وسائر المنطقة الى العنف والاقتتال والتفكك. وهل ان القوى التي تطرح نفسها في مواجهة الاهداف الاسرائيلية تعرقل فعلاً تحقيق هذه الاهداف ام انها تصب – بشكل واعٍ او غير واعٍ – في مصلحة الاعداء.

 

أيها السيدات والسادة،

نجد من واجبنا كنخب مثقفة أن نستمر في الدفاع عن استقلال وسيادة الدولة اللبنانية ضمن كامل حدودها الدولية، وان نستمر في الدفاع عن العدالة الاجتماعية والديمقراطية في لبنان وعلى امتداد عالمنا العربي في مشرقه ومغربه وان نراهن على وعي الشعوب العربية وحقها في مجتمع يرتكز على الحرية والعدالة وحقوق الإنسان.

 


 

مداخلة د. رغيد الصلح

 

عندما شد الربيع الديمقراطي رحاله الى المنطقة العربية، شعر لبنانيون ولبنانيات كثر بمزيج من الفرح والاسى. الفرح لان الاشقاء العرب اخذوا يتنشقون عبير الحرية والديمقراطية، والاسى لان دور لبنان في هذه التحولات الديمقراطية والسلمية لبث محدودا ان لم نقل هامشيا. ويخيل الي ان هذا الشعور سوف يتراكم مع اقتراب الذكرى الثامنة والستين لاستقلال لبنان، ومع العودة الى احداث الموقعة الاستقلالية اللبنانية اذ انها جاءت وسط ربيع عربي معا مما يفسح المجال امام المقارنة بين توقعات الاربعينات، يوم حقق لبنان استقلاله،وبين واقعنا الراهن.

آنذاك انطلق دومينو الاستقلالات بين البلدان العربية. ولئن كان قدر الدومينو العربي ان ينطلق عادة من بلد عربي صغير في المساحة وعدد السكان، فانه ليس من قبيل المبالغة ان نقول ان لبنان كان احد اهم منصات انطلاق ذلك الدومينو الاقليمي الاستقلالي. فموقعة الاستقلال اللبناني تحولت الى سابقة تحتذى من قبل حركات التحرر والاستقلال العربية. [1] واثبت هذا التحول صحة تقييم سلطات الانتداب والحماية  الفرنسية عندما كانت تؤكد لحكومات باريس انه لن يسع فرنسا ان تحافظ على وجودها الامبراطوري في شمال افريقيا طويلا اذا ما تخلت عن سوريا ولبنان، وان اي تنازل في البلدين سوف يعجل في افول نجم فرنسا في المغرب العربي ومن ثم عن المسرح العالمي.

العدوى اللبنانية

وبالفعل، فبعد اسابيع قليلة على معركة الاستقلال اللبناني، ترددت في المنطقة العربية اصداء قوية للمتغيرات اللبنانية وخاصة في المغرب العربي. ذلك انه بينما كان الزعماء الوطنيون فيه يشددون آنفا على المطالب الاصلاحية، انتقلوا بعد موقعة الاستقلال اللبناني الى طرح القضية الاستقلالية برمتها، اي بتعبير آخر الى الاقتداء بالسابقة او ’العدوى‘ اللبنانية. [2]

ولم تفت الصلة بين معركة الاستقلال اللبناني والتطورات المغاربية الاوساط الدولية المعنية باوضاع المنطقة العربية مثل وزارة الخارجية البريطانية، فعلق احد المسئولين فيها على هذه التطورات بقوله ان زعماء شمال افريقيا وجدوا ان رفع مستوى المجابهة مع السلطات الاستعمارية وصولا الى خلق ازمات دولية الطابع،  كما فعل الزعماء اللبنانيون، هو السبيل الافضل الى نيل الاستقلال.

لقد خاض اللبنانيون هذه المعارك من اجل التغيير الديمقراطي مثلما خاضوها من اجل التحرر الوطني. فالانتداب الفرنسي لم يحمل الى اللبنانيين دروس الثورة الفرنسية المؤكدة على المساواة وانما جاءهم بالممارسة الاقصائية التي ابقت اكثر اللبنانيين واللبنانيات خارج المؤسسات الدستورية. ولقد عمقت هذه الاساليب الاقصائية معارضة اللبنانيين للانتداب بحيث تزاوج النضال من اجل الاستقلال بالنضال من اجل تطبيق الديمقراطية. بهذا المعنى كان ميثاق 1943 حدثا ديمقراطيا كما كان حدثا وطنيا.

هذا البعد يغيب حتى عن بعض اللبنانيين احيانا كما يغيب عن اذهانهم معنى استمرار الديمقراطية اللبنانية في اصعب الظروف الاقليمية والدولية. لقد صمد هذا الالتزام الديمقراطي امام موجة الانقلابات العسكرية وانظمة الحزب الواحد  التي انتشرت في العالم الثالث ابتداء من الخمسينات ، وحافظ  لبنان على نظامه الديمقراطي حتى عندما لم يزد عدد الديمقراطيات في العالم عن الثلاثين،[3]. بل انه كثيرا ما يغيب عن بعض اللبنانيين ان المنبع الاصلي للديمقراطية في العالم لم يكن اثينيا خالصا كما  يقول المؤرخون الاوروسنتريون الذي جعلوا  اوروبا محور التاريخ الانساني، بل كان هذا المنبع متوسطيا ومشرقيا ايضا. [4]  اي انه كان فينيقيا بمقدار ما كان اثينيا. بل ان عددا متزايدا من المؤرخين والعلماء مثل البروفسور جاك غودي استاذ العلوم الانتروبولوجية في جامعة كامبردج وجون كين احد ابرز الكتاب في علم السياسة في بريطانيا يكتشف اليوم ان الديمقراطية الفينيقية كانت تفضل ديمقراطية اثينا وروما لانها كانت اقرب الى فكرة المساواة من ديمقراطيات شمال المتوسط. [5]

وكما كان للبنان اثره الكبير في تحفيز النزعات الاستقلالية وفي اختيار الطريق الافضل لبلوغ هدف التحرر، فانه كان له اثر مهم ايضا في قيام النظام الاقليمي العربي وفي تعميقه وفي بلورة العديد من المؤسسات والمواقف العربية المشتركة. فلولا تمسك لبنان وسوريا بعقد المؤتمر التأسيسي لجامعة الدول العربية قبل ان تضع الحرب العالمية الثانية اوزارها لكان من الارجح ان تحول الدول المنتصرة في الحرب دون قيام هذه المؤسسة الاقليمية.

الوطنية والعمق الديمقراطي

قد يجد البعض في معركة الاستقلال  التي خاضها لبنان حدثا استثنائيا في التاريخ اللبناني، والحقيقة في نظري ان هذه الموقعة كانت حدثا تاريخيا مجيدا في تاريخ لبنان ولكنها لم تقع خارج سياق نضالات اللبنانيين من اجل الاستقلال والحرية وتعميق الصلات مع بقية البلاد العربية.

في هذا السياق المتميز يمكننا ان نفهم موقعتي تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الاسرائيلي عام 2000 ودحر العدوان الاسرائيلي عام 2006. كان مأمولا ان يتحول الانتصار اللبناني الى سابقة ذات اهمية كبرى على الصعيد الاقليمي، وان يتحول لبنان بفعل رصيده التحريري والديمقراطي الى نموذج اقليمي للدولة ذات السيادة الوطنية الراسخة والمنيعة والنظام الديمقراطي المتقدم. وامل لبنانيون كثر في ان يتمكن لبنان، في زمن مثل زمن الربيع العربي، من ان يكون في قلب عملية التغيير في المنطقة، وان يستثمر فيها كل ما يملك من خبرات وآمال وارصدة في تحويل المخاض التغييري الى ولادة جديدة للبنان وللمجتمعات العربية. الا ان هذه الآمال لم تتحقق على الوجه المطلوب، لان لبنان لم يستوف الشروط الاساسية للاضطلاع بدوره المرتجى في الربيع العربي، وفي مقدمة هذه الشروط، حسب تقديري، ما يلي:

اولا، اصلاح سياسي يبدأ ببلورة المعالم الرئيسية للنظام السياسي اللبناني، والاتفاق على الاسس الناظمة للحياة العامة. ولقد تبلورت هذه المعالم من خلال الميثاق الوطني غير المكتوب عام 1943 وتم تجديد هذه المعالم في ميثاق الطائف المكتوب عام 1989 وفي ما تبع الميثاق من صياغات دستورية. وباختصار شديد يمكن القول ان الميثاق اكد على ان النظام السياسي في لبنان هو نظام هجين فيه مزيج من النموذجين الاكثري والديمقراطي التوافقي، وعلى ان هذا النظام يتسم بالطابع المؤقت. بناء على هذا الفهم للنظام الديمقراطي التوافقي، ترتب على النخب الحاكمة وبموجب الدستور اللبناني تشكيل الهيئة الوطنية للتقدم بمقترحات حول سبل الغاء الطائفية كمقدمة للانتقال الى نظام قائم على اساس المواطنة وعلى اساس التعددية الحزبية. وامل المشرعون عبر هذا الاجراء ان تحل الاحزاب والجمعيات محل العصبيات القديمة المتعارضة مع المصالح والتطلعات العقلانية والعصرية.

ثانيا، الاتفاق على سياسة دفاعية فاعلة وسليمة تقوم على مبدأ الدفاع الوطني الشامل. وهذا المبدأ يقتضي اشراك جميع المواطنين والمواطنات دون استثناء في مهام الدفاع عن الوطن فيكون المواطن منتجا في ايام السلم ومقاتلا ومقاوما في ايام الحرب. ان تطبيق هذه السياسة هو الاطار الاصح والاسلم لبحث مسألة علاقة المقاومة بالدولة اللبنانية، وقضايا الحرب والسلم. فعندما يتحول كل مواطن الى مقاوم، كما هو الامر في الدول التي تطبق سياسة الدفاع الشامل مثل ماليزيا وسنغافورة وسويسرا والسويد، فان الدولة هي نفسها تتحول الى مقاومة. وعندما يتم تسليح كافة المواطنين وتدريبهم على استخدام السلاح وتنظيمهم في تشكيلات مسلحة يحل الشعب المقاوم محل الحزب او الجماعة المقاومة. وعندما تمثل الحكومات الشعوب تمثيلا حقيقيا ونزيها وتعلو المصلحة الوطنية على كل مصلحة فئوية لا تعود هناك حاجة الى مقاومة مستقلة عن الدولة.

وهذه الخيارات ليست ضربا من ضروب الخيال فهي مطبقة فعلا في كل بلد يطبق مبدأ الدفاع الوطني الشامل وخاصة تلك المشار اليها اعلاه. ومن المستطاع ان يبدأ لبنان فورا في تطبيق هذه السياسة عبر اعادة تنفيذ خدمة العلم بعد ادخال تعديلات عليها. ما عدا ذلك فان كل حديث عن تجريد المقاومة من سلاحها قبل تطبيق استراتيجية الدفاع الوطني الشامل، سوف ينال من سيادة لبنان الوطنية، ويضعف قوة الردع اللبنانية في مواجهة العدو، ويزيد من غلواء اسرائيل واستباحتها لمصالح لبنان وثرواته الطبيعية وارادته الحرة.

ثالثا، اعادة النظر في السياسات الاجتماعية والاقتصادية المتبعة حتى هذا التاريخ وفي مقدمتها اجماع واشنطن والنيو ليبرالية، والاخذ بمبادئ السوق الاجتماعي التي تدمج النظام الاقتصادي بدولة الخدمات الاجتماعية. اما الغرض من هذا الدجمج فهو حماية الحقوق الاساسية للمواطنين والمواطنات واهمها حقهم في العمل. لقد انطلقت النيو ليبرالية من نظرة متعسفة تجاه بيروقراطية الدولة، واعتقاد بان بيروقراطيات القطاع الخاص افضل حالا من الاولى. ولكن الازمات الكبرى التي يشهدها العالم تدل على العكس، وعلى  ان الامراض التي تشكو منها ادارات القطاع الخاص مثل الفساد والاهمال والافتقار الى الحس المؤسسي تفوق الامراض التي تشكو منه بيروقراطية الدولة.

رابعا، الاضطلاع بدور اكثر فاعلية في دعم مؤسسات العمل العربي المشترك وتفعيل قراراتها ومشاريعها. فلي هذا السياق لا بد من التركيز على استكمال منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى لتحويلها الى اتحاد جمركي، والتنسيق مع الدول العربية على الصعيد الدفاعي، وتنفيذ اعلان قمة تونس حول الاصلاح السياسي والديمقراطي في المنطقة، بما في ذلك تشكيل محكمة عربية. تنظر في خروج الدول الاعضاء عن الميثاق وتقرر نوع العقوبات التي تطالهم اذا خالفوا شرعة حقوق الانسان. ان هذا التنسيق والتعاون لا تفرضه موجبات الروابط العربية المجردة، بل ايضا المصالح المشتركة لدول المنطقة. ولسوف تشتد حاجة هذه الدول في المستقبل القريب الى المزيد من التعاون الاقتصادي في ظل الازمات التي تعاني منها دول جنوب اوروبا والتراجع الذي طرأ على معدلات النمو في اقتصاد دول الربيع العربي وازدياد معدلات البطالة بين شبابها وشاباتها.

ان تطبيق هذه الاصلاحات جدير بان يضع لبنان على عتبة الربيع الدائم وان يعيد اليه مكانته بين ابنائه وفي المنطقة العربية والمجتمع الدولي. وكما حصل لبنان قبل ثمانية وستين عاما على الاستقلال والتحرر بفضل جيله الاستقلالي، فان لبنان لن يسير على طريق النهضة بدون ولادة جيل اصلاحي يعي قضيته ومستعد للعمل وللتضحية من اجلها.


مداخلة الأستاذ نعوم سركيس

 

أريد أنْ اشكر الدكتور عصام خليفة أوّلا على كلمته العميقة جدًّا التي تكاد تقنعني بأنْ أغيّر ما كنت أريد أنْ أقوله جوابًا على أسئلته الستّة.

        ولكنّني أتمسّك بطرح رأيي بما يتعلّق بالاستقلال اللبنانيّ والحراك العربيّ والعلاقة بينهما، وأشكره أيضًا على المبالغة الناتجة عن الصداقة في ما قاله عني.

        وأشكر "الحركة" وأنا مقصّر معها ومع كثير من النشاطات الثقافيّة، رغم أهميّتها، إذ أنّ من يكتب كلّ يوم ويريد أنْ يلحق شغله ولقمة عيشه، خاصّة من لا يمدّ يده لأحد لا يجد الوقت الكافي ..

        أبدأ بالاستقلال اللبنانيّ. نحن عشنا كذبة كبيرة جدًّا من زمان. وهذه الكذبة ما تزال مستمرّة. استقلال "دولتنا غير المستقلّة" نشأ سنة 1920. ودولتنا "المستقلّة" (نظريًّا) نشأت سنة 1943. ونشوء الدولة الثانية كان نتيجة لاءين (deux negations

        - لا للحماية الفرنسيّة والعلاقة الحميمة مع فرنسا

        - ولا للانضمام إلى سوريا

        من 1943 إلى 1956 في مرحلة يفترض أنْ تكون الدولة تهتمّ ببناء مؤسّساتها، كانت هناك إمكانيّة أنْ تكون هناك دولة، وكان يمكن أنْ يكون استقلالها معقولاً ومقبولاً. ولكن تبيّن منذ 1956 ومن تاريخ بدء المشاكل في الداخل وما سمّي ثورة 58، أنّ في لبنان لاءين آخرين.

        وهاتان اللاءان أساسيّتان أكثر من اللاءين السابقتين. لأنّهما تعكسان حقيقة المخاوف والمطالب لدى فئات الشعب اللبنانيّ التي أصبحنا نَصِفها الآن بالمكوّنات والأطياف. حتّى صرنا نقول شعوبًا لبنانيّة.

        اللاءان هما :

        - اللا الأولى عند المسيحييّن: لا للتخلّي عن الضمانات التي أصبحت امتيازات علمًا أنّها لم تكن ضمانًا ولم تصبح امتيازًا. ولم تحمِ أحد.

        - واللا الثانية عند المسلمين وهي لا للغبن، ولا للحرمان ولا لعدم المشاركة في السلطة.

        وبالتالي لم يكنْ الصراع الذي بدأ سنة 1956 و 1957 وانتهى بثورة 58، ثورة حقيقيًّة. ولكن السبب كان كامنًا في داخلها، حتّى لو حرّك الخارج الشعوب والعواطف.

        واحد يريد المحافظة على وجوده، و يشعر أنّ الثاني يريد أنْ يلغي هذا الوجود ويضعفه، والثاني يشعر أنّ حقوقه مغبونة.

        والذي حصل أنّه في سنة 1958، لم يكن التجديد للرئيس كميل شمعون سببًا للحرب والثورة. حتّى حلف أيزنهاور وحتى حلف بغداد لم يكونا السبب المباشر لها. إتّخذ شمعون الطرف السياسيّ الغربيّ، والمسلمين اتّخذوا الجانب السياسيّ العربيّ. ولم يتغيّر شيء عن سنة 1943 وما قبل.

        الغرب كانت تمثلّه فرنسا، وأصبحت تمثلّه أميركا وأيزنهاور والمنظومة الغربيّة. وسوريا مثّلتها مصر عبد الناصر.

        فهاتان اللاءان الفعليّتان دمّرتا عمليّة بناء الدولة التي لم تكتمل بل منعاها من الاكتمال ومنذ ذلك التاريخ بدأ إضعاف الاستقلال اللبنانيّ.

        وفي رأيي ليس هناك من استقلال ناجز. ولا إستقلال تامّ. وخصوصًا مع تطوّر التكنولوجيا ووسائل الاتّصال. هناك دائمًا دول كبيرة ودول صغيرة. ولكن هناك شيء إسمه استقلال الحدّ الأدنى. نحن أخذنا استقلالنا في 1943، وبدأنا نفقده في 1956-1957-1958. ومنذ ذلك التاريخ، لم نأخذ إستقلالاً آخر.

        بـ 1958، كان الحلّ. على دليل أنّ الاستقلال بقي غائبًا فعليًّا. إنتهى ما سمّي "ثورة" بتسوية بين عبد الناصر وبين الأميركييّن.

        قضت هذه التسوية بانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهوريّة. ولكن عمليًّا هذه التسوية كرّست أمرين أو ثلاثة، أمور تمسّ الاستقلال اللبنانيّ.

        ما كرسته أوّلاً هو اعتراف الرئيس شهاب، رئيس جمهوريّة لبنان بقبوله هذه التسوية بأنّ قسمًا من الشعب اللبنانيّ يأتمر بدولة، وإنْ كانت شقيقة، وهي مصر. وقَبِل بهذا الواقع. وأخذ شهاب من عبد الناصر توكيلاً بمساعدة مصر في حلّ المشاكل التي يتسبّب بها المسلمون. وهذا أوّل اعتراف.

        والموضوع الثاني في ما يخصّ السياسة الخارجيّة، هو "تنسّق معنا (أيّ مع مصر) في كلّ مواضيع السياسة الخارجيّة". وهكذا وكّلنا مصر بقسم من استقلالنا وحرّيّة قرارنا ربما أكثر مما هو مسموح به. ثمّ بدأ ينتقل هذا التوكيل منذ ذلك التاريخ من جهة عربيّة إلى جهة عربيّة أخرى، ومن دولة إلى دولة، ومن جهة أجنبيّة إلى جهة أجنبيّة حتّى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن.

        لقد أنجز الرئيس شهاب كثيرًا على الصعيد الاجتماعيّ وحاول القيام بحركة إصلاحيّة. وأعتقد أنّه كان يعرف أنّه لكيّ يتمكّن من القيام بإصلاح حقيقيّ ويبني دولة حقيقيّة كان عليه أنْ يقوم بإصلاح سياسيّ. وهذا ما لم يتمكّن من عمله. وبيان العزوف الشهير عن الترشح للرئاسة عام 1970، يوحي أنّه كان يريد ولكنّه لم يكن قادرًا على ذلك. والدولة هي من أساسات الاستقلال.

        هذا الإصلاح الاقتصاديّ فرط بسبب انتفاء وجود تفاهم حقيقيّ بين اللبنانييّن. لم يتمتّع بوحدة شعب تحميه. لم يكن هناك أيّ شيء من مقوّمات الدولة لحمايته.

        على الصعيد المسيحيّ بقيت نسبة الخمسة بستة في مجلس النوّاب. وإذا كان 99 عدد أعضاء مجلس النوّاب، يكون عدد المسيحييّن 55 والمسلمين 45. لم يتنازل المسيحيّون عن أيّ شيء. لم يتمكّن فؤاد شهاب من المونة على المسيحييّن. وكلّنا نعرف كيف نظر إليه المسيحيّون ثو كوّنوا مجموعة سياسيّة ضده اسمها "الحلف الثلاثيّ".

         في الوقت نفسه، طالب الآخرون، وهذا من حقّهم، طالبوا ولكنّهم لم يحصلوا على شيء. وبالتالي أصبحوا يفتّشون على أيّ عامل إقليميّ يتمسّكون به ليحقّقوا مطالبهم.

        والذي حصل، أنّه في هذه الفترة، كان يكفي أنْ يموت زعيم مثل عبد الناصر، أو أنْ تنهزم مصر، أكبر دول عربيّة، أمام إسرائيل في حرب 67، أو أنْ يحصل أيّ طارئ إقليميّ حتّى يتخربط الوضع اللبنانيّ ونعود إلى الحرب الأهليّة وإلى فترة عدم الاستقرار.

        كل هذه الأشياء حصلت. في 1967 الهزيمة، في 1961 الانفصال. فبدأت سوريا من خلال لبنان ومن خلال الفلسطينييّن في لبنان الخربطة على لبنان وعلى مصر في الوقت نفسه.

        في 1967 مع النكسة، أو الهزيمة، لم يعدْ الشعب الفلسطينيّ يؤمن بالحروب النظاميّة بعدما لمسوا التفوّق الاسرائيليّ في هذا المجال. بدأت الثورة الفلسطينيّة، ودخلت سوريا على الخطّ، وبدأت تشتغل أيضًا على الخط الفلسطينيّ.

        الفلسطينيّون موجودون في لبنان، الدولة غير قائمة، الانقسامات موجودة، التوتّر والاحتقان الاسلاميّ موجودان... الذي حصل أنّ الفلسطينيّ يريد نقطة انطلاق من لبنان لمقاومة إسرائيل. ليصبح لبنان هانوي العرب. سوريا تريد أنّْ تزعج وتضايق عبد الناصر في لبنان وبالتالي النظام المتحالف معه. والمسلمون يريدون حصّة في النظام اللبنانيّ، حصّة كما يسمونه sharing power system.

        لم يفكّر أحد في هذا الموضوع الداخليّ. الفلسطينيّ قال أنّه مستعدّ أنْ يؤمّن هذه المشاركة الفعّالة للمسلمين ويمكن أكثر منها. ولكن ما حصل، أنّه عندما تمسّك الفلسطينيّ بالقرار، لم يعد المسلم اللبنانيّ قادر على المونة وعلى فرض رأيه بما يتعلّق بالموضوع اللبنانيّ ووضعه في التركيبة اللبنانيّة.

        والأمر نفسه حصل عند المسيحييّن. هكذا تدرّجت الأمور من اتّفاق القاهرة عام  1969، إلى المشكلات أعوام 1970 و 1972 و 1973، ورغم الازدهار الاقتصاديّ، وصلنا الحرب.

        وقعت الحرب.

        في هذه الحرب، مع التكتل الفلسطينيّ، مع ضعف الدولة اللبنانيّة، وعدم الاتّفاق على دور المؤسّسات الرسميّة... رجعنا إلى نفس المعادلة : المسلمون عند العرب، والمسيحيّوّن عند الغرب.

        لكنّ هذه المرّة لجأوا إلى إسرائيل التي نعتبرها كلّنا، قاعدة متقدّمة لأميركا زُرعت في هذه المنطقة للاستمرار في تقسيم المنطقة وفرض النفوذ الغربيّ عليها.

        في هذا الوقت، دخل العامل السوريّ على الخطّ. عندما بدأت الحرب في لبنان، كانت الاستراتيجيّة التي قرّرها الرئيس السوريّ آنذاك مؤذية للبنان. ونحن شعرنا بأذاها خلال الحرب وبعدها. ولكنّ لا أحد يستطيع أنْ ينكر أنّه كان يخطّط وأنّه كان براغماتيكيًا وأحيانًا شجاعًا، ولكنّه لم يكن متهورًا. حافظ الأسد، بشطارة زود عليها غباء اللبنانييّن من كلّ الفئات، دخل على الموضوع اللبنانيّ، عمل إدارة للمسلمين، سنّة وشيعة، رغم أنّهم كانوا بعدهم فريقًا واحدًا، تدخّل مع المسيحيين ومع الفلسطيييّن، ومع كلّ الأطراف اللبنانييّن وغير اللبنانييّن الفاعلين في لبنان، فرض مساعدته عليهم، وقوّم فلان على فلان...حتّى وصلت الأمور إلى درجة اقتنع الأميركيّون فيها بدخول السوريّ إلى لبنان، تنفيذًا لاستراتيجيّته. واقتنع الاميركيّون بأنّ اللبنانييّن الذين صعُب عليهم الأمر ومنهم المسيحييّن يطلبون مساعدة سوريّة خصوصًا لمناطق شماليّة معيّنة، فعملوا الترتيب العربيّ اللازم. أمّا العرب فلا يأخذون أيّ مبادرة. وما يجري الآن يذكّرني بتلك المرحلة من التحرّك العربيّ والدوليّ. إذ يمكن العرب الآن أنْ يكونوا يحضّرون وضعًا، محضر من أحدهم سابقًا، لنصل إلى مكان آخر.

        الفلسطينيّ والسوريّ ما زالا هنا. الاسرائيليّ ذهب، ولكن ظلّه موجود. وبقيت الخلافات الداخليّة موجودة، وبقينا حتّى انتهت الحرب في لبنان بدون دولة ولا استقلال.

        بعد انتهاء الحرب، بقي السوريّ في لبنان، وأصبح العامل الوحيد المؤثّر والفاعل والمقرّر في السياسة اللبنانيّة. العرب الآخرون كانوا يحاولون أنْ يلعبوا دورًا آخر. ولكنْ عندما كان الفلسطينيّ مسيّطرًا وكان المطلوب منه تنازلات لحلّ المشكلة اللبنانيّة فإنّ العربيّ الآخر، أيّ غير السوريّ، تحديدًا السعوديّ والكويتيّ والآخرون، لم يكونوا يجرأون أنْ يطلبوا من ياسر عرفات أنْ ينفّذ هذا الأمر.

        أحيانًا كانت تتضارب المصالح بين سوريا ومنظّمة التحرير. فكان السوريّ يريد تنفيذ الاتفاقات التي تمّت بالنسبة للمخيّمات، أيّام الرئيس الراحل إلياس سركيس ولكن الفلسطينيّ كان يرفض. كانوا يلجأون للعامل العربيّ الآخر الذي كان يتقيّد برفض الفلسطينيّ. وطبعًا لم يقبل الفلسطينيّ. أبدى السوريّ في حينه، استعداده لحلّ هذه الأمور بقواه العسكريّة التي كانت في تلك الفترة على علاقة جيّدة مع الدولة.

        الذين يتساءلون ما الذي فعله الرئيس سركيس وقالوا، نحن لا نستطيع أنْ ندير الأزمة، بل نحن نريد أنْ نحلّ الأزمة، ما زالوا ينتظرون ولكنّهم لا يقولون لا ولا نعم.

        وصلنا إلى مكان لا دولة، لا إستقلال، ولا إستقلال بدون دولة. ولا دولة بدون إستقلال. ما في دولة بالرغم من قناعتي أنّنا شعب واحد، نحن نتصرّف كأنّنا شعوب. كلّ طائفة تعتبر نفسها أمّة وتريد لبنان على صورتها وتحكم الطوائف الأخرى. كلّ واحد يريد أنْ يجرّب بنفسه ولا يستفيد من تجارب الآخرين. وآخر تجربة هي التجربة الشيعيّة.

        حتّى نقدر أنْ نبني دولة، يجب أنْ نتوحّد كشعب. وبالتالي أقول أنّنا بلا دولة، وبلا إستقلال، واتجرّأ على القول، وأخاف منه، هل نكون بلا مستقبل؟ ولكن هذا ما أتساءله.

        وبالنسبة إلى الحراك العربيّ، وما دوره بالنسبة إلى لبنان. في لبنان، الموضوع أكبر من إستقلال، موضوع كيان ودولة وشعب ومستقبل ومصير.

        أعتقد أنّ لبنان كان ساحة، وتعمّد الجميع تحويله ساحة وأبقاه أبناؤه ساحة، وأبقي ساحة عندما رفضوا التنازل بصدق وبشفافيّة وبحسن نيّة  لبعضهم بغية إنقاذ لبنان من مصير أسود.

        أعتقد أنّ هذا الحراك العربيّ مهمّ، وأنا إنسان ديمقراطيّ، ضد الاستبداد بكلّ أشكاله. ....

        وإذ كان نظام الأسد أو نظام القذافي أو نظام بن علي سقطوا ... وجاء الإسلاميّون مكانهم وكانوا أكثر ظلمًا منهم، فإنّ الشعوب العربيّة يجب أنْ تكافحهم قبل أنْ يشرّشوا بغية تصحيح المسار وقيام نظام ديمقراطيّ حقيقيّ. 40 سنة مع هذه الأنظمة تكفي نريد استبدالهم بنظام جديد ديمقراطيّ حقيقيّ.

        لا يجوز أنْ نحكم على الأمور بالنوايا بالرغم من جدّية المخاوف.

        لا أعتقد أنّ الحراك العربيّ له علاقة بالاستقلال. هذا الحراك يحصل في دول مستقلّة. مشكلة هذه الدول ليس الاستقلال الذي هو موجود حتّى مع الأنظمة المستبدّة.

        مثلاً، عبد الناصر مارس استقلاليّته عندما اختلف مع الأميركييّن في موضوع تمويل السدّ العالي وذهب ألى شو إن لاي وأدار وجه مصر من اتّجاه إلى آخر. وعبد الناصر لم يكن ديمقراطيًّا. وعمل إنجازات مهمّة على صعد أخرى. ولكنّه لم يكن يعرف بالديمقراطيّة. ولكنّه كان يتمتّع بالاستقلاليّة وقد مارسها.

        السادات  طرد الخبراء الروس. ورغم الاغراءات الأميركيّة مارس استقلال دولته وسيادة دولته.

        حافظ الأسد حالف رسميًّا الاتحاد السوفياتيّ ولم يقطع مع أميركا. وعارض العالم كلّهم، وعارض العالم العربيّ وتحالف مع إيران. وما يزال ابنه متحالفًا مع إيران.

        حافظ الاسد مارس سياسة كأنّه دولة مستقلّة وكبرى. بحثت بالأرشيف في الفترة التي طردت فيها مصر من جامعة الدول العربيّة، من كان وراء هذا الطرد؟ يعني، ما يحصل اليوم من عزل لسوريا مارسه الرئيس حافظ الأسد مع مصر أنور السادات سنة 1978. وأوصل إلى عقوبات وقطع العلاقات الاقتصاديّة وقطع العلاقات ونقل الجامعة إلى تونس. وكان ذلك بـ19 صوت.

        مارس حافظ الأسد سياسة مستقلّة.

        القذّافي، بالرغم من عدم تعقّله، كان هو من يتدخّل عند الآخرين، في لبنان وفي أفريقيا. ولكنّه لم يترك مكانًا إلاّ وحاول أنْ يتدخّل فيه. حتى الثورة الإيرلنديّة. ولكنّه مارس وكأنّه حاكم مستقلّ.

        ما أريد أنْ أقوله، أنّ الحراك العربيّ ليس هدفه نيل الاستقلال. هدفه تغيير نظام، أو إصلاح نظام، أو مكافحة فساد، أو إعتماد الديمقراطيّة، أو إحترام حقوق الانسان، أو القرف من الديكتاتوريّة والبحث عن تداول السلطة وممارسة الانتخابات الحرّة والنزيهة.

        إذًا الهدف من الثورات في الدول العربيّة المشار إليها ليس تكوين دولة، ولا الحصول على الاستقلال وإنّما إصلاح دولة ومؤسّساتها والمحافظة على استقلالها، وتعديل الأنظمة أو تغييرها. علمًا وللإنصاف فقط، إنّ الاستقلال وبعد إنجاز كلّ هذه الأهداف، قد لا يكون مضمونًا ويبقى جزئيًّا. لأنّ الشعب أو الشعوب وحدها لا تبدو قادرة من دون رعاية وحماية ودعم خارجيّ على تحقيق هذا التغيير والمجتمع الدوليّ لا يضمّ جمعيّات خيريّة.

        في النهاية، الحراك العربيّ أو الربيع العربيّ لم يكن لبنان مَن بدأه مع احترامي لثورة الأرز ولأصدقائي فيها. لأنّها كانت، ورغم انضمام مسلمون أساسييّن إليها، كانت ثورة مسيحيّة. إنضمّ مسلمون دروز إليها، فتحسّنت إمكانات نجاحها. إنضمّ مسلمون  آخرون إليها. أقول مسلمون لا المسلمون لأنّهم كانوا انقسموا فئتين سنّة وشيعة.

        بقيت هذه الثورة ناقصة وغير مكتملة لأنّ الفريق المسلم الأساسيّ الشيعيّ لم ينضمّ إليها وهو الفريق الأقوى من حيث السلاح وهو يدّعي أنّه الأكثر عددًا. ورغم أنّ طائفتهم من الطوائف الكبرى، إلاّ أنّ أحدًا لا يضمن أنْ تكون الأكثر عددًا. على الأقلّ بالمقارنة مع السنّة. لأنّه في لبنان، ومن سنة 1932 لا توجد إحصاءات. وفي الضاحية الجنوبيّة، يمكن أنْ تدخل ضمن الإحصاء مرّتين. الشيعيّ البقاعيّ يسكن في الضاحية فيحسب صوته مرّتين. وكذلك الشيعيّ الآتي من الجنوب.

        أنا أعتقد، أنّه يجب أنْ يطلب اللبنانيّون كلّهم، وفي مقدّمهم المسيحيّون، إحصاء حقيقيًّا للسكان اللبنانييّن. ولا نختبىء وراء إصبعنا باعتمادنا على إحصاء 1932بأنّنا أكثريّة، كمسيحييّن.

        نحن بسبب الحروب والهجرة والاقتصاد، تغيّرت النسب ولم يعد عددنا 40 بالمئة. فلا نتكلّ على لوائح الشطب ولا على الأوهام، بل على إحصاء حقيقيّ.

        أشكركم في نهاية هذا الكلام، ولا أريد أنْ أبدو كثير التشاؤم ولكنّي واقعيّ. بقيت في لبنان، وسأبقى في لبنان وآمل أنْ يتحسّن لبنان، ولكنّ تحسّنه رهن بإرادة أبناءه.

 

 



1الحركة الثقافية –انطلياس، استقلال لبنان وتحديات المرحلة الراهنة، ص 71، 1993,

2تقرير التنمية الانسانية العربية للعام 2009، ص 114.

3المرجع السابق، ص 132.

4المرجع السابق، ص 134.

5المرجع نفسه، ص 140.

6قدمته واشنطن الى قمة الدول الثماني، راجع الحياة في 13 شباط 2004.

7عبد القادر المخادمي، مشروع الشرق الاوسط الكبير الحقائق والاهداف والتداعليات، الدار العربية للعلوم بيروت، وديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2005، ص 135.

[2]www.almounadil-a.info/article608.html

[3]en.wikipedia.org/wiki/Third_Wave_Democracy

[4]Isakhan, Benjamin and Stephen Stockwell. The Secret History of Democracy, New York(Palgrave Macmillan, 2001) pp. 43-48.

[5]Goody, Jack. The Theft of History, Cambridge (Cambridge University Press, 2006) pp.48-60.John Keane,the Life and Death of Democrac, London(Simon &Schuster UK Ltd, 2006) pp.95-104