رئيف خوري في مئويّته الأولى

التزامه الفكري سِياجٌ لإبداعه الأدبي...

 

 

        قبل الدخول في البحث عن رئيف خوري "مفكِّراً" و"ناقداً"؛ أبلغ ما يحضرني في مئة عام على ولادته؛ أود الكشف عن بعض ما تحمله الذاكرة من أفكار ما زالت أسيرة ذاتي، وقد جاء الوقت المناسب للبوح بها بعدما رسخت في حنايا تلميذٍ تقبّس العلم على يديه؛ تراني أنساق للعودة إليها ولو بهمس ـ كيف تعرَّفت إلى رئيف خوري بعدما أرشدني إليه الأديب المناضل سلام الراسي؟!

في مطلع السنة الدراسية لعام 1956، نزلتُ من ضيعتي(1)إلى بيروت لمتابعة دراستي الثانوية، قال لي سلام وبإرشاد عارفٍ: سجِّل في المدرسة التي يُدرِّس فيها رئيف خوري. وهكذا كان. دخلت صفّه لأقف أمام عملاق تبدو على ملامحه الشخصية هيبة المعلِّم الرصين، فابتسم لي. وقد تلقّيت على يديه العلم خلال سنتين في صفّي البكالوريا. ومع الأيام، تجذَّرت سعة معرفتي به من خلال مواقفه، وصيته الواسع ورفعة مقامه في الأدب. يلاحقه الطلاّب أينما حلَّ، والجرائد اليومية تتعقَّب خطاه لتنشر من شعره، ونثره، ونقده؛ وكأنّما أصالته الفكرية هي التي تستشفُّ رأيه بطبيعة الحدث. لقد ترسَّخت في بُنية أفكاري إرهاصاته العقائدية دونما طلب أو ضغط. فأخذ اتجاهي العقلي نحو التحليل لمواقفه وأنا على وعيٍ ينمو، وكأنّ مشروعه العلمي يدخل في يومياتي دون أن أدري!!

رئيف خوري قامة شامخة لم تُغْره المظاهر لأنّه باقٍ على بساطته وحبِّه للريف، تنمّ النكتة في تعبيره دون تكلُّف. بالمطلق بقي رئيف المعلِّم والمفكِّر والأديب والناقد والشاعر والموسوعي رهان مسيرتي بعدما خرجت من فضائه المدرسي. حتى لم أستطع أن أتحرَّر من كلِّ ما زرعه في حياتي. لقد بقي النموذج والمثال المعلم بأسلوبه في القول والكتابة لأنّي أصغيت بعمق للجمالية التي دخلت في تفكيري وطرق تعبيري عنها. كان في ساعة الأدب العربي يذرع الصف وهويُلقي جواهره علينا دون كتاب بين يديه. يشرح ويحلِّل، يعلِّق ويُدخل الفكاهة في تعليقه حتى أصبح صفّه ذات نكهة نشتاقها ونتمنّى أن تطول..

أدخل في أذواقنا مفاهيم كثيرة، تطعّمت وتلوّنت أبعادها في عقولنا مثل: الالتزام، والصدق، والنضال، وعقلية التضحية عن وعي من أجل العطاء دون مِنّة لأنّ المبادئ السامية بأنسنتها تطلب السموّ والترفُّع..

رئيف التنويري المناضل لشدّ ما تأثّرت به، صمّمت عام 1971 أن يكون عنوان رسالتي في الدراسات العليا في جامعة القديس يوسف "رئيف خوري شاعراً". عندما عرضت الموضوع على المشرف الأب ميشال آلار قال لي رئيف خوري أديب وأستاذ وناقد.. هل هو شاعر؟ أجبته بأنّه شاعر مختلف وإبداعي. وافق فوراً بعدما كسر "التابو" الذي كانت الجامعة قد حرَّمت تدريس أدب إبراهيم اليازجي ومارون عبّود ورئيف خوري في قسمها الشرقي. اشتغلت سنتين على شعره من خلال تقميشي لشعره من مكتبته في منزله التي فتحتها لي حرمه ومن الجرائد والمجلاّت حيث تجمَّعت لي المادة، شرعت بكتابتها وقبل مناقشتها هبَّت عاصفة الحرب ونزحت من منزلي في الأشرفية وذهب هباءً كل ما احتوته شقّتي بما فيها الرسالة والكتب وغيرها من المقتنيات التي كانت من جنى العمر! أمّا رئيف فباقٍ في البال، سعيت من جديد ومنذ سنوات تجميع المادة حسب ظروفي الحياتية وأنا على أمل أن أُنجز الموضوع إذا الله أمدّني بعونه لإنهاء هذا الحلُم وتحقيقه... لأنّني أعتبره وعداً ودَيناً عليّ...

إذا كانت هذه المقدمة في غير مكانها فإنّي أرحتُ نفسي من كبتها وقد اغتنمت هذه الفرصة للبوح بها. وبعد، اكتفيت بذلك لأترك المجال لأصحاب الكلام دون أن أتعدّى على حقوقهم.

أمّا رئيف خوري المفكِّر سوف يحدّثنا عن فكره الأستاذ الدكتور أنطوان سيف الذي يُغنينا مقامه في الحركة الثقافية ـ إنطلياس عن التعريف، ورئيف صاحب المواقف المشهود له عنها هو من أكمل وطوَّر الفكر وحوَّله إلى مسرح نضال في أدبه تارةً وعلى أرض الواقع طوراً سواء في لبنان أو في فلسطين. عام 1936 كان رئيف صوت الحق في هيئة الأمم مدافعاً عن عدم تهويد فلسطين وقد قاد المظاهرات وبثَّ الوعي بين الناس من أجل إيقاظ الهمم العربية المتواطئة أمام خطورة المرحلة. وهنا سأكشف سرّاً لم يُعلن عنه لا في المواقف النضالية ولا في الأدبيّات التي تحدّثت عن تلك المرحلة وهذا السر عنوانه : لقاء رئيف خوري مع قادة الفصيل الثوري الذي قاده عسّاف الصباغ وسلام الراسي من إبل السقي عبر مجموعة من الرفاق لمنع تهريب اليهود عبر البر في منطقتنا وقد بارك هذا التحرّك يومئذٍ رياض الصلح صديق القائدين المذكورين. أمّا رئيف وفي تاريخ 27 آذار من عام 1936 جاء إلى إبل السقي عبر قرية الخالصة في الجليل الأعلى للقاء الفصيل الثوري من أجل التنسيق لإشعال الثورة في شمال فلسطين، وقد تمّ اللقاء بعدما رافق فرسان أربعة أرسلهم عساف إلى الخالصة لمواكبة رئيف ليلاً. هذا رئيف المناضل ليس بالقلم وحده بل بوسائل أخرى كان يهندس لاستراتيجيّتها من أجل التنفيذ. وإذا سلام لم يأتِ على ذكرها في أدبه فإنّ والدي الذي نقل على فرسه رئيفاً من الخالصة إلى إبل السقي مع رفاقه، هو مَنْ نبّهني إليها قبل رحيله قائلاً لي: لئلاّ تنتسى عليك أن تذكرها ذات يوم!! حتى ولو عرضاً...

ورئيف الأديب والناقد والباحث واللغوي هو الحلقة من محورنا الأول وستحدثنا عنه الناقدة الأستاذة الدكتورة يمنى العيد، والباحث والناقد الدكتور فيصل درّاج القادم من عمّان. تُرى هل يتآلف الأدب أو النقد مع رئيف الماركسي عقائدياً، وكيف واجه رئيف طه حسين في مناظرتهما المشهورة حول "لمن يكتب الأدب للعامّة أو الخاصّة"؟! فكانت معركة رئيف الرابحة للدفاع بجدلية المنطق عن رأيه أمام الحضور. وللتاريخ الذي يتذكّر مثل هذه المواقف لا ينسى التحدّي الذي واجه به رئيف عميد الأدب العربي  في بيروت.. ورئيف الذي وقعت بينه وبين مارون عبّود معركة لغويّة حول بعض المفاهيم  ما كانت الأخيرة له في مدى عمره القصير... بل بالمختصر إنّ رئيفاً الذي حمل هموم الناس وعلَّم الأجيال وثقّفها نأتي اليوم ولو متأخرين لنكشف عن مكنوزه العلمي، والثقافي والفكري عبوراً إلى الأدب الذي حمّله المسؤولية الكبرى بقوله: "الأدب كان مسؤولاً" جسَّد كل هذه في مؤلّفاته التي تزخر بروحه وقد ترجمها لتكون أيقونته الفكرية لما تحمله من هدفٍ وحّد فيه الفكر مع النقد مع الأدب ، إنّه الفيلسوف والموسوعي والباحث عن الحقيقة الضائعة، ترك مخزونه ذخراً للأجيال لتبقى مع الخالدين من أمثاله نبراس جمال وخير مستدام، لأنّ التزامه الفكري كان السياج لإبداعه الأدبي. ويقيناً منّي إنّ ما سعى إليه المجلس الثقافي للبنان الجنوبي والحركة الثقافية ـ إنطلياس مع بلدية ضيعته نابَيْه ما هو إلاّ التكريم للقِيَم التي عاش من أجلها رئيف خوري كأديب وناقد وباحث ومفكِّر "على سنّ الرمح".

 

بيروت في 2/11/2013                                                             شـفيق البقاعـي

 


(1) إبل السقي ـ مرجعيون ـ لبنان.