ندوة فكرية تكريمية للزميل الدكتور انطوان سيف

في قسم الفلسفة - كلية الآداب

 

أقام قسم الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية،الفرع الثاني (الفنار)، في الجامعة اللبنانية ندوة فكرية تكريماً للدكتور انطوان سيف، أستاذ الفلسفة في القسم على مدى عقدين، والأمين العام للحركة الثقافة - انطلياس لهذه الدورة 2008-2009، وذلك يوم الاثنين 2 شباط 2009  في قاعة الدكتور يوسف فرحات، أمام حشد من أصدقائه وزملائه الأكاديميين، أساتذة وطلاّباً من الفرع الثاني وغيره، وعلى رأسهم مدير الفرع الثاني الدكتور جورج روفايل، ومديرة مركز اللغات والترجمة في الجامعة اللبنانية الدكتورة دلال بركات ابو عسلي، واختتم اللقاء بتقديم درع تذكارية للمحتفى به قدَّمها له مدير الفرع الدكتور روفايل ورئيس القسم الدكتور معلوف.

شارك في الندوة التكريمية بدراسات عن مسيرة المحتفى به الفكرية الأساتذة الجامعيون الباحثون في الفلسفة والإنسانيات من زملاء الدكتور سيف في الجامعة اللبنانية : الدكتور سميح دغيم، الأستاذ في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة ببحث بعنوان: "الثقافة والعولمة: قراءة مع أنطوان سيف" (انطلاقاً من كتابه "وعي الذات وصدمة الآخر")، والدكتور وليد خوري، أستاذ الفلسفة العربية الإسلامية في القسم ببحث عن: أنطوان سيف: "الملكة الفلسفية الناقدة"، والدكتور جيرار جهامي الباحث في الفلسفة العربية وواضع المعاجم والموسوعات حول مصطلحاتها، ببحث عن أنطوان سيف "الجاهد لتشكيل أحد أعمدة العمارة الفكرية في لبنان".

وأدار الندوة وقدّم لها وللمشاركين فيها، الدكتور يوسف معلوف رئيس قسم الفلسفة في الكلية (الفرع الثاني) ببحث موسّع عن السيرة الفكرية للدكتور سيف، مضيفاً إليها أيضاً سيرته الثقافية، بخاصة في إطار أنشطة الحركة الثقافية - انطلياس.

الكلمة الأخيرة في الندوة كانت للمحتفى به الزميل د. سيف الذي شكر "قسم الفلسفة" في الكلية وأساتذته على بادرته الكريمة، وبخاصة رئيسه الدكتور يوسف معلوف الذي كان المبادر الأول لإقامة هذه المناسبة بشكلها المميّز الأنيق، كما شكر مدير الكلية الدكتور جورج روفايل ومديرة مركز اللغات والترجمة الدكتورة دلال بركات ابو عسلي، وكل الزملاء الأساتذة والطلاب والأصدقاء والموظفين الذين أسهموا في الإعداد لها لحضورهم الاحتفال، منوّهاً على وجه الخصوص بالأبحاث القيّمة التي قدّمها زملاؤه في هذه الندوة. وقدّم ملخصاً عن مسيرته الفكرية في مجال الفلسفة وتاريخها، والعلوم الإنسانية ومنهجياتها المتطورة، ما يمكن اعتباره، ضمناً، تسويغاً ضرورياً لهذه الالتفاتة التكريمية، مشدداً على مشاريع فكرية بحثية، فردية وجماعية، للتعمق في مشاريع مستقبلية يكون للبحوث الفلسفية في مختلف موضوعات الثقافة العربية، وفي تصورات وقائعها الراهنة، والطموحات انطلاقاً من رصد دقيق لإمكاناتها، دور هام في "نهضة" عربية مفترضة ومطلوبة بإلحاح يُعتبر لبنان، ببنيته الاجتماعية - الثقافية ونظامه السياسي، المجافي لتمركز الاستبداد السلطوي في رأس هرمه السياسي وعلى الرغم من كل أزماته البنيوية الذاتية، الأكثر قدرةً على توفير فرص طيبة عدة ومتنوعة للإرادات العاملة بوعي وعزم في هذا التوجّه.  

وفي ما يلي نصوص الأبحاث المقدَّمة في هذه المناسبة:

بقلم د. يوسف معلوف

 

حضرة مدير الكليّة، حضرة المحتفى به الدكتور انطوان سيف، حضرة ممثل الأساتذة، حضرة الأساتذة المشاركين، حضرة الأساتذة والطالبات والطلاب الأعزاء،

يسعدني ويشرفني اليوم، باسم قسم الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الفرع الثاني، أن أدير هذه الندوة حول عطاءات الدكتور انطوان سيف الفكرية والثقافية والتعليمية، كعربون شكر ووفاء على تضحياته في خدمة الطلاب والجامعة اللبنانية منذ عقدين تقريباً. هذا التقليد السائد في قسم الفلسفة ليس سوى مبادرة متواضعة للتعبير عن محبتنا وتقديرنا لأساتذتنا الذين يمضون شوطاً كبيراً من عمرهم في العطاء في سبيل تنشئة جيل لبناني واع وحر، لا ينقاد إلاّ الى ما يمليه عليه فكره وحسّه النقديّ. ذلك ان سمات استاذ الفلسفة الأولى هي عدم الارتهان بأحد، والاحتراس من الامتثالية، ورفض عقلية القطيع في كل أشكالها.

عزيزي انطوان، لقد كنت في هذه الكلية، ولاسيما في قسم الفلسفة نموذج الأستاذ الذي يحتذى به، سواء أكان على المستوى الفكري والثقافيّ، أم على المستوى الأخلاقي والإنساني. فاسمح لي ان اقلّب باقتضاب بعضاً من صفحات حياتك الغنيّة بالعطاء والبحث والكتابة، ولو جرحت بعض الشيء تواضعك، إذ لا بدّ من أن يعرف الحاضرون، وبخاصة طلابنا، ما خلّفتَه من أعمال فكرية واجتماعية منذ أن بدأت مهمة التدريس في مطلع السبعينات.

أود أولاً أن أشيرَ الى حبّك العميق لهذه الجامعة. لقد كنت مثال الأستاذ المثاليّ الذي يعرف ان الواجب هو فوق كل شيء، مهما تقلّبت الظروف والأحوال. قوّة الجامعة اللبنانية في أساتذتها، وليس في آليّتها الإدارية. ومع ان الترهل قد أصابها في الصميم، إلا ان هناك أساتذة يؤمنون بنهضتها وتطوّرها وانت واحد منهم. نحن نترك المطالبة بتحديث الجامعة للعمل النقابيّ الذي لا ينفك ينادي ويصرخ في كل مناسبة من اجل الحدّ من التلاعب في هويّتها واستقلاليتها. أما نحن من موقعنا التعليمي الأكاديمي، فلا يمكننا ان نقاوم هذا التلاعب إلا بالانضباط والضمير المهني والمستوى العلمي، إذ لم يبق من هذه الجامعة إلا هذا البعد الوحيد، فإذا ضاع ضاعت معه الجامعة. نحن بحاجة الى أساتذة يعملون بإيحاء من ضميرهم المهنيّ، لاقتناعنا الراسخ بأن الإصلاح الحقيقي يبدأ بإصلاح الذات أولاً...

الى جانب احترامك للواجب المهنيّ، أودّ ان أنوه أيضاً بثقافتك العالية التي نشرتها في رحاب هذه الجامعة منذ أن بدأت التدريس فيها. ولقد اتّضح ذلك من خلال تدريسك الفلسفة العربية، ولاسيما فلسفة الكندي التي أصبحت فيها مرجعاً يقصدك القاصي والداني للتعرّف اليها عن كثب. ولا يغيب عن بالي اهتمامك بمسائل فلسفية أخرى كالانتروبولوجيا وفلسفة الحضارات ومدارس علم النفس والفلسفات القديمة والوسيطية وغيرها... هذا التنوع في البحث والتعليم ليس سوى دليل ساطع على اطلاعك الواسع في شتّى الميادين. كنت البارحة في زيارة لجاري في المبنى الذي أسكن فيه، فحدّثته بعض الشيء عن هذه الندوة وعن أنطوان سيف، فقال لي: أعرفه جيداً. درست معه الفلسفة في صفّ البكالوريا، ولاسيما تاريخ العلوم عند العرب. لقد كان مثال الأستاذ المثقف ومثال الأخلاق بالنسبة الى التلاميذ. وكم كان سروره عظيماً عندما قلت له بان هذه الندوة هي لتكريمه على تضحياته في المجال التعليميّ.

ولعلّ الكتب والمقالات الكثيرة التي نشرتها على مدى أربعين سنة تقريباً، منذ كتاب المنطق الصوري وفلسفة العلوم في العام 1970، مروراً بتاريخ العلوم عند العرب، والفيلسوف الكنديّ، حتى آخر مقالة عن تعزيز الديمقراطية في العالم العربي في العام 2008 ، خير برهان على شغفك بالكتابة من اجل نشر فكر منفتح ومتين. في ضوء هذه الغزارة الفكرية الرائعة، كانت لك إطلالات كثيرة من خلال الندوات والمؤتمرات التي اشتركت فيها في لبنان وخارجه، متنقّلاً بين بيروت وباريس ومرسيليا وعمّان ومصر وقبرص ودمشق وايطاليا وتونس وغيرها من البلدان. وسأترك لزملائي الأساتذة مهمة عرض أهمّ محطاتك الفكرية. لا يسعني في هذه المداخلة ان أعدد انجازاته الفكرية إذ هناك أكثر من سبع صفحات من سيرته الذاتية مخصصة كلها لمنشوراته. فهنيئاً لكليتنا، وهنيئاً لقسم الفلسفة الذي كان له الشرف في استقبال أساتذة في هذا الرقي الفكري.

بيد ان المحطة الأبرز في مسيرة أنطوان الاجتماعية هي، من دون شكّ، الحركة الثقافية في انطلياس، التي يشغل فيها منذ فترة مركز الأمين العام. ولا يخفي على احد أهمية هذه الحركة ونشاطاتها منذ عقود، سواء أكان في تنظيم المؤتمرات ام الندوات ام المعارض في شتّى أنواعها؛ وآخر ما تنظّم معرضاً للنبيذ اللبناني ابتداءً من السادس من هذا الشهر. لقد كان لأنطوان وغيره من أساتذة الكليّة وطلابها اليد الطولى في إحياء هذه الحركة وتفعيلها.

عزيزي انطوان، هذا التكريم هو بداية مشوار جديد في عملك الفكريّ الأستاذ الجامعي الرصين يبقى استاذاً فعّالاً ومؤثراً في محيطه، ولو تغيّر وضعه القانونيّ. مشوارك الفكري ما برح طويلاً. الفكر ينضج ويتبلور كلما تقدّم الإنسان في المعرفة والحكمة. فنحن ننتظر كتابك الذي أشرت إليه في النبذة عن حياتك: لبنان: دولة الطوائف ودولة المؤسسات، كي ننظم ندوة حول مضمونه.

شكراً، أنطوان على كل ما قدمته في قسم الفلسفة، متمنياً لك ولأسرتك، باسم الأساتذة والطلاّب أياماً جميلة.

الثقافة والعولمة

قراءة مع أنطوان سيف

 

بقلم د. سميح دغيم

 

        القول في صديقٍ وزميل عزيز يحتاج الى كثير من التهيّب، فكيف إذا كان هذا الصديق صاحب مهابة في كل مناسبة احتفالية، مداراتها ثقافية وإبداعية، وكل كلام سمعناه منه وألبسَه أحبّته، زاد في الألق وعَمُرَ بالاعتزاز. اعتدنا منه ان يكون مضيفاً، تزدان به المنابر، وها هو اليوم بيننا الضيف المكرّم بعد رحلة طويلة من العمل الفلسفي في رحاب الجامعة الوطنية الجامعة لمختلف التيارات والمذاهب والمشارب الفكرية. وكان ولم يزل، كما أعتقد، صاحب المكارم التي تتجاوز الظرفي الى الجوهري مع طلابه وزملائه ومحاوريه. إنه يعيش الثقافات وتعيش به، يحاورها في ذاته وفي الآخر، فيكون لشدّة شفافيته وعمق وعيه لذاته، يجرّد الصدمة من صدامها ويفكك المقولات في عقلنا العربي ويدخل في تفاصيل خطابنا الفلسفي، يختار الريح للتعبير عن عناده في طلب الحق، كما في كل شأن من شؤون الفكر الفلسفي لغض النظر عن مساحته سواء كان وطنياً محلياً او قومياً أو عالمياً إنسانياً. ولكي أخرج قليلاً عن طقوسيات هذا النوع من المناسبات، ولكي لا أقع في تشييء من يضج بوهج الحياة الفكرية، أتقدم من صديقي بمداخلة استوحيتها من قراءتي لكتابه "وعي الذات وصدمة الآخر"، لأن فيها بعضاً مما تداولناه في مجالسنا وحواراتنا.

        أطرح السؤال التالي: ما هي الصورة أو التشكل المعرفي الذي يلبسه انطوان سيف؟ لن أوارب وأطرح مقدّمات بل سأدخل مباشرة الى الحلقة التي يجول فيها تفكير الدكتور سيف، انه حقل المنهجية النقدية المستوحى من عنوان الكتاب كما يشرحها في المتن.

        إن مجرد اختبار عنوان معبّر لأحد مؤلفاته، وهو: "وعي الذات وصدمة الآخر"، يلزم عنه قراءة نقدية صعبة للغاية بكونها قراءة عن القراءة، وكتابة عن الكتابة، كما الكلام عن الكلام الذي استصعبه ذات يوم التوحيدي. هذا الوعي بالذات هو من آليات إنشاء الإبداع والنقد وقوانين التطور في مطلق الأحوال، فإنه كثيراً ما يحدث ان تتراكم شروط مخصوصة لتجعل من مدوّنةٍ ما تقفز حاضرة وجاهزة الى مدار الاستقطاب والاهتمام ضمن سياق رهاني هادف. لقد وعى صديقنا أن الملابسات المتعددة والغامضة أحياناً، أضحت ملازمة للواقع الحضاري العربي اليوم، وفيه الكثير مما يقع تحت مدوّنات الخطاب النقدي المطروح، ما جعل الزميل العزيز يتخالج مع النقدية الهادفة للمدونة التي اختارها والمؤلفة من خطابات خمس (وعي الذات - ابن رشد في رؤية عربية معاصرة - الطيب تيزيني في "على طريق الوضوح المنهجي" - فريد جبر في تحقيقه الفلسفي - وأخيراً دور كتاب الفهرست لابن النديم في تأريخ بداية الفلسفة العربية الإسلامية).

        لقد وعى الصديق العزيز أهمية المرحلة الحديثة التي، كما يقول: "جعلت من ثقافة الغرب المتفوق عسكريا وتكنولوجيّاً تنتشر بدون سدود بفضل ثورة الاتصالات والمواصلات". واندفع بذلك في فهم العولمة ضمن مقولة التثاقف، أو ما نسميه تاريخ المثاقفة (التفاعل بين الحضارات). ومع أنني لا أحبِّذ التعاطي مع المسائل في تاريخيتها، فنحن غالباً ننسى ما هي عليه اليوم لنغوص في سرد مظاهرها الكرونولوجيَّة التاريخية. عندما نتحدث عن الحرية ننحو دائماً الى دراسة ما قيل عنها عند كبار الفلاسفة الذين مضوا (ارسطو - افلاطون - مونتسكيو - الثورة الفرنسية)، ونغفل ما هي عليه حالها الآن. ان العولمة يُنظر إليها اليوم بمثابة كونها عماداً تجاذبياً لينمزج إلى حد ما مختلفُ هموم البشرية، وعلى كافة المستويات من ادناها وهي الهموم المعيشية، الى اعلاها وهي الهموم النقابية والاخلاقية وما بينها من تداعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية. ان العماد النموذج الذي تنتجه العولمة، بما هو مفهوم كوني، يلزم عن تطور معرفي لا عقيدي، متضمنًا حصيلة ما بلغ اليه الفهم البشري في وعيه الجدلي والمتضمن لخصوصيات الشعوب المختلفة إن على مستوى عقائدها او على مستوى همومها الذهنية. هل تُطرح العولمة، او الكونية، بهذا الاعتبار؟ بالتأكيد لا ، وهذا ما وعاه صديقنا الدكتور سيف باعتبار ان المنطق الذي تُطرح من خلاله الكونية هو منطق غلبة، منطق استتباع متمثل في بناء ديماغوجي قطعي يختزل كل مسارات التاريخ وتطلعات المستقبل. إنه بناء يتناقض مع ادعاءات انطلاقته المبنية على زمنية التطور الانساني وبلوغه مراحله المتقدمة، فاستوى أخيراً مفهوماً عقيدياً جامداً يُنهي التاريخ (مقولة فوكوياما)، او ينعطف به نحو صدام النموذج الأفضل بمقابل الملحقات المتخلفة (صدام الحضارات، هنتنغتون).

        لقد انتظمت العولمة مقولة جوهرية، مقولة تضاف الى مختلف قطاعات الحياة الاجتماعية من سياسية وتنموية واقتصادية، واهمها طبعاً عولمة ثقافية. هل يعني ذلك ان فعل الثقافة بدأ يخضع لشروط العولمة وآليات إنتاجها وميكانيزمات أهدافها؟ ان صديقنا لا يطرح هنا فرضية (ص 2، في كتابه: وعي الذات) على شكل تساؤل، بل ان ما يقلقه فعلاً، وانا اشاطره في ذلك، هو ان يخضع فعل التثاقف، او التبادل الثقافي (خصوصاً بالاعلام) الى شروط العولمة وبالشكل الذي تبدّت عليه، وهو وضع نموذجي قطعي ومطلق. لعل من يتصدى لمعنى العولمة بإطارها القطعي اليقيني هو مجال الدراسات الاجتماعية والتي تتخذ من المجتمع وحدة تحليل (المكان الاجتماعي) عند بيار بورديو، وهي لا تتخطى مفهوم الدولة القومية. ان دراسات "بورديو" عن المجتمع الفرنسي تنطلق من المكان الاجتماعي الفرنسي، ولذلك يغدو من الصعوبة كثيراً أن ندرس الظواهر الاجتماعية في اليابان، بدون ان ندرس مسبقاً المكان الاجتماعي الياباني المحدد بحدود الدولة الأمة. هل يجب ان يخضع العالم لصورة تشكُّل واحدة، هل العولمة الثقافية قائمة وناجحة، وذلك من نمط العوامل فوق القومية من مثل تجمعات الفرنكفونية - دول الكومنولث وغيرها. من المؤسسات الدولية التي تنشر افكاراً عالمية من مثل حقوق الإنسان - الديمقراطية - حرية الاقليات... وغيرها. لذلك نحن نرى ان الدراسات السوسيولوجية والتي تقع في أساس التثاقف وبكونها ايضاً تعبّر عن خصوصيات كثيرة من الشعوب، تشكل عقبة معرفية أمام انطلاقة العولمة الثقافية. لقد مارس زميلنا الدكتور سيف النقد الابستمولوجي الذي يتناول آليات إنتاج الخطاب، ولم يتطلع الى الميدان السوسيولوجي. إن الثقافة بنظرنا ليست مفهوماً عائماً يمكن إلصاقه بعدة معطيات بحيث يلزم عن ذلك مفاهيم عامة وعالمية جاهزة للتداول. ان الثقافة تلزم عن محدِّدات خاصة لجماعة معينة من حيث    المعتقد والعادة والتقاليد والسلوك وأنماط الانتاج والترفيه، وكل النشاطات الممكنة... إن التفاعل بين الثقافات هو الذي يؤدي الى النمذجة. واذا لم يحصل هذا التفاعل فان النمذجة والعولمة هما مشروعا هيمنة وصدام. يجب ان لا نخاف من فعل التثاقف. لأن هذا الفعل هو قبول واتفاق واختلاف وتنوُّع. انه اتفاق على التعددية. العولمة الثقافية تدحض في واقع الأمر أيّة تصورات حول الثقافة الخاصة. من هنا خطر النمذجة بالمفهوم القطعي اليقيني والمركزي. ان عولمة الحياة الانسانية بمختلف مستوياتها وأوجهها تشكل في الواقع إحدى السمات الكبرى لعصرنا الحاضر. لكن هذه المقولة لا يمكنها ان تتجاهل الحقل الاجتماعي الخاص، الثقافة المحدودة. ففي عصر تتعاظم فيه اكثر واكثر التفاعلات الثقافية الاجتماعية، فان مسألة وحدة الانسانية ووحدة النموذج النقابي العالمي، لا يمكن ان تتمثل إلاَّ من خلال تعددية معرفية، بحيث تحضر هذه الثقافات المختلفة في التاريخ لتجعل منه تاريخاً عالمياً لا يلغي اطلاقاً الاختلافات والتمايزات من أسسه الداخلية.

أعتقد أن مقولة كل حوار يجب أن يؤدي إلى الاتفاق والتوحد في الرأي هي مقولة خاطئة خطأ مَن يدمج بين الجواب والسؤال فينتفي العلم بذلك، ولو صار العالم مظهراً واحداً لما بقي عالم. فإنه، وبمقابل التفوق العربي في الثقافة، وتفوُّق النموذج الذي انتجه، وما تولد عن ذلك من صور، يُفترض بنا ان ننتقل الى حقل وعي آخر أوسع مما نحن عليه.

        يجب أن ننطلق نحو وعي مطابق للثقافات العالمية. ويجب أن نمتلك قدرةً على النقد الأبستمولوجي للثقافة العالمية، قدرةً على تفكيك وعي الغربي بالآخر العربي. إن وعي مسألة اختلاف الثقافات لا يقود منطقياً الى الصدام الثقافي، وعلى ذلك أمثلة تاريخية ذكرها الدكتور سيف، وهي تعدد الثقافات في المجتمع الاسلامي المفتوح ايام العباسيين.

إن الثقافة عندما تتحول الى وعي ايديولوجي تصبح مشكلة. لقد حوّل الغرب وعيه الثقافي الى وعي ايديولوجي، وبذلك انغلق على نفسه واصبحت المفاهيم التي ينتجها وعيه هي حقيقة الوعي، وهي مفاهيم مغلقة بالرغم من جاذبية مصطلحاتها، كالتقدم والديمقراطية والحداثة... وغيرها. هل يعني كل ذلك انه علينا أن نرفض هذه المفاهيم بدلالاتها المضمونية؟ بالطبع لا. لكن ما يجب ان يُرفض هو الوظيفة الايديولوجية لهذه المفاهيم، والاحتفاظ بوظيفتها السوسيولوجية التاريخية. إن الحوار والتفاعل الثقافيين محكومان بمدى الحاجة والملاءمة بين الثقافات، وهو ليس محكوماً بضرورة التلاقي: إن حركة التاريخ هي التي تحكم بذلك. والتعاقب بين الاجيال والشعوب والامم يسير وفق فلسفة للتاريخ تحرر عملية التلقيح الثقافي من أوهام الوعي العاجز.

كلمة د. وليد الخوري

ايها الاصدقاء،

        درس الفلسفة، سبر أغوارها، وقف على اسرارها واشتغل بها تدريساً وبحثاً وتأليفاً، وعمل تحت قوسها في الاجتماع والثقافة والتربية، فاستقامت له تجربة فيها من الثراء والاغراء ما يحرك الاسئلة ويفتح المعابر الى فسحات معرفية مضيئة ونضرة.

 

        استظل انطوان سيف انوار الفلسفة، اعتذى بحكمتها، تشكل عقله على صرامة منهجها، ودقة معانيها، واستقرت لغته على محكم اصطلاحها وقوة نظمها؛ في مياهها تعمد، وعلى نارها تقلبن تطهيراً للنفس من دنس العصبانية القاتلة وتحريراً للعقل من سطوة الغيب وجلبة اللا معقول.

 

        الاشتغال بالفلسفة في بيئة ترجح على مر تاريخها، الرأي المكفر للفلسفة ولاهلها والمهمش للعقل ولاهليته الابداعية والمقيد للحرية وللقيم التي انبثقت منها، اختيار يشي بالمكانة التي يحتلها الرهان على العقل النقدي في تجربة سيف الفكرية، وهو في رهانه على هذه الملكة المبدعة والخلاقة، يكشف عن ادراك عميق لماهية الفلسفة ولحقيقتها، لكونها نظراً الى الاشياء والافعال في سبيل عقلها والحكم عليها باسبابها وحقائها،

 

        هذا الالتزام المعرفي النزيه والصارم، لم يكن، عند اي مفصل من مفاصل تجربته، موضوعاً للمساومة، استجلاباً لمنفعة، او استرخاءً لشهوة او تملقاً لسلطان، في زمن يتلمس فيه الكثير من المثقفين دروبهم في الجيوب المنتفخة ويستهدون بعقول اصحابها العقيمة والخاوية من كل قيمة معرفية او اخلاقية او وطنية.

 

        هذه الملكة الفلسفية الناقدة سكنت عمق شخصيته وطبعت حضوره الكثيف في ميادين شتى، نشط فيها وابلى: لكن اشتداد وقعها تجلى في رحلة الكشف عن المسكوت عنه في الكثير من النصوص والمفاهيم قديمة وحديثة. لعل بداياتها كانت مع الكندي وموقعه في تاريخ الفلسفة العربية، ومع المؤرخين الذين اعتبروه مؤسس الفلسفة العربية وواضع مصطلحها، اعتبار لم يرقَ الى درجة القطع ولا الترجيح في الخلاصات والنتائج التي انتهى اليها انطوان سيف في ابحاثه.

 

        توسل سيف في حواره مع نصوص الكندي بمنهجية متعددة الرؤوس، تتحرك بين التحليل الفيلولوجي البنيوي والاستقرائي لكنها مطعمة بالمناهج التي افرزتها علوم الانسان والمجتمع، تحت ضغطها تتوالد الاسئلة من رحم بعضها البعض، فيخرج مع تداعياتها، الى الضوء اللامنكر فيه والمسكوت عنه في النصوص التي قرأها.

 

        استطاع انطوان من خلال هذه المنهجيةن في كتابيه عن الكندي، ان يطرح السؤال من جديد حول مشروعية ريادته في تأسيس الفلسفة العربية وفي وضع مصطلحها، لقد وجد ان الجزم بهذه المكانة للكندي مع غياب الاسانيد والوثائق التاريخية، والتي اهملها المؤرخون وبنوا حكمهم متغافلين عنها، هو ضرب من التسرع، ويقع في غير محله من الموضوعية لاسيما قبل البحث في ط الخصائص الاجتماعية والثقافية للمرحلة السيريانية السابقة لظهور الكندي والمرحلة الاسلامية بعدها وتلك التي عاصرها وكان له بها اتصال مباشر ".

 

        اما فيما يعود الى المصطلح فيرى سيف الى ان مؤلفات الكندي التي بين ايدينا لا تسمح لنا بمعرفة مدى مساهمته في وضع المصطلح الفلسفي بشكل مقنع، حتى ان القول بانه كان يشارك المترجمين في اختيار المصطلحات العربية التي يمكنها ان تؤدي معنى المصطلح اليوناني او السرياني يبدو ضعيفاً لانه كان يجهل اليونانية والسريانية، مع الاشارة الى ان المترجمين المعاصرين له، كانوا بدورهم ينطلقون في ذلك الوقت من مصطلحات كانت قد وضعت سابقاً؛ وبعد ان يورد سيف رأياً لهنري Corbin مفاده " ان الاقرب الى الاحتمال القول ان الكندي لا يقوم بأكثر من استعادة المصطلحات التقنية التي استعملها مترجمو عصره، وليس صحيحاً انه هو من وضع هذه المصطلحات "، ينتهي الى تأكيد هذا الراي بنص للكندي نفسه يقول فيه: " فحسن بنا ... ان نلزم في كتابنا ... ما قال القدماء في ذلك قولاً تاماً، على اقصر سبله واسهلها سلوكاً على ابناء هذه السبيل، وتتميم ما لم يقولوا فيه قولاً تاماً على مجرى عادة اللسان، ويعلق سيف بالقول " فمن كان هذا نهجه، فمن الصعب تحميله طموحاتٍ وهموماً لاستحداث مصطلحات جديدة، فكل الافكار القديمة والحديثة يعبر عنها " على مجرى عادة اللسان " كما يقول.

 

        لم يقف انطوان سيف في استثمار منهجيته المركبة عند حدود الفلسفة العربية الوسيطية وهمها الانطولوجي الايسي، بل تعداه الى الفكر العربي الحديث، الذي يتقدم فيه هم آخر ولدته الحداثة، " الذات، النحن "، كان صداها مدوياً في فكر النهضة عموماً، وفي وطنيات بطرس البستاني بخاصةً كما في لبنانيات كمال جنبلاط وعادل اسماعي، ثلاثة حاورهم سيف في كتاب تحت عنوان ثلاثة حكماء من جبل لبنان.

 

        لن استرسل في نقل هذا الحوال المثمر مع نصوص هؤلاء المفكرين، لكني اتوقف عند جملة مفاهيم تتصل اتصالاً وثيقاً بواقعنا الراهن بهويتنا الوطنية، حاول سيف ابرازها والدعوزة الى البناء عليها في مسيرة تحصين هذه الهوية.

 

        لئن كان مفهوم الوطني ملتبساً عند البستاني في محيط المحيط حيث يقول: " الوطن منزل الانسان ومقر اقامته، ولد فيه ام لم يولد ".

 

        وفي الوطنية الرابعة تحت عنوان ابناء الوطن " الوطن اشبه بسلسلة متصلة كثرت حلقاتها، طرفها الاول منزلنا او مسقط رأسنا بمن حواه، وطرفها الاخر بلادنا بمن عليها، ومركز طرفيها ومغناطيسها قلبنا، او هما مركز قلبنا ومغناطيسه "، لئن بدا هذا المفهوم ملتبساً في حفريات سيف، فان خطاب البستاني الى ابناء الوطن في وابجاتهم وحقوقهم تجاه وطنهم، يبقى هادياً لكل محب لوطنه ومؤمن بديمومته:

 

يقول في الحقوق على الوطن لبنيه: " الامنية على افضل حقوقهم وهي دمهم وعرضهم ومالهم، ومنها الحرية في حقوقهم المدنية والادبية والدينية ولاسيما حرية الضمير وامر المذهب وما اكثر الاوطان التي ذهبت شهداء لهذه الحرية ... ومن الواجبات التي على ابناء الوطن لوطنهم: حبه: " حب الوطن من الايمان ". وما اكثر الذين بذلوا حياتهم وكل مالهم حباً لوطنهم، واما الذين يبدلون حب الوطن بالتعصب المذهبي، ويضحون خير بلادهم لاجل غايات شخصية، فهؤلاء لا يستحقون ان ينسبوا الى الوطن، وهم اعداء له، والحق بهم البستاني الذين لا يبذلون جهدهم في منع وقوع الاسباب التي من شأنها ان تضر بالوطن ... او في تحقيقها بعد وقوعها، وكذلك الذين لم يجتهدوا في سد فم تلك البارودة وفوهة ذلك البركان، هم جميعاً مذنبون الى وطنهم، وقد قصروا في تأدية واجباتهم له ".

 

حب الوطن والتضحية في سبيله، حرية ابنائه في الرأي والمعتقد، الدعوة الى فصل الرياسة عن السياسة، ضرورة تعليم النساء، تأسيس المدارس والجمعيات الثقافية، الدعوة الى التوسط لان " بلادنا في مركز وسط بين الشرق والغرب ... واهلها القتهم المقادير في حلقة متوسطة ... فواجباتهم تجنب ما من شأنه ان يهيج جيرانهم الى مضادتهم وان يكونوا حلقة مفيدة هادئة في سلسلة العالم العظيمة ".

 

        هذه الافكار الحداثية، يقول سيفن هي مضامين وطن البستاني، لان الوطن ليس معطى وراثياً، انه كلمة " مولدة " ... لا وطن قبل هذه المصامين الجديدة المزامنة لعصرها الجيل التاسع عشر جيل العلوم والمصارف والفنون الحديثة ". لكنها ايضاً هي وطن انطوان سيف، هي لبنان كما يتمنى ان يكون وسطاً متنوعاً تزدهر بين ابناءه قيم المحبة والحرية.

 

        لقد واصل سيف تعقب صدى هذه الافكار بعد قيام لبنان الكبير، فكانت له وقفة مع لبنانيات كمال جنبلاط، مع نظره الى الحرية بما هي افهوم اساسي " في صرح ديني فلسفي علمي لا مثيل له "، فلبنان توليفة عقل وحرية، التناقضن التسامي، التنوع، الحرية، العقل والعقلانية، التفهم، العائلات الروحية، المكان والجغرافيا توليفة كبرى تجد في لبنان دلالتها الاكثر تعبيراً عنها، وينقل عنه سيف قوله " لبنان السياسي قائم على هذا التنوع الغريب العجيب، منه يستمد هذه الحرية وهذه السماحة وهذه التقاليد الراسخة في الشورى والديمقراطية ".

 

        ويتابع انطوان سيف بشغف تسليط الضوء على افكار عند جنبلاط يرى فيها ما يساعد على حماية هوية لبنان المخصومة ويضيف على لسانه " ولبنان في الحقيقة محاولة تأليف ضخمة، ومحاولة تعاون وانسجام بين النصرانية والاسلام، وجميع المذاهب والفرق والطرق الفكرية المشتقة عنهما ... وهو نموذج مصفر لمنطقة العالم العربي ... ولبنان وجد لكي يكون بلد العقل، بلد العقلانية لانه لولا العقلانية لما قام هذا الوطن ولما تطور ".

 

        ثم ينتهي سيف الى ابراز التسوية عند جنبلاط كمفهوم يلازم الحرية ويخدم التعدد والتنوع في لبنان يقول: " ان التسوية هي قدرة على التكيف وتطلب التكيف ". وكل تسوية هي حوار وحرية وهي اسم للتعايش او الديمقراطية اللبنانية ".

 

        كل تسوية هي حوار، قول كان من شأنه ان يقود سيف الى منهجية المؤرخ عادل اسماعيل التي تقوم على التوليف بين خلافات وتناقضات كالميثاق " الوطني اللبناني"، يقول سيف " هذه التوليفة يمكن تسميتها بالوسطية والتصالحية والميثاقية والتوافقية التي لا تبلغ عنده الا بالحوار الذي بمعناه الاشمل مرادف للسلام الاهلي والعالمي. ولكل تعاون بين البشر، هذا التعاون الذي وحده يصنع الحضارات ويطورها، وهذا هو المعنى العميق لقول اسماعيل: " ان مبدأ الحوار الفكري والسياسي هو في اساس وجود لبنان ".

        هذه الاشارات في تجربة سيف الفكرية، على تنوعها بالعرض ووحدتها بالجوهر، تبقى مقصرة وقاصرة اذا لم يزينها دوره في تأسيس الحركة الثقافية، الى جانب ثلة من الاتقياء في الوطنية والاثرياء في العلم والاصغياء في الانسانية، هذه الحركة التي شكلت في زمن التلاغي الطائفي والمذهبي والايديولوجي الوسط، المؤتمن على الحوار بحرية بين الاطراف المتباينة في الخيارات السياسية، تحت سقف وحدة لبنان وسيادته واستقلاله؛ انها مؤسسة ثقافية ممهورة بثقافته ومسكونة بوعي فلسفي لمفهوم الهوية الوطنية المنفتحة على كل مختلف، تصون اختلافه لكي يبقى الحق بالاختلاف قيمة فلسفية وانسانية جامعة.

 

        اخلص الى القول،

        تجربة سيف في انعطافاتها هي تعبير حي عن ذلك الانزياح الطريف للهوية من المعنى الانطولوجي الوسيط لمصطلح الهوية الدال على معنى الوجود كما عبرّت عنها لفلسفة العربية مع الكندي وابن رشد والفارابي، الى المعنى الحديث للانا او الذات التي تشير في الفكر العربي الحديث الى نحن انتروبولوجية وثقافية تهيمن على الخطاب وتمسك بمفاتيحه وتحتل زواياه.

        انطوان سيف الزميل والصديقن لك مني كل المحبة وكل التقدير.