نص خطاب الدكتور أنطوان سيف، الأمين العام للحركة الثقافية - انطلياس،
         الذي ألقاه بدعوة من "مؤسسة العرفان التوحيدية" و "دار تالينار"
                في حفل إطلاق السلسلة الوثائقية المصوّرة بعنوان:

"الموحدون الدروز... تراث وتاريخ"

في القاعة الكبرى قصر الاونيسكو - بيروت، مساء الخميس 30 نيسان 2009.
برعاية معالي وزير الثقافة الأستاذ تمام سلام
وكلمات لـ:

الشيخ علي زين الدين،
والدكتور أنطوان سيف،
والدكتور سعود المولى،
والأستاذ عباس الحلبي،
والدكتور شوقي أنيس عمار،
وصاحب الرعاية معالي الأستاذ تمام سلام،
وتقديم الشيخ سامي أبي المنى

الموحَّدون الدروز: "تراث وتاريخ"

بقلم د. أنطوان سيف*

أصحاب المعالي والسيادة والسعادة والفضيلة،

أيها المشايخ الأجلاّء،

إخواني بني معروف،

أيها الأحباء،

شرف كبير لي أن أقف أمام جمعكم الكريم، أفتح العقل والقلب على مواطنيّ الموحدين الدروز للحديث عنهم واليهم، ملبيّاً دعوة عزيزة من مشايخ أجلاّء أدركوا بسريرتهم النيّرة أن أثمن ما نصبو إليه من لقاء أهلي لا يُستكمل إلاَّ بحدس حضور حاضنه الوطني. التوق للتبصّر بالذات في مرآة الآخر، الآخر القريب والشريك، ليس غريزة، بل تجرّؤ وإرادة سموّ، مستديمة بالمعرفة، إلى الوطن الجامع والمنيع والعادل، حيّز تكامُل صحّي وحريّات متضامنة، هو تلك الحكمة الوطنية اللبنانية التي استخلصها الكثير من عقلائنا، والتي كان الخروج عليها في فترات التخلّي والوهن، صنوَ الخراب والاستعباد والتقهقر العام.

        فالدروز المستنيرون بالحكمة عانوا على مدى تاريخهم جور الحكّام الطغاة المستبدّين. ومعتقدهم التوحيدي في رحاب الإسلام، الذي خط ركائزه الإيمانية الإمام الجليل، ألمعي التوحيد، حمزة بن علي المستنير بالعقل الأرفع، المعتقد الذي يبجّل العقل والعقّال ويحترم جميع الأنبياء والأديان وحكمة الحكماء، والذي حملت الملابساتُ التاريخية أتباعَه على كتمانه، تعرّض للعديد من الإساءات الجاهلة والتهم الشنعاء والاضطهاد والحملات التي قاوموها بصبر مرتكز على قليل من الجدل وكثير من العمل بفضائل الصدق وحفظ الإخوان والعفة (وهم الأجاويد أصحاب "الجودة"، أي قهر النفس وترويضها بغية تجويدها)، وطهارة اللسان والقناعة والترفّع والحفاظ على حرمة الجوار. كلُّها عندهم هي الإيمان والتوحيد كاملاً. والفضل يعرفه ذووه.

        إلاَّ أن التاريخ الذي يُنسج من ظروفه، وضَعَ الدروز، منذ التنوّخيين، ولاسيما لاحقاً مع الأمراء المعنيين، في علاقات ودّ وتعاون وحرمة جوار مع العديد من الجماعات المذهبية المنتمية إلى منطقتنا الواسعة يصعب الغوص في تفاصيل إنجازاتها على مدى قرون. فالفلاّحون الموارنة أبناء الطائفة التي كانت الأولى بين أخواتها في الشرق، في الانفتاح على العلوم الجديدة المنجزة في الغرب الذي كان يمثل وجوه الحداثة الناشئة، والتي كانت رائدة في إنشاء مدارس التعليم الحديثة في المنطقة، عملوا في الزراعة في جبل الدروز، ومعهم جميعاً انتعشت الأرض ونعِم الجبل اللبناني بالازدهار والاستقرار مدداً طويلة لم يكن للنكسات العابرة ان توقف اندفاعه النموذجي. واتُّهم إقطاعيو الدروز وأمراؤهم عصرذاك من الحاقدين الجهّال وصغار المغرضين، بإسهاماتهم في بناء الأديرة لإخوانهم المسيحيين في مناطقهم.

        إلاَّ أن الاستبداد المهين، والقواعد السياسية التي ميزت عصور الانحطاط العربي والإسلامي الطويلة، والالتزامات الجبائية الظالمة وسياسة فرّق تسُد في إطار الصراع الدولي على المنطقة، وكلها خارجية متحالفة ضمناً مع الجهل والتخلّي والحسابات الخاطئة ونزعات التهور والرؤى القاصرة الضيقة، في ظروف نزاع دولة "الرجل المريض" (التي كنا آخر من عرف بسقمها المميت!)، وهي كلها ذاتية داخلية، والتي يعلو قدر خطرها وينخفض هنا وثمة في الزمان والمكان، شرخت الجبل على دفعات، وتركت جراحاً عميقة جعلت مهمة محوها رسالة ثقافة جديدة متحررة ومحررة تبوأها رجال النهضة العربية الحديثة من أبناء الجبل اللبناني، من المعلم بطرس البستاني وصرخته الشهيرة "يا أبناء الوطن"، إلى أمير البيان شكيب ارسلان الذي لم يطرح سؤالاً: لماذا تقدموا هم وتأخرنا نحن؟ بل عرض معاناة العرب والمسلمين في بلوغ الحداثة والتقدّم، وقدّم إسهامه في رفعها بالدعوة إلى قيام دولة حديثة راعية لأبنائها وحقوقهم وقادرة على الدفاع عنهم.

        وفي سياق الأخطاء المشتركة في تلك الحروب المأساوية المركبة من البلديين والإقليميين والدوليين بين 1975 - 1990 التي تجاوزت كلّ لاعبيها الداخليين، وأسست لكل التصدّعات اللاحقة والراهنة في المنطقة، يجدر بنا كعرب عموماً، وكلبنانيين على وجه الخصوص، أن نعيد تمثّل فضائلنا الواحدة ومواثيقنا وتراثنا الزاهي المشترك في الأفعال والأعمال والثقافة والإبداع في الجبل معاً، بإقفال ملف المهجرين من الجبل إقفالاً تاماً ونهائياً، وأن نكون، كما كنّا دوماً، طليعة النهضة العربية الثانية التي كان لبنان، مع قلة من الأصقاع العربية، منارتها الساطعة، وبخاصة بيروت عاصمتنا، العاصمة العالمية للكتاب والثقافة والحضارة والنهضة.

        حسبي في ختام وقفتي أمامكم، ان أستعيد المواقف الفكرية والوصايا لمنارةٍ فذة من أهل التوحيد الدروز في جبل لبنان هو المعلم كمال جنبلاط الذي راهن على عروبة تقدّمية علمانية تُخرجنا من هذا السجن العربي الكبير، حيث قال: "لبنان في الحقيقة محاولة تأليف ضخمة، ومحاولة تعاون وانسجام بين النصرانية والإسلام وجميع المذاهب والفِرق والطرق الفكرية المشتقة منهما"، وهو "نموذج مصغّر لمنطقة العالم العربي، بل للشرق الأوسط كله". ويضيف: "لبنان وُجد لكي يكون بلد العقل، بل العقلانية... لأنه لولا العقلانية لما قام هذا الوطن ونما وتطوّر". وأختم بقوله: "ان الكيان اللبناني، رغم العواصف التي تمرّ به، يتأكد ويتثبَّت في ازدياد مضطرد، وعلى الدوام، في بصيرة جميع اللبنانيين.... وقد يدركون يوماً، أكثر مما يدركون الآن، انهم أولاً أبناء هذه الوحدة الحياتية، وحدة الاقتصاد والاجتماع وتشابك البيئة،قبل ان يكونوا نصارى وسنّة ودروزاً وشيعة وسواها من المذاهب".

* بيروت، القاعة الكبرى في قصر الأونيسكو، الخميس 30 نيسان 2009



* أستاذ جامعي وأمين عام الحركة الثقافية - انطلياس