كتاب السفير فريد سماحه
 مسيرتي الدبلوماسية    2009/5/08

كلمة د. أنطوان سيف
كلمة نقيب الصحافة الأستاذ محمد البعلبكي
كلمة السفير ادوار غرة
كلمة د. آمان كبارة شعراني

 

  كلمة د. أنطوان سيف


 

كتاب السفير فريد سماحه مسيرتي الدبلوماسية

        في جردة العمر تقف الذات أمام مرايا متعددة تتفرّس بصورتها فيها التي تستبطن فَرَضاً آثار كل القسمات التي عبرت وجهها، الندوب والبسمات... وحقيبة السفر الجاهزة دوماً خلف باب داخلي غدت جزءًا لا ينفصم من أثاث البيت الذي مهما طالت استكانة دواخله يظل يمارس التدرُّب على ملاقاة المستقرّ الأخير على أرض الوطن. المفارقة هنا قاطعة: مسلكية البداوة المترحلة الملازمة لمن كُتبت له السفارة، لا تضرب أطنابها مع ذلك إلاّ في العواصم والمدن الكبرى! بداوة غير قابلة للإقامة الدائمة خارج موطنها من غير غربة حاضرة.

        لم يشأ فريد سماحة بعد عودته أخيراً، وبعد طول ترحال، الى الوكر، ان يرخي أثقاله على رصيف الذاكرة الكهلة التي تجهد لإخفاء وهنها الوشيك وخياناتها الآتية المربكة. لملم أرشيفه الشخصي من كشَّته العتيقة. لم يحتج إلى "مئة عام من العزلة" كما فعل ماركيث، ليكتب سيرةً ذاتية تتماهى فيها الذات بالوطن، الوطن الذي يغدو، أمام الأغراب، اسمه اليومي الآخر، يجلخ عنه من غير ملل ولا كلل، صدأ التقاتل والدمار والاحتراب الأهلي البلدي، والإقليمي بالاستئذان والنيابة عن الدولي، كما المؤمن والأيقونة الموروثة معلقة بالرقبة ملاصقة للقلب، لا يني يحفُّها تبركاً وتيمناً وتنقيةً لها من غدر عثرات أهل السوء وصروف الزمان.

عرف أنه لا يمكنه رعاية الاغتراب من غير الاغتراب الذي مارسه إرثاً عائلياً مع الوالد والعم، برحيله إلى الأرجنتين التي استوطنها بخيال الطفل قبل معايشة الولد والشاب لها في كنف العائلة. لكأنه درّب نفسه منذ الصغر على السفر، وعلى السفارة القادمة إليه لاحقاً على بساط الأقدار لا محالة. كان منذوراً لها بواقع الحال وبواقع النطق والمقال بألسنةٍ عدّة تعلمها باكراً يمتطيها في التصريح والتعبير والحضور، هذا الأنيق اللبق الدمث المحب العاشق لرفيقة دائمة، السيّدة ماريا، أميرة السفارة كما لقّبها، وأدخل هذا الدور الفاعل لزوجة الدبلوماسي، كل دبلوماسي، في صميم عمل السفير ضمن إطار مهمّته كممثل لوطنه وقيمه التي ينبغي أن يجسِّداها معاً في الأقوال والأفعال والمبادرات والأنشطة، وهو أيضاً النموذج المثقف الذي يعي تشبّهه بوطنه الذي يتسامى دوماً في العالم على ضيق الجغرافيا والديمغرافيا إلى آفاق الثقافة والانفتاح والإبداع الخلاّق.

لقد أودع سماحة اللبنانيين الذين لم يعش في ظهرانيهم، بقدر ما عاشوا هم في وجدانه، هذا الحصاد الثمين والجميل، بالكلمة والصورة، بين دفتي كتاب جانبَ فيه الرطانة والفصاحة ليظل ملاصقاً للوقائع والأحداث، ليؤزم به فكّ الشهادة الشخصية عن التاريخ الضائع عن أذهان مواطنيه في أصقاع بعيدة من العالم الذي عرف كيف يجعله إلى حد كبير عالمهم القريب. أبطاله، في الكتاب، كثر غير مهيئين بغالبيتهم لمخصوص الكلام، رافقهم عندما رافقوه، شاركوه من غير استدامة بعضاً من نضاله الوطني الذي لا معنى لوطنيته من غير جماعيّته فوضعهم في كتابه شهوداً ورفاقً. 

استنفر حكمته لوضع فلسفة حول كيفية ان يكون المرء سفيراً، وما يعتري هذي الحال من أزمة ضمير وازدواجية شخصية تترجم بصمت ذلك التعارض بين الوطن الدائم والحكومة العابرة، الذي لا تني السياسة تفتعله في وعيه. هذا التوازن الصعب، كما قال، بين تاريخ المرحلة وآفاقها الرحبة.

انشقاق داخلي لا مفرّ منه، يعنف في الأزمات الداخلية، ويشحذ إرادة الوطنيين إلى مزيد من المعاناة والعمل للإبقاء على مثال الوطن من غير خدوش في أذهان أولئك الذين ننزل بينهم في الأمم الصديقة.

كتابه "مسيرتي الدبلوماسية" حمل أيضاً عنواناً صغيراً يقول بوفاء نموذجي تام: "من قريتي الجوار إلى العالم الأوسع". هذا القروي بامتياز لم يطرد الولد البريء الباقي فيه، الولد الذي كانه دوماً على مدى سبعين سنة. فالحضارات الكبرى التي عايشها وحاورها لم تبتلع قريته الجبلية الصغيرة الرابضة في جرود المتن، بأهلها وأحراشها وطرقها الضيقة وأبنيتها الحجرية النقية المعمّمة بالقرميد، التي صاغت كلها شخصيته المحببة.

سعادة السفير،

لقد حملتَ وطننا ذخيرة مقدسة في قلبك وعقلك، أسكنتَه منزلة بهيةً في وجدان شعوب وأمم، ونسجتَ سلوكاً دولياً إزاءه لا يقل بهاءً ثقافياً ودرّ فوائد ومصالح مشتركة، وها نحن في هذه الالتفاتة التكريمية في هذه الأمسية أعجز من أن نرد لك تحية الوفاء بمثلها. حسبنا أننا محبّوك وقادروك. وحسبك انك كبير من مواطنينا نفخر بهم ونعلو بشيمهم ونتمنى لهم زهوا مستمراً لا ينضب.

كتاب السفير فريد سماحه مسيرتي الدبلوماسية

  كلمة نقيب الصحافة الأستاذ محمد البعلبكي

قليلون هم الذين يجمعون بين الديبلوماسية والكتابة السياسية والادبية والفكرية والشعرية وادب الرحلات.

السفير الصديق فريد سماحة هو من هذه القلة. وعندما غادرالسلك الديبلوماسي بعد رحلة طويلة في غمار رسالته السامية انصرف يدون ذكرياته المضمخة بعبير الحنين الى ايام ملؤها الاقدام والاخلاص والتفاني في خدمة لبنان الرسالة والفكر والحضارة وخدمة المغتربين وقد اعتز بهم وهو في المراكز العليا في دنيا العالم الاوسع.

هذه الذكريات المجبولة بماء الحب ارادها السفير سماحة مرآة تنعكس فوقها مدوناته، وهو يتنقل من بلد الى بلد حاملا فوق المنكبين رسالة ديبلوماسية مشرقة.

من "الجوار" مرتع الصبا والتي تعانق بلدة الخنشارة المتنية انطلق الى المدرسة فالجامعة، فالمدى الارحب .

انطلق الى العمل الديبلوماسي بعزيمة لا تلين. فشمر عن ساعديه متنقلا بين بلد وآخر وجعبته مجبولة بطين الابداع وحنكة ادارية واطلاع واسع على واقع البلد الذي سيحل فيه ديبلوماسيا رفيع الشأن آتيا من بلد الابجدية، ورافعا شعار الارز اينما القى الترحال.

كانت له ، في العديد من دول العالم، محطات ديبلوماسية دامت عقودا من الزمن. فحمل الوطن الأم في فؤاده معتزا بقيمه الانسانية المحفورة على جبين التاريخ، ومشيداً بدوره الحضاري عبر العصور.

من مدرسة الوفاء تخرج فريد سماحة . فلا عجب ان يكون وفيا لوطن المكرمات، ناثراً طيبه في فرنسا وكوبا وايران والبرازيل والصين، وغيرها من بلدان العالم التي كان فيها ديبلوماسيا محنكا، ملما بكل شاردة وواردة في عالم الديبلوماسية ، وفي عالم  القصر الجمهوري عندما كان مديرا للمراسم فيه ايام رئيس الجمهورية الشيخ امين الجميل.

هذا المتنقل من بلد الى آخر ، رفع راية لبنان في الفضاء الذي لا تغيب عنه شمس ولا ينطفئ فيه بدر.

غرز حب لبنان في قلوب المغتربين ، وحثهم باستمرار على العودة الى وطن الاباء والاجداد، والمنافحة عن بلد البساتنة واحمد فارس الشدياق وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وكل العباقرة الذين يفتخر بهم ايما افتخار.

منذ مطالعه وصولا الى المراحل التي قطعها ديبلوماسيا موفور الثقافة والعلم والكرامة،  مثل السفير الصديق لبنان خير تمثيل، فاقام علاقات متينة مع المسؤولين في البلد الذي اعتمد فيه قنصلا فسفيراً.

ولعل الفترة الطويلة التي قضاها في السفارات الخارجية كانت في الصين .

هناك في بلد السور العظيم والمعابد البوذية الدهرية ، وبين رحاب حضارة كونفوشيوس، كان للسفير سماحة شرف تأسيس اول سفارة لبنانية في بكين. فوطد علاقات مع المسؤولين الصينيين قائمة على الود المتبادل بين لبنان والصين، وتعرّف على مستشرقين حثهم على نقل روائع الادب اللبناني الى لغتهم الام. فنقلوا اثار جبران وفي المقدمة كتابه "النبي" الى الصينية، واثار ميخائيل نعيمة وامين الريحاني وتوفيق يوسف عواد وغيرهم من الادباء اللبنانيين المرموقين.

لقد جمع في الصين الرسالتين معاً :الرسالة الديبلوماسية والرسالة الثقافية، ونعم الرسالتان.

من الصين عاد الى لبنان حيث تقاعد، والجعبة دسمة بالذكريات.

ان الذكريات الديبلوماسية انما هي ذكريات مغروزة في الصميم . فدونها في كتابه "مسيرتي الديبلوماسية" الذي نحتفل به في هذه الامسية العابقة بطيب الوفاء لامرئ طاف الامصار حاملا اليها ديبلوماسية رسولية ارخت ظلالها على الكون الشاسع .

ويكفي ان تكون الصين وحدها هذا الكون الشاسع ، وان تكون احتضنت طبيب ماوتسي تونغ الدكتور جورج حاتم ابن بلدة حمانا.

لقد ارخّ السفير فريد سماحة لحقبة طويلة من الديبلوماسية اللبنانية. وما وهن وهو في صميم هذه الديبلوماسية وسيبقى وفياً لها وهو يخلد في منزله بين اوراقه الملأى اسراراً وخفايا من تاريخ لبنان الحديث.

سلمت يداك يا اخي فريد على ما اتحفت المكتبة الديبلوماسية به من عطاء فذ، والى عطاءات جديدة مضخمة بطيب الادب السياسي.

والشكر كل الشكر للحركة الثقافية في انطلياس . عاشت هذه الحركة . عشتم وعاش لبنان.

 

  كلمة السفير ادوار غرة

في كتاب السفير فريد سماحه (مسيرتي الدبلوماسية) متعة للقارئ لما تضمنه من وقائع حية وصور وألوان وسرد ممتع لصفحات لامعة لتجاربه ومبادراته وتحليلاته الفكرية والدبلوماسية يعرضها بدقة وصدق وحسّ وطني وموضوعية.

عندما غادر الشاب فريد لبنان لأول مرة الى العالم الواسع المجهول كان زاده حب عميق للبنان وفكر طموح، وكأنه في الوقت ذاته كان يحمل على منكبيه أغصاناً من الأرز الخالد، فيما كان لم يكن ليدرك أي قدر او نداء دعوة يخبئه له المستقبل في تعاريج الحياة.

وكانت خطوته الاولى في مسيرة الألف ميل موظفاً محلياً في قنصلية لبنانية فخرية في ماندوسا، الأرجنتين. فهل كانت وظيفته المتواضعة المفتاح السحري الذي فتح له الأبواب الواسعة لتحقيق طموحاته التي تتوجت بتبوء مركز سفير لبنان في الصين؟ غير انه لم يغادر ماندوسا إلاّ بعد ان أودعها رزمة من إنجازاته، من إدخال اللغة العربية الى جامعتها وإنشاء نادٍ للمغتربين المقيمين فيها ومحطة إذاعية باسم "ظلال الأرز".

وقادته خطواته الى سلّة من النجاحات بعد دخوله السلك الدبلوماسي اللبناني. وفي تعاطيه مع المراكز التي تقلب فيها كانت رؤيته لدور السفير اللبناني تتجاوز الإطار التقليدي المهني الى دور يتمتع فيه السفير بصلاحيات أوسع يحمل في ضوئها لا صورة لبنان الحر، السيّد، المستقل فحسب، بل ايضاً رسالته الحضارية المتأصلة في جذور التاريخ، رسالة الحرف والمعرفة والثقافة والابداع الفكري والأدبي، رسالة وطن تميز بقيمه الانسانية وتمسكه بالحريات الاساسية والديمقراطية وسياسة الانفتاح على العالم، والتعاطي معه بروح التعاون والصداقة والسلام.

 فسحة الكتاب واسعة ويصعب حتى الاحاطة بكل خطوطها في دقائق معدودة. ولكنني أتوقف مع السفير سماحه في محطتين بارزتين في مسيرته.

الأولى في الريو دي جانيرو، البرازيل، احدى عواصم الانتشار اللبناني حيث شغل مركز القنصل العام للبنان وترك فيها آثاراً مرموقة، فزرع أغصان الأرز لا بد منه، فكانت باكورة نشاطاته تخليد لذكرى جبران خليل جبران، احد احفاد الأرز وهو الحري بالتخليد في اي مكان او زمان كرسول عالمي للفكر اللبناني المبدع. فعمد القنصل العام سماحه مع فريق من الأدباء على نشر مؤلفات جبران وإدخالها الى الأندية الأدبية والجامعية الاغترابية، وعلى تحقيق مشروع إنشاء حديقة باسمه يقوم فيها نصب تمثال له فيها.

ويستدعي تقديري وإعجابي ان أسجل نجاحاً مميزاً حققه بالتعاون مع الصديق شارل لطفي عن إنجاز مشروع اتحاد الأندية والجمعيات اللبنانية المنتشرة في البرازيل تدعيماً لدور الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم. وكم كانت هذه الجامعة بحاجة الى التدعيم بعد انهيار مؤسساتها وتشرذم القيمين عليها وغياب دوائر الدولة اللبنانية المعنية بشؤون الاغتراب عن القيام بأي عمل فاعل لإعادتها الى المستويات العالية التي انطلقت منها في عهدها التأسيسي في الستينات من القرن الماضي. وجاءت دراسة شاملة ومعمقة للقنصل العام تستعرض أسباب فشل الجامعة وعدم مقاربة موضوع الانتشار اللبناني بالجدية التامة. ولذا اقترح سلسلة من التدابير والآليات العملية لإصلاح الخلل وإعادة الهيبة الكاملة لقضية تخص لبنان بالصميم. واعتبر هذه الدراسة مرجعية صالحة يركن اليها وتستحق اهتمام الباحثين في شأن الانتشار اللبناني.

والمحطة الثانية في الصين حيث حطّ السفير سماحه رحاله كسفير للبنان ولاحقاً كعميد لمجلس السفراء العرب المعتمدين فيها.

ان الصين التي يطل عليها السفير سماحه هي الصين الحديثة، المنفتحة على العالم بعد ان عزلت نفسها عنه دهراً، وفي امبراطورية مغلقة دامت ألفي سنة متواصلة. قال نابوليون: هناك جبار نائم. اتركوه ينام فإن استيقظ غيّر العالم. واستيقظ الجبار، وتخلص من الامبراطورية، وقاد ثورة ماو تسي تونغ الشيوعية، وانحسرت موجة الراديكالية الماركسية اللبنانية التي ميزت عهده، واعتمدت في عهد زعيم الثورة الثالثة بنغ كسيا بن سياسة الانفتاح على العالم والتعامل معه ضمن إطار دمقراطية شيوعية "ذات خصائص صينية". فرياح الاصلاح والتغيير تعصف. وأصبحت كلمة التغيير الشعار العامل لنهضة زراعية وصناعية وتكنولوجية عارمة حققت غزارة انتاجها غزوة للأسواق العالمية.

والجبار الذي استيقظ، أخذ يلعب دوراً فاعلاً في موازين القوى العالمية، منضماً الى الجبارين الأميركي والروسي يقاسمها الزعامة الدولية التي تفرد بها في القرن الماضي.

وفي هذا المجال، يتناول الكتاب موضوع النزاع العقائدي العميق بين الصين والاتحاد السوفياتي ومخاوف الصين من مطامع السوفيات لحشدها قوات ضخمة لجيشهم على حدود الصين الشمالية فيستعيد الصينيون ذكريات الغزوات التاريخية لبرابرة الشمال. وموضوع هذا النزاع عايشته لسنوات في موسكو. وأذكر طرفة سياسية حقيقية. قام رئيس الوزراء السوفياتي، ألكسي كوسينين بزيارة بكين للتداول مع ماو تسي تونغ بهذا الموضوع. لم تؤدي المشاورات الطويلة الى اية نتيجة. فقال ماو: يا ألكسي، يبدو ان النقاش بيننا سيطول لمدة ألف سنة. فاحتجّ ألكسي وقدم حججاً جديدة للحل. فقال ماو: ان ذلك حسن، ولذلك سأخصم مئة سنة من الألف.

وكما تعود في البرازيل تتحول السفارة اللبنانية في بكين في عهد السفير سماحه الى ما يشبه صالونات الأدب الفرنسي في الجيل الثامن عشر. ففيها تعقد الندوات الأدبية والاجتماعية للأدباء والمفكرين الصينيين مع زملائهم العرب وتنطلق النشاطات وتنشر روائع الأدب اللبناني في الجامعات والأندية والمؤسسات الفكرية، كما حفلت بأكثر من مناسبة باستضافة كبار المسؤولين الصينيين، واللبنانيين الذين كانوا يتوافدون على الصين. وللتدليل على نمو هذه الغرسات من الأرز التي زرعها السفير في أرض الصين ستقرأون في الكتاب رسالة وجهها اليه أديب صيني باسم صامد، رسالة مطولة رائعة، تذكرنا بنشيد الأناشيد، يستعرض فيها الشعراء والأدباء اللبنانيين في الوطن والمهجر، من جبران خليل جبران وإيليا ابو ماضي الى الياس ابو شبكة وسعيد عقل، ودور الثقافة اللبنانية في تاريخ النهضة الثقافية العربية. ويختم الكاتب رسالته بهذا المقطع المؤثر:

"وكم يطيب لي ان أختم وأعبّر عما أكنّه في أعماق قلبي من حبي وحنيني وحياتي للأدب اللبناني. فأطلب يده وأقول له سراً وجهاراً مجدداً مردداً: أحبك ايها الأدب اللبناني بكل قلبي وحياتي".

ومن إنجازات السفير، ان أصبحت السفارة ايضاً ملتقى دائم للسفراء العرب، وكعميد لهم ورئيساً لمجلسهم، انكب معهم على إعداد دراسات سياسية واقتصادية واستراتيجية ترقى الى مستوى الدراسات الصادرة عن معاهد الابحاث المتخصصة، تتناول نهضة الصين الحديثة وتطورها الاجتماعي وعلاقات الدولة بالمواطن الذي أصبح شريكاً فاعلاً ومنتجاً في المجهود العام مستفيداً الاستفادة العادلة من نتائج عمله ومتحولاً لإنسان متحرر من قيود العبودية الاقطاعية وللنظام الماركسي الشيوعي المتطرف.

ومنها دراسة ذات أهمية للعاملين في الحقل الدبلوماسي ولحكوماتهم تستعرض بدقة وتفصيل مراكز القرار في الحزب الشيوعي والدولة وكل المؤسسات العامة والاقليمية، ومنها دراسة ستراتيجية لمشاكل التسلّح ونزع السلاح ومخاطر أسلحة الدمار الشامل النووية ووسائل الحد من هذه المخاطر وتحويل الطاقة النووية لأهداف سلمية، والعمل على جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من تلك الأسلحة، وتحديد الأهداف التي تحقق الأمن والسلام في العالم. وأشعر مع السفير سماحه ألمه المرير وهو يغوص في هذا البحث، وهي معاناة لازمتني لسنوات طويلة في الأمم المتحدة وخصوصاً عندما كنت رئيساً للجنة الاولى للجمعية العامة التي تعنى بشؤون التسلّح والسباق الى التسلّح والأمن والسلم الدوليين، كان ذلك، بينما كان وطننا يقاسي المآسي والقتل والتدمير. فالهوة كانت واسعة بين تفكيرنا الداعي الى السلم في لبنان وبين قوى الشر التي عبثت بمصائر الشعب اللبناني، وحكومة مشلولة عاجزة عن اتخاذ القرارات الحاسمة لإنقاذ لبنان وهو وضع لم نزل نخشى مخاطره في المستقبل.

وأخيراً لا بد لي ان أقدر ما سجله الكتاب وما أعرفه عن مآثر الدونا ماريا، زوجة السفير سماحه، التي كانت دوماً الى جانبه لتحقيق الأهداف التي كان يسعى اليها، لاعبة دوراً ناشطاً وفعالاً في المجالات الأدبية والفنية والاجتماعية والخيرية بما تتمتع به من إيمان بالقيم اللبنانية ومن سعة اطلاع وتفكير في تطور الحضارة اللبنانية.

وأختم بنادرتين: ذكر المؤلف افتخار الصينيين بنجاح مشروعهم الزراعي بينما أخفق مشروع خروتشوف الطموح. فقال راديو ايرمغان الأرمني الوهمي: سؤال: لماذا يعتبر خروتشوف أقدر خبير زراعي في العالم؟ الجواب: لأنه يزرع القمح في أوكرانيا ويحصده في الولايات المتحدة.

وقال الراديو: قيل لخروتشوف ان خيارين يواجهان اخواننا ورفاقنا في الصين لحلّ مشكلة تضخم السكان. فإن توسعهم بمواقفنا في جمهورياتنا في آسيا الوسطى واما الاتجاه الى استراليا! فقال خروتشوف: لا، لا، فليذهبوا الى استراليا.

 

  كلمة د. آمان كبارة شعراني

        ان لقاءنا اليوم ليس من أجل كتاب فقط، وإنما لاسترجاع مسيرة إنسان، كان له جولات وصولات في مهامه الدبلوماسية، حيث أقدم وتريّث، حيث صمت وعمل، فالدول لا تقيم فقط عمرانها، وإنما برجالها ونسائها وأنماط سلوكهم وقيمهم وانجازاتهم.

        فالسفير فريد سماحه، حكاية عمر في عقول معاصريه.

        سفير يعالج سيرته الذاتية بكتاب عنوانه "مسيرتي من قريتي في الجوار الى رحاب العالم" الإنسان بطبعه يتذكر مراحل حياته، فهي مطبوعة في ذاكرته كالنقش في الحجر، فكيف إذا كان السفير فريد سماحه الذي خاض في الحياة وصاغ ارثاً غنياً، محلياً وعالمياً تنهل من معينه.

        ان حبّه للبنان لا حدود له. فهو يعتبر لبنان ليس تاريخاً ولا جغرافياً فحسب بل دور وضرورة اجتماعية لنفسه ولمحيطه. كان في غربته يعبر عن الحنين والاشتياق الى بلده لبنان لأن الإنسان في مرارة غربته يبحث عن أدق تفاصيل حياته عما يقرّب روحه من نبض أرضه. وهذا ما تجلى بوضوح في قوله، عندما أتنقل من القرية إلى المدينة "بأنني سلخت من قريتي، من بيتي من أرضي من وطني كانسلاخ غصن أرز في سنديان عن أمه الشجرة".

        كانت حياته الاغترابية الأولى، في الأرجنتين، برفقة العائلة بدافع العمل، فاستغل وجوده هناك وتعلم اللغة الاسبانية التي مكنته من ان يعين سكرتيراً في القنصلية الفخرية في مندوسا وهذا ما دفعه كما قال إلى التطلّع إلى مستقبل ابتدأ يدغدغ أفكاره للعمل الدبلوماسي. تحقق حلمه بنجاحه في المباراة التي حصلت لاختيار الدبلوماسيين في لبنان، وعيّن في ملاك وزارة الخارجية وتدرّج في مناصبها كقنصل وسفير في العديد من البلاد العربية والأجنبية كان آخرها الصين الذي مكث فيها عشر سنوات.

        قلة من الناس الذين يتركون آثارهم، فالمواقف لا تموت ولا يطويها النسيان بل تحفظ فرسانها منارات في الوجدان. كان دبلوماسياً مثالياً وجدياً بعمله.

        لقد استطاع ان يرسخ في ذهن كل من كان حوله شخصية السفير المتميز، بدقة ملاحظاته، والجرأة في الدفاع عن وجهة نظره وممارساته المهنية والشخصية فكان إنسان متعدد الاهتمامات نقي الذهن يعكس صورة مشرقة لبلده لبنان. كما يتصف ايضاً بشخصيته المرحة، والذي يداعب أصدقاءه ضمن هذه الشخصية المحببة.

        سفير معتز بنفسه، وبوطنه لبنان سياسي مجرب، وطني صادق وكان نبراساً للكثير من أعضاء السلك الدبلوماسي. نالت القضايا السياسية والثقافية قسطاً وافراً من نشاطه أثناء القيام بمهنته. قام بعشرات الندوات والمحاضرات واستطاع أن يساعد الطلاب اللبنانيين، فأسس مثلا لجنة التعاضد لمساعدة الطلاب في مرسيليا فرنسا واستطاع ان يلعب دوراً فعالاً في تجمع الأندية اللبنانية في البرازيل الذي بلغ عددها 150 وأسس مدرسة للبنات وقام ايضاً بدارسات عديدة تجلّت بعطائه الفكري الراقي.

        وقد تمكن في الصين من دعوة الأدباء وأساتذة اللغة العربية في الجامعات للتبادل الثقافي بين البلدين الصين ولبنان فتمكن في وضع برنامج يتضمن التأليف والترجمة بين عدد من الأدباء اللبنانيين والأدباء الصينيين.

        يا سعادة السفير،

عندما التقيتك في بيجين عام 1995 بمناسبة المؤتمر الرابع للمرأة كنت تتميز بالشخصية المتصفة بالشفافية، المضيافة تلك صورة الرجل الكبير الذي بقي في ذهني إنساناً مثالياً في أخلاقه ووطنيته! كنت دائماً على سجيتك باسماً راعياً للمروءة والوفاء في زمن توارت فيه أواصر الصداقة الخالصة. كان إيمانه بحقوق المرأة جليّاً وإيمانه كبير بالعدالة والمساواة وبمشاركة المرأة سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً في مجتمعها.

ان مشاركة 40 الفاً من النساء في 189 دولة في الصين سلطت الأضواء في العالم على قضية المرأة وعلى الهدر الاجتماعي الحاصل من جراء الغبن والتميز ضدها، كما وضعت قضيتها أمام المهجر لحث جميع المجتمعات على استيعاب دورها وصيانة قدراتها وطاقاتها ولا بد من الاعتراف ان مؤتمر بيجين كان مرحلة تاريخية واعدة وملتقاً عالمياً متفاعلاً تداخلت فيه الحضارات والديانات والمعتقدات والمذاهب وقدم جديداً وأحدث دوياً في ذلك الحشد الهائل الذي ركز على قضية المرأة وجعلها من الأولويات لدى المجتمعات والدول.

لا يمكن أن ننسى دورك الفعال في ذلك المؤتمر لقد قدمت جميع التسهيلات الممكنة لوفدينا الأهلي والرسمي الذي تألف من ثمانين امرأة مشاركة، لقد سخرت جميع القدرات والطاقات لراحة الوافدات من لبنان إلى ذلك المؤتمر، في الوقت الذي كانت الصين تستقبل 30.000 امرأة من كل أنحاء العالم.

كرّمتنا بالسفارة باحتفالين عظيمين بحضرة أهم شخصيات العالمية والعربية التي أمت المؤتمر فكانت السفارة كخلية نحل وحديقة ورود كما وصفاتها.

ايها السفير، شعرنا لأول مرة في المؤتمرات التي نشارك فيها ان بيتك هو البيت اللبناني الأصيل الذي يشعر كل من يطرقه هو بيته، فضممتنا الى رحابه، وفتحت أبوابه ليلاً ونهاراً، وساندتك في ذلك زوجتك الغالية ماريا، السيدة المثقفة والفنانة التي رصعت جدران السفارة بلوحاتها الزيتية، التي أعطت أفضل وجه للمرأة اللبنانية في الخارج. كان ترحيبكما الحار يخفف من غربتنا في بلد لم نكن على علم كاف به، وكان كرمكما ينم عن صدق النوايا والآفاق الرحبة التي تتميزان بها.

سعادة السفير

تتجسد في شخصيتك وسلوكك مجموعة من الكفاءات والإمكانيات والطاقات والقيم التي جعلت في حضورك في كل بلد انتسبت إليه لمثيل لبنان فيه، توصيف كل هذه السمات ضمن مسار ايجابي فاعل من العطاء في نقل حضارة لبنان إلى الخارج، التي منحتك مصداقية جعلت منك قطباً مؤهلاً للاحترام والتقدير، لقد أثبت بالفعل انك رجل دولة بامتياز افتقدتها الحياة السياسية في لبنان منذ فترة من الزمن.

لقد أدركت ان مهنة السفير تفترض حساً أخلاقياً وحساً سياسياً ومقدرة على اتخاذ القرار بفطنة وحذر، فكان أداؤك وممارستك على هذا الصعيد وأيقنت ان الاتصال بأعلام الفكر العالمي والنخب المثقفة لكفيل بان يكون خير ضمانة للنجاح في خدمة لبنان، وأصدق كفيل لفعالية مهمة رغم ما يعترضها من مصاعب. وعند رجوعك الى البيت لمست انه تغير كل شيء وان الناس يزدادون قسوة ويفقدون البوصلة ويسقطون في بحيرة الجشع والطمع ولكنك لم تيأس فبادرت الى المساهمة مع زملائك السفراء القدامى الى العمل على استعادة وجه لبنان الحضاري، رمزاً للتلاقي الوطن وللتعالي على الطائفية والمذهبية وغيرها في الأمراض الاجتماعية التي حلت في وطننا. فأسست جمعية الصداقة اللبنانية الصينية كغيرها من المبادرات الثقافية.

واختتم كلامي بنص من أقوالك ورد في كتابك "لو لم أكن دبلوماسياً أدافع عن حق بلادي لتمنيت ان اكون معلماً لأعلم هذا الحق وحب الوطن".

عشت أيها السفير في مهماتك نقياً وفي شخصيتك فريداً

فما الحياة إلا وقفة عز امام عيون العالم.