ندوة حول كتاب اغتيال الدولة لمحمد علي مقلد

 2007 21  شباط 

 كلمة بسكال لحود

ملخص عن كلمة  جورج ناصيف

كلمة جميل جبران

 كلمة بسكال لحود

أيها الأصدقاء،

أظهرت دراسة أجراها فريق جون ميتشل في جامعة هارفرد في تموز 2006 أن المشاركة في نقاش سياسي توظف منطقتين مختلفتين من القشرة الدماغية القبل-جبهيةcortex pre-frontal وذلك تبعًا لموقع المتكلم بالنسبة إلينا: فإذا كان يشاركنا الأفكار السياسية فإننا نتلقاه بواسطة القسم البطني القاسم zone ventro-mediane من القشرة الدماغية القبل-جبهية أي المركز الدماغي المسؤول عن الكلام بصيغة الأنا، بحيث نتماهى مع من يتحدث، بوصفه آخر شبيهًا بنا.  أما عندما يتكلم مناصرو الرأي الآخر فإن المنطقة من القشرة الدماغية القبل-جبهية التي تعمل هي المنظقة الظهرية- الجانبية dorso-laterale التي تصنفه آخر غير شبيه dissimilar other فتتجند فينا طاقات انتقاده.

عليه فإن ما نعتبره عقلاً ونركن إليه خوفًا من مزالق الغرائز والإنفعالات هو أيضًا مفخخ بصيغة النحن والهم، مجهز كيما يتبنى أفكارًا ويرفض أخرى، تبعًا لتماهيه مع الناطق بها أو استعدائه إياه.  بتعبير آخر، بنا عطب خلقي يجعل وصولنا إلى الحقيقة في مجال السياسة بقدرة الدماغ الواحد استحالة، وعطبنا هذا إشارة إلى حاجة الدماغ إلى دماغ آخر غير شبيه كي يصبح للكلام في السياسة حدًا أدنى من المشروعية.

نحتاج إلى الدماغ الآخر، ونحتاج في حوارنا معه أن نبذل مجهودًا فكريًا يحول دون نزوعنا الفطري إلى إلغائه لمجرد كونه آخر غير شبيه بالأنا... نحتاج إلى أخلاقيات تضمن صيرورة النقاش على حد تعبير هابرماس "بحثًا تعاونيًا لا قيمة فيه ولا إعتبار إلا لقوة الحجة الفضلى "، لذا يكون التحدي الأكبر للعقل السياسي اللبناني أن يضبط الحوار على إيقاع الحجة الفضلى، بعدما اعتاد التنافس وفق منطق القجة الفضلى والذراع الدولي الأطول... التحدي الأكبر أن يقبل المشاركة ويوجد لها أطر تضمن وصول الحجة الفضلى إلى التنفيذ سواء أتت من الأكثرية أو الأقلية. أما ما لم نكن قادرين على الإرتفاع بالنقاش السياسي إلى المحاججة، أي التسايف عقلاً، والقيام بمجهود ذهني منعًا لإسقاط الرأي الآخر لمجرد كونه آخر...  فسيبقى الآخر، أيُّ آخر، مضطرًا أن يعطل على الدماغ الواحد عيشه وينغص عليه وهمه بإمكان صياغة اجتماع سياسي مستقيم بواسطة الأنا ومجموع الآخرين المماثلين.

أيها الأصدقاء،

لن نلعب الغميضة فيما يتعلق بمواقفنا. كل المواقف معروفة، والحجج المستعملة لتسويغ هذا وذاك من المواقف مكشوفة. لذا لن استعمل الكتاب لإسقاط أفكاري السياسية. أردت فقط أم أدخا إليه من فكرة كوننا كحيوانات سياسية غير معدين لاقتراف السياسة خارج المعية، ومعية الغير المخالف تحديدًا.

لا يغرنكم العنوان، فهو مجرد دعاية نظرًا لكون الإغتيال موضة. لا شيء في الكتاب يشير إلى فعل اغتيال واحد ونهائي بل إلى تقويض بطيء ممنهج لما توفر من مقومات الدولة في الكيان اللبناني، وتعطيل لشروط إمكان ما كان ينقصه.

والكتاب كناية عن مجموعة مقالات ودراسات متفرقة، لذا سأتناوله بمجموعة من المقاربات.

1- الطائفية - المحاصصة   

لعل أبرز ما يقدمه هذا الكتاب للبناني غير المنهم بأزمة اليسار، المقاربة الجديدة لمسألة الطائفية التي أراقت الكثير من الحبر والدم في هذا البلد، والتي يتهم مقلد العلمانيين أنفسهم بالإسهام في تكريسها ومدها بمقومات الإستمرار نتيجة مقاربتهم الخاطئة للموضوع.

لم يبقَ من الخطاب الداعي لنبذ الطائفية المقيتة والبغيضة وغيرها من النعوت سوى تعويذة نفدت مدة صلاحيتها، وفقد اليسار وكالتها الحصرية. ففي العلن، الكل في لبنان متبرم بالطائفية والكل منها براء والكل يلوح بضرورة إلغائها. وهي  في الواقع خليلة الجميع السرية، وأطفالنا يشبهونها بأكثر مما يشبهون زوجات الفكر الشرعيات من مثيلات الحرية والسيادة والشفافية.

يقارب مقلد الطائفية بوصفها واجهة دينية-اجتماعية لتخلف سياسي، يتمثل بانحياز اللبنانيين لمنطق الدولة-الكعكة، دولة المحاصصة، وصبرهم على الظلم الذي يلحقه بهم تكعك مفهوم الدولة لاقتناعهم بأنها، أي الدولة الكعكة، أقل الصيغ الممكنة سوءًا. لذا لا يجد جدوى من استعادة جدل فريسي الخبث بيزنطي العقم حول علاقة الدين بالدولة في هذا السياق، إذ لا علاقة جوهرية للأزمة بالدين، فمَن من اللبنانيين إسلامُه دين ودولة ليس أكثر طائفية ممن أوصي بأن يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

المشكلة في المحاصصة إذًا.

ولكن السؤال كيف نجح المحاصصون في حيازة ثقة المواطن الذي يمصون دمه، وفشل العلمانيون في إقناعه بضرورة حقن دمائه؟ كيف انحاز اللبناني ضد نفسه فارتضى لحس مبرد الطائفية، هو الذي دفع من عمره وماله وكرامته ودمه ثمن أوهامها وتهويماتها؟

الواقع أن الطائفية البغيضة والمقيتة تصور دائمًا على أنها البديل عن الفتنة، فإما هي أو الفتنة، وفي تلك قوتها وإحالة إلغائها إلى التأجيل المؤبد. وقد تكون مهمة العلمانيين الحقيقيين، لا بل المؤمنين بالدولة جميعِهم ولو لم يتعلمنوا، أن يقنعوا اللبناني أن  الدولة-الصاعق توأم الدولة-الكعكة. فإن الإبقاء على المجتمع طوائف مغلقة هي وكالات حصرية للمواطنية والخدمات، هو تأبيد لنمط من العلاقات قائم على التعازل داخليًا والتواصل خارجيًا، بحيث تُستعمل الجماعات الطائفية فتائل للحروب يوم يحتاجنا الخارج دولة-صاعقًا، وما بين الحروب يتركها ترعى موارد الدولة وصناديقها استعدادًا لجولة عنف جديدة.

علينا إذًا الخروج من منطق الوطن الكعكة سواء حشيت الكعكة بالصعتر الحلبي والزعفران الفارسي أو الكريما الفرنسية: المشكلة في الكعكة بداية، في نظرنا إلى الدولة لا كشركة مساهمة الربح فيها ربح الجميع والخسارة كذلك، بل كمجموعة من المغانم  حصة أحدنا فيها لا تزيد إلا باقتطاع ما كان حصة الآخرين. وهكذا يبقى الآخر حكمًا خصم الأنا، ونبقى هو وأنا في سباق لتوسيع حصصنا من كعكة الدولة. قد نتوسل لذلك بطون النساء، فنفخخ التوازن الوطني الهش بالقنابل الديمغرافية، أو قد نتوسل قوانين التجنس، أو يخيل أننا نستعمل أذرعنا الخارجية لحماية حصتنا في الكعكة، فيما تستعملنا هي عندما تحتاجنا فتائل تفجير، وما بين الحروب تتركنا لنأكل لحمنا الحي.

المحاصصة تستند إلى بنية ثقافية متكاملة مرتكزة إلى ثالوث الحاجة والخوف والجهل، لذا فتفكيكها يفترض:
1-                                سياسة تنموية ترفع عن المواطن نير الإرتهان إلى زعيم طائفي يبتزه بما هو حق له،

2-                                قيام دولة الحق التي يطمئن المواطن فيها إلى حقوقه، فتغدو تجارة المخاوف الطائفية تجارة خاسرة

3-                                 تفكيك خطاب الجهل القائم على تطييف ما ليس طائفيًا والذي سماه الكاتب الزجل الطائفي.

والأمثلة على ذلك كثيرة : يختلف اللبنانيون حول موقفهم من المحكمة الدولية أو توزيع الحقائب الوزارية، فيهرع رجال الدين إلى عقد قمة روحية كما لو ان المحكمة الدولية مسألة لاهوتية أو كلامية.   يعتصم اللبنانيون في الساحة اعتراضًا على سياسة الحكومة فتغدو القضية الكبرى معرفة ما إذا كانت نساء المعارضة ينمن في الخيمة ومع من ومدى توافق ذلك مع كتب التعليم المسيحي.

مأزق الحريري

من هنا أنتقل إلى فكرة أخرى تشغل حيزًا مهمًا في الكتاب  وهي مشروع الحريري السياسي. والحق يقال إن تسامح هذا الماركسي مع الرأسمالية الحريرية امر مثير للعجب.

يبدو لنا عند قراءة تعليقات الكاتب على مشروع الحريري أن لا عيب في المشروع نفسه، وقد اختصره الحريري بمجموعة من العناوين من نوع الوحدة الوطنية والعلاقات المميزة مع سوريا وتحرير الأرض من الإحتلال وهي أبعد ما تكون عن المشروع بل هي عبارة عن عناوين- شعارات يمكننا أن نجدها على ضفتي الحرب الأهلية في لبنان. سوف أختصر موقف مقلد من الحريري بمجموعة من المستلات من الصفحات 29 إلى 42.

" المأزق(...) يكمن في أن صاحب المشروع استند، في تنفيذ مشروعه، إلى قوى ليست صاحبة المصلحة في تنفيذه" ( ص 29) وقد ارتضت الإسهام في المشروع "مقابل حصة تقتطعها (...) من جسم الدولة الإداري أو الإقتصادي أو المالي" ( 30) إذ أغراهم الحريري ( أي رؤساء الميليشيات) بالمال ثمنًا للسلاح وتشجيعًا لهم على مساعدتنا في إخلاء المساكن المحتلة" ( ص 42)

 ويبدو كل ذلك خطيئة عرضية، مجرد خطأ تسييري. فإذا كان الحريري قد اختار لتنفيذ أهدافه أدوات يعرف أطفال السياسة والمنطق أنهم لن يشاركوا فيها، أي إذا عول على دعاة التقسيم لتأسيس الوحدة، ونهبة المال العام لبناء الدولة... فهذا يحتم علينا إما إعادة نظر برشده السياسي أو بحقيقة كونه هدف إلى ما قاله. وهنا أسأل مقلد ليست الدولة التي يرشى فيها السفاحون بمزيد من دم الضحايا أليست إنكشارية هي الأخرى؟ وإن كان الجواب بلى، فما الذي يجعل من مشروع الحريري أكثر من لباس أنيق للوطن الكعكة نفسه الذي انتقدته؟

وإذا كان الحريري نفسه قد أعطانا الإجابة على هذا السؤال عندما رد على انتقادات الكاتب له " من غير المسموح لنا أن ننفذ ما هو صحيح" ( ص 41)، فهذا عذر أفدح من الذنب!

أمن المقبول أن يقبل المسؤول أن يكون مسؤولاً فيما هناك من يمنعه من القيام بما هو صحيح؟

ألم  يورثنا هذا المنطق طقمًا كاملا من المسؤولين الفخورين بالإعتراف أنهم وقعوا تحت الضغط، والزعماء غير الخجلين بالإقرار أنهم خاضوا حربًا أهلية بآلاف الشهداء لأنهم لم يجرؤوا بسبب الضغط أن يفضحوا من اغتال هذا أو ذاك من الزعماء!

يبدو الحريري في هذا الكتاب بطل الخطايا المغفورة.

 وأنا موقنة أن الكلام على الحريري مأزق، ولكن آن الأوان لنتخطى هذه العقدة الإبستمولوجية ويصبح من الجائز مساءلة مرحلة الحريري.

سيخرج الحريري عاجلا أم آجلا من دائرة الطوطمية والتقديس، فشهداء الإستقلال أولئك الذين ذهبوا بأرجلهم إلى المشانق ولم يتحايلوا على الموت بشتى أنواع المعطلات اللاسلكية، حتى هم أخرجوا من روزنامة الأعياد وبات نصبهم مطية لشتى الحماقات. سيخرج  الحريري من حيز الطوطمية ذات يوم. قد أكون استعجلت إخراجه. ولكن لن يعجل الله فرج الدولة المغيبة ما لم نعجل في الإفراج عن حسنا النقدي، وإذا كان الحريري رجل الدولة الذي تتحدثون عنه فلن يضيره أن ننتقده وفاء للمشروع.

3- الزهد بالجدل والأمل

الفكرة الثالثة التي أود التوقف عندها هي التوليفية المتسامحة التي يتسم بها الكتاب.

أجل، يتسم أسلوب مقلد، كمعظم الفكر السياسي اللبناني بعد الحرب، بشيء من الكهولة الفكرية الرصينة، وليس الكهولة مأخذًا، بل أعني بها حذرًا فكريًا مستعدًا لأكل العنب زبيبًا بل شربه خلا شرط ألا يستيقظ الناطور...

 عندما يركن اليساري إلى اعتبار بناء الدولة البورجوازية أولى مهامه الثورية، ويؤكد قبل كل نقد للبنية الطائفية أنه يجل المرجعيات الدينية ويحترمها، نحار كقراء فيما نشعر به... قد يسعد القارئ لهذه الروية الحكيمة، وللتعايش السلمي بين هواجس اليمين وأحلام اليسار، ولكون التوفيق ممكنًا بين العلمانية والإيمان...إلا أن قشعريرة ما تنغص عليه هذا التفاؤل. فإن التسامح على محاسنه يبقى  أحد إعاقات الحرب "فالفكر المتسامح على ما يقولOlivier Abel هو سمة مجتمع "خارج من الحروب الدينية، ليس من فوق، بالتواضع المستنير الذي يرفض القتال من أجل أسمال ظلامية، بل من تحت، بخيبة الذين يعرفون أن لا مخرج من الظلمات وأن الحروب الدينية ممكنة في أية لحظة. [i]

أجل عندما تقرأ جورج قرم متبنيًا أفكار مهدي عامل أو محمد علي مقلد هاضمًا دون عسر مخاوف الكتائب اللبنانية ينتابك الشعور بأنهم يتفادون الصدام، أي صدام، ولو كلفهم ذلك بضع تنازل على صعيد الفكر... فالفكر إذا ما هدرت حقوقه لا يهدد بحرب أهلية. هم الذين خرجوا من الحرب بشعورأنهم حاربوا طواحين الهواء، والأفدح أن العدو كان وهميًا والقضية وهمية وحدها الخسائر كانت حقيقية... يتعاطون مع الأفكار بحذر من يرقص على حقل ألغام عتيق ليس متأكد من أه لم يعد خطرًا.

فما اعتقد المثقفون اللبنانيون عشية الحرب وخلالها  أنه اختلاف جدلي، صراع حياة أو موت بين العروبة والفينقة تبين فيما بعد أنه لم يكن سوى تفرع ثنائي لفكرة واحدة بالمعنى البرغسوني، أما الخصم الحقيقي فكان على مستوى آخر، مطمئن إلى سلامته . ولم يكن محتاجًا إلى ترسانة أفهومية ضخمة بل إلى مال وسلطة، لم يكن البلد ماشي بفضل النظرية الحريرية الفذة في السياسة، ولا بقي هو قاعد قاعد، على الرغم من البرم العام بسياساته المالية، بفضل حيوية أدواته الفكرية. ولا أحال جميع الشهداء إلى التقاعد بشجاعته الفدائية. المعركة كانت في مكان آخر، لذا ترك المثقفون والسياسيون التقليديون يتسلون بأفكارهم وحروبهم الكلامية الصغيرة. استنفد الماركسي قوته بالتصويب على فكر اليمين فخرج وحش رأس المال سليمًا معافى. اقتتل وطن سايكس-بيكو الكرتوني مع الوطن-الملجأ السرمدي فربح وطن السماسرة.

على ضوء تلك المرارة يفكر محمد على مقلد، أو هكذا بدا لي ، ومثله كثر آخرون، لذلك يزهدون بالنظري وينكفئون إلى واقعية واطئة السقوف، عنوانها التفكير بهدي الخيبة.

 في ذلك خسارة للفكر ولوموقتًا، ولكن فيه ربحًا على صعيد السياسة.

فمن ميزات القشف النظري تقليص المعارك الوهمية، وتقليص الوقت الذي يهدره المثقفون على مستديرات التنظير في عجقة الأراء بينما يستقل السماسرة قادوميات الغريزة ويصلون قبلهم.

وقد أختصر هذا المنحى بقول الكاتب في الصفحة 168: " لا يهم فقراء العالم، أسماء الذين يحكمونهم وأزياؤهم، لا فرق عندهم إن كان حاكمهم ذا لحية يسارية أو دينية، ولا إن تزيا بربطة العنق أو بثياب الميدان والنياشين".

لكن ذلك لا يمنع بعض الشطحات، حيث يذهب التوفيق بعيدًا.

من هذه الشطحات محاولة الكاتب أن يعري فكرة العروبة من الأفكار المغرضة التي علقت بها، فيوضح أن العروبة ليست الإسلام ولا السورنة ولا التوطين ولا التسلط. فتسأل  مرغمًا أويصدق محمد علي مقلد الماركسي ذلك؟ أتلك برأيه مشكلتنا الفعلية مع العروبة؟ أليس تلازم العروبة والإسلام أو اعتبارها مرادفًا للسورنة ذلك المنطاد الظاهر في بنى الفكر الفوقية  فيما النار الدافعة له نار خوف على الوجود ولقمة العيش؟ أنصدق فعلا أن لدى ماروني بشري مشكلة أيديولوجية مع العروبة تحل عندما نفصل العروبة عن السورنة أو الإسلام؟ أونصدق أن مزارع عماطور أرق من توسع المجوسية ؟ علينا أن نفكك البنية الأساسية التي تجعل أفكارًا مجردة كهذه صواعق تفجير، فتجيش الجوع والظلم والخوف لصالحها، وتنجح كأنثى تحترف اصطناع الخوف في استفزاز ذكورة العنف.

إلا أن شطحات كهذه تقع في دائرة الإستثناء ويبقى مقلد في مجمل الكتاب مؤمنًا بأن للتغيير أقفالا لا تفتحها الأفكار، والنظرية مهما دقت لا تستطيع الإستغناء عن برنامج وتنظيم...

يتسم إذًا بتوليفية براغماتية أكثر انهمامًا بالنتيجة الواقعية التي تهدف إليها من  البهلوانيات النظرية التي تستعمل للوصول إليها.

توليفية حذرة هي سمة التفكير بهدي الخيبة، ولكن قد يكون من الضروري أن نهتدي بالخيبة لفترة، ونخفض سقوف طموحاتنا الفكرية، ريثما نبني دولة تدول فيها السلطة دونما دماء، فيقف الفكر بقامته كلها موقنًا أن الأسئلة الكبرى وحدها جديرة بالفكر الحق...

خاتمة

كلنا يريد الدولة.

لكن دعونا مما أسماه جورج قرم أيديولوجيا السذاجة، دعونا من الإنزلاق إلى الإيمان بعرابينا... العالم لا يحتاج وطنًا رسالة  بل وطنًا-صاعقًا، وبقاؤه صاعقًا منوط ببقائه كعكة. فلنخرج من ثقافة القناصل وثقافة المرابعين على السواء.

ومن من زعمائنا  تُشد أذنه اليوم إلى التسوية من الخارج ستشد أذنه غدًا إلى الحرب من الخارج. إبحثوا عن بديل له تكون  مبادرته في يده.

أما الخروج من منطق الكعكة فمرتبط حكمًا بورشة إصلاح ومحاسبة،  ولا يفوتكم أن ليس المفسدون من سيصلحون، من يمدون يدهم إلى المال العام عندما يزنقون، ولا من تحت الضغوط يوقعون، ولا من لا يخجلون بالكلام عن حصة طائفتهم في كعكة الفساد.

فتشوا عمن قراره في يده، حتى إذا ما تكلم مع دماغ آخر واقتنع كان مالك زمام المبادرة إلى القبول. بذلك نجد حلا لأحجية ميتشل فنتحايل على محدودية الدماغ الواحد بانفتاحه على الدماغ الآخر.

فتشوا عمن إذا قال إنه سيقطع يد السارق لم تؤلمه يده.

فلحاجة العقل إلى عقل آخر حل بانتهاج الحوار، أما حاجة الإرادة المرتهنة إلى من يشمط أذنها من الخارج فحتى إشعار آخر لا دواء لها.

آن لنا أن نتدولن.

ولكن، لا يظنن أحد أن بالإمكان دولنتي قسرًا.

فلقد مورنوني بالقوة وما انعزلت

وفينقوني بالقوة وبقيت عربية اللسان والهوى.

وسورنوني بالقوة وما تعنجرت

وهجروني فارتجلت من كلمتي أرضًا أقيم عليها بحقوق كاملة وكرامة كاملة.

لم ينجحوا في إرغامي... فليعرفوا أنني لن أدولن إن حاولوا دولتني قهرًا... فرجاء يا من ترى فيَّ آخر غير مثيل دعني أتدولن.

بل دع عنك لومي وتعال نتدولن معًا، ولنقطع الطريق معًا على كل المشاريع المشبوهة.

فبصمات مغتالي الدولة ما تزال على أجسادنا، على أعمار أهرقت في الملاجئ... في المنافي وفي عراء البيوت المهدومة .

فلنعزل مغتالي الدولة عن الحكم ما لم نرد إرسالهم إلى السجون ولنشرع في بناء الدولة وإلا... فالأجدى أن نحيل إغتيال الدولة إلى لجنة التحقيق الدولية، وبانتظار أن يكشف الجناة عن الجناة... لننصب خيمة فوق أشلاء الدولة ونقطع الطريق على المتكلمين عليها . ونؤوب إلى الصمت ريثما يعجل الله فرج دولة قصرنا في الإفراج عن شروط إمكانها.

   بسكال لحود


 Olivier Abel, p.25

ملخص عن كلمة  جورج ناصيف

وتحدث الكاتب والإعلامي جورج ناصيف فسجّل موافقته العامة على الفكرة المركزية في الكتاب والتي تتمحور حول ضرورة قيام الدولة، بديلا عن التجمعات الطائفية لكنه اعتبر ان الكتاب لم يعالج معوقات قيام الدولة وسبل تجاوز هذه المعوقات.

مثلاً: ما هي علاقة مشروع الدولة بالعولمة؟ ما نوع الدولة المرتجاة؟ ما موقف اسرائيل من الدولة؟ هل تقوم الدولة طالما ان النظام طائفي؟ هل تصلح دولة على النمط الفرنسي الموحد فيما المجتمع تعددي؟ ما هي القوى التي يمكن ان تحمل مشروع الدولة؟ ما حظوظ قيام الدولة في ظل الاستقطاب الإقليمي الحاد؟

وانتهى ناصيف إلى اعتبار الكتاب تمهيداً لكتاب آخر يعالج هذه المعضلات.

جورج ناصيف

كلمة جميل جبران

اغتيال الدولة : هل هو حدث حصل وانتهى الأمر ؟ أم جريمة متمادية أو مؤامرة قيد الإعداد أو قيد التنفيذ ؟ !

يشكو اللبنانيون دائماً من الدولة. وأسباب الشكوى كثيرة :

الضرائب ، البطالة ، غلاء المعيشة ، المرافق العامة والخدمات التي تؤديها الخ .... .

ويتوجسون من غيابها. فمرارة التجربة وأطياف الحرب الأهلية تقض مضاجعهم ، مع ما تعنيه من ويلات ودمار ، وعودة الى النظام المليشياوي ، وما يجرّه من استتباع للوطن ، ومن فقدان المواطن لكرامته وحريته وكل ضماناته .

بين شكوى المواطن من الدولة والعطش اليها ، يرى معظم الباحثين ، ان العلة تكمن في النظام الطائفي ، الذي يحول دون بناء الدولة الحديثة ، أو يسعى الى تقويضها بتفريع صلاحياتها وتوزيعها على الطوائف.

الا ان الدكتور محمد علي مقلد يرى ، ان النظام في لبنان ليس طائفياً في بنيته السياسية. والطائفية ليست نظاماً ، " بل هي سلاح ولباس . سلاح يستخدمه غول النظام عند الحاجة، ويخلعه أهله حين تطلب ديماغوجيتهم الترفع عن وسخ الطائفية والتظاهر بالتعالي عليها " .

ويقتضي ، بنظره ، التفريق بين السياسي والايديولوجي . فالنظام هو نظام     المحاصصة ، ليس بين الطوائف ، التي يتألف منها بلدنا في تركيبه الديموغرافي ، بل بين بعض القوى من مختلف الطوائف.

بالإضافة الى مفهوم " نظام المحاصصة " ، الذي يبنى عليه الدكتور مقلد تحليله للنظام السياسي السائد في لبنان ، فهو يتصدى للممارسات النظرية والعملية لمختلف القوى الفاعلة في الحراك السياسي ، من احزاب وتيارات ومجالس ملية وسواها ، وما يصدر عنها ، من منطلق المثقف الذي لا يتخلى مطلقاً عن فكره النقدي ، ومن منطلق المواطن اللبناني الذي له الحق في التعاطي مع كل عمل أو فكر أو موقف في السياسة مهما كان مصدره ، ودونما أي عائق ايديولوجي ، أو ديني ، أو مذهبي ، أو مجتمعي ، فلا قيود على الممارسة الفكرية أو السياسية على مساحة الوطن أو تجاه مكوناته المجتمعية.

واذا كانت السياسة الناجحة ، كما يقول الدكتور مقلد نقلاً عن الفيلسوف الفرنسي   ( جيل دولوز ) ، تعرف كيف تقفل نقاشاً ، وهذا ما لم يستطعه معظم السياسيين لدينا ، فأن الثقافة تنجح حين تتقن فتح النقاش ، وهذا ما يتقنه جورج ناصيف الصحافي ، وهذا ما تتقنه ايضاً بسكال لحود استاذة الفلسفة.

جميل جبران