ندوة حول كتاب الاعلامي جورج عرب

"حارس الذاكرة

محاضر سرية تنشر للمرة الأولى كتبها البطريرك مار نصرالله بطرس صفير"

الجزء الأول 1961 - 1977

2007 27 آذار

كلمة الأب أنطوان ضو

كلمة الرئيس نجيب ميقاتي

كلمة الوزير غازي العريضي القاها السيد خليل الخوري

كلمة معالي الاستاذ ميشال اده

كلمة سيادة  المطران رولان ابو جودة

كلمة المطران فرنسيس البيسري


كلمة الأب أنطوان ضو

        تجمعنا الحركة الثّقافية -إنطلياس, في رحاب دير مار الياس العامر, حول كتاب الإعلاميّ جورج عرب " حارس الذّاكرة " وهو الجزء الاوّل من سيرة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير, ودوره الدينيّ والسياسيّ مابين 1961-1977, الجالس في بكركي منذ سنة 1956 كاهنا امينا للسرّ, ومطرانا نائبا عاما للبطريركين المعوشي وخريش وبطريركا منذ 1986.

        جورج عرب ابن الديمان, وعاشق وادي قنوبين طبيعة وبيئة وجمالا وتراثا وقداسة وبطريركية, تعرّف على المطران نصرالله صفير نائبا بطريركيا ثم بطريركا, فأحبّ فيه روح الفضيلة والتّقوى والتّواضع والنّسك والزّهد, ومحبته للانسان والوطن, ودفاعه بشجاعة واخلاص عن قيم الكرامة والحق والحريّات العامّة والدّيمقراطية الحقيقيّة والاستقلال والثّقافة والعيش المشترك والرّسالة.

        كان المؤلف يرافق البطريرك في الوديان والجبال, ويجالسه في البطريركيّة, ويصغي اليه, ويسأله,ويتبادلان الرّأي. وبحكم عمله الاعلاميّ كان يتردّد يوميّاعلى الكرسيّ ليسهل أمور الزّائرين والاعلاميين. نتج عن هذه العلاقة صداقة ومودّة واحترام وثقة. فكر الاعلامي وضع كتاب عن البطريرك. تمهّل غبطته في قبول الفكرة,ثم اقتنع,فكانت الاحاديث الشفهيّة. بعدها فتح البطريرك خزانة أسراره, وسلّمه "محاضر سريّة تنشر للمرة الاولى", وهي مدوّنات البطريرك في مهمّاته واجتماعاته مع شخصيات دينيّة ووطنيّة وعربيّة واجنبيّة.فكان هذا الكتاب صفحة من تاريخ لبنان المعاصر. يسلّط الضّوء على جهاد البطريركيّة المارونيّة في الدّفاع المخلص عن قضايا الشّعب والوطن معا, ومقاومة بعض الاشخاص والاحزاب والدّول الّتي عملت على خدمة مصالحها واستغلال المواطنين والوطن, وحالت دون تحقيق الوحدة والسّلام بين اللبنانيين واشقائهم.

        يتحدّث في هذه الندوة كلٌ من: 

        دولة الرّئيس نجيب ميقاتي ابن طرابلس عاصمة الشّمال, ومدينة العلم والعلماء والثقافة التي تعتزّ بابنها البار, ويفتخر به لبنان انسانا طيبا متسامحا محبا, صاحب الحضور الانمائيّ بين اهله ومواطنيه. كان أوّل من تبرّع باعادة بناء جسر المدفون الذي دمرته الحرب الاسرائيلّة على لبنان, في تموز الماضي, واوّل جسر يعاد فتحه. فكان المثل والمثال. الرئيس ميقاتي لا يبني جسورا من الاسمنت فقط بل جسور اللقاء والتواصل والاعتدال والتّضامن والمحبّة بين اللبنانيين, وهو مدعو الى لعب دور رياديّ في عمليّة الحوار الاسلاميّ المسيحيّ وحوار الثقافات, والانفتاح على العالم انطلاقا من مدينة الفيحاء.

        معالي وزير الاعلام الاستاذ غازي العريضي, ابن الجبل, عاشق ثقافة الحرية والاستقلال والانفتاح, الذي يعرف تماما جوهر الصّيغة اللبنانية الحضاريّة, ودور بكركي والجبل في تعزيز علاقات التضامن والوحدة بين اللبنانيين أولا, وبين اللبنانيين والعرب تاليا. ووجهه الآخر انّه أكثر السّياسيين اللبنانيين اقتناء للكتب الجديدة ومطالعتها. أنّه رجل الفكر والاعلام, والمناضل في سبيل التجدّد الوطنيّ الحقيقيّ, والنّهوض العربيّ, وبناء المجتمع المدنيّ المعاصر من خلال ثقافة التغييروالتغيّر بالثقافة.

        معالي الوزير ميشال إدّه, الرّئيس السّابق للرابطة المارونيّة, ورئيس " المؤسسة المارونيّة للانتشار" هو الاقرب الى البطريركيّة والبطريرك صفير ايمانا وفكرا وسياسة وعطاء ورؤيا مارونية وطنيّة. لو أبقت الكنيسة الكاثوليكيّة على تقليد تعيين كرادلة علمانيين لكان بابا روما قد عين ميشال إدّه كردينالا وأصبح زميلا للكردينال صفير.

        ميشال ادّه، قامة مارونيّة مميّزة, جمع الفضائل والقيم والثقافة. نعتزّ بأصالته وعطاءته, ونقدّر انفتاحته ومعرفته وحكمته ووطنيته وعروبته. إنّه احد اعلام ثقافة مقاومة العنصريّة والصهيونيّة وكلّ انواع الاحتلال والاستغلال والتبعيّة في هذا الشّرق, وعلم من أعلام ثقافة الحريّة والحوار والعيش المشترك الذي أصبح بفضل التّجربة اللبنانية رسالة خلاص في عصر العولمة.

        سيادة المطران رولان أبو جوده النّائب البطريركيّ العام, ورفيق البطريرك صفير في مهمّاته ورسالته. قرأ الكتاب بإمعان, وكتب تصديرا مؤلّفا من 17 فكرة, تحدّث فيها عن المؤلّف وعن البطريرك وعن الموارنة وعن لبنان بلطف وعمق ودبلوماسيّة وإشراق. قال إنّ الموارنة "في عمق هويتهم, شعب قداسة قبل أن يكونوا شعب سياسة". ثم دعا الموارنة إلى التّمسك بلبنان, رمز وحدتنا وميثاقنا الروحيّ, وأرض راحتنا وطمائنينتنا.

كلمة الرئيس نجيب ميقاتي

ايها الحضور الكرام،

كلما التقيت الصديق جورج عرب، ابن الديمان، تعود بي الذاكرة الى سنوات الطفولة التي امضيتها في مصيف حصرون والى ساعات الفرح والمتعة حين كنت العب ورفاقي في حديقة البطريركية المارونية في بلدة الديمان، والى النزهات التي كنا نقوم بها في وادي قاديشا.

وعندما زارني اخيراً لدعوتي الى المشاركة في هذه الندوة بمناسبة اطلاق كتابه عن غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، انتقلت بي الذاكرة فوراً من صور الطفولة الى مزايا الحكمة التي يتمتع بها صاحب موضوع الكتاب، ولم اتردد لحظة في الموافقة على المشاركة بالنظر الى موقعه في وجدان الوطن وفي قلبي.

فالكتاب الذي بين ايدينا سلط الضوء على جوانب من شخصية البطريرك صفير عبر احداث ووقائع لعب فيها غبطته دوراً ريادياً لكن ضمن ما اشتهر به من الصمت المعبر المسالم ومرونة الطباع والصبر وتأمل التحولات والنأي بالنفس بعيداً عن المحاور والاحلاف. ولا يزال البطريرك صفير، الى يومنا هذا كما يكشف عنه الكتاب يتمتع بالمزايا ذاتها ويلعب الدور المحوري ذاته بما عرف عنه من صلابة وثبات في زمن المواقف المتغيرة وانني على يقين انه بفضل وجود البطريرك صفير تلافينا الكثير من الازمات الوطنية.

وعلى رغم تسليط الاضواء الاعلامية على البطريرك صفير فإنه لم يألفها يوماً. وكما جاء في الكتاب فإن غبطته "اتقن طوال حياته ما يوصف بالديبلوماسية السرية البعيدة عن الاعلام والاعلان، ونادراً ما باح الرجل بأي من مهماته او محادثاته او مضامين اجتماعاته، معتمداً التكتم على كل ما يقوم به".

وهذه الخصال ميزت غبطته منذ كان كاهناً ومطراناً وامين سر البطريركية المارونية، وجعلت منه رجل المهمات الصعبة والملفات الساخنة على الساحات المسيحية والوطنية والعربية.

ولا اكشف سراً اذا قلت انني في اللقاءات الدورية التي تجمعني بغبطته اجدني امام رجل يتقن فن الاصغاء والتحاور والحوار، منفتحاً على كل طرح بناء، من دون ان يتخلى عن ثوابته الوطنية وخلفياته الروحية. فهو محلل بارع للاحداث يستقرئ التاريخ ويستنبط الحاضر ويستسشرف المستقبل معاً، معلّقاً بين الحين والآخر بلكنته الكسروانية الظريفة مصحوبة بابتسامة خجولة تكشف جانباً من شخصيته المرحة والهادئة.

وان امتع اللقاءات معه هي تلك التي تجمعنا في فصل الصيف على شرفة الديمان المطلة على وادي قنوبين، العابق بالتاريخ والاصالة اللبنانية التي تبقى الاساس الراسخ مهما تلبدت سماء الوطن بالازمات والصراعات السياسية، ومهما حاول ضباب المشاحنات العقيمة ان يحجب صفاء هذه السماء التي كلما نظرنا اليها تجدد فينا الامل والرجاء.

ايها الحضور الكريم،

ان الكتاب الذي بين ايدينا يسلط الضوء على معطيات وحقائق عن حقبة مفصلية في تاريخ لبنان، لعل اهميتها تكمن في ان واقعنا الحاضر يشكل، وللاسف صدى لها، لتتأكد مقولة ان التاريخ يعيد نفسه خاصة اذا لم نتعلم كلبنانيين دروساً مما حصل تجنبنا الوقوع مجدداً في شرك الانقسامات. من هنا اهمية ان يطلع الباحثون والسياسيون على الوثائق والمستندات التي جاءت في الكتاب من اجل تحليلها واستخلاص العبر منها، لعلهم يتعظون. فمهما حصل من متغيرات فإن لبنان هو الثابت الوحيد يسهل التعاطي معه اذا حكمه جو توافقي، ويصعب مراسه اذا حاول طرف واحد ايا كان هذا الطرف ان ينفرد بقيادته. من هنا قلنا في اكثر من مناسبة: لا يستقيم حكم في لبنان الا بمشاركة جميع اللبنانيين على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، ولا فضل للبناني على آخر الا بمقدار عطائه وحبه واخلاصه لهذا الوطن. وقلنا ايضاً ما بال البعض يتجاهل الحقيقة ويسعى صوب السراب والاحلام؟

ما بال البعض منا يراهن على الخطأ ويسقط من حسابه ما هو صحيح وصواب؟

كيف لبعضنا ان يستقوي بالخارج، أي خارج لا فرق، متناسياً ان من لم يكن قوياً بذاته وبوطنه هو ضعيف وخائف؟

ثم لماذا يقبل بعضنا ان يكون جسر عبور للمخططات الملتبسة بدل ان يكون سداً في وجهها؟

اطرح هذه التساؤلات مستعيداً دائماً اقوال غبطة البطريرك ومستذكراً مواقفه، وهل غريب ان يكون مار نصرالله بطرس صفير من ابرز المؤتمنين على لبنان؟

ايها الحفل الكريم،

اننا اذ نهنّئ الصديق جورج عرب على جهوده الكبيرة لاصدار هذا الكتاب القيم، نقول، ان البطريرك صفير بحق وكما جاء في الكتاب حارس الذاكرة الامين الذي حفظ خمسين سنة من تاريخ الكنيسة ولبنان وبعض العالم، فحافظ عليها امانة غالية للتاريخ.

اطال الله عمره ليكمل مسيرة العطاء وهنيئاً للبنان بهكذا رجال.

 كلمة الوزير غازي العريضي

لا اعرف افضل من جورج عرب من يؤلف كتاب "حارس الذاكرة" ليس فقط لما يتحلى به المؤلف من قدرة ومهارة وثقافة ومطواع لغة، بل كذلك لما يتميز به من قرب من صاحب الغبطة وصداقة هما مدخلان طبيعيان لفهم الوثائق والمحاضر والاسانيد التي توفر عليها بجدّ ووعي ومسؤولية وخصوصاً بإدراك لجسامة المهمة التي ندب نفسه لها، ولنبلها وللفعل الذي ستفعله وطنياً وكنسياً وادبياً.

وسيدنا نيافة الكاردينا غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير ظاهرة في الكنيسة المعاصرة. انه يعيش حضارة العصر حتى ايجاد متسع من الوقت للانكباب على الكومبيوتر. وهو يمثل في شخصيته الفذة النادرة مزايا القديسي وعلم الملافنة ودأب الابرار على الجهد المبذول في سبيل الله والانسان، وحرصَ آباء الكنيسة الاوائل على الامانة الغالية التي تركها بين ايديهم المعلم الالهي قبيل صعوده المجيد الى السماء.

وهذه الشخصية المكتنزة خبرة ومعرفة وعلماً وثقافة هي، الى ذلك كله، على قدر كبير من البساطة والسلاسة والبعد عن التعقيد، ما يسبغ عليها نعمة الامان والاطمئنان فينهد الى رحاب افيائها المتعبون الذين ثقل نيرهم الشخصي والسياسي والوطني.

ولم تكن مصادفة ان تتحول بكركي مع سيدنا بالذات الى محجة اللبنانيين جميعاً والى مرجعية المسيحيين والى مرساة الامان للموارنة تحديداً. فغبطته ثاقب النظر بعيده، عنيد في الحق لا يزحزحه عن اقتناعاته داعٍ او سبب. فصاحب الغبطة مار نصرالله بطرس صفير عبقري على بساطة، بسيط على عمق، عميق على ثبات، ثابت على صفاء، صافٍ على ادراك، مدرك على فلسفة، فيلسوف على ايمان، مؤمن على قداسة، قديس على انسانية، انساني على زهد، زاهد على اصالة، اصيل على تطور، متطور على ثبات عقيدة، عقيدي على شمولية انسانية سمحاء ترى الله في الانسان ولعلها ترى في غاية الدين رفعة الانسان وسموّه في الحياة الحرة الكريمة.

هذه الشخصية الثرية بكثرة ما تكتنز به من المعاني والقيم والاوصاف والمزايا تبرز من خلال هذا الكتاب "حارس الذاكرة" الذي يبدو لي محصّلة جهد استثنائي عرف جورج عرب كيف يبذله ليقدّم للبنان وللمسيحيين وللموارنة ذخيرةً للاجيال الآتية.

ولقد قُيضَ لي ان اعرف جورج عرب، هذا الذي فيه من الجرد الاجرد الصلابة كلها، والطيبة كلها، والامانة كلها، والوفاء كله. وعرفت فيه قدرة غير مسبوقة على البحث والتنقيب فالتدقيق فالتسجيل فالكتابة بأسلوب المتمكن، العارف، القابض على ناصية الكلمة قبضة القادر فياتي نتاجه كما في هذا المصنف المهم، ما يزاوج المتعة والفائدة.

ايها الحفل الكريم،

ولأن ظاهرة نصرالله صفير امد الله في عمره، لا تتكرر أود أن اغتم الفرصة المناسبة هذه لادعو الى قيام مؤسسة بكركي... بل الى تحويل بكركي الى مؤسسة. لقد شاء حسن الطالع ان يكون هذا البطريرك الكبير قائد المسيحيين وملاذ اللبنانيين في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ لبنان... الا ان زمن الافراد العباقرة قد لا يتكرر. فلعل مآثر غبطته الكثيرة تضاف اليها مأثرة جديدة جليلة، فيحوّل هذا الصرح التاريخي العظيم الى مؤسسة دينية ووطنية وعالمية ولنا في الفاتيكان خير مثال.

ايها السيدات والسادة

نحن في حاجة إلى "حارس الذاكرة" هذا المصنّف المهم، في زمن يقف لبنان حافياً على حد سيف الازمات والمآزق والفواجع والخلافات والانقسامات، تتنازعه أهواء وتعصف به أرزاء وتتآكله مطامع وينخره فساد ويسود شعبه قادة معظمهم عاديون وتافهون ومجرمون موتورون في الزمن الاستثنائي... ومع ذلك يصرّ على المضي حافياً فوق حد سيف الحقيقة ولو أُدمي! ذلك ان السقوط سيكون في اشداق الذئاب وبؤر الافاعي!

اجل، نحن في حاجة الى "حارس الذاكرة" في زمن بات المسيحيون اللبنانيون يتساءلون عن المصير في صحوهم وأحلامهم... وامام أبصارهم تجارب مسيحيي هذا المشرق الكبير الذي افتقد برحيلهم عنه الكثير من الروعة والتنوع الخلاق.

فلنظل نشهد للبنان كما عملت في سبيله بكركي ابداً، وكما يناضل في سبيله حارس الذاكرة: وطناً للسيادة والحرية والكرامة، وطناً للتنوع في العالم، التنوع في الوحدة التي لا قيمة لهذا الوطن إلاّ بها.

القاها السيد خليل الخوري
مدير عام التحرير في جريدة "الشرق"

كلمة معالي الاستاذ ميشال اده

بعد كتاب الاستاذ انطوان سعد "السادس والسبعون" بجزئيه، عن مار نصرالله بطرس صفير، بطريرك انطاكية وسائر المشرق الكلي الطوبى، ها نحن نحيي اليوم ايضاً صدور الجزء الاول من سفر آخر عن سيد بكركي ورأس الكنيسة المارونية من وضع الاعلامي الاستاذ جورج عرب بعنوان "حارس الذاكرة".

في كتاب الاستاذ سعد الذي توقف اساساً عند مار نصرالله صفير بطريركاً وفي كتاب الاستاذ عرب الذي عاد اليه هو نفسه منذ ان رسم مطراناً في العام 1961 ثمة تاليف مقتدر تمكّن من الكشف عن معدن وحقيقة هذا الرجل الاستثنائي ملهم الكتابين وموضوعهما في آن.

بل لعلنا واجدون في ما يعرض له الاستاذ عرب من وثائق هي كنوز مخبوءة. اكتناهاً لسر هذه السنديانة الطاعنة جذورها في هذه الارض الشامخة رسوخاً وعلواً عند تخوم السماء الوارفة بظلال الفيء والدفء والمحبة شبكة امان حقيقية للبنان كل لبنان وللبنانيين جميع اللبنانيين.

وعلى هذا، ابادر لاقول هنا ومن خلال قراءتي لكتابي سعد وعرب، ان غبطة ابينا لم يشأ ان يكون "حارس الذاكرة" - وهو التعبير البالغ النباهة الذي اصطفاه جورج عرب ولم يصر بكل كرامة الحرية على ان يكون "الحلقة التي لم تنكسر" - وهو التعبير البالغ العمق الذي اصطفاه انطوان سعد الا لانه غبطته يبقى في سياق السيرورة ذاتها حارس المستقبل.

وهذا ليس فقط بمعنى المحافظة على مستقبل الكنيسة المارونية وحسب، بل بمعنى المحافظة على لبنان الذي ربت هذه الكنيسة وما تزال تربي وتعلم على ان الموارنة هم للبنان وليس على ان لبنان للموارنة، وعلى انهم يكونون مسيحيين بمقدار ما يكونون لبنانيين.

تلك هي على ما ارى خلاصة تلقائية اولى تظهّرها قراءة هذا الجزء الاول من "حارس الذاكرة". وهي هي الخلاصة ذاتها التي تؤكد ان هذه السنديانة العصية العصية حتى الاستحالة على الاقتلاع والكسر، ما تزال معين الهام لا ينضب ومرجعاً اماً للكتابة والتألف في تاريخ لبنان الذي من تاريخها كذلك.

بل ان كل مقاربة لهذا التاريخ اللبناني بحديثه والمعاصر منه بخاصة وفي اخطر حقبة مفصلية من حقباته سوف تظل مفتقرة للدقة المنشودة وللاحاطة الضرورية بعناصره وقواه الحية الاساسية المحركة. ان هي حرمت نفسها من الاطلاع الوثيق على مدونات ومذكرات وكنوز هذا الكاهن المطران البطريرك، الراهب الراهب في كل جوانب حياته وبذله وحيويته وعطاءاته الروحانية والزمنية. فمن دون الانتباه الى دوره الاستثنائي الحاسم في صنع تاريخ لبنان سوف تظل ناقصة بل ومشوهة مجتزأة حقائق بأكملها من تاريخ وطننا في فترة من اشد فترات عمره عتمة وظلماً واظلاماً. ذلك ان مدونات ومحفوظات ومحاضر مار نصرالله بطرس صفير لهي اشبه باعادة نحت وطن وصوغ له من جديد. بعد ان تعرض للتهشيم حتى على ايدي بنيه وبعدما أُدخل في نفق الفتن والاقتتال حتى في ما بين ابناء الطائفة الواحدة والمذهب الواحد وليس فقط في ما بين ابناء الطوائف والمذاهب ضد بعضها البعض.

في كتاب جورج عرب كما من قبل في كتاب انطوان سعد ثمة معالجات ومشاركات ومواقف ملموسة من قبل صاحب الغبطة كانت تبدل من مسار الاحداث وتغير من مجراها المدمر. ويجد القارئ نفسه امام ادانات قاطعة لاقرب الاقربين كما للآخرين وادانات حاسمة واحدة لتوسل العنف واستخدامه من اية جهة اتى ولشرور الفتنة والتقسيم بالتعابير الصريحة. غبطة البطريرك تجده في هذا الكتاب وكأنه يحذر من العودة الى ماضٍ ليس بعيداً تهاوى فيه الكثير من المشاريع الخاصة الفئوية المستبدة الساعية الى فرض فئويتها وخططها على الآخرين بالاكراه والعنف.

غبطة البطريرك تجده في هذا الكتاب في مكابداته واختباراته ونضجه المتقد سيرة متحركة من الايمان الذي يحرس من خوف ويبلسم من ندوب. ويقي من يأس ويصنع تاريخ وطن بكل نزاهة وتجرد. ومن موقع مارونيته المثلى بالذات ذلك لانه ارتوى من تراث الكنيسة وروحيتها المتجددة ابداً على مستوى العلاقة المسيحية الجوهرية الخلاصية للاهوت مع الناسوت، بالمعنى الانساني الشامل النبيل الاسمى، بالمعنى ذاته تحديداً الذي تحدث به يسوع المسيح في عظة الجبل. لذلك سوف لا يستغرب القارئ وعلى سبيل المثال، ان يكون المطران نصرالله صفير من المبادرين الاوائل الى تأسيس لجنة للحوار المسيحي الاسلامي، وظل في عداد اعضائها بل عصبها المحرك. مثلما سوف لا يستغرب القارئ ان هذا المطران الاستشرافي نفسه هو من اعتبر في السبعينات انه لا بد من الاهتداء الى صيغة سياسية دستورية مطورة لصيغة 1943 بغاية المحافظة على الجوهر نفسه: العيش المشترك. وذلك في المذكرة التي كتبها وقدمت باسم البطريركية الى السيد لويس دي غيرانغو Louis de Guirangaud وزير خارجية فرنسا آنذاك.

أوليس الوعي المبكر هو ما تجسد لاحقاً في "وثيقة الوفاق الوطني" من خلال اتفاق الطائف؟ والذي ما كان ليبصر النور لولا بصمات ابينا واخلاصه المنزه عن أي غرض للبنان ولعيشه المشترك وصيغته المجتمعية الوطنية الفريدة القائمة على التنوع الديني والحق في الاختلاف وقبول الآخر واحترامه وعلى الحرية والديمقراطية؟

بكلام آخر، وبإزاء المذكرات والوثائق التي كان غبطة ابينا وما يزال يتابع تدوينها يومياً فإن القارئ يتملكه الاحساس المشع في دواخله بانه يكتشف خلف هذه المدونات معنى وطن، بل نعمة الوطن الذي اسمه لبنان. لبنان الرسالة السيد الحر المستقل الذي لا يعقل ان تسول نفس لأحدٍ لبناني او غير لبناني ان يأخذ البطريرك بجريرة انه لم يجد وطناً أكثر نعمة منه؟

عندما قرأت كتاب الاستاذ سعد بجزئيه وبعدما قرأت الجزي الاول من كتاب الاستاذ جورج عرب آملاً بكل شغف صدور جزئه الثاني، لا اخفيكم هنا ايها الاصدقاء، انه كان وما يزال يشغلني السؤال: ما الذي يدفع بغبطة ابينا منذ ان رسم مطراناً وربما منذ ان سيم كاهناً، الى ان ينكب يومياً في الليل على تدوين حدثان النهار قبل ان يخلد الى النوم؟

احسب انه يدونها لانه يستغرق في تفكرها وتاملها بمجرياتها وبمنطق وتفكير وسلوك ابطالها وظروفها ومدلولاتها وتداعياتها... اما من جهة ملازمة فربما هو يلجأ للتدوين بغاية ان يراجع تصرفاته او لان يكوّن رأياً له فيها مدروساً متأنياً غير منفعل وموقفاً سليماً ليس منها فقط، بل انه يراجع نفسه كذلك بازائها. لكأنه هذا التدوين مراجعة للذات من خلال الحدثان. بل اكاد اجازف واقول انها بمثابة فحص ضمير يومي في سياق البحث المضني عن الحقيقة التي لا بد من نشدانها مهما بدت كلفتها غالية او قاسية.

هل على اساس من ذلك تأملاً وتعمقاً انتبه هذا الحكيم الكبير الى فضيلة الاعتصام بالصمت في احيان غير قليلة بمعنى كونها الآخر لفضيلة الاصغاء أي لحسن الاصغاء؟

احسب ايضاً ان المكانة الرفيعة التي يمحضها غبطته للغة ويتعامل معها كالجوهرجي على هذا الاساس الراقي البادي في كتاباته كما في عظاته. انما تتصل بجوهر العلاقة الانسانية فيما بين الناس أي بالتفاهم أي بالمعاني "وانما اللغة البلاد" على قولة البعلبكي خليل مطران لكنها فضلاً عن ذلك هي احترام للمعاني. بل ان ابتذال اللغة ابتذال للمعاني اصلاً. انه نقيصة مدانة قطعياً. من هنا قسوة ابينا على الظاهرات الصوتية الشائعة  وعلى ابتذال الكلمات وافراغها من نبل ادائها لمعانيها. احترامه للغة بهذا السياق دعوة للمحافظة على الاخلاق على آداب الكلام. مثلما ايضاً على آداب السياسة. لا تستغربوا ايها السادة، فغبطته من معدن اولئك النادرين الكبار الذين يصرون على ان هناك آداباً للسياسة éthique.

في عظة الاحد التي القاها في الخامس عشر من شهر آذار الجاري، خاطب غبطته المؤمنين قائلاً: "غالباً ما تخفي اللغة معاني مغايرة لما تعنيه الكلمة السائرة. لذلك سُئل كونفوشيوس: لو ولّيت الاحكام فأي عمل تقوم به اولاً؟ اجاب: انما احدد معاني الكلمات. وكا من اساء استعمالها او استعملها في غير مكانها اخضعته لفلق".

كم عندنا - وللاسف - ممن يستحق هذا الفلق؟ وربما فلقين او اكثر؟

ايها الاصدقاء،

من جملة الكثير الكثير الذي تعلمته من مار نصرالله بطرس صفير اداب السياسة, منه كذلك من سيد دروب الجلجلة من مشيته التي لا تتعثر في مخارم الجرود والاودية ومهاوي التأزيم لاوضاع لبنان. من اصغائه المديد وفروضه الروحية، احسب ان القارئ في سيرته وفي مواقفه التاريخية وفي الكتب عنه يتعلم كذلك المشي غير المتعثر على درب الوطن، ولا يفقد الرجاء لا يفقد الرجاء. 

كلمة سيادة  المطران رولان ابو جودة

"الشراكة" الخصبة

1-         كانت "الشراكة" بين الكرسي البطريركي وعائلة جورج عرب، في مجال استثمار الاراضي، وتبادل الخدمات الكنسية، فرصة خصبة لنتاج من نوع آخر، حول البطريرك صفير: سيرة، ومحاضر ومواقف ومحطات مميزة، في تاريخ الموارنة ولبنان. والجهد الذي بذله المؤلف في مواكبة "حارس الذاكرة" وتتبّع رحلته الوطنية والروحية، انما يحدّث عن ايمانه بأن القيم التي مثّلها البطريرك صفير، في جميع مراحل حياته وكتاباته تعني كل ابناء الكنيسة ولبنان، ويحيي تراث المسيحيين الاولين الذين "كانوا يواظبون على تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات" (اع 2: 42).

2-         ولا شك في ان جورج عرب قرب الينا في الكتاب ما كان بعيداً وكشف ما كان سراً واوضح ما حسب غامضاً وابرز معاينات الموارنة ومعاني جهادهم الطويل في سبيل لبنان، وتيسّر له ذلك من خلال نصوص كتبها المطران نصرالله صفير. وما سمح له بالنجاح في مهمته هو معايشته لصاحب الغبطة في رحلاته، مع آخرين عبر الجبال، نحو "نبع بو فرّاعه" و "نبع الذهب". ومن عادة البطريرك صفير ان يحمل العصا في الصباح الباكر ويصعد سيراً في حين يحمل مرافقوه الاسئلة ويتذوقون ثمار الحكمة ويصغون الى اقوال الفطنة وقد قيل: "الفم العذب يكثّر الاصدقاء واللسان اللطيف يكثّر المؤانسات" (يشوع بن سيراخ 5:6)

وجه آخر للبطريرك صفير

3-         تلك الحياة التي عاشها جورج عرب بقرب البطريرك صفير والخبرة التي خبرها في الخصوصية النادرة التي طبع بها كنائب بطريركي ثم كبطريرك، معالجته العلاقة بين الراعي والرعية وحل بعض الاشكالات بين الشركاء والكرسي البطريركي في الديمان قادته الى اكتشاف وجه آخر للبطريرك صفير "غير وجه القائد الوطني والشعبي"، وجه "لم تعرفه الغالبية العظمى في المسلك الخاص والحياة الشخصية ونهج الحياة" (مقدمة المؤلف فقرة 2).

4-         وقد ساعدت المحاضر والوثائف التي حبّرها المطران صفير، وتلك التي انشأها وسردها صاحب الكتاب على تقديم هذا الوجه الآخر المختلف لشخصية البطريرك. فإلى جانب القائد والخطيب واللاهوتي والرجل الوطني، حرص ذائماً على تدوين كل شاردة وواردة من تاريخ لبنان وتطوّر حياته وحوارات رجالاته وتنوّع تطلعاتهم وقساوة تناقضاتهم وقدرهم الخاص الذي يحفزهم على استنباط الائتلاف من الاختلاف والعذوبة من العذاب.

فرادة البطريرك صفير

5-         ان ما يميز المطران (البطريرك) صفير، قال المؤلف انه "رجل طالع من ارثين كبيرين متلازمين طبعا شخصيته. الاول تشكل من غنى ثقافي ولاهوتي عميق، والثاني من نمط الحياة في الظلال والبعد عن الاضواء، والارثان يضربان عميقاً في حال ايمانية" (مقدمة المؤلف فقرة 1). وهما ميزا "حارس الذاكرة" الامين الذي كان مثالاً في الوطنية كما في الحياة الاكليريكية.

6-         فإيمان البطريرك كما عقلانيته تزينهما ممارسته "التقوى والتواضع والبساطة والوداعة الانجيلية" (المرجع عينه الفقرة 3)، وهي فضائل دعانا المسيح الى ان نعيشها: "تعلموا مني اني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لانفسكم" (متى 11: 29). وهي الفضائل التي يرى المؤلف على وجه حق انها اكثر من خطابه السياسي جعلت الشباب المقيم في لبنان الذين اتيحت لهم فرصة التعرف اليه كما الشباب المتحدر من اصل لبناني في بلاد الانتشار يتعلقون بالبطريرك صفير.

7-         ولكنها ليست "فضائل باتت شبه مفقودة في هذا العصر، او على طريق الزوال..." (المرجع عينه الفقرة 6). بل هي من صلب تراث الكنيسة المارونية اللاهوتي والروحي الذي يتوارثه البطاركة والاساقفة ومجموع الاكليروس كما يتوارث الموارنة عموماً تراث كنيستهم وجوهر ايمانهم حيثما حلّوا.

محاضر سريّة

8-         ويتفرد الكتاب هذا، كما يبدو، بمحاضر سرية تنشر للمرة الاولى كتبها المطران صفير (البطريرك) مبرزاً محطات من تاريخ الموارنة ولبنان، وعلاقة اللبنانيين بعضهم ببعض، وهي تنسحب على ست عشرة سنة (1961-1977)، من انطلاقته اسقفاً حتى رسالته نائباً بطريركياً، في عهدي البطريركين بولس المعوشي وانطونيوس خريش.

دور رائد

9-         وما حققه المطران (البطريرك) على صعيد احتضان مخزونات الذاكرة، وتدوين تفاصيل عن خفايا واسرار ذات بعد وطني، انما يجعله صاحب موقف ورؤيا لا بد من قدرهما والاقتداء بهما والسير على خطى صاحبهما، خدمة لشعبنا وحرصاً على مستقبله في هذا الشرق لان الامة التي لا تعنى بذاكرتها تفقد مستقبلها وكل شعب تبهره الحداثة فيتناسى اصالته انما يبني على رمال. والنصوص في هذا الكتاب تُقرأ على انها تأويل حياة وليست مجرد ترجمة لها، وفيها الكثير من العبر والحكم للاجيال الآتية سواء في المقام الكنسي او على صعيد الوطن وتنوع مكوناته وتطلعاته.

10-    من جهة اخرى ان هذا الكتاب ليس تاريخاً او سيرة غيرية وذاتية او مذكرات او تقارير ومدونات خاصة ووطنية وحسب بل هو قصة حياة كنيسة ووطن من خلال رمز ديني قام بدور رائد على غير صعيد، وكان نافذاً ومؤثراً وجامعاً ومحركاً للعالم، ساعياً لاستمرار لبنان واستقراره، والى ازدهاره وبقائه.

11-    يبقى ان الطريقة التي انجز بها المؤلف كتابه اتّسمت بالمنطق والانسجام وهو صاغ اسلوبه بحلاوة وطلاوة على رغم تراكم الوثائق وكثافة المعلومات.

12-    وقد حرص ايضاً على الابتعاد عن التعقيد والالتباس لان غايته حفز القارئ على تأثّر طريق الكبار من اهل الكنيسة القديسين الذين اختبروا الحياة، ورأوا في تاريخ الافراد والاوطان مجالات للترقي الروحي والتنور الحضاري والتثقف الداخلي,,, ومن اهل الوطن الميامين الذين كافحوا في سبيل النهوض والتقدم وتركوا ارثاً مبيناً ومجتمعاً يحتاج الى الكثير من النقد الذاتي، والصفاء والنبل لكي تنمو فيه العافية، ومعها الحق والعدل. واذا كان الكاتب اراد ان يدوّن ثمار تأمله "فليروي  نفوساً عطشى في زمن الجوع والفراغ والغبار"، واذا ما كان ركّز على كون البطريرك صفير حارساً للذاكرة فإنه مدرك في وعيه ولاوعيه ان فرسان المستقبل يحتاجون الى ذاكرتهم هذه لكي يعرفوا حقاً كيف يحصنون ايمانهم ويحمون وطنهم ويمارسون قيم التسامح والحوار.

الموارنة ولبنان، رمز الوحدة واراض الطمأنينية

13-    وبعد، فما يميز الموارنة على نقائصهم انهم شعب لا ينسى وان شغفهم بالتاريخ وثقافته سمة من سمات رقيّهم وانهم ايضاً شعب لا تتعبه الاحلام، ويمتلكون رؤى تجعلهم استباقيين يفرحون بالمستقبل الآتي، على غرابته كما بالماضي الغارب على قساوته.

14-    وهم في عمق هويتهم شعب قداسة قبل ان يكونوا شعب سياسة، ومن المفيد الا يميزوا مجالهم السياسي من مزاجهم النسكي كي، يحافظوا على ذاكرتهم والمستقبل معاً. كما عليهم ان لا يحولوا المنافسة السياسية خصومة، والخلاف في الرأي عداوة بل يغلبون المصلحة العامة على المصلحة الفئوية والخاصة.

15-    واذا كان التاريخ والجغرافية ربطا الوجدان الماروني والمصير السياسي بالمصير الاسلامي، ضمن دولة لبنان المستقل، فإن ذلك حول الذاتية المارونية رسالة تجلت في صنع التاريخ قبل كتابته، وهذا ما تجسد في روحية النتاج الماروني، من البطريرك اسطفان الدويهي الى البطريرك صفير، حيث العودة دائماً الى العمق التاريخي الايماني الماروني، والى التمسك، بلبنان، رمز وحدتنا وميثاقنا الروحي وارض راحتنا وطمأنينيتنا.

16-    وبهذا المعنى، لم تعد الارض اللبنانية مجرد حدود كما لم يعد اللقاء المسيحي - الاسلامي، على ارض لبنان مجرد مصادفة. فالارض هذه ام وتاريخ وروح وقداسة والمارونية عليها انطلاق وانفتاح ورسالة حرة، لا تطيق الاتباع والتلاشي. انها ابداع دائم لذاتها ولمحيطها.

17-    والبطريرك صفير بما كتبه من محاضر لمحطات بارزة في تاريخ الموارنة ولبنان، نشرها للمرة الاولى الصديق العزيز والصحافي اللبق جورج عرب، في كتابه "حارس الذاكرة" كان في آن معاً الذاكرة وحارسها! 

كلمة المطران فرنسيس البيسري

وقد يطرح احدكم السؤال:

لماذا المطران فرنسيس البيسري هو من دعا الى توقيع "حارس الذاكرة" مع الحركة الثقافية - انطلياس مشكورة، مع الدعاء لها حتى تبقى منارة في دياميس هذا الوطن وصرحاً عالياً من صروح الثقافة وبوتقة رجاء. ولماذا الصديق جورج عرب هو من كشف "حارس الذاكرة" والذي لولاه لما تحلقنا عصر هذا اليوم في هذه القاعة الثقافية التي هي ذاكرة بدورها.

ولماذا سمّي الكتاب "حارس الذاكرة"؟ ومن هو الحارس؟ وما هو القاسم المشترك بين الثلاثة، بين السيد البطريرك صفير والمطران البيسري والاعلامي جورج عرب؟

ايها السادة،

ان ما يجمع السيد البطريرك والمطران وجورج، لَهي قنوبين "ذاكرة الموارنة" وبطاركتهم على مدى اجيال واجيال. ذلك ان الثلاثة قادمون من على شفا الوادي المقدس والديمان، آتون من جبال تسلقنا، ومن ينابيع مياهها رشفنا، وحيث السماء صافية ولا اصفى والهواء نقي ولا انقى، آتون من اصغر بقعة جغرافية في لبنان ولكنها اغنى تاريخ.

نعم بكركي ولكن الديمان ايضاً. فالسيد البطريرك هام بالديمن وجبالها ووديانها منذ ان عُيّن امين سر للبطريركية. وجورج قد انبتته هذه الارض المقدسة وانه ابنها. التقي بالسيد البطريرك ورافقه وحادثه وسار معه صعوداً الى النبع الذي سُمّي باسمه لشدّ ما باغته وغرف من مياهه في الاصبحة باكراً، وهو من نزل مع السيد البطريرك هبوطاً الى وادي قنوبين حيث كان البطريرك يتأمل بحياة أسلافه الكبار ويصلي ويحاول السير على خطاهم.

وكان جورج يسأل ويحاور ويحاول ان يغبّ من ينبوع مرافقة الجليل الغزير. فكانت الجوابات تهبط عليه في قمة جبل يجاور جبل ارز الرب، وكانت الحوارات تدور حول ومضات من سيرة السيد البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الى محاضر ومواقف ومحطات سرية مميزة في تاريخ الموارنة ولبنان كنز وضعه البطريرك بين ايدي جورج فنشرها للمرة الاولى تحت اسم "حارس الذاكرة"

اما المطران فهو يركض حياته كلها وراء السيد البطريرك اكليريكياً وكاهناً ومطراناً ويركض لاهثاً حتى يسير وراءه وعلى خطاه وما زال حتى يلحق به وأنّى له اللحاق به ومَن بإمكانه؟

دخل نصرالله المدرسة الاكليريكية في مار عبدا هرهريا سنة 1933، وكان عمره آنذاك ثلاث عشرة سنة، وفي السنة ذاتها ابصر فرنسيس النور ودخل المدرسة الاكليركية مار عبدا هرهريا وكان بعمر الثالثة عشرة. لازم الغمباز حياته نصرالله كلها ولازمني. لم يفارقه ولم يفارقني وكبسه وكبسني فقَصُرَت قامتي عن قامته.

دخلت مار عبدا، وكان قد غادرها. فتشت عليه ولما علمت انه في مدرسة مار مارون - غزير انتقلت اليها، فلم اجده اذ انه قد انتقل الى معهد القديس فرنسيس كسفاريوس في بيروت، هرعت اليه ولكني لم اجده اذ انه قد غدا كاهناً. وهكذا امضيناها كرّاً وفرّاً.

ففي السنة 1961 "جثا" الخوري نصرالله صفير على ركبتيه ليصير مطراناً نائباً بطريركياً في الكرسي البطريركي، وجثوت امامه بعد سنة من ذلك أي في 1962 ليضع يده علي فيرسمني كاهناً. المطران صفير هو اعتلى السدة البطريركية في سنة 1986، اما انا فجثوت امامه مجدداً ليرقيني الى الكمال الكهنوتي واخلفه في الديمان، عن غير جدارة، نائباً بطريركياً عاماً على الجبة. وهنا اقول اني لهثت طويلاً وراءه لألحق به وما وُفِّقت انه يطير وانا اسير ونقطة عالسطر.

اطال الله بعمره على عافية عقلاً وجسداً فإن الذي سيخلفه لم يرتسم كاهناً بعد.

عسى ايها الجمهور الكريم ان تسد هذه الصفحات جوع الموارنة واللبنانيين، وتروي عطشهم الى ما يودّون ان يكون عليه لبنان. وعسى ان يأخذ الجميع منها عِبَراً لبناء وطن ارسى اساساته بطاركة عظام ومن بينهم بطريركنا الكبير مار نصرالله بطرس صفير.