ندوة حول الكتاب المقدس
العهد القديم العبري
ترجمة بين السطور عبري - عربي
29-03-2007

 
كلمة الأستاذة حياة هاشم
كلمة الدكتور أنطوان القسيس
كلمة الأخت باسمة الخوري
كلمة الدكتور مارتان عقاد

كلمة الأستاذة حياة هاشم

المسيحية تكامل ما بين العهدين القديم والجديد، لسنا جميعاً من المطلعين على العهد القديم ولو اننا نعيش في العهد الجديد، ما يجمع العهد القديم والعهد الجديد هو "الله" والمسيحيون مدعّوون الى خوض غمار التاريخ، تاريخ الاستعداد لمجيء المخلص كما تاريخ المسيح من هنا تبرز اهمية التعاون ما بين الابوين بولس الفغالي وانطوان عوكر باعتبارهما نحاتين في اللغتين اليونانية والعبرية كما هما في العربية هذا يعني اننا سنعيش مع الكلام الدقيق ولا سيما في كتابهما الجديد "العهد القديم العبري، ترجمة بين السطور، عبري - عربي" بعضنا يستطيب هذه الدقة وبعضنا الآخر ينهل منها محبة في التعرف الى رسالة الله في التكوين وفي الشريعة والناموس،

هذه فضائل ما زلنا نتأثر بتعاليمها في سلوكنا المسيحي كما في سلوكنا العائلي، ولا عجب ان ينجز الأب فغالي والأب عوكر هذا الكتاب العظيم ليضعاه بين ايدينا، هذا الكتاب ليس الأول الذي يجمع بينهما. انه الثاني ضمن سلسلة نتمنّى ان تطول. اتَّبع الكتاب الأول، الذي صدر سنة 2003، النهج نفسه، أي ترجمة بين السطور. ففي الكتاب الأول كانت ترجمة للعهد الجديد من لغته الأصلية اليونانية الى العربية. وهذا الكتاب الثاني، يعرض ترجمة بين السطور للعهد القديم انطلاقاً من لغته الأصلية العبرية، مع بعض النصوص باللغة الآرامية.

يتفاجأ القارئ العربيّ عندما يرى تعددية النصوص العربية للكتاب المقدس. فالمسيحي الذي حفظ آية معينة من الكتاب المقدس يسمعها بشكل مختلف في الاحتفالات الكنسية او يقرأها بصياغة أخرى في احدى النشرات الكتابية. والمسلم، الذي اعتاد ان يكون القرآن نصاً واحداً، يصطدم حين يرى صيغاً مختلفة لكتاب المسيحيين المقدس.

كيف يتصرّف الإنسان في عالمنا امام هذه الغابة الكثيفة من الترجمات؟ ما هو هذا النص الأصلي الذي أورَثَ هذه التعددية؟ كيف يمكننا ان نتحقق من صحتها؟ هل يكفي ان نقرأ على صفحة العنوان "ترجم من اللغات الأصلية" حتى تكون الترجمة أمينة؟

في هذا الاطار، برزت الحاجة الى ترجمة بين سطور النص الأصلي، تخول القارئ العربي، وان كان لا يعرف اليونانية او العبرية، تقييم وتقويم الترجمات العربية المتعددة، فإلى مثل هذا الكتاب يحتاج المؤمنون والقراء العرب في القرن الحادي والعشرين.

هذا رأينا، نحن القراء العاديين للكتاب المقدس. ما هو رأي المتخصصين في هذا المجال؟ هذا ما سنسمعه من المحاضرين الكرام.

الدكتور انطوان قسيس

دكتور في علم الآثار والتاريخ القديم واللغات القديمة من جامعة باريس الرابعة - السوربون.

تناولت اطروحته "الديانة الفينيقية في صور".

استاذ التاريخ القديم واللغة الفينيقية في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الانسانية - الفرع الثاني.

ساهم مع الأب ايوب شهوان في نشر ثلاثة كتب جمعت مقالات وبحوثاً مهداة الى الخوري بولس الفغالي.

هو صاحب مؤلفات وابحاث عديدة بالعربية والفرنسية تدخل في اطار تخصصه في تراث العالم القديم وحضارته وآثاره (منقوشات، تصاوير، مسماريات...).

فاذا تكلم في كتاب "العهد القديم العبري" فانه يتكلم في حضارة وفي ادب يعرف تفاصيلهما بشكل دقيق وعميق.

الأخت الدكتورة باسمة خوري
راهبة انطونية. دكتورة في اللاهوت الكتابي من جامعة الروح  القدس - الكسليك.
تدرس الكتاب المقدس في كلية اللاهوت الحبرية في جامعة الروح القدس - الكسليك.
لها عدة كتب ومقالات في مجلات علمية متخصصة.
لها كتاب "مقدمات في الكتاب المقدس" جمعها مع المؤلفين الأبوين الفغالي وعوكر.
هي الآن في طور الإعداد لكتاب مشترك مع حضرة الخوري بولس الفغالي حول الكتب المنحولة وكتب ما بين العهدين.

ونقرأ لها في جريدة النهار، وحين يقتضي الأمر، ردوداً على بعض الكتب والافلام التي تمس بجوهر الإيمان الصحيح.

عملها اذا لا ينحصر في انجيل يوحنا موضوع اطروحتها ولا في العهد الجديد فقط، بل يتخطاه الى الكتب القديمة المعاصرة للعهد القديم.

نستمع الى ملاحظاتها القيمة حول اهمية الترجمة التي نحن بصددها.

الدكتور مرتان عقاد

دكتور من جامعة أوكسفورد في بريطانيا حول موضوع الأناجيل في الخطاب التفسيري الإسلامي والمسيحي من القرن الثامن الى القرن الرابع عشر. وقد سبقها دراسات معمّقة من الجامعة نفسها حول التراث السرياني المسيحي. اختصاص مستغرب من شخص ينتمي الى الكنيسة المعمدانية الإنجيلية، ولكنه علامة واضحة للعمل المسكوني الذي نسعى جميعاً الى تطويره.

 له عدة مؤلفات ومقالات بالانكليزية والعربية، عميد كلية اللاهوت المعمدانية في المنصورية وأستاذ الكتاب المقدس فيها.

فعلى أساس التقارب بين اللغات السامية، وخصوصاً بين اللغات السريانية التي يعرفها جيداً وبين العبرية الكتابية، تأتي ملاحظات الدكتور مرتان عقاد.

الخوري بولس الفغالي

غني عن التعريف بحضرة الخوري بولس الفغالي.

فالصفات: علامة، ملفان، متضلع... لا تكفي لتصف شخصيته ومكانته العملية في عالم اللاهوت والكتاب المقدس والشرق القديم وآباء الكنيسة... قلما نجد مجلة علمية او رفاً في مكتبة متخصصة إلا ونجد بحثاً او كتاباَ للخوري بولس.

قلما نجد كاهناً مرسوماً من أقل من ثلاثين سنة، إلا ويعتز بأن الخوري بولس الفغالي كان من أساتذته.

قلما يمر شهر من شهور السنة إلا ونرى كتاباً وأبحاثاً جديدة للخوري بولس.

اعتقد ان كلمة واحدة قد تفيه بعضاً من قيمته العلمية والروحية: أنه "ظاهرة" في كنيسة الشرق.

الأب انطوان عوكر

راهب انطوني. متخصص في لاهوت الكتاب المقدس.

يدرّس الكتاب المقدس في عدة كليات لاهوت.

يتقن اللغات الكتابية (العبرية واليونانية).

شغل منصب عميد كلية اللاهوت في الجامعة الانطونية.

حالياً، متفرغ للتدريس وللبحث الكتابي.

انه من البحاثة الواعدين في الكتاب المقدس.

كلمة الدكتور أنطوان القسيس*

يُكتب التاريخ بالأصول والمصادر. هكذا تقولون ونقول!

إنها مقولة نرددها باستمرار، وغالباً ما نقوِّلها بما لا تحمِل، أو نُحمِّلها بما لا تقول، الأمر الذي يجعل المؤرخ أسير انتمائه الفكري والثقافي والديني والجغرافي.

إنها أدلجة للتاريخ، ونتائجها السلبية توازي الخطيئة الكبرى، إنْ لم تتعداها، بحق الشعوب والحضارات!

لم يهتم الباحثون بمصدرٍ معينٍ للتأريخ، بكل تشعباته المكانيّة والزمنيّة، كمثل اهتمامهم بالتوراة وبالآداب العبريّة.

ظلت التوراة محورية الدراسات الدينية والتاريخية حتى القرن السابع عشر، حين بدأت مجموعة من الباحثين، تعمل على فك ارتباط منهجي بين الدراسات التوراتية، على اعتبارها منطلق تاريخ الخلاص البشري، وبين إعطاء الأهمية لدراسة مجمل الحضارات القديمة، والإطلالة من خلال مكتشفاتها الجديدة والمتلاحقة، على فهم أدق وأعمق لمضمون النص التوراتي، ووضعه ضمن مصادر وأصول التاريخ البشري للمشرق القديم، وفصله، بالتالي، عن إطاره الضيق المحسوب فقط على مَن يؤمن به دينياً ليس إلا.

إن أكثر من أخضع النص التوراتي للنقد العلمي وللمراجعة المنهجية ولإعادة النظر بالترجمات، كانوا من رجال الدين المسيحيين على اختلاف كنائسهم، وأكثرهم من الغرب الأوروبي. وتبعهم الباحثون العلمانيون. هكذا قضت مشيئة الله، ربما بالنسبة للبعض منكم. لكن، هذا الأمر، لم يؤثر، إطلاقاً، على جوهر الإيمان المسيحي، ولا على مسيرة الخلاص البشري، على ما نعتقد ونؤمن به، اللهَّم إلا مَنْ لم يكن عنده هذا الإيمان ولو تظاهر به!

لماذا ما نزال نهتم بالنصوص التوراتية؟

ولماذا نُعيد النظر بترجمتها، طالما نملك نصاً قانونياً مصدقاً وممهوراً بالأختام البيعية؟

الجواب بسيط وصعب على حدٍ سواء.

بسيط الجواب هو نأخذ بما هو موجود ومقونن، ونعمل عليه كمُسَلَمة إيمانية، ونعطي العقل راحةً، والمنطق العلمي للتأريخ إجازةً.

أما المقلب الآخر، ومساره شاق، فهو العودة المستمرة والدؤوبة إلى النصوص التوراتية، نختبرها من جديد. نعلل قراءة كلمة قد تؤكد المعنى المألوف أو تنقضه. نُعيد قراءة النص على ضؤ مكتشفات تاريخية تحصل تباعاً في هذا المشرق المثقل بالعطاءات الحضارية والمتجذّرة في عمقه الزمني. وما أكثر النصوص القديمة التي عكف ويعكف عليها الباحثون اللغويون منذ قرن ونيف من السنوات: من النصوص الأكدية، والإبلائية، والأوغاريتية، وحتى المصرية الهيروغليفية، من دون أن ننسى الرقم الفينيقية والآراميّة وغيرها من اللغات الساميّة كالسريانيّة والعربيّة القديمة والحديثة.

إن الإحاطة الشاملة بهذا التراث الأدبي والديني واللغوي هي الأساسُ المتينُ لفهم النصوص التوراتية، ومقارنةُ التقارب اللغوي في ما بينها، واستطراداً فهمٌ أعمق لمضمون النص. يتطلب هذا المسار البحثي جهداً كبيراً وثقافة لغوية واسعة، من أجل الدخول إلى هذا النوع من الدراسات.

من هنا كان اهتمامنا بالتوراة، وبمخطوطاتها وبترجماتها المتعددة اللغات، كونها تشكل، بما تحتويه من وفرة المعلومات التاريخية والدينية، مصدراً أساسياً لا غنى عنه لدراسة تاريخ الشرق المتوسطي القديم عموماً، وبالأخص تاريخ الحضارة الكنعانية ـ الفينيقية. إذ لا يمكن أن ننسى أن تاريخ العبرانيين قد نشأ وتفاعل في بيئة كنعانية ـ فينيقية وشرق أوسطية بمعناها الواسع. لهذا كان الترابط الوثيق بين ما أورده كتّاب الأسفار التوراتية لجهة الأحداث التاريخية أو أسماء الآلهة أو الطقوس والعبادات، وبنظرة أشمل لجهة الفكر الديني والحضاري عند العبرانيين، وبين الأصول الكنعانية والفينيقية والمشرقية لهذا الفكر.

أُعذروني فقد نسيت موضوع اللقاء! وقد اخسر، بالتالي، بركة ومغفرة لكسب ما يتمناه المؤمنون!

الواقع أن عمل الأبوين بولس الفغالي وأنطوان عوكر[1]، يأتي ضمن هذا السياق الصعب الساعي إليه، دائماً، مَنْ يعمل، من خلال منهجية علمية واضحة المنطلقات والنتائج، من أجل تطوير الدراسات التوراتية، وباللغة العربية، وتحفيز الباحثين للعودة إلى الأصول.

لن أَجرحْ تواضع الأبوين، وأََحرقْ البخور، فيعبقُ المكانُ، وتغيب الرؤية، وإن تعود الإثنان على تصعيد البخور وعلى رائحته الزكية.

لكن لا بد من تقديم الشكر لهما على هذه الترجمة بين السطور، وإن كنتُ من بين هذه السطور إلى الكتاب عبرت، وتنخلتُ منه ما أراه يقتربُ من ملاحظاتٍ تغني العمل ولا تتوخى التحامل عليه.

أذكر في لقاءات تمت بين الأبوين وبيني في دير مار روكز[2] حول هذه الترجمة، أننا تناقشنا وتصادمنا وتصالحنا، ومن ثم عدنا مرات كثيرة إلى أهمية الترجمة والتقيد بدقة النص المنقول إلى اللغة العربية، لاسيما لجهة نقل أسماء العلم كما ترد في النص الأصلي، وعدم تحريفها أو ترجمتها بطرق مختلفة. إلتزم المؤلفان بهذه المنهجية، لكنهما نقلا إسم إلوهيم بالله حيثما يرد التقليد الإلوهيمي. وهو ما لا نوافق عليه. وكنا نفضل الإبقاء على الإسم الأصلي (مثلاً ص. 1: تكوين 1، 1)، بينما تركا بقية الأسماء بصيغتها الواردة في النص الأصلي، وإن تدخلا عبر توحيد الكتابة لأسماء تاريخية أخرى.

إن تسمية الكتاب ب "العهد القديم العبري" لا ينطبق ومضمونه، إذ أنه يعطي النص التزاماً ومفهوماً مسيحياً، ويُفقده، بالتالي، صفته الأساسية. لذا كنا نفضل تسميته ب "الكتاب المقدس العبري" فقط، كي يبقى النص ضمن إطاره التاريخي، البعيد عن التزامه بمفهوم ديني خاص. يمكن عندها التعاطي مع النص وفق منهجية دراسة الأصول ونقدها العلمي البنّاء.

لنا، أيضاً، ملاحظة حول ترجمة بعض الآيات إلى اللغة العربية، وهو ما نقرأه على هامش الترجمة، وإنّ كانت "لا تعبّر دائماً عن خيارنا المعنويّ للترجمة" كما يقول الأبوان في نهاية تقديم الكتاب غير المرقم.

لقد أشرت إلى هذا الأمر في بحث[3] سابق لي، وذكرت نماذج من الترجمة العربية التي يعتمدها هذا الكتاب، وقضت بإدخال مفردات على النص الأصلي، أدت إلى تحوير المعنى وأخذه في اتجاهات لا يحتملها النص أصلاً. لعل موضوع ذبائح الأطفال في العصور القديمة، ولاسيما في المحيط الكنعاني ـ الفينيقي، هو المثال الواضح لهذا التحوير كإدخال "قرباناً للبعل" و "ذبح [للبعل] وبخر [له]"، و "تمثالاً [للإلهة عشيرة]"، كما في 2 أخبار، 28، 3 - 4؛ ملوك 2، 16، 3 ـ 4؛ 17، 16 - 17، 31؛21، 2 ـ 6. بينما الترجمة الحرفية التي اعتمدها الأبوان فغالي وعوكر، لاتشير إطلاقاً إلى هذه المفردات الدخيلة على النص. لذا لا بد من إعادة النظر بالترجمة العربية، وربما الترجمات باللغات الأجنبية، كي يكون، في متناول الباحثين والمؤرخين، نصٌ علمي، وذلك من أجل إعادة النظر بمسائل تاريخية هامة، تتعلق، بالأخص، بالفكر الديني للمشرق، وما تزال موضوع خلاف جوهري بين الباحثين.

تجدر الإشارة، أيضاً، إلى أن الإفادة من هذه الترجمة تكمن في ما تنخله الأبوان من مفردات عربية حديثة لتتوافق وترجمة المفردات العبرية أو الآرامية الواردة في نصوص الكتاب. لأن في هذا الأمر انعكاساً وتأكيداً على وجود جذور ساميّة[4]، تنتمي إلى لغات ساميّة مختلفة، وهي أقدم من النص العبري، ومستعملة وفق المضمون والمعنى نفسه الوارد في الكتاب. نلاحظ ذلك في مفردات مشابهة موجودة في النصوص الأكدية والأوغاريتية والفينيقية[5]. إن هذا التقارب في اللغة وفي المعنى بين هذه المفردات العائدة إلى عائلات لغوية متقاربة ومتجذرة في المشرق القديم يدفعنا دائماً إلى ملاحقتها في بيئاتها المختلفة من أجل فهم أعمق لذهنية الشعوب ولفكرها الديني ولطقوسها التي قد تتشابه في الشكل لكنها حتما تختلف في البعد الديني وفقاً للإطجار الزمني والجغرافي التي تحصل فيه.

إن ما ذكرناه من الملاحظات البسيطة والقليلة، لا يقلل من القيمة العلمية لكتاب الأبوين فغالي وعوكر.

إنها مساهمة، منهما، للعودة إلى الجذور والأصول. وهو باب جديد على اللغة العربية، وعلى الملتزمين بالفكر الديني، وبالإيمان المبني على الإلهام. لكن النص التوراتي، بمنحاه التاريخي وبمضمونه لتراث المشرق، هو، أيضاً، مجال رحب وخصب للمؤرخين الملتزمين بالتفتيش عن الحقائق التاريخية والحضارية التي هي ذاكرة الشعوب، الواجب احترامها، من قبلنا، حتى ولو لم نتفق معها، أو لو لم نؤمن بما آمنت به، وعملت على جعله أساس الخلاص البشري.

هوالصراع الدائم والمستمر، ولن ينقطع، بين مَنْ يعمل من منطلقات الإيمان ومسلماته، وبين مَنْ يسعى لدراسة أحوال الشعوب، وحضاراتها كما عاشتها، لا كما نتصورها، نحن، وفق معاييرنا الحديثة وانتماءاتنا المأدلجة في أغلب الأحيان.

بُورك الزارع في الأرض الخصبة، وبُورك الزرع لمن يستطيع الحصاد.

الأبوان فغالي وعوكر زرعا في الأرض الخصبة، بقي لنا، نحن، أن نحسن الحصاد.

 كلمة الأخت باسمة الخوري

ترجمة جديدة للكتاب المقدس، هي ترجمة بين السطور من اللغة العبرية الى اللغة العربية، عمِل عليها بجهد، الأبوان بولس الفغالي وأنطوان عوكر، كنتُ من الشاهدين على جدّية عملهما شبه الصوفي، حتى صار الكتاب المقدس عالمهما الأوحد ينامان فينزل عليهما الوحي الإلهي، ويقومان ليدوّناه شريعة وأنبياء وكتب. فالشكر لله عليهما، والشكر لهما لتجاوبهما مع دعوته النبوية لهما، واستسلامهما التام لكلمته الفاعلة، خلقًا وخلاصًا.

ولكن لماذا هذه الترجمة؟ وكأنه كان ينقصنا ترجمة عربية جديدة للكتاب المقدس!

هذا ما يقوله بعض المؤمنين البسطاء، وقد راعهم أن يروا ترجمات كلمة الله تتكاثر، حتى بتنا لا نستطيع أن نحفظ آيةً كتابية في كتاب مقدّس ورثناه، ونتأكد بأنها هي عينها في كتاب مقدس آخر اقتنيناه. أتُرى الله قد تكلّم بصيَغ مختلفة؟ وأين نجد الطبعة المقدّسة الحقّة؟

أما البعض الآخر من بعض المؤمنين بالمسيحية المنزّهة عن اليهودية، فلا يخفون تذمّرهم من "إستقتال" المسيحيين في إعطاء اللغة العبرية أهمية لا تستحقها، من خلال إبرازها فوق االغة العربية، في حين كان الأحرى بهم تجاوزها، وتركها في غياهب النسيان.

 فلماذا كل هذا الجهد؟ لماذا يكرّس العلاّمة الأب الفغالي كل هذا الوقت وكل هذا التعب لوضع كلمة عربية تحت كلٍّ من كلمات الكتاب المقدس الـ 800،000 الموزّعة على 60،000 آية بعيدة كل البعد عن عالمنا وتقاليدنا ومفاهيمنا... ولغتنا الحاضرة؟ ولماذا يسانده ويعمل معه الأب عوكر، وهو في مقتبل العمر، بدلاً من الإهتمام بما يغوي عقل عالم اليوم ويفتنه؟

الترجمة البيسطرية للعهد الجديد، هل هي حقًا زيادة لا لزوم لها، في غمرة كثرة الترجمات العربية؟ أم هي كما يظن البعض عودة الى الأصولية اليهودية، المتمسّكة باللغة العبرية كلغة مقدّسة؟ أم هي فتحٌ بيبلي جديد، هو ميزة "فغالية" تدرك بالحدس أهمية وضع العلم بين أيدي الجميع، وتحققها كإرادة إلهية لا يمكن أن تنزل وحيًا إلا لتعود إلى الله محقِّقةً ما لأجله أُرسِلت؟

1- هل الترجمة الجديدة البيسطرية ترجمة بين كثيرات؟

كثُرَت في لغتنا العربية ترجمات متنوَعة للكتاب المقدس. فيفيدنا الأب أيوب شهوان بأن "منطقة الشرق الأوسط شهِدت حركة نقل للكتاب المقدس، جزئيًا أو كليًّا، إلى العربية منذ البدايات، على ما نقرأ من إشارات مباشرة أو غير مباشرة إلى وجود ترجمات سابقة لمجيء الإسلام"[6]. ويؤكّد بأن الفترة الممتدة من القرن التاسع وحتى الثالث عشر هي الفترة التي تَرجَم فيها المسيحيون الناطقون في العربية الكتابَ المقدس مرّاتٍ عدة الى لغتهم. كما يؤكّد بأن "نقل الكتاب المقدس الى العربية عملٌ حيوي وهام بالنسبة الى الكنيسة، وهو يشكّل بحدّ ذاته نوعًا من التفسير، بما أن الناقل كان يقرّر معنى كل جملة أو كلمة غير مفهومة أو غير واضحة يصادفها.

ويذكر كتاب الأبحاث المهداة الى القس لوسيان عقّاد 23 ترجمة لجزء من الكتاب المقدس أو لكلّّيته بين سنة 639 و 1822؛ و7 ترجمات بين 1857 و 1993؛ وأربع ترجمات لسفر المزامير بين 1954 و 1982؛ وقد صدرت طبعة جديدة مؤخّرًا؛ إضافة الى 9 ترجمات للعهد الجديد بين 1903 و 1991؛ و3 ترجمات للأناجيل الأربعة بين 1935 و1991.

من البديهي أن يتميّز كلُ من هذه الترجمات بأسلوب معيّن وبهدف معيّن. فمنها ما حاول الإلتصاق قدر الإمكان باللغة الأصلية[7]، فكانت صعبة الفهم، بعيدة عن مفاهيم القاريء المعاصر وفكره؛ ومنها المسهّبة التي تحاول أن تشرح وتقدِّم عبارات اللغة الأساسية باللغة المعاصرة، فأتت الترجمة شبه تفسير لما تريد النصوصُ الأصلية قولَه؛ واستندت بعض الترجمات العربية الى ترجمات غربية من الفرنسية أو الإنكليزية، دون العودة الى النص الأصلي، فجاءت النتيجة غير مرضية، خاصة وان لغات العالم المعاصر غير السامية، تستعمل تريبًا مختلفًا للعبارات، وتتّبع قواعد لغوية بعيدة عمّا تتبعه لغات العهد القديم العبرية والآرامية (على خلاف السريانية والعربية مثلاً).

فطِن الغرب الى هذا الأمر، فبدأت الترجمات بين السطور بالظهور، وكان الهدف منها الوصول الى "تفسير لغوي" لكل كلمة أو مجموعة كلمات. فصارت طبعات ما بين السطور الأجنبية للعهد الجديد مثلاً، هي المرجع الأكثر استعمالاً، ليس فقط، بين لاهوتيي العالم ودارسي الكتاب المقدس، بل أيضًا بين الرسل والكهنة والطلاّب والمعلّمين والباحثين، في درسهم لكلمات الإنجيل وأشكال القواعد التي يتبعها ولأطره اللغوية العامة.

فإن كان عالمنا  العربي قد عرف نهضةً وفورة في دراسات الكتاب المقدس، كان للأب فغالي الفضل الأكبر فيها، وقد تجلّت منذ بعض السنوات مؤتمرات ومؤلفات ومعاهد تنشئة كتابية وأيام بيبلية، أعادت الى الكتاب المقدس مكانته الأساسية كركيزة لأي تنشئة لاهوتية ورعائية وأخلاقية، وكجوهر لأي صلاة ورسالة، فقد ظلّ هذا العالم محرومًا من هذه الترجمة البيسطرية، الى أن أبصرت النور سنة 2002 ترجمة ما بين السطور فغالي- عوكر للعهد الجديد، ثم للعهد القديم منذ شهرين، في الوقت الذي لم تظهر بعد حتى الآن، ترجمة بيسطرية فرنسية للعهد القديم، ويبدو أن العمل فيها ما زال بحاجة الى حوالي العشر سنين (بين أيدينا فقط الإنكليزية والألمانية والعربية).

2- البيسطرية لماذا؟

لن أتطرّق في مداخلتي الى أهمية الناحية التاريخية والأدبية والمسكونية التي تمثّلها هذه الترجمة، فبيننا ملافنة في المجال، لكني سأحاول أن أضيء على أهمية هذه الترجمة بالنسبة الى المؤمن المطّلِع ولو قليلاً، بشكل عام، وإلى الباحث بشكل خاص.

كان الباحث في عالمنا العربي، مضطّرًا، قبل هذه الترجمة، أن يعود في دراساته الى كل كتب الغراماطيق، والى المعاجم اللغوية واللاهوتية، والى مختلف الترجمات، وإلى العديد من الإجتهادات، للتأكد من صحة النص الأصلي من جهة، ومن صحة ترجمة عبارة أو آية ينكبّ على شرحها لفهمها من جهة ثانية؛ فإذا بين أيدينا اليوم عملٌ ليس عملاً أدبيًا بالطبع، كما أنه ليس كتاب قواعد لّلغة العبرية الكتابية، ولا للّغة العربية، بل هو ترجمةٌ تحترم الترتيب العبري للكلمات، كما تلتزم معناها الحرفي، بحيث تقدّم للقاريء إمكانية التوصّل الى قراءة الكلمة عينها، في كل الأمكنة، وبالمعنى عينه. فمما لا يخفى على أحد، أنه يمكننا ترجمة بعض العبارات العبرية بأكثر من كلمة، فنقرأ المعاني المتعددة دون أن نفطن إلى كونها ترجمة لكلمة عبرية واحدة. سأعطي على هذا بعض الأمثلة المعبّرة، مستندة الى طبعتي الترجمة المشتركة والترجمة الكاثوليكية:

* عبارة "ح س د" : نصادفها مرارًا في النص العبري ونقرأها في الترجمات حنان، ورحمة، ورأفة، ومحبة، وأمانة، بحيث يضحي من المستحيل على القاريء أن يعرف بأنها العبارة عينها في كل الأماكن. ففي إطار مهمة خادم إبراهيم في البحث عن زوجة لإسحق إبن سيّده في تك 24: 12 يقول الخادم "يا ربُّ، يا إلهَ سيّدي إبراهيمَ، وَفقْنِي اليومَ و"ح س د" أحسِنْ إلى سيدي إبراهيمَ" هذا ما نقرأه في الترجمة المشتركة، أما في طبعة دار المشرق فنقرأ " أَيُّها الرَّبّ، إِلهُ سَيِّدي إِبْراهيم، يَسِّرْ لِيَ اليَوم و"ح س د" اصنَعْ رَحمَةً إِلى سَيِّدي إِبْراهيم!"؛ وفي تك 24: 14 نقرأ في الترجمة المشتركة "إن كنتم "ح س د" تترأفون"، وهي في الترجمة الكاثوليكية "إن كنتم صانعين "ح س د" رحمة ووفاء"؛ وفي 1 صم 20: 8 نقلت الترجمة المشتركة الـ "ح س د" بـ "المعروف" في حين حافظت الطبعة الكاثوليكية على "الرحمة"؛ أما في 1 صم 20: 14 فنقرأ في الترجمة المشتركة "كن أمينًا ح س د لي بإسم الرب "إصنع ح س د" "ما ترجمته طبعة دار المشرق بـ"أفلا تصنع معي رحمة الرب؟"

فإن التزمنا طبعة الترجمة المشتركة، لما ظننا قط أن عبارة ح س د هي هي في كل هذه النصوص التي اخترتها عشوائيًا، وقد تُرجِمت على التوالي "حسنة، ورحمة، ورأفة، ومعروفًا، وأمانة". أما الطبعة الكاثوليكية، فقد التزمت، كما لاحظنا، بكلمة رحمة لترجمة ح س د، لكن تبقى المشكلة هي في أن لكلمة رحمة عبارة أخرى في العبرية هي ح ن،  فكيف يعرف القاريء العربي أين ومتى استعمل النص الأصلي ح س د، ومتى استعمل كلمة ح ن، والمعنى الذي يعطيه لكلٍ منهما؟ بفضل الترجمة البيسطرية صار هذا القاريء قادر على إكتشاف الكلمة الأصلية ومكانها في النص، والمعنى المُدرَج بحسب إطارها الكتابي. وقد أرتأى المترجمان ترجمتها، في كل الأمكنة التي تتواجد فيها، بعبارة "لطف".

* مثالاً ثانيًا على ذلك نجده في عبارة "إ م ت". فإن كانت الطبعة الكاثوليكية، قد التزمت بكلمة رحمة في حالة ح س د، فهي لم تلتزم بكلمة واحدة لترجمة كلمة إ م ت . أما الطبعة المشتركة، فقدّمتها تحت تعابر مختلفة بحسب المعنى الذي إختارته لكل نص. ففي في إر 2: 21 ترجمت الطبعة المشتركة عبارة "زرع إ م ت" بـ "زرع أصيل" فيما ترجمتها دار المشرق بـ"أفضل زرع"؛ وفي إر 14: 13 ترجمت المشتركة عبارة "سلام إ م ت" بـ "سلام حق" في حين رأت دار المشرق ترجمتها بـ"سلامًا أكيدًا"؛ أما طلب الله من النبي في إر 23: 28 بأن يقول كلمته بـ "إ م ت" فقد ترجمتها المشتركة بـ "ليقل كلمتي بأمانة" وطبعة دار المشرق بـ "فليتكلم بها بالحق" في؛ أما في إر 42: 5 فقد أغفلت الطبعة المشتركة  الكلمة ولم تترجمها بل اكتفت بـ"الرب شاهدًا" دون الكلام عن "شاهد حق".

* كلمة "د ب ر ي م" هي إحدى العبارات العديدة التي تعني "كلمات" مثل : ق و ل/ إ م ر ه/ د ب ر/ الخ. والتي تُرجِمَت كلها كلام أو كلمات أو فصاحة أو ثرثرة دون تمييز على ما نقرأ في أكثر من مرجع (خر4: 10 "رجل فصيح؛ رجل كلام"؛ تث 4: 12 "صوتًا/ كلامًا"؛22: 4 أغفلتها الترجمة المشتركة/ ثرثرة في دار المشرق إلخ)، وبالتالي يصبح من المستحيل على القاريء العربي أن يميّز بينها لأنه لن يقرأ سوى المعنى العربي وحده، في وقت ميّز فيه الكاتب الملهَم بين العبارات فاستعمل إحداها عن قصد أكيد.

* كلمة العدو أو المعادي كما لفت النظر اليها المترجمان: نجد أن الترجمتين اللتين اعتمدتهما يترجمان فعل "~jfش ت م" بأبغض، أو عادى، تمامًا كفِعل "anf ش نِ ا" (تك 37: 4) "  by:a'أ ي ب" (عد 35: 23؛ 1 صم 18: 29) و كلمة "r[' ع ر" إلخ.

* وأخيرًا كلمة hm'd'a] التي نقرأها أرض (تك 4: 2؛ مز 104: 30؛ أش 45: 9) أو تراب  (خر 20: 24؛ 2 مل 5: 17) في كلٍ من الترجمتين في حين تتفرّد الترجمة المشتركة بترجمتها "الزراعة" في 2 أخ 26: 10)، وقد ارتأى الأبوان فغالي وعوكر محقّين، ترجمتها بالأديم.

والأهم يبقى في معرفتنا، من خلال هذه الترجمة، تجذّر الديانة التوحيديّة في الديانات التي سبقتها، وقد أرادت اليهودية المحافظة على تراثها هذا، فحافظت على الأسماء الإلهية المتعددة المستعملة قبلها، في حين اختزلناها في ترجماتنا العربية الى أقصى ما نستطيع. فما بقي لنا من أسماء الله سوى الله ويهوه والسيد والرب؛ فكانت لنا الترجمة البيسطرية وسيلة تعيدنا الى الجذور والأصول، فاتحة أمامنا مجالاً واسعًا للدراسة لا ينضب، وتأكيدًا للإنثقاف الذي اختبره أسلافنا وعاشوه بوحي من  الرب الأحد، وقد ظننا لوهلة أنه اكتشافنا، بعد قرون من الإنغلاق والأصولية محت من النصوص كما من العيش إرادة الله المتجلّية من خلال هذه النصوص المقدّسة، في وصول كل البشر اليه هو الإله الواحد الأحد، المتعدد الأسماء والواحد الجوهر. نعم إن الله الذي لا إله إلاه هو يهوه وإلوهيم وعليون وإيل وإلواه وشدّاي والسيّد الذي تملأ أسماؤه صفحات العهد القديم، وهو هو تحت أي إسم عرفه البشر، وهو هو إله البشر جميعًا بأي لغة تكلّموا، وفي كل زمان ومكان وحضارة...

سأنهي مداخلتي بقصة من التلمود، أوجّهها الى فئتين: فئة من يريد أن يعرف الكتاب المقدس ولا يجد وقتًا، وفئة من يظن بأن هذا الكتاب أخذ حقّه من الدراسة، ولا يجدر بنا إعطاؤه مزيدًا من الوقت.

تقول القصة بأن فلاحًا دخل يومًا عند أحد الرابينيين (معلّمي الشريعة اليهود) ليحل لغزًا يحيّره منذ زمن طويل. استقبله الرابي كما يستقبل كل الغرباء ورجاه أن يطرح سؤاله. فقال

-   رابي ما هو التلمود؟ أسمع عنه شمالاً ويمينًا من أناس حكماء، وكم سمعت من القصص المتناقله عنه. أنا فعلاً في تساؤل دائم. ما هو التلمود؟


-       كم عندك من الوقت كي أجيبك على سؤالك؟ أجابه الرابي
-       ساعة من الزمن ربما! فالوقت متأخر وعليّ أن أعود الى البيت كي لا تقلق امرأتي.
-       إذًا عُد في وقت آخر، عندما يكون عندك متسع من الوقت فأستطيع عندها أن أشرح لك ما هو التلمود

لكن الفلاح راح يشدد على الرابي: "رابي أنا لم أسألك شيئًا يومًا. أنا أدفع مساهماتي للجماعة، في حين أني لا أطلب شيئًا، فأرجوك حاول أن تجيبني.


- حسنًا سأشرح لك ما هو التلمود: دخل سارقان بيتًا من المدخنة، فوجدا نفسيهما في غرفة الطعام، كان وجه أحدهما أسودًا من الدخان، أما الثاني فكان وجهه نظيفًا تمامًا. فمن من الإثنين ذهب ليغسل وجهه؟


- أهذا هو التلمود؟ إنه سهل جدًا؟ فأنا الفلاح قادر على الإجابة بكل بساطة. ذو الوجه المتسخ هو من ذهب ليغسل وجهه بالطبع.


- أترى، عـُد إليّ عندما يكون عندك الوقت الكافي، لأن من كان وجهه متسخًا، ظن عندما رأى وجه صديقه النظيف أن وجهه نظيف هو أيضًا، فيما ظن الآخر أن وجهه متسخٌ، عندما رأى وجه رفيقه متسخًا بالدخان الأسود، فما كان منه إلا أن ذهب واغتسل.

- رائع! للحقيقة أن التلمود عميق جدًا! ولكن، رغم أني لم أفهم أولاً فأنا قد فهمت الآن. شكرًا لك.
- لا ! أنت لم تفهم شيئًا حتى الآن. عُـد عندما يكون عندك وقت كافٍ، أجابه الرابي فمنذ متى يدخل رجلان في المدخنة عينها ليخرج أحدهما بوجه متسخ فيما يخرج الآخر نظيفًا تمامًا؟ عـاد الفلاح الى بيته حزينًا، فيما أكمل الرابي دراسته .

إنها صورتنا نحن الذين نظن بأننا عرفنا الكتاب المقدس، وأننا امتلكناه ولم نعد بحاجة إلا للقليل القليل، لا لشيء إلا لأننا قرأنا كتابًا عنه، أو لأننا سمعنا محاضرة عنه، فيما لا يكفّ الفغالي، كما هذا الرابي، عن الدراسة والنشر معقّدًا لنا الأمور بفتحه أمامنا أبوابًا مغلقة. فلنا جميعًا أقول أتت الساعة لإعطاء الوقت، كل الوقت لفهم كلمة الله، عارفين بأننا ما زلنا بعيدين عن سبر كل أغوارها.

من هذا المنطلق أوجّه الشكر مجدّدًا للأبوين بولس الفغالي وأنطوان عوكر، اللذين فهما هذه الحقيقة فتكرّسا للدراسة ولنشر راية الكلمة وفرحها، ولكني أقدّم الشكر الأول والأخير لله الذي وضع كلمته بين أيدي البشر، واثقًا بأنهم قادرون على إيصالها صحيحة وأمينة، بالرغم من ضعفهم ومحدوديتهم. ومنه أطلب أن يعطينا جميعًا نعمة الشجاعة التي تحلّى بها الأب فغالي ناقلاً العدوى بجدارة الى الأب عوكر، فلا نخاف الإلتزام في مسيرة قراءةٍ باحثةٍ ومتأنيةٍ، ولو طويلة، لهذه الكلمات الإلهية ولتركيباتها، علّنا نستحق أن تتجسّد فينا كلمةً وفعلاً، فيتحققَ ملكوتُ السلام.

كلمة الدكتور مارتان عقاد

.I     مقدّمة

        في سنة 2003، كان لي الامتياز بأن أشارك في مثل هذه الندوة لتقديم الترجمة البيسطريّة يوناني- عربي للعهد الجديد. ويشرّفني اليوم أيضًا أن أقدّم لأخيه، "الترجمة بين السطور عبري-عربي"، أيضًا للأبوَيْن بولس الفغالي وأنطوان عوكر. فلْنَقُلْ أوّلاً بأن هذا العمل هو عمل جبّار، وهو لا شكّ ثمرة آلاف الساعات من العمل الشاق. وبما أنّي لستُ بعالم مختصّ بالدراسات البيبليّة، سوف أنظر إلى منافع هذا المجلّد من منطلق عمليّ تطبيقيّ في سياق الخدمة المسيحية في الشرق الأوسط. وبصفتي العميد الأكاديمي في كليّة لاهوت تقوم بتدريس جميع موادها باللغة العربيّة، أشعر بالفرح الشديد تجاه هذا الإصدار الجديد الذي يُغني المكتبة العربيّة اللاهوتيّة والكتابيّة، بغناء لا يوصَف!

.II    خلفيّة تاريخيّة لترجمات الكتاب المقدّس

        مِن أكثر اللغات التي تُرجِم إليها الكتاب المقدّس قبل العصر الحديث بعد اليونانيّة واللاّتينيّة هي اللغةَ العربيّة. وبما أنّنا لا نملك حتى الآن أي براهين أركيولوجيّة تشهد عن وجود ترجمة إلى العربيّة لأيّ جزء من أجزاء الكتاب المقدّس قبل انتشار الإسلام، فمن المهم أن نشير إلى أن الحركة الواسعة من الترجمة التي شهدتها الفترةَ الأولى من تلاقي الإسلام بالمسيحيّة في الشرق الأوسط هي نتيجة مباشرة لهذا التلاقي. فعند هذا التلامس بين الحضارة العربيّة الإسلاميّة الشابّة وبين الحضارات المسيحيّة الأقدم التي انتشرت عبر الشرق في تلك الفترة، هناك كما يبدو، وُلِدَت ترجمات الكتاب المقدّس إلى اللغة العربيّة. فبعد أن عبّرت تلك الحضارات المسيحيّة العريقة عن أنفسها باللّغات السريانيّة والقبطيّة واليونانيّة لعدّة قرون من الزمن، اعتنقت تدريجيًّا لغة الحاكم العربي الجديد، وأصبحت مع الوقت لغاتها الأصليّة لغات طقسيّة. لم تنتهي حتى الآن كتابة قصّة الترجمات الكتابيّة إلى اللغة العربيّة. ولكن العددَ الهائلَ من المخطوطات العربيّة للكتاب المقدّس الموجودُ في الأدْيِرة والبطريركيّات في الشرق، بالإضافة إلى المكتبات والمتاحف الكبرى حول العالم، تشهد لمقامها بين العائلات الأخرى من الترجمات. وبعد انحطاط هذه الحركة لعدّة قرون خلال العهد العثماني، عادت وازدهرت عند جميع الطوائف مع انتشار الإرساليّة البروتستنتيّة في الشرق الأوسط في منتصف القرن التاسع عشر، ووُلِدَت من هذه الفترة عدّة ترجمات جديدة. منها ترجمة فارس الشدياق الأنكليكانيّة (1857) وترجمة سميث - فان ديك - بستاني البروتستنتيّة (1860-1865)، والترجمة الدومينيكانيّة في العراق (1875)، والكاثوليكيّة (1881). وتجمّدت حركة ترجمة الكتاب المقدّس إلى اللغة العربيّة ثانية مع ترجمات القرن التاسع عشر ولمدّة ثلاثة أرباع القرن تقريباً. ولكن في السنوات الأخيرة، وخاصة الخمسين التي مضت، يبدو وكأنّ الكتاب المقدّس استرجع حيويّته الأولى مع نشوء العديد من الترجمات الجديدة، من الترجمة البولسيّة (1953)، إلى الترجمة الكاثوليكيّة الجديدة (1969)، إلى القبطيّة الأرثوذكسيّة، ومن ثم ترجمة جمعيّة الكتاب المقدّس المشتركة (ابتداءً من سنة 1979) التي، كما يدلّ اسمُها، اشتركت فيها جميع الطوائف من كاثوليكيّة/مارونيّة وأرثوذكسيّة وبروتستنتيّة، الترجمة التي، كما نعلم، شارك فيها بالدرجة الأولى الخوري بولس الفغالي ومعه الشاعر الكبير يوسف الخال. وهناك أيضاً الترجمة التي تسمّى ب "كتاب الحياة" (1986)، البروتستانتيّة أيضًا، وترجمة جامعة الكسليك (1987-1992). وهناك بعض المحاولات الأخرى المتميّزة كـ "الكتاب الشريف" المُعْتَنِق العبارات الأكثر ألفة للقارئ المسلم، خاصة في أسماء العَلَم وبعض العبارات الحسّاسة. وهناك بعض الترجمات باللهجات العربيّة المختلفة أو بأسلوب السجع والشعر، منها مطبوعة ومنها على أشرطة مسموعة ومرئيّة.

.III    "الترجمة بين السطور" تملي حاجة ماسّة وتصلّح المفاهيم الخاطئة المنتشرة في الشرق المعاصر.

        في ظلّ هذه الترجمات العديدة التي ظهرت في السنوات الأخيرة وما زالت تظهر في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى نشر عدّة سلسلات من تفاسير الكتاب المقدّس باللغة العربيّة، وأهمّها ربّما سلسلة الأب بولس الفغالي، تأتي "الترجمة بين السطور"، أي ال Interlinear" بالإنكليزيّة، في وقت مناسب، حيث أنّها تأتي لتروي العطش والحشريّة "البيبليّة" الصاعدة في عالمنا العربيّ. ويتساءل البعض: "كيف يمكن أن يكون هناك أكثر من ترجمة للكتاب المقدّس؟ ألا يدلّ ذلك على وجود أكثر من نصّ واحد؟ ولماذا كلّ هذه التفاسير؟ هل هناك أكثر من معنى واحد لنصّ الكتاب المقدّس؟" والحقيقة أنّ أسئلةً كهذه في ذهن البعض تدلّ على أنّ تفكيرهَم في مسألة وحي الكتاب المقدّس يحتاج إلى تصحيح. فترى البعضَ يتعلّق بترجمة أو بأخرى وكأنّها نسخةُ الكتاب المقدّس الأصليّة المُنْزَلَة من السماء، وكأنّ لغة هذه الترجمة العربيّة بالذات هي لغةُ الكتاب المقدّس الأصليّة. دخول الترجمة بين السطور العبريّة-العربيّة إلى البيت العربي سوف يتولّى تصحيحَ هذا المفهوم، لأنّ القارئَ يجد فيها النصَ العبري والنص العربي الحرفي متوازيَيْن على الصفحة الواحدة، بالإضافة إلى ترجمة جمعيّة الكتاب المقدّس العربيّة المشتركة الحديثة في الهوامش. فيظهر بذلك دورُ النص العبري (والآرامي في بعض أجزائه) كأصلِ ترجمةِ العهد القديم إلى كلّ اللغات الحديثة، لا سيّما إلى اللّغة العربيّة.

.IV    الترجمة والتفسير هما أصل النهضة الروحيّة في الكنيسة

        وما يفسّر وجودَ هذه الحركة الواسعة من ترجمة الكتاب المقدّس إلى شتّى اللّغات ولا سيّما إلى اللّغة العربيّة هو الرغبةُ الدائمةُ عند المسيحيّين في توصيل كلمة الله لمحيطاتهم المختلفة الثقافات واللّغات. فكلمة "إنجيل"، وهي تعريبٌ لكلمة "إفنجيليون" اليونانيّة، تعني قبل كلّ شيء "البشارة"، أي الخبرَ السار بخلاص يسوعَ المسيح الذي أعلنه الله للبشر أجمعين. وشَعَرَ المسيحيّون عبر العصور بالمسؤوليّة الماسّة لحمل ونشر هذه الرسالةِ إلى كلّ شعب في لغته بشكل واضح، رسالةً متجسّدةً لغويًّا للتعبير عن إنجيل الله المتجسّدِ في المسيح. ومن الملفت أنّ الفتراتِ التاريخيّةَ التي شهِدت نهضةً في ترجمة الكتاب المقدّس وتفسيره هي عامّة فترات من النهضة الروحيّة في الكنيسة حيث استيقظت الكنيسة إلى دورها في حمل إنجيل خلاص الله إلى العالم. كنموذج لهذا الواقعِ عبر تاريخ الكنيسة، نشير إلى الحركة الإرساليّة الواسعة في الكنيسة السريانيّة التي حملت الإنجيل إلى أقاصي شرق آسيا بين القرنين الخامس والسابع نتيجةَ عمل المدرسة التفسيريّة في الرها ونصيبين، وأيضًا "حركة التنوير" التي اصطحَبتْ موجةَ ترجمةِ الكتاب المقدّس إلى اللّغات الحديثة في أوروبا أواخر القرون الوسطى.

.VI   "الترجمة بين السطور" وعلم تفسير العهد القديم

        والواقع هو أنّ الكنيسةَ لم تحاولْ يومًا بأن تُخَبّئ حقيقةً من الحقائقِ المتعلّقة بنصوصها المقدّسة، بل بالعكس نشرت آلافَ مخطوطاتها وقابلَت وقارنَت المتبايِنَ منها وعملت على نقدها نقدًا أدبيًّا علميًّا دقيقًا بنّاءً. ذلك لأنّ التثبيتَ العلميَّ للنص الأصليّ - العبري للعهد القديم واليوناني للعهد الجديد - يُعتَبر أوّلَ خطوةٍ في ترجمته إلى اللّغات الحديثة، كما أنّه أوّلُ خطوة نحو تفسيره، فإنّ الترجمةَ نوعٌ من التفسير. وتفسير الكتاب المقدّس هو أساسُ إنشاء الفكر اللاّهوتي العقائديّ يتضمّن على الأقلّ ثلاثَ مراحلَ أساسيّة:

      (1) تحليل نص الكتاب المقدّس،

      (2) استخراج اللاهوت الكتابيّ من النصوص،

    و(3) إنشاءَ لاهوت نظامي مبنيّ على لاهوت الكتاب المقدّس. وبما أنّ الترجمةَ بين السطور تلعب دوراً هامًّا في المرحلة الأولى من هذا العمل التفسيري، أي في بلوَرَة وتحليل نص العهد القديم، فإنّ هذا الكتابَ يشكّل إضافةً ثمينة في مكتبة كلّ لاهوتي عربي. وسيكون هذا الكتاب أيضًا صديقَ كلّ طالب في اللاّهوت، من حضوره في صف علم التفسير وتحليل أسفار العهد القديم إلى تخرّجه وانتقاله إلى خدمة الوعظ والتعليم في الكتاب المقدّس.

.V     خاتمة: "الترجمة بين السطور" ترجمة لكلّ بيت

        ورغم أنّ ترجمةً علميّةً للعهد القديم كـ "الترجمة بين السطور"، التي تحتوي على النص العبري، تُعتَبَر عادة في الغرب أداةً للعلماء والدارسين، فيُتَوقَّع أن تنالَ في بلداننا العربيّةِ اهتمامًا شعبيًّا أوسعَ، من العالِم في مركز دراساته، إلى الراعي في رعيّته، إلى الفرد القارئ المجتهد في غرفته. فحتّى القارئ العام غير المحترف باللغات القديمة (ولكن طبعًا أشدِّد على "القارئ المجتهد"!) يستطيع أن يستفيد من هذا الإصدار الجديد.

        فلنتصوّر معًا قارئًا عامًّا، يتأمّل بنص معيّن في الكتاب المقدّس في تأمّلاته الشخصيّة. فيقرأ النص أوّلاً في الترجمة التي تروق له، ثم يقرأ النص مرّات إضافيّة في ترجمات أخرى عربيّة أو أجنبيّة للمقارنة وللتوصّل إلى مفهوم أدقّ للنص الأصلي خاصة في المقاطع والكلمات الصعبة. لأن هذا النص كثيرًا ما تحتاج ترجمة كلماته إلى أكثر من كلمة واحدة لتوصيل المعنى الدقيق في اللغات الحديثة. فكان القارئ العربي غير المحترف حتى الآن يتوقّف إلى هذا الحدّ من التدقيق. أمّا الآن، وبفضل هذا الإصدار الجديد، يستطيع أن ينتقل إلى خطوة ثالثة، وهي الرجوع إلى الأصل العبري. فمن خلال "الترجمة بين السطور"، التي تضع الكلمة العربيّة التي توازي كل كلمة عبريّة، يستطيع القارئ العام أن يحدّد العبارة العبريّة التي تشكّل قراءة صعبة، وبالتالي أن يدقّق في معناها في قاموس عبري-عربي، فتتفتّح أمامه المعاني والمفاهيم الجديدة.

        وأخيراً من خلال هذا المرجع الجديد، يتذكّر قارئ الكتاب المقدّس بأنّ الله لم يُنزِل إليه بالدرجة الأولى كتابًا أو كلماتٍ أو أحكامًا في لغة جامدة ليتعلّقَ بها، بل أنزَلَ كلمَتَه الحيّةَ الأزليّةَ يسوعَ المسيح، الذي تشهد عنه الكلمةُ المكتوبة، والذي فيه خلاصُ الله لكلّ مَن يقبله، بغضّ النظر عن دينه أو طائفته.


*ـ أستاذ التاريخ القديم واللغات الساميّة، ورئيس قسم التاريخ، حالياً، في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ الفرع الثاني، الجامعة اللبنانية.
[1]ـ الأب بولس الفغالي ـ الأب أنطوان عوكر، العهد القديم العبري: ترجمة بين السُّطور، عبري ـ عربي، الجامعة الأنطونيّة، بعبدا، 2007.
[2]ـ مركز الرئاسة العامة للرهبنة الأنطونية
[3]ـ أنظر: أنطوان القسيس، الذبيحة الدموية لدى الكنعانيين ـ الفينيقيين ومثيلها في المحيط العبراني، في الأب بولس الفغالي (ناشر علمي)، سفر التكوين وتاريخ الخلاص، (محاضرات مؤتمر سفر التكوين)، منشورات الرابطة الكتابية، الدكوانة، 2003، ص. 185 ـ 209.
[4]ـ حول هذه الجذور المشتركة بين اللغات الساميّة، أنظر:

Pierre BORDREUIL - Denis PARDEE, Manuel d'Ougaritique, 1-2, Geuthner, Paris, 2004; Ch.-J. JEAN - J. HOFTIJZER, Dictionnaire des inscriptions sémitiques de l'Ouest, Leyde, 1965; J. HOFTIJZER - K. JONGELIN, Dictionary of the North-West Semitic Inscriptions, (Handbuch der Orientalistik), 1 - 2, Leiden - New York - köln, 1995; GESENIUS W., Hebraïsche und Aramäische Handwörterbuch, Leipzig, 1847, réimprimé avec index et concordance par S. P. TREGELLES, Michigan, 1979, dernière édition, 1994; M. DIETRICH - O. LORETZ - J. SANMARTIN,Die Keilaphabetischen Texte aus Ugarit. Teil I. Transkription, (AOAT 4/1), Kevelaer-Neukirchen-Vluyn, 1976.

[5]ـ حول هذه المسألة، أنظر: القربان في أديان الكنعانيين ـ الفينيقيين، حياتنا الليتورجية، (عدد خاص حول القربان في الديانات غير المسيحية)، السنة الثامنة، العدد 51، 1997 ـ 1998، ص. 15 ـ 32؛

Antoine KASSIS, Pénitence et réconciliation dans la tradition cananéo-phénicienne,Péché et Réconciliation: hier et aujourd'hui, (Patrimoine Syriaque, Actes du colloque IV), Antélias, 1997, p. 42-49. (Conférence donnée au 4e colloque sur le patrimoine syriaque, du 17 au 20 avril 1996, au Couvent saint Roch - Dékouané), dans

[6]  أ. أيوب شهوان، "الترجمات العربية المتلاحقة للكتاب المقدس، شهادة على همّ علمي وكنسي وتواصل" في ترجمات الكتاب المقدس في الشرق، بحوث مهداة  إلى لوسيان عقّاد، الرابطة الكتابية، دراسات بيبلية 30، ص 275.

[7] أي اللغة العبرية للعهد القديم، مع العلم بأن أجزاء قليلة منه حُرِّرت بالآرامية (عزرا 8: 4-18: 7؛ إر 11: 10؛ دا 4: 2-28: 7)؛ واليونانية العامة لكامل العهد الجديد.