ندوة حول كتاب "حفار المدينة "

للدكتور انطوان ابو زيد

كلمة بريجيت كساب

في زمن قلّت فيه الثقافة وكثرت نظريات الوجود الموجّهة ماديا حتى تضمحل الذات الالهية في كل واحد منا وفيها من الوهية الخالق، فكان لا بد لطائر الفينيق ان ينتفض ليوعّي فينا لغة الكلمة الجميلة التي صُفّت من الحروف اللبنانية الصنع، تحمل في طيّاتها اجمل ما قيل عن الحب او تنقل لنا قصصا وروايات لاناس ربما عاشوا معنا وبيننا وحتى يحكون لنا تاريخ بلد كان منذ بدء الخليقة.

قلة هم الذين ما زالوا يسمعون هذه الهمسات الادبية والثقافية فيحملون القلم متمسكين بمجد الكلمة يحافظون عليها يحمونها من كل سوء لتستمر مستيقظة تنير العقول والقلوب. شمعة الامل هي باقية في زمن اسود حيث الهم الاكبر ان يتامن رغيف الخبز او الحفاظ على هذا الزعيم او ذاك مهما قال ومهما فعل.

قلة هم الذين مازالوا ممسكين براية المعرفة والتاريخ الساكنة قي صفحات الكتاب مستعدة ان تتحمل مشقات السفر الطويل عبر الاجيال في سفينة خبرات الحياة لنتعظ ونتعلم ونهتدي ونحلم.

يسر الحركة الثقافية انطلياس هي التي تؤمن دائما وابدا بالثقافة وتناضل من اجل بقائها والمحافظة عليها بمواكبة عصرية لتسلم هذه الامانة الى الاجيال الجديدة التي غرقت في بحور التكنولوجيا والقراءات الالكترونية السريعة، ان تستضيف في رحابها  واحد من هذه القلة هو الدكتور انطوان ابوزيد الذي كتب وروى لنا العديد من ابداعاته الادبية التاريخية ليكون لنا كالمنارة المنتظرة قدوم السفن فتدلهم على الطريق الصحيح نجتمع حول كتابه "حفار المدينة" لنرى هذه الشخصيات التي عاشت حقبة الكتاب تتحرك امامنا نسمعها تتكلم تتامل وتروي لنا حكاياتها والمها. ليصبح الكتاب صوت وصورة وكلمة.

 

الدكتور انطوان ابوزيد هو كاتب وروائي حائز على دكتوراه دولة في الديداكتيك ( أو التعلّميَّة ) الجامعة اللبنانية، دكتوراه اختصاص في اللّغة العربيَّة وآدابها جامعة القديس يوسف، كفاءة في اللغة العربيِّة وآدابها  الجامعة اللبنانيَّة. درّس اللغة العربية وآدابها في المرحلة الثانوية والجامعية. تولّي رئاسة قسم اللغات والآداب في كلية التربية –فرع ثانٍ. شارك في ندوات حول اعداد وتعديل مناهج اللغة العربية، ساهم في العديد من ا لدورات التدريبية لاساتذة اللغة العربية في التعليم الرسمي والخاص وتاليف سلسلة كتب تعليم اللغة العربية.

من مؤلفاته ابحاث منشورة في المجلات المحكّمة وغير المحكّمة منها على سبيل المثال لا الحصر: الرمز المسيحي في شعر يوسف الخال (البئر المهجورة ) بين الإيديولوجيا والظاهرة :فلسفة اللغة لدى كمال يوسف الحاج ،في "قراءات في فكر كمال يوسف الحاج. من كتبه في الأعمال البحثيّة و النقديّة: تحليل النصوص والأنواع الأدبية ، على المقاربة الرموزية،  تعلمية الكتابة في المرحلتين : الثانوية والجامعية.

من اعماله الادبية والشعرية نذكر : كوريغرافيا العابر، أعمق من الوردة، فضاء حُرّ

من مؤلفاته السردية: الحفّار والمدينة، زهرة المانغو، الفتى ذو اللغات الثلاث

ايضا له كتب مترجمة عن اللغة الفرنسية نذكر منها: بيار زيمّا  -Texte et societeالنص والمجتمع ، غوته - La passion du Jeune werther، - آلام الشاب فرتر، غاندي - Tous les hommes sont frères- كل البشر اخوة. وتطول اللائحة.

 

تشاركنا في هذه الندوة الدكتورة جهان فغالي والدكتورة سوزان عكاري

 

نبدأ مع الدكتورة جهان الفغالي استاذة متعاقدة في الجامعة اللبنانية، حائزة على دكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها من جامعة الروح القدس-الكسليك. الكفاءة التعليميّة- كليّة التربية- الجامعة اللبنانيّة، دراسات عليا في اللغة العربيّة وآدابها، كلّيّة الآداب، جامعة الروح القدس-الكسليك. درّست في العديد من المدارس والمعاهد لتعليم اللغة العربية

 

 الدكتورة سوزان عكاري  وهي أستاذة  في ملاك الجامعة اللبنانيّة ، كليّة التربية، ( الفرع الثاني )، حائزة على الدكتوراه  في  اللغة العربيّة وآدابها من الجامعة اللبنانيّة عنوان الأطروحة : المسرح الشعبيّ في لبنان( 1847- 1960). شاركت في العديد من الندوات ودورات تدريبية للاساتذة نذكر منها: ندوة حول كتاب " كيفيّات التعليم والتعلّم" للدكتور" أنطوان صيّاح ".  ندوة حول كتاب  : " فيلبيب سالم"  للصحافيّ في بلاد الاغتراب " بطرس العنداري". ندوة حول شعر " هنري زغيب ". اعداد دورة إعداد المدرّسين الملحقين بالتعليم الرسميّ لكل المراحل

لها منشورات عدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: السخرية في مسرح أنطوان عندور، توفيق الحكيم . الأسطورة الشعبية في مسرحه، تحقيق ديوان الأخطل، معجم الأسماء العربيّة، لآلئ من الشرق.

من رواياتها: عمرعلى جناح فراشة، طائر غريب

.________________________________________

 

قراءة لرواية " الحفّار والمدينة" -للدكتور أنطوان أبو زيد- الحركة الثقافيّة-أنطلياس

 بقلم جيهان الفغالي

صُوَر المدينة في رواية "الحفّار والمدينة"

بدايةً، أودّ أن أشكرَ الحركة الثقافيّة، التي تحملُ دومًا رايةَ الثقافة، وتُدفئ عقولَ طالبي المعرفة، في زمنٍ،  يبّسها البردُ التكنولوجيّ. كما أخصّ بشكري أستاذي الدكتور أنطوان أبو زيد، الذي حمّلني مسؤوليّةً مضاعفة: أوّلًا، لأنّه أستاذي، وما على الطالب سوى المثابرة كي لا يذهبَ تعبُ أستاذِه سدًى. ثانيًا، لأنّ روايةً، كرواية "الحفّار والمدينة"، بأسلوبها السّهل الممتنع، وعمق مضمونها تحتّم عليّ أن أكون على قدر المسؤوليّة، وهذا ما أرجوه..

خلال قراءتي رواية "الحفار والمدينة"، أخذتني الحيرة إلى أكثر من تساؤل وتساؤل...

وجدتُني أطرح  إشكاليّات متعاقبة: على أيّ مدينة يتكلّم د. أبو زيد؟ إلى أيّ مدينة انتقل البطل نعمان في الرواية؟

أإلى مدينة مارون عبّود، حين اتّهمت الشجرُ البشر، أم إلى مدينة فيكتور هوغو التي نشعر فيها أنّ شيئًا ما قد اختفى؟

استوقفني العنوان أوّلًا، حاولتُ أن أغوص على تضميناته، رأيتني محمّلةً بشلّالات من الدلالات الترابطيّة بين الكلمتين. رأيتني أنقب أسوار الكتاب، وأكشف عن مكنونات لم يعترف بها الدكتور أبو زيد عبر الكلمات، فكان عليّ أن أقرأ ما بين السطور، أن أرى تلك الفراغات الرمزية التي تحملنا إلى أكثر من مدينة: من مدينة الياسمين التي لم تمسّها يدُ مغتصب، وهي نفسها مدينة ألبير سامان القديمة، الخالية من الأبراج والأسوار:

“La ville d’autrefois,sans tours et sans remparts”

إلى مدينة الحديد والحفر، مدينة Louis Le Cardonnel  الميتة، حيث أشجارها الرماديّة في ارتجاف مريع. وصولًا إلى مدينة اللّذة العشتاريّة، والأسرار العقيمة!

ذكّرتني روايتكم بمقالة جبران خليل جبران "لكم لبنانكم ولي لبناني"، وسمعتُ مناجاة البطل ، " لكم مدينتكم وبشرها، ولي مدينتي وشجرها."

هو الذي هرب أولا من رطوبة الجبل، لم يكن يدرك، أنّ رطوبة المدينة أقسى، فهي تؤذي النفس. وما نفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه!

لقد برزت صورة الفقر جليّة، تجسّدت أمامنا في هيئة "منازل قديمة، محلّلة من لونها الأصفر،" كما ورد..وباب خشبيّ معتّق... وتلفزيون صغير لم تسدّد العائلة بعد ثمنه كاملًا(ص54)

 فقرٌ كان سببُه الأوّل والأخير: الحرب.

في الرواية تصوير واقعيّ للحرب الأهلية بدَمارها ودمائها وقصفها، يقول: " كانت أصوات القذائف عنيفة، ممزّقة السّماء فوقنا، وقريبًا منّا، تمزيقًا شديدًا."

ومن نتائج هذه الحرب: الموت، الهجرة، أو النزوح...

 لكلّ شخصيّة من شخصيّات الرواية قصّة فريدة: فموريس، الحلّاق، رفض أن يبيع ذكرياته بثمن باهظ، على عكس كثير من اللبنانيّين الذين وصلوا، في منتصف الثمانينات، إلى أوروبا وأميركا، للعمل والإقامة، تاركين وراءهم عائلات، وبيوتًا قديمة، ما زالت جدرانها تنتظر عودتهم، حتى اليوم...!

 لكنّ  "المعركة كانت مضمونة النتائج" ص74، كما ورد في الكتاب،  فأُجبر ذاك الحلّاق على أن يودّع بيته، قبل أن يودّع حياته، بسكتة قلبيّة.

لحظنا، خلال تتبّعنا أحداث الرواية، أنّ الكاتب نوّع بين الفصحى والمحكيّة، وكأنّه آثر أن يأخذ نفسًا عميقًا، قبل أن يتابع سرد الأحداث. أصبحت المحكيّةُ محطّةً يستريح فيها المسافر- القارئ، من دون أن يترجّل، بل هو يتابع الرحلة بشغف. وهذا ما حصل...

تابعتُ رحلتي في مدينة الشهوات تلك، لمستُ حنينًا ، حزنًا، عتابا...

أيقنتُ أنّ الحرب لم تترك البطل وشأنه، بل لم تتخلّ عن القادمين من مناطق مختلفة إلى بيروت، لقد حلّت بوجه جديد هذه المرّة! مقنّعةٌ، هي. حربٌ خالية من السلاح:

أدركتُ أنّ الحرب ضدّ البشر، قد استحالت حربًا ضدّ الشجر، ضدّ الكرامة.

بدأ "التنين" ينهش أرض بيروت بأنيابه، والحفّارون يغتصبون أحياءها، وبيوتها، وجدرانها(ص60-64)

و" يشقّون بطن المدينة، أحشاءها ليجدوا ماذا؟ " ص 43 ، كنوزًا! تماثيلَ معروضة للمزاد العلنيّ! قطعَ ذهب خبّأها أحد الأمراء الفينيقيّين إلى حين قيامة نفسه؟(ص175)

لقد فقدت الأماكنُ البيروتية تلك، هُويّتها، ما زالت تبحث عنها، أو عمّا تبقّى منها...

وعلى الرغم من الواقعيّة التي امتازت بها الرواية، والتي جسّدت أحوال اللبنانيّين، ومدينة بيروت الجديدة، إلا أنّ الدكتور أبو زيد، أبى إلا أن يخفف من وطأة هذا الواقع، وذلك عبر الصور الفنيّة التي أضفت مزيدًا من الرونق على الرواية: "كانت الشمس تغمز بعين كبيرة(ص128)، (كانت عتمة العاشرة قد صيّرت الشارع ذيلًا مضيئًا يمتدّ إلى منتهى النظر" ص9).

إليك يا نعمانُ أقول، يا نعمةَ المدينة ، في ظلّ نقمة التمدنن:

لا تخفْ. فأمثالك كثر!

كثر من طُردوا من منازلهم لأنهم لا يملكون ثمن تسديد الإيجار، ومن تهدّمت بيوتهم المتصدّعة، ولا أحد  يكترث!

كثر من أنهت المدينة حياتهم... وهي باسمة ساخرة!

لا تخف من الذين يقتلون جسد المدينة، بل خف من الذين يقتلون روحها، مبادئها...

اجتنبْ مدنيّةً جرفتْكَ أمواجُها، ولذّة آذتْكَ مخالبُها!

وإلى المرأة الضعيفة الوحيدة، زوجتك رنا، التي صارت "خشبة من مركب هزيل، تحطّم على صخرة المرفأ الغريب"، (ص 215) أصيح:

لا تحزني، إن ابتلع تنّين عشتار قلب زوجكِ الذي أهملكِ، ربّما نسيَ أن ما يهمّ فعلًا، لا أن نرمّمَ  بعض المباني القديمة، بل أن نبنيَ الإنسان الذي فينا...

ما يهمّنا، لا أن نحفر لنجد الكنوز، ونبحث عن نزوة عشتاريّة، بل أن نحافظ عن الكنز الكامن في حياتنا، وقلوبنا.

ختامًا، اسمحوا لي أن أتابع تساؤلاتي في سبيل اليقين، على الطريقة الديكارتيّة، وأسأل:

من حفرَ المدن وبنى على أنقاضها التمدنن؟

من قتلَ سكينة المدن بضجيج جرّافاتها؟  ولوّثَ هواءَها بغبار حَفريّاتها؟ وقضى على كرامة الإنسان بسحر نزواتها؟

 أهو نفسُه الذي حفرَ مدينة  Emile verhaeren،  ليبنيَ الأعمدةَ الكبيرة، حيث الدخان المتصاعد يحجب أشعة الشمس؟"

“Le haut soleil ne se voit pas:

Bouche de Lumiere,fermee,

Par le charbon et la fumee.”

أم هو حفار الذكريات التائهة في القرى البعيدة؟

نعم. "بيروتُ لها ناسُها" وطواحينها، على حدّ قول توفيق يوسف عوّاد.

وإن بقيت بعض الزوايا منسيّة في بيروت الأبيّة، ستبقى شاهدة على الويلات التي مسّت بكرامتها وأنوثتها، ولكنّها، من دون شكّ، "متروكة لمشروع لا يزال غامضًا" ...

لمَ لا نكون حفّارين في تلك المدن؟!

 نحفر العتمة لنجد النور، والألم لنحصد الأمل، والضجيج لنلقى السكينة.

نحفر قلق المدن لنبني طمأنينة القرى فيها.

ولأنّ الذكريات قد حفرت في قلوبنا، فهلمّوا إلى مدينة أدونيس وعشتروت، حيث الحبّ هو رسالة سماوية.

هلمّوا إلى مدينة أفلاطون، ولنحفر السلام في مدينة قلبنا: الإنسانيّة.

______________________________

 

د. سوزان عكاري

 مساء الخير. أيّها الحفل الكريم.

 

حين يجتمع عشّاق الكلمة، تتمايل حروف الأبجديّة، برقصة علويّة.

شكرًا للحركة الثقافية "انطلياس" التي جمعتنا، حول رواية "الحفار والمدينة"، للزميل الدكتور "انطوان أبو زيد".

 عرفته زميلاً حييًّا، يسوق خطواته في أروقة الجامعة اللّبنانيّة، بهدوء نسمة طريّة، ينثرعلى الطلاب مقارباتٍ، في الأنواع القصصيّة. قرأت كتاباته، فأخذتني إلى عوالم خفيّة. هذا المبدع الوادع، أيّ إعصار يسكنه؟ كيف يسلّط عينه الثالثة، ينفذ منها إلى عمق الأشياء، ينقّب عن مكامن الوجع الصامت والصاخب، يفرشها أمامنا لوحاتٍ ومشاهد، تهزّ منا الجوارح! كيف ينقلب حفّارًا في مدينة؟ وأيّ مدينة؟ “بيروت" التي تربض على ألف لغز ولغز، تحضن أسرار التاريخ، وتعاند الأزمنة بجبروت طاغية.

حين قرأت العنوان، خلت نفسي أمام تناصّ غريب، وأنّ حفّار القبور الذي رسمه "جبران "، قد بعث حيًّا. ولكن، حين أخذتني سطورالرواية، تجسّدَ أمامي أناس من حروف وورق، يستعرضون ذواتِهم بعين الراوي، وكأنّه مخرج، يحرّكهم على مسرح الحياة النابضة، المتدفّقة مواقف ومشاعر ورؤىً.

يفتح المشهد الأوّل في هذه الرواية، على رجل وامرأة، هما، في الرمز، قطبا الكون، يحضنان طفلا، شاهدًا على تجدّد الحياة، في مدينة محاصرة بالموت، يبحثان عن مأوىً، عن خلاص ما، في حرب مجنونة، هي وجه لجنون العالم، وعبثيّة الكون.

وإذ يدخل الراوي في "بيروت" التسعينيّات، تبدو له غريبة، وقد نضت عنها ثوب الستينيات الزاهيَ الغابر، ولبست حداد الزمن الغادر، يسلّط عليها عينه "الكاميرا"، في حركة "بانوراميّة"، يقلّبها من زوايا مختلفة، يرصد بؤس المكان، وتقاسيمه القاتمة، يتتبّع حركةَ الحياة في الشوارع والأحياء، يرسم شخصيّاتٍ واهنةً، مرميةً في الانتظار، يرسم المشهدَ جاهزًا، بحرفيّةِ "نجيب محفوظ"، ودَفق مشاعرِ" فيكتورهيجو "، وفي هذا السياق، تذهلنا دقّة الوصف، واحترافٌ في الصياغة اللغوية.

والمدينةُ الخارجة ُمن الحرب، المتحوّلةُ بؤراّ آمنة أو محظورة، ترمي الكاتبَ في أسىً مريع ، فهي صريعةٌ، نازفةٌ، مرميّةٌ في بؤرة توتّر هذا الشرق الجريح، يزحم "سطحَها عمال،ٌ لبنانيون وأجانب، في حياكة مشهدٍ جديد، لوسط المدينة المجهول. " ألم يشبعهم استنزافُ أوصالها؟ لمَ يشقّون بطنها ؟ ماذا يريدون من مدينة" أغمضت أجفانها لآماد طويلة، واسدلت في باطنها على روائح وذكرياتٍ، وحركةٍ أودعها أصحابها في مكان آخر "، فالسكّانُ الناجون من أتون الحرب، يعرضون بيوتهم للبيع بداعي السفر، لتفرغ الأماكنُ من أهلها.  وإذ تزحمُه الرؤى، تكشف له "بيروت"  كلّ يوم وجهًا، ينزف وجعًا حادًّا، يرنّح كائنات ٍ طالعةً من زوايا المدينة، وخبايا الذاكرة، فينضو عن كلماته رداءَ كلاسيكيةٍ موروثة، تسربل بها في مطلع الرواية، ليلاقيَ مدينته بأناقة العاشق، وسرعان ما تنحسر كلاسيكية التعبير، تنحاز بسلاسة إلى التبئير، وكأن ّ الراوي ينوء بأُثقال شخصيّاته ومعاناتها، فيطلق لها العنان، لتعبر، بنفسها، عن نفسها، فيتوه في مسرحها وأشكالها، وكأنه"بيراندللو"، في مسرح داخل المسرح، إزاءه شخصيّات،تصرخ به :اكتبني،احملنيعبر سطورك إلى الخلود، فالفنّهو المبرّرالأزليّ للكون والوجود.

 يستجيب الأديب، بكلّ طواعيّة، إلى نداء شخوصه، ينغرس في معاناتهم، يسقط معهم في بؤرهم، وحين نتساءل أين الراوي؟ أيّ معالمَ حسرت حضورَه؟، نجده متسربلاً الشخصيّة المخلوقة، فإذا هو الخالقُ الفنيّ والمخلوق معًا. وذلك حلول صوفيّ، ففي قمّة الوجد، يتّحد الراوي بشخوصه، حتّى الذوبان، فتارة هو ظلّه، ظلّ "رنا"، المرأةِ الخارجةِ من غربتها، إلى غربة جديدة،  وطورًا هو "نعمان" يفتّش عن نعمة العيش في "بيروت" الأنثى"، "عشتار" التي تستهوي الغزاة َالطامعين، وظلالَ الوافدين، تسلّط عليهم سحرها، ليذوبوا فيها عشقًا، ويفيؤوا إلى حضنها هانئين. ولكن، هل ينعم "نعمان" بنعيم "بيروت "؟ هذا الهارب من فردوس الضواحي، إلى قلب المدينة، ها هي تفتح عليه أبواب جحيمها، فيتداعى سقف البيت الذي يأويه، لينجوَ بأعجوبة مع عائلته الصغيرة، لكنّه يغرق في الديون، لشراء شقّة تأويه، لذا يبحث عن عمل إضافيّ، وهكذا ينقلب معلّم اللغة، وأستاذ التاريخ، حفارًا في المدينة، يفقد لغته وأدواتِها، ويغيب في دهاليز الأسرار، يسقط لعبة، في يد مافيا عالميّة، لسرقة الاثار،يُنصّبُ كاهنًا في أحد معابدها،يستطلع وجوه آلهة قديمة، يغيب في الرؤى، يسكنه الخرس، يلتقي وجوهًا، وشخصيّاتٍ تجرّه وراءها، في رحلات عبثيّة، لينتهيَ طريح سجن مظلم، فيما أسياده يتنعمون بعرقه، حيث لا ترصدهم عين، ولا تطالهم كاميرا، فينحبس مثل "غودو" في الانتظار، يترقّب خلاصاً، ويحلم بعشتار: كوكبِ المدائنِ، ودرّة ِالشرق!...

حين نغوص في شخصيّات الرواية، تبرز المدينة الشخصيّة الرئيس، يأتلف حولها أناس هم جزء من حركتها، ونبض إيقاعها، تتشابك بينهم علاقاتٌ ووشائجُ لا تفكّ عراها، فالوجوه متداخلة، تشكل لوحة سورياليّة، برسم فنان وهميّ، يعبث بالمدينة وأهلها، يرميهم في أقدار مأسويّة، فها هو عالم الآثار الذي كرّس عمره لكنوز المدينة، وأمجادها الدفينة، يفقد كنزه الوحيد، ابنه "ماجد" في الحرب، ليسترجعه بعد أعوام، بعمليّة مقايضة، شكّلت مفارقة غريبة، دفع فيها تمثاله النفيس، ثمنًا لحياة ابنه، وتسقطه الخيبة ُإذ يجده كهلًا مصاباً بالفُصام. وكأنّ الفصامَ قدرٌ، يلاحق المدينة وأهلها، يشطروجهها نصفين، ويسِمُ أناسَها بلعنة مأسويّة، مثل "ياسمين": المرأةِ العابقة ِبشهوة بيضاء، تندفع في مغامرات خفيّة، وحين يؤرّقها الضمير، ترعى زوجها المشلول، بتفان غريب، وكأنّها طائر مذبوح، يرقص على حدّ السكّين، بين شهوةٍ متفلته، وضمير صارم، تتأرجح بين الأنا السفلى وغرائزِها، وأنا الجماعة المعتادة  تأليه البعل وسر الزواج. ويأتي صراع "ياسمين"، بين الإثم والنقاء ، صدى ًلتوثّب الحياة، في وجه موت عبثيّ، مجّانيّ، يجول في الأرجاء.

 ومن الفصام إلى العنف، الذي يطال أبرياء المدينة، وكائناتِها، فحتى زهرة " البيغونيا" ، لم تسلم من اعتداء على حقّها في الحياة، طالتها يد غادرة، أمعنت فيها تشويهًا، أفرغت مكبوتاً من حقد غامض، ترى؟ هل كان انكسار تلك النبتة الطفلة إرهاصاً لعنف مكبوت، عرّش بطيئاً في النفوس، لينفجر، فيما بعد، بأشكال مريعة، مازالت تلاحقنا، وتشكّل خبزنا اليوميّ.

          وتتنوّع أشكال العنف، تترك خلفها أجنحة متكسّرة، ووجوها غائبة، مثل "موريس" ابن البلد، أبا عن جدّ، الوارث الشرعيّ للمطارح والأرض، ضاقت به الأحوال، فتحوّل لقمة سائغة بيد سماسرة، شرشّوا في الحرب، فاضُطرّ إلى بيع عقار يملكه. اشترى شقّة فخمة، أغرَوه بها، لم تطعه قدماه لولوجها، بل انكفأ على سريرعتيق، في صالون،يمتهن فيه الحلاقة، لينطفئَ بصمت. ويأتي موته البائس رمزًا لتشبّث المرء بالأرض، الذاكرة، الأصالة، مرتع الصبا، وكلّ نفيس من أحلام وآمال، لا يعادلها أغلى الكنوز.

توقّف توقيت أبناء الارض، وعرّش بدلا منهم أسمنت جامد. هذه الأبراج المتعالية، تتحدّى المدى والروح، هل تردّ الروح؟ أم تخنق المدينة ازدحامًا ولوثة قاتلة؟.

انتهت الحرب، ورُمي بالناس إلى أقدار جديدة، سلمت أرواحهم، وابتدأ نزف أرزاقهم، وجيوبهم .

هذه الروايةَ تغرق القارئ في التأمّل، في قلق، وحزن شفيف، فالسطور تفور بشخوص بشر، حملوا معاناتهم، طووا ظلالهم في غياهب النسيان. لم تحمل ريح أنينهم، ولم يحفظ فضاء صورهم. وحدها ذاكرة الأديب تسجّل معاناتهم، تخط عذاباتِهم المرسومةَ في ظلال الشوارع، تدوّنها في خارطة الزمن، بحروف من جراح.

       لقد حفر "حفار المدينة"، يومياتِ أناس بسطاءَ، طحنتهم "بيروت " في الحرب والسلم،  جاءت تؤرّخ معاناةَ الإنسانِ في حرب مشؤومة،ففي الحروب، ينهزم دائما الضعفاء، نُنعم عليهم بلقب شهداء، بينما يكتب التاريخَ الأقوياء، يسجلون فيه أرقامًا ومصالح . ولكن!... ليتنا نحيا إلى زمنٍ، يكتب التاريخَ فيه أدباء، عسى أن تخط ّالحضارة ُفي سجلّها وجهًا من وجوه إنسان، يحيا بفرح ، وإباء، وأمان...

 

                                                                             عشتم , عاش الأدب. عاش لبنان

  

                                                                                   د. سوزان عكّاري

 

 

 

______________________________

أنطوان أبو زيد

 

                         الرواية بين السيرة  والتأويل الممكن      

 

بداية ، لا بدّ لنا من أن نشكر الحركة الثقافية –إنطلياس لإتاحتها  لنا  هذه  الفرصة  من  أجل أن نقدّم لعملنا

الروائي الثاني ، بعد "المشاء" الذي صدر منذ تسعة عشر عاما ، وبعد المجموعة القصصية "زهرة المانغو"

التي مضى على صدورها خمس سنوات .بل إنها فرصة عزّ نظيرها ، يباشرها القائمون على الحركة ،يقينا

منهم أنّ الثقافة والأدب مأزومان في بلادنا ،ليس من نفسيهما وإنما  بسبب  مآل  الثقافة  والأدب   ووزنهما

المتضائل في عيون الناس المتقهقرة أوضاعهم حتى قاب قوسين من الزوال .

  لن أجادل الزميلات الدكاترة :د.جيهان فغالي ومايا بطرس قزعور ود.سوزان عكاري في ما طرحته  كل

منهنّ من زاويتها الاكاديمية والجمالية مشكورات ، وإنما أحاول ، في ما تيسّر لي ، أن  أحكي  عن مغامرة

الكتابة الروائية ، الحديثة نسبيا لدي ، من "منظور زمني تتصف به خبرتي الحياتية " على حدّ  تعبير  بول

ريكور .(Paul Ricoeur)

  إنّ من يقرأ الرواية ، ولا سيما الفصل الأول منه ،قد يخرج باستنتاج أنّ  من يتولى  وصف  الأمكنة  في

الرواية والتي تشكّل مسرح الأحداث فيها ،كان قد خبرها وعاش فيها زمنا ، واستطلعها بأم عينيه ، ومشى

في دروبها ، وقضّى زمنًا لا بأس به في أزقتها ، وصعد أدراجها  الطويلة ،ووقف على تفاصيل  انخراطها

في مسار إعادة إعمار  بيروت (أوائل تسعينيات القرن الفائت )المخالف روح  المدينة  وأصالتها   ورحابة

استقبالها النازلين فيها طارئين كانوا أو أصيلين .

 نعم .أقرّ بأنني أقمتُ في منطقة الجمّيزة ، قريبا من العاصمة بيروت ، وعائلتي الصغيرة آنذاك ، وعشنا

زمن ورشة الإعمار واضطراب سبله وخططه في ما شهدناه ، قريبا من منزلنا المستأجر القائم غير بعيد

عن الشارع العام من حيث يفد العمال وآلات الصبّ ورجال الدفاع المدني والإسعاف وهم يهرعون ، في

مواكبهم المسرعة الى وسط المدينة ، وتتلاشى زعقات سياراتهم هناك ولا نعود نعرف  شيئا عما يحدث

هناك .

 ما عدا ذلك من قبيل ملء الفراغ المجهول من قبلي . في ما أقمنا ، لم نرَ حفّارة واحدة ، ولا حفّارين ، ولم

نسمع حكاية عن سرقة تماثيل مما يكون العمال ، في ذلك الوسط ، قد وجدوه  وخبّأوه لديهم ،وتاجروا   بها

فصارت ربحا لهم صافيا وبالعملة الصعبة .وإنما الحبكة القصصية ،في مسار صدقيّتها شبه الواقعية ،شاءت

ذلك ، واختارت ،بعد سنتين من مباشرة الكتابة بها ،أن يزاوج نعمان بين عمله  التعليمي (في مادة التاريخ)

وبين انضوائه في سلك الحفر ، بالمدينة قيد الإعمار ، إلى جانب  عبدالله مديره  المباشر  في  المحفار 32.

وبالطبع ، شاء المنطق والخيال الروائي أن يكون الأمر كذلك ، وأن تتكشّف الأحداث عن وقوع نعمان  في

أسر عشتار ، المستخلصة من باطن بيروت أواخر القرن  العشرين ،يرسّخه   هوى  غير  واع  بها ،مثلما

تتكشّف عن مسار نهب لباطن المدينة القديم وما يمثّله من استهانة  بالتراث  والقيَم   وبالميراث    الهندسي

والحضاري يوازيه توحّش في التعمير ، على حساب   روح مدينية   متوازنة  وتنظيم  مدُنيّ سليم يفترض

أنه كان قائما قبل الحرب الأهلية ،وقد أماتته  السمسرات وأنواع   الفساد  الضاربة   جذورها   في   كيان

المؤسسات ، عامها وخاصّها .

ومع ذلك أراني الآن ، في ما أعرّف بالرواية "الحفار والمدينة" ،أحرّف مسار قراءتها وأطرح  تأويلا آخر

قد يكون مخالفا لتأويلات عشرات القراء بل المئات ، ممن يذهبون في تفسير وقائعها مذاهب  شتى   توافق

أومبرتو إيكو . (Umberto eco)مداركهم ومعارفهم الموسوعية بحسب الناقد  والفيلسوف

حسب الرواية أنها أثثت لعالم قابل للصدقية ،وقابل للتأويل والاعتبار والنقد   والبحث ، في ما كانت ترسمه

من أحداث وشخصيات وعناوين لطروحات راهنة في أوانها ،أي تسعينيات القرن الماضي ،ويمكن أن تكون

لها تداعيات في الزمن الآتي .

وحسبي أنّ جمهورًا بهذا الحب والامانة للإبداع والثقافة لن تخيب تطلعاته ، ولن تخبو نار التقدّم في صدور

أبنائه وبناته ،وشبابه وشيبه على السواء .

وشكرا .

 

أنطوان أبوزيد .