جدلية الجغرافيا والسياسة

كلمة د. عماد هاشم

لا بد أن يفكر رجل الشارع جغرافياً وأن يفكر الساسة جيوبوليتيكياً».


شعار رفعه الكثير من الجغرافيين في فترة شهدت انهيارات لكبرى دول العالم، فما هو مفهوم الجيوبوليتيك؟ ما هي نظرياته؟ وما أهمية الجغرافية في الحروب؟ وما معنى مصطلح الجيوبوليتيك المتداول اليوم كمخطط لاستراتيجات دول تريد السيطرة على الجغرافية والثروات.

الجيوبوليتيك«Geopolitics» هو علم دراسة تأثير الأرض برها وبحرها وثرواتها وموقعها على السياسة في مقابل مسعى السياسة للاستفادة من هذه المميزات، أي السياسة المتعلقة بالسيطرة على الأرض وبسط نفوذ الدولة في أي مكان تستطيع الوصول إليه، إذ أن النظرة الجيوسياسية لدى دولة ما تتعلق بقدرتها على أن تكون لاعباً فعّالاً في أوسع مساحة ممكنة من الكرة الأرضية.

يعرفنا الكتاب على أهم الجغرافيين الذين تناولوا الجغرافيا السياسية في القرنيين الاخيرين، وعن الجدلية السياسية والفكرية القومية والوطنية في تجربتي انطون سعادة وجمال حمدان.

في راتزل

مدارس الجيوبولتيك ونظريه القوة البرية والانطلاقة الحقيقية لهذا العلم تعود إلى الألماني «فردريك راتزل» 1844-1904 وهو أول مؤلف في الجيوبوليتيكا لكتاب يحمل عنوان «الجغرافيا السياسية» في عام 1897 وهو أول من درس وعالج المكان والموقع معالجة منسقة، ووازن بين الدول وأكد على وجود روابط قوية بين القوى القارية والقوى السياسية، ورأى أن هناك سبع قوانين للتوسع الاقليمي، واكد أنّ تاريخ العالم ستتحكم فيه الدول الكبيرة المساحه كروسيا في أوراسيا والولايات المتحدة في أميركا الشمالية. وقد شهد القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين تطوراً كبيراً لهذا العلم سواء على المستوى النظري أوعلى مستوى تأثيره في صياغة التوجهات الاستراتيجية الكبرى للدول، وصعِدت الجيوبوليتيك إلى مصاف العلوم الكبرى خلال الحرب العالمية الثانية ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا صار يُنظر إلى الجيوبوليتيك على أنه مثال للتوظيف الخاطئ للجغرافيا في السياسة، وبلغ هذا الإشكال مبلغاً كبيراً عندما أخذ ينظر إليه باعتباره علما زائفا وحاملا لأيديولوجيا عدائية فقامت الكثير من الدول بمنع تدريس الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك في جامعاتها باعتبارهما علمين مشبوهين يسعيان إلى تكريس الأطماع القومية، واستمر الحال على هذا المنوال حتى تسعينات القرن الماضي عندما لاحت مؤشرات الانهيار الكبير للدولة «السوبر عملاقة» الاتحاد السوفياتي لنعود ونشهد الولادة الجديدة لمقولات الجيوبوليتيك، ذلك أنّ انهيار كلّ المحددات الأيديولوجية والسياسية التي قام على أساسها النظام العالمي ثنائي القطبية بعد الحرب العالمية الثانية، دفع الباحثين في محاولاتهم تلمّس شكل النظام الجديد المرتقب إلى أكثر العوامل ثباتاً وديمومةً في صنع الكتل السياسية الكبرى، ألا وهي الجغرافيا، فعادت إلى الظهور مقولات الجيوبوليتيكا وظهرت في المكتبات مؤلفات كلاسيكية ودراسات حديثة تسعى إلى قراءة التحولات الكونية الكبرى من منظور جيوبوليتكي.

 حسب الدكتور معين في كتابه : جدلية الجغرافيا والسياسة ان راتزل يرى في الدولة كائنا حيا تدفعه الضرورة للنمو عن طريق الحصول على الأعضاء التي تعوزه، حتى ولو دفعه هذا إلى استخدام القوة، وهذا الرأي هو نظرة بيولوجية بحتة للدولة.

ولقد كان راتزل يكتب في أواخر القرن الماضي متأثرا بالجو العلمي العام المشحون بكل ثقل النظرية التطورية في العلوم الطبيعية، ولهذا نراه ينظر إلى الجغرافيا السياسية على أنها فرع من فروع العلوم الطبيعية، ونراه يؤسس فكرة المكان على أنها عنصر مؤثر ومتأثر في ذات الوقت بالصفات السياسية للجماعة أو الجماعات التي تسكن المكان، وأما الموقع فإنه يراه العنصر الذي يلون المكان بصبغة تجعله دائم الاختلاف عن غيره من الأماكن، ومن ثم يصبغ الدولة بصبغة مغايرة لغيرها من الدول.

وقد أعطى راتزل للحدود السياسية أهمية خاصة معتبرا إياها العضو الخارجي للدولة (كالجلد بالنسبة لجسم الاحياء)، وهي بذلك تعطي للباحث الدليل على مراحل نمو الدولة أو ذبولها وقوتها او ضعفها.

إن هدف الجغرافيا السياسية عند راتزل هو شرح وتصوير الدولة على أنها كينونة حية مرتبطة بالأرض، وعلى أنها جهاز متغير مع حركة التاريخ، وهكذا فإن المكان والموقع والتغيرات التي تطرأ على الشكل السياسي للمكان هي في نظر راتزل عوامل أساسية جوهرية، بينما يقف العامل البشري الذي يتمثل في صورة الشعوب في خلفية الصورة، وهذا ما ما لم يتقبله دوركايم التي تنطبق رؤويته من أن الفاعلية الاجتماعية هي من صلب الاجتماع البشري.

في هذا الاطار يرى الدكتور معين بأن راتزلكان قومياً ألمانياً ساهم هلى نحو فعال في تنشيط حركة جرمانيا الكبرى ، والتي دعيت أيضاً بالجامعة الجرمانية. فهل هناك علاقة ما بين قومية راتزل الجرمانية وقومية سعادة السورية؟

في فيدال لابلاش

نشأت في وقت لاحق مدرسة جغرافية في فرنسا، لا تسلم بحتمية البيئة او المكان، ولا بطغيانها القاسي على الانسان والمجتمع، ولكنها تعترف بالحرية الانسانية، وتعطي للظروف البشرية والاجتماعية أهميتها في الاستجابة للظروف البيئية. وتعرف هذه المدرسة بالمدرسة الإمكانية Possibilism.

    مؤسس هذه المدرسة هو فيدال دى لابلاش Pual Vidal De la Blacheالذي وجه اهتمامه إلى الجغرافيا، بعد أن أعد نفسه ليكون مؤرخا عام 1927، وقد بدأ بدراسة آثار همبولت وريتر وراتزل، ثم بدأ إصدار مجموعات حوليات جغرافية منذ عام 1891 وأشرف على إخراج جيل من الجغرافيين في مدرسة المعلمين العليا ثم جامعة السوربون.

فالبيئة لم تعد مظهراً طبيعياً ،بل مظهر إنساني وهذا المظهر هو في الواقع المظهر الجغرافي، ولذلك يجب دراسته على أساس تاريخي، أي دراسة تطور هذا المظهر من حالته الطبيعية إلى حالته الإنسانية، وتحليل جهود الإنسان في علاقاته مع البيئة خلال التاريخ حتى انتهائها إلى المظهر الجغرافي الحالي.

الدكتور معين بحث التحديات التي واجهت الجغارفيا الفيدالية، حيث حل الانقسام عملياً بين الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية ، وظهرت في الربع الاخير من القرن العشرين محاولات تجديدية معرفية تسعى الى مجاوزة مناهج فيدال دو لابلاش ومنها دعوته الى اجتناب البعد السياسي في الجغرافيا.

فلماذا تحميل دو لابلاش مسؤولية الازمة المعرفية التي وصلت اليها الجغرافيا ؟ الامر الذي ادى إلى التقليل من القيمة الجغرافية العلمية من جهة وكميدان للبحث العلمي من جهة أخرى ، ألا يرجع ذلك الى الأزمة التي وقعت بها الجغرافيا ذاتها كعلم تنوعت فروعه ومناهجه وتداخلت مع العلوم الاخرى ، مما يعني أن الجغرافيا ذاتها كانت في مأزق ! مما برر بروز ناشطين في فرنسا تدعو إلى تغيير اسم الجغرافيا واستبداله بمسمة آخر (كورولوجيا).

وكيف يرى الدكتور معين في ما قاله لاكوست عام 1976 في كتابه : la geographie ca sert d’abord a faire la guerre.وكيف بدل موقفه من فيدال دو لابلاش بعد اكتشافه عن الوجه السياسي والجيوبوليتيكي لفيدال في مسألة شرق فرنسا : اللورين وألزاس الغنيتين بالفحم والحديد المتنازع عليها في حينه مع ألمانيا ابان الحرب العالمية الاولى .

 وكيف قدم دو لابلاش العون للعسكريين الفرنسيين في المستعمرات حيث قام تعاون بين الجغرافيا العسكرية وبين الجغرافيا الاكاديمية بالرغم من إصرار الفيداليين على الإبتعاد عن الشؤون السياسية؟

 

في انطوان سعادة

“ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟” صرخة داخلية أطلقها الطفل أنطون سعادة منذ ما يقارب القرن من الزمن، كانت البلاد حينها تعيش مرحلة من التخبط والبلبلة التي أحدثتها الحرب العالمية الأولى، لينتقل على إثرها المشرق العربي من حضن الرجل المريض (الدولة العثمانية) إلى أحضان دول التنافس الاستعماري الأوروبية المتمثلة في بريطانيا وفرنسا وقتذاك.

ومنذ ذلك السؤال بدأ سعادة بالتفكير لإيجاد مخرج من حالة الضياع تلك ليهتدي إلى فكرة الأمة السورية التي أعلن عنها لحظة ميلاد حزبه في العام 1932 في بلده لبنان، خلص من خلال تلك الفكرة إلى أن السوريين هم شعب بحد ذاته له مقومات “المتّحد الأتم” تاريخياً وجغرافياً وإثنيا وليسوا قبائل وجماعات تتبع إلى الدولة الفلانية والإمبراطورية العلانية.

 

وضع أنطون سعادة خلاصة أفكاره في مؤلَّفه الذي عنونه بدايةً “نشوء الأمة السورية” ثم أضاف إليه ليغدو أكثر شمولية في “نشوء الأمم” في الوقت الذي لم تتبلور فيه بعد مفاهيم الأمة والقومية في المشرق العربي، توصل ذلك الشاب إلى الكشف عن مقومات الأمة ووضع لها المبادئ والأسس التي تستند عليها لقيامها وما بعد قيامها لتتتالى في السنوات اللاحقة ولادة معظم الأحزاب والأيديولوجيات القائمة على الأساس القومي في المنطقة كحزب الكتائب اللبناني والبعث والعربي الاشتراكي والقومي العربي.

يذهب أنطون سعاده في تمهيده للبحث حول الأمة في كتابه "نشوء الأمم" إلى إضفاء الصبغة الجغرافية على مهمة تحديد مفهوم الأمة، فليس هذا التحديد بعرفه ترفاً فكرياً أو صراعاً فلسفياً أو اجتماعياً خالياً من المعنى أو الأثر المباشر في حياة الأمة.

فهل انطوان سعادة جغرافي ، ام هو قومي استمد دائم تمته وجودها من الجغرافيا ؟

هناك عنوان ذي أهمية قصوى في تحديد مفهوم الأمة من منظور سعاده، وهو الإقليم أو البيئة الجغرافية الواحدة. وحريّ بنا الإشارة الى أن هذا المحدد كان محوراً لأخذ ورد لدى كثيرين ممن تناولوا فكر سعاده بالدراسة والتحليل، فذهب بعضهم الى كون سعاده يميل الى تصنيف عامل الجغرافية كعامل أولي فاعل ومؤثر في نشوء الأمم، بينما العوامل الأخرى ليست إلاّ عوامل ثانوية. وذهب آخرون إلى اتهامه بالمغالاة في التصور الجغرافي، لكن الحقيقة أن سعاده لا يقرّ للعنوان الجغرافي بالتأثير التام الأحدي في تأسيس الأمة. بل قد لا نجانب الصواب لو زعمنا أن كل تفسير يحصر مقاربة سعاده لمفهوم الأمة بالعامل الجغرافي وحده تعوزه الدقة. وفي الوقت الذي يسعى هو لتكييف الأرض لتوافق حاجاته الحيوية، يجد نفسه مضطرا لتكييف حاجاته حسب خصائص الأرض النازل فيها".

فكيف يفسر الدكتور معين ما أوصى به سعادة وبين التعديل الذي اجراه على تعيين الاراضي السورية جاعلاً من العراق جزءاً لا يتجزأ منها مضيفاً إليها جزيرة قبرص ؟

ننطلق من هنا لنعالج النقطة الثانية في مقاربته العامل الجغرافي والمتمثلة بعبارته "الأرض تقدم المادة، حقل الصراع والعمل، أما الإنسان فيقدم الروح"، نسأل أين الروح للإنسان مع فقدان المادة وحقل الصراع والعمل؟ إنه ما وعاه سعاده في قوله:"الحقيقة أنه ليس للأمة كيان إلاّ في وطنها. بل كثيراً ما يكون المحيط أو الوطن العامل الاساسي في إكساب الأمة صفة معلومة تميزها عن غيرها. ولولا الأرض وطبيعتها وجغرافيتها لما كان هناك وجود لأمم كثيرة". فكيف يمكن تفسير ذلك وربطها بالمفهوم القومي-الجغرافي لسعادة ؟

بعد أن رأينا الحدود الطبيعية التي تكون وطناً لشعب -لأمة ودولة- في حدود الوطن السوري التي هي من أشد الحدود وضوحاً وقوة في العالم، قد يخطر للبعض أن يسألوا سؤالاً سياسياً هو: هل تحدد الحدود الطبيعية الأمم فتلزم كل أمة حدود وطنها؟

فتعديل الحدود سياسياً أمر متعلق بمقدرة الأمة وحيويتها. فإذا كانت الأمة مقتدرة، زاخرة بالحيوية، وكانت حيويتها واقتدارها أقوى من الموانع تمكنت من أن تتجاوز حدود بيئتها الطبيعية الأصلية. وبالعكس إذا كانت حيوية الأمة ناقصة وقوتها في تقلص، فالأمة في هذه الحالة، تتراجع عن حدود وطنها الطبيعية أمام ضغط الأمم المجاورة التي تطغى على حدودها. وقد عرفت بلادنا المد والجزر كليهما في حدودها السياسية.

وهنا ايضاً السؤال للدكتور معين حول علاقة انطون سعادة وعقيدته القومية بفكر فيدال دو لابلاش، فكيف يمكن لسعادة ان ينظر الان الى الوطن السوري وجماعاته المختلفة ولغاته وأديانه المتنوعة وكيف يمكنه الان، اي في القرن 21،  الحديث عن أمة متجانسة في بيئتها الطبيعية التي تؤلف الأمة-الدولة ؟

وكيف يفسر الدكتور معين العلاقة بين الجويبليتيك والجغرافيا السياسية والدولة – الأمة من وجهة نظر أنطون سعادة ؟

 

في جمال حمدان

لم تظلم مصر إبنا من أبناءها مثلما همشت وتجاهلت ونحت جانبا أفضل مفكريها خلال القرن الماضي الدكتور جمال حمدان (4 فبراير 1928م ـ 17 أبريل 1993م).

لجمال حمدان موسوعة من أربعة اجزاء بعنوان ((شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان )) والذى نشر لأول مرة ككتاب عام 1967 ثم تحول إلى موسوعة في أربعة مجلدات لا تخص الجغرفيا وحدها، وإنما قراءة لماضي البلاد ومستقبلها ، لم تكن الجغرافيا هم “حمدان” الوحيد، لكنه أراد أن يجعل منها مركزًا لكل العلوم، فكان لكل وادٍ عنده نظرية، ولكل بحر دلالة وأهمية، ليصيغ من خلال ذلك نظرية استراتيجية كاملة في عبقرية المكان، ويحلل من خلال تلك النظرية التاريخ والحاضر والمستقبل.

 

إن المهتمين بفكره صبوا جهدهم على شرح وتوضيح عبقريته الجغرافية، متجاهلين في ذلك ألمع ما في فكر “حمدان”، وهو قدرته على التفكير الاستراتيجي، حيث لم تكن الجغرافيا لديه إلا رؤية استراتيجية متكاملة للمقومات الكلية لكل تكوين جغرافي وبشرى وحضاري ورؤية للتكوينات وعوامل قوتها وضعفها، وهو لم يتوقف عند تحليل الأحداث الآنية أو الظواهر الجزئية، وإنما سعى إلى وضعها في سياق أعم وأشمل وذي بعد مستقبلي أيضًا.

وفيما يتعلق بنظرته إلى علم الجغرافيا، نجد أنه شكل بمفرده مدرسة مزج فيها بطريقة غير مسبوقة ما بين علم الجغرافيا الذي لا يتعدى مفهومه لدى البعض نطاق الموقع والتضاريس، وعلوم التاريخ والاقتصاد والسياسة، ليخرج لنا مكون جديد أسماه “جغرافيا الحياة”.

الا يمكن ان نقول ان ازمة الجغرافيا هي التي دفعت بجمال حمدان للتمسك بالجغرافية الكلاسيكية ؟ وصولا الى الجغرافيا العلوية التجاوزية .

وما علاقة حمدان بالقومية ، وهلى سعى حمدان الى قومية مصرية بمواجهة القومية العربية او القوميات الاخرى كقومية سعادة ؟

وفي تصوره للهوية المصرية يؤكد حمدان نظرية «الأبعاد الأربعة»، ويقسّمُها إلى: أبعاد غير مادية مُكتسبة تتمثل في كل من: العروبة (بعد ثقافي_)، والإسلام (بعد ديني/ حضاري)، وأبعاد جغرافية طبيعية: كالأفريقية، والأورومتوسطية. ويخلص بعد استعراضها جميعاً إلى القول: «أن تكون مصـرياً فهذا يعني في الواقع (اجتماع) شيئين في الوقت الواحد: الأرض والشعب، الوطن والقومية. فالمصرية للمصري هي قاعدة الأساس، وقاعدة الارتكاز، وهي قاعدة مركَّبة من عنصرين ، ولها أبعاد خارجية أكثر اتساعاً: أبعاد جغرافية طبيعية بحتة؛ أي إقليمية من صنع المكان والطبيعة، وأبعاد مكانية باختصار، ثم أبعاد بشرية».
 


لكل بلاد الدنيا جغرافيا جيولوجية؛ أو تضاريس طبيعية وجيولوجية بحتة تتعلق بطبيعة الأرض وسماتها التي تضمها حدودها الجغرافية، ولكن ليس لكل بلاد الدنيا جغرافيا سياسية أو تأثير مستمر ومتجدد على حدودها يرتبط بسياستها ومشروعها وهويتها كأمة.

وهناك علاقة جدلية دائما بين الحضارة وازدهارها وبين الجغرافيا السياسية، فكلما تذكرت أمة ما مشروعها واستعادت ذاكرتها الحضارية بحثت عن تأمين وجودها عبر تغيير حدودها الجغرافية، لتتفق مع حدودها الحضارية ومشروعها السياسي وليس مع حدودها الطبيعية. ويصح القول كذلك بأن الأمم كلما أفلت كلما تراجعت علاقتها بالجغرافيا السياسية، وأسقطت دروعها ولم تهتم بالبحث عن التمدد الجغرافي سعيا وراء الموانع الطبيعية أو سعيا لتشكيل حاضنة في رقعة من الأرض، لتجمع ما تشتت على أحد مستويات الهوية سواء: العرق، أو الدين، أو اللغة، أو الموروث التاريخي المشترك!

وحين يتراجع وجود الجغرافيا السياسية في أمة ما، ويحضر بدلا منها الجغرافيا الجيولوجية أو الطبيعية، فإن ذلك عادة ما يكون لحساب صعود أمة أخرى (أو وكيل لأمة أو حضارة أخرى)، تشغل هي حيز الجغرافيا السياسية وتبسط نفوذها على موانعه الطبيعية ومفاصله وشرايينه الرئيسية، فالحضارات دائما في حالة تدافع ولابد من سيادة أحدها وتراجع الآخرين.

المنطقة العربية تشهد عودة الجغرافيا السياسية وحضورها في المشهد بقوة، ولكن ليس لصالح مكونات الهوية العربية لتعيد صف وبناء المنطقة، وإنما لصالح الآخر الغربي الذى نجح في إدارة التناقضات العربية بتفوق بين فرق الدين السياسي وبين القوميين، وهو التناقض الكامن خلف كل لحظة مفصلية وحروبها منذ 2011 وحتى الآن.

وما يجري في العراق وخاصة في سوريا من تفكك للجغرافيا الطبيعية بدون اي تموضع للجغرافيا السياسية، فنفقد الجغرافيتين. كما أن فقدان شعب المنطقة لوعيه بذاته وبمكونات هويته التاريخية ومحدداته، وكيف ينهض ويقوم، ربما سيؤسس فيما بعد لعودة عقيدة الجغرافيا السياسية بقوة رافضة دعاوي الجغرافيا الجيولوجية، وهو الشعور بامتلاك أسباب النهضة ومكوناتها والوعي بها، وفي الوقت نفسه عدم قدرته على تحقيق ذلك، ازدياد الشعور "بعدم التوازن المكاني" بين طموح الشارع العربي ووعيه بذاته، وواقعه الأليم الآفل، قد يؤدي لحدوث صدامات وانتفاضات بقوة غير متوقعة.

شعورنا بعقيدة الجغرافيا السياسية وتراجعها باسم الجغرافيا الجيولوجية، سيظل جرحا غائرا في الوعي واللاوعي، لن يندمل مع الأيام وقد يتحول هذا الشعور  لأشكال صادمة من الرفض، الآجل أو العاجل.. بحثا عن استعادة الذات العربية وقيامتها مجددا، وبسطها ليدها على كل الموانع والشرايين الجغرافية الحاكمة والضامنة لمكونات هويتها وحضارتها وسيطرتها على مقدراتها.

السؤال الاخير : ما الذي يجمع بين راتزل وبالاش وسعادة وحمدان ؟

هل تجمعهم الجغرافيا ؟ القومية ؟ او الجغرافيا السياسية ؟ او الجيوبوليتيكا ؟

__________________________________