ذكرى الدكتور منذر داغر

شاركت الحركة الثقافية انطلياس في احياء ذكرى الدكتور منذر داغر التي اقيمت في تنورين في 9 آب 2008 وقد القى الامين العام للحركة الدكتور انطوان سيف كلمة جاء فيها:

 

احتفاءً بذكرى د. منذر داغر

[ الكلمات التي القيت في دير الراهبات، تنورين الفوقا، عصر التاسع من آب 2008، احتفاء بذكرى الدكتور منذر داغر. وهي لكل من الدكتور دياب يونس، والاستاذ سامي يوسف، والاستاذ نعمة حرب، والدكتور انطوان سيف، والاستاذ حبيب معلوف، والمحامي كميل داغر. وقد قدّم للكلمات أعلاه الأستاذ أنطوان سركيس. وكان هذا التكريم بدعوة من الهيئات الاهلية في تنورين والحركة الثقافية - انطلياس]

كلمة الأستاذ أنطوان سركيس
كلمة الدكتور دياب يونس
كلمة الاستاذ سامي يوسف
كلمة الاستاذ نعمة حرب
كلمة د. انطوان سيف
كلمة الاستاذ حبيب معلوف
كلمة المحامي كميل داغر

  

تقديم المناسبة

كلمة الأستاذ أنطوان سركيس

نعتذر منك إذ نجتمع اليوم لتكريمك، وخشيتنا ألا تقبل اعتذارنا. نعتذر منك لأننا غافلناك لنطلق فيك أصواتنا حين خبا صوتك. نعتذر منك لأننا الأدرى بزهدك في آيات الثناء ومراسم التكريم التي ما انتظرتها يوما جزاء، ولا سعيت إليها إرضاء لزهوة.

لكن لا إخالك ترفض اعتذارنا منك حين نصارحك بأننا لم نجتمع اليوم من أجلك. اجتمعنا، باسمك، من أجلنا نحن. اجتماع ستباركه حتما حين تدرك أن الغاية هي أن نترجم بالكلام ما خططته أنت بالأفعال، وأن نخرج الى العلن بعض ما حال تواضعك الكبير دون الكشف عنه، ليترسخ فينا وفي أجيالنا المقبلة نهج ناضلت حياتك كلها لترسيخه فلا ينطفئ مع انطفاءة النفَس فيك.

لذا لا إخالك تأبى الحديث عن صفات لو سئلت لقلت انشروها فمن دونها لن تسود قضية ولن يستقيم سعي. فأنى لمن لم يكن عنيدا، عناد الإيمان والحق، أن يتبنى قضية؟ من دون هذا العناد تتراخى أهم القضايا وأشرفها وتبهت إذ تنزلق سريعا الى سوق التنازلات والمساومات. وأنى لمن لم يكن متواضعا، زاهدا في البريق الخادع، بريق المال والسلطة والجاه، بريق العرض دون الجوهر، أن يحصّن نفسه ضد الطمع الذي يشط بصاحبه الى حيث ينكر على نفسِه نفسَه حين يفيء إليها في لحظة صفاء ومكاشفة؟ وأنى لمن لم يغلّب الأفعال على الأقوال أن يصون صفاء الإقتناعات الراسخة من لطخة اللغو المداجي؟ وأنى لمن لم يكن دؤوبا متسلحا بالعزيمة التي لا تفتر وبالهمة التي لا تكل أن تطأ قدماه أرضا كل ما فيها ومَن يستصرخ ملهوفا؟

هذا بعض مما طفا فيك وهو أجلى من أن يحتاج منا الى شهادة بقدر ما يحتاج الى التزام، فهل ترانا نجرؤ على أن نكون بعضا مما كنته وكل فصل من فصوله يدعو الى التهيب؟

كنت متعددا في واحد. فانطلقت في كل اتجاه كأنما أنت في سباق دائم مع نفسك حين عزّ المتسابقون. تخطط وتصمم وتنتقل الى التنفيذ تسلم الأمانة لتنطلق الى سواها لإدراكك أن العمر لا ينتظر. رابطة تنورين الأدبية ومجلسها الأهلي ومحمية غابة أرزها الطبيعية وتجمّع أصدقائه، هذا اذا استثنينا خارجها وعلى رأسه الحركة الثقافية في انطلياس. أي منها لا يدين لك بفضل التأسيس؟

أيها الراحل الكبير أعطيت عمرك فجعلته قدوة. عاصفة جئت. لم تهدأ أو تهن أو تبدل الإتجاه. دواء ماء كهرباء صرخة أطلقتها وزملاء لك فشقت ظلمة صندوقة الإقتراع ولا يزال صداها يتردد حتى بعد خمسين عاما على إطلاقها لأنها ظلت الصرخة اليتيمة ولأن ما استدعاها لا يزال ماثلا بقسوته. لكن من يقتدي بك لا ييأس.

 

طوبى لمن يزرعون الشكوك

كلمة الدكتور دياب يونس

     من هم الصبيان والفتيان والشبان العشرينيون يتمردون في ستينيات القرن الماضي ويزرعون في تنورين الشكوك؟

          الى نادي الطيبين طوياتٍ ونياتٍ دعيتُ فلبيتُ وترأّستُ ودعوت منذر داغر فلبى ولبى سواه، فقدمنا نذورنا الاحتفالية على مذابح تنورين منشدين:

طوبى لكِ، يا اما مزّقَ احشاءها جُهّالهُا فجعلوها بطوناً واصلاباً وافخاذاً، وعوائل وقبائل ومنازل وعشائر ، ها نحن آتون نتوحد في مصاهر اتونك فلا يبقى فينا الا شغفنا بك، ولا نُبقي فيك الا مسارح عطاء وإخاء، ولا نقف من اجلك الا مواقف عز وفداء.

طوبى لك، ايتها الربة الكلية التسيُّد، يتقاسمك قاصرون شاؤوك مقصورة عليهم اقطاعاتٍ وولايات وايالات ومعاقل ومواقع فضمر الجذع وتورمت الاغصان، ها نحن مقبلون نطيح الفواصل والعوازل، ونستردك من ايدي غاصبيك والمشوِّهين، ونقتحم في سبلك المهالك والاهوال.

طوبى لك، يا حبيبة هوانُها صار هوانا، وصار التذاذُ فمنا ذكراها، وصارت خدمتها وعقيدتها صلاة الابانا، ها جئناك، نحن، تنورين، نجشم انفسنا مُتْلفاتٍ، ونرى انتحارنا كرمى لك افتخاراً. لا نظرة من عينك رمنا ، لا ابتسامة من ثغرك املنا، لا لقاء حميمياً ترجّينا، لا وصالاً من نار تشَّهينا. حبنا، وحده هو الحب. ما عداه تجارة وتجار. ما عداه وصال ووصوليون. ما عداه نزق ومنازقون، نفاق ومنافقون.

هنا اطل هؤلاء الصِّبيانُ والفتيان والشبان العشرينيون يتمردون في ستينيات القرن الماضي ويزرعون في تنورين الشكوك.

هنا اطللنا .

هنا اطل منذر داخر يحمل من الوعي الوطني الذي كنا نطلق انواره في الجامعة اللبنانية صرخةً وكلمة ومجلة ووقفة وتياراً عارماً، ومن معاناتنا التنورية التي صغناها رؤية وطريقاً والتزاماً، فكان، على الدوام، في مقدمة المناضلين رأياً حصيفا، وسجالا محتدما، ومذاكرة متبصرة، وقراراً جسوراً، وعملاً رسوليا، ومتابعة متواصلة، وانتظاماً في التزاماته والمواعيد دقيقاً، وتعففاً عن كل مطلب او مغنم ولو كان شهرة او ُشكورا.

فيا اهلنا الاحبة في تنورين،

حدثوا ابناءكم والبنات والاجيال عن صبي شلعت يديه صفيحة حديدية رقيقة يفرغ ما فيها ليفرش مع زملائه الصبيان والفتيان ملعب مدرسة تنورين بالاسمنت.

حدثوا ابناءكم والبنات والاجيال عن صبي استقدم ورفاقاً له مكانس وسلالاً من منازلهم ينظفون بها دروب تنورين وسويحاتها.

حدثوا ابناءكم وبناتكم والاجيال عن ناد اعضاؤه اغنياء بالكرامة ومحبة الخدمة يستجدون القرش الحجر ليبنوا للبلدة المعدمة مستوصفاً، ويستعطي ذلك الفتى الابي ورفاقه الاباة الحركةَ الاجتماعية وسواها ادوية يزودون بها المستوصف، ولو تحت الثلج، ولو سيراً على اقدامهم في تلك الشتاءات المعتمة.

حدثوا بناتكم والابناء والاجيال عن فتاكم منذر ورفاقه الابطال من جيل الستينيات يحاضرون عن الانسان التنوري الجديد، ويتحَدُّون من حظرهم من اعتلاء منبر باقامة مهرجان.

ذكروا ذراريكم بمدرسة صيفية مجانية ضمت نحواً من مائة وخمسين تلميذاً يأتونها من اقاصي مناطق تنورين وادانيها فيتعارفون ويتصادقون ويرشفون العلوم والآداب من افواه نخب من نادي تنورين ورابطتها الادبية، بمشاركة منذر داغر وبإدارته، وبما عاناه من رؤية بعض النافذين يحولون دون التحاق بعض الطلاب، او يستردون مفتاح المدرسة خلسة واحتيالا، فنسترجعه منهم بعد ساعات، او يطلقون بحق المدرسة والمشرفين عليها والمتعلمين فيها تخرصات واكاذيب.

ذكروا بناتكم والاجيال والابناء بصيام حتى الموت باشره العشرات من النادي والرابطة تحقيقاً لمطلب عزيز قديم هو انشاء مدرسة تكميلية، فألَّفوا قيادة مشتركة ولجنة قوامها منذر داغر ونعمة رعيدي وغسان مطر ودياب يونس مُهمّتُها اصدار البيانات واتخاذ القرارات. وقد تضاعفت مسؤولية منذر بعدما هويت تحت وطأة الصيام ونقلت الى مستشفى شاهين في اميون في حالة غيبوبة بما يشبه التشييع. وقد تسارعت الهيئات الرسمية في تلك الليلة الرهيبة كما في اليوم التالي لتدارك الامر، فحضر القائمقام ليلاً، وتفقد المحافظ البلدة، واولى وزير الداخلية ووزير التربية الوطنية القضية ما تستحق.

ذكروا، يا اهلنا الكرام في تنورين ان كنتم لا تزالون تذكرون، ذكَِّروا الابناء والاجيال والبنات بتصعيد النقمة والغضب في وجه اللامبالاة والبيلاطوسبنطية، في مناسبة انتخابات العام 1968 النيابية. عشية تلك الانتخابات ، اجتمعنا نادياً ورابطة، وقوَّمنا المرشحين ولا سيما التنوريين منهم، وآثرنا عليهم شعاراً رباعي المطلب: "مدرسة، ماء، كهرباء، دواء". وكان منذر اكثرنا اندفاعاً، واشّدنا تحركا، وابعدنا ادراكاً لبلاغة ذلك الموقف.

وعندما ابديت رغبة في التخلي عن رئاسة النادي، تقلدها منذر بكفاءة مميزة ومنهجية صارمة، ومثالية رائعة، شأنه في ذلك شأنه في الجامعة اللبنانية طالباً مجتهداً، ووطنياً ملتهبا، ومخطِّطاً مدققاً، فاذا ظهر بهر، واذا توارى آثر الاعماق، وكرس نفسه وكرسناه احد الطليعيين الاوائل القلائل الذين مدمكوا الوعي الوطني اللبناني تياراً وحركة، فكاد يكون رمزا لكل ما هو عطاء وفداء ومثال ووفاء.

ومن الوفاء في ذكرى الرجل الذي تطهرت نفسه من كل غش، ان نذكر بعض الطيبين طويات ونيات من الراحلين المكرسين ذواتهم بلا حساب لخدمة تنورين، فنستحضر اسماء الاحباء انطون جرجس يونس (القنصل)، انطانيوس جرجس ابي رعد، جورج ميلاد حرب، سعيد يوسف انطون يونس ، جوزف جبران وجرجس مارون بوعبود.

ومن الوفاء ان نحيِّي التنوري الاكبر منذر داغر ورفاقه الذين جعلوا النار الخالدة عنصرهم وشعارهم، فحاذروا من يهبون هبوب الهواء قبيل هنيهات المغيب، وجانبوا من يتخذون شكل الماء في المناسبات التي تسنح، فيمشون في كل عرض وينشدون في كل بوق، واحتقروا من يعفرون جباهم بكل مماسح التراب ويتوسلون الرشى والاموال ويثيرون العصبيات الجاهلية ويغدقون الوعود بالفراديس.

*     *     *

ومضت السنون. وانقضت العقود. وحلق الحبيب منذر في كل فن وعلم، ودافع، كاللبوة الجريح، عن كل ما يمت لتنورين بواشجة، وبقي لي، على الدوام، عقلاً باطنياً، وصوتاً داخلياً، وذاتاً ثانية، وكان هو مني ما انا منه، وكنت انا له ما هو لي.

*     *     *

في غيابك، من غيابك، منذر، من يداويني؟ 

سيكون اسمه على لوائح الشرف

 

كلمة الاستاذ سامي يوسف

 

في ذكرى الدكتور منذر داغر، نرفع رايات العطاء والصدق عالياً ونجتمع  في لقاء الوفاء.

الرجل متميز والذكرى عزيزة.

القول في موقعه والخطاب في مناسبته .

فالرجل كان نموذجاً يشهد له الناس بالمواقف الصلبة والرأي الحر، والمقاصد النبيلة.

منذر داغر اسمٌ علَمٌ يعني بعد رحيله "الدائم في الحركة والعطاء".

اسم سوف يكون على لوائح الشرف في تنورين، وفي كل بيئة ومؤسسة تواجد فيها كعلم من اعلام المعرفة، يعود اليه الناشطون في ميادين الثقافة والبيئة والعمل الاهلي، يستنيرون باسلوبه، ويتلمسون وقع افكاره ليغتنوا بمنهاج عمل.

هو الذي عاش في عالم الجامعة يطارد معادلة الفيزياء كغواص اللآلئ وجامع الدرر.

هو الذي عاش لطافة الثقافة وبحورها، وما يختزن الخيال الخصب من افكار .. رسم افكاراً جديدة ، وقدم فكَراً مستفيضة وفكَراً مستغربة، وبين الاثنين جوانب وسع الفلك.

كان عنصراً مؤسساً وفاعلا في معظم مؤسسات المجتمع الاهلي في تنورين له معها     وثبات.

كان يطلق في مجالسه نقده اللاذع للمواقف الرمادية، دون مراعاة او مواربة، ويذهب في نقده حتى النهاية. كالسهم ينطلق الى الهدف لو اصاب احياناً اعماق الجرح.

خاطب الناس بكلام الناس.. كلام مفهوم واضح له معنى ويعالج المسائل بعينها دون التباس.

استحوذت مسائل البيئة والتنمية المستدامة على حيز كبير من نشاطه واهتمامه.

سعى للاستخدام المدروس للمبيدات والمساحيق والمطهرات والاسمدة الكيماوية.

شّهر بكل من ساهم او تدخل او تسبب بتدمير الاحراج والبيئة الطبيعية الجبلية بالكسارات والمرامل، ولم يستثن في تشهيره اية جهة رسمية او خاصة .

كان بشخصه جهاز رقابة متكاملاً يحسب له المعنيون الف حساب.. جسد قناعاته بالافعال في كل مناسبة استدعت جهداً او ورشة عمل. اذكر منها انه قام مع زملاء له بالمساهمة في تنظيف الشواطئ اللبنانية من رواسب الفيول بعد حرب 2006.

لكن غابة ارز تنورين، بقيت علامته الفارقة حتى اللحظات الاخيرة في حياته.

اسس لها جمعية من الاصدقاء.

عانق اشجارها واحدة واحدة .

اعدّ ابحاثاً عن آفاتها، وافلاماً عن غناها.

حتى اضحت الغابة منذراً، ومنذر غابة ارز .

ايها الاصدقاء..

كان الدكتور منذر داغر جماعة في شخص، ومثقفين في فرد، وناشطين في ناشط.

كان منظومة متكاملة للدفاع عن قيم الصدق والجمال والرأي الحر.

 احزن اليوم، وانا اتخيله يراقب من عليائه حرائق قرطبا، وغير قرطبا، حزيناً على الجمال والبيئة في لبنان.

في ذكرى من اعطى دون حساب

الاستاذ نعمة حرب

 

ايها السيدات والسادة،

شكل موضوع معالجة المشاكل البيئية في لبنان، وفي تنورين بنوع خاص، لدى الدكتور منذر داغر، هاجساً وقلقاً دائمين ، وهو الحاضر في ذكراه الطيبة بيننا.

شكراً لحضوركم واهلاً بكم نشارك ذكرى من اعطى بدون حساب في زمن قلَّ فيه العطاء عسى ان نفيه شيئاً من عرفان الجميل. ونقول له شكراً ولو متأخرين.

لقد سعى الدكتور منذر داغر الى تحقيق المشاريع من اجل حماية البيئة واستدامتها، وهو السبَّاق والمبادر دائماً، يصعب عليك اللحاق به، لانه كان على عجلة من امره، وكأنه يعرف ان الوقت داهم، والعمر قصير. كان طموحاً، قليل الكلام ، غزير الانتاج.

ارسى قاعدة ذهبية، عملانية، في التعاطي في الشأن البيئي ، وهي:

ان تكون ناشطاً بيئياً، عليك ان تتسلح بالعلم، والمعرفة ، والثقافة، وان تواجه في سبيل الحماية وتحقيق المشاريع التنموية. والعمل في المجال البيئي في مفهومه ليس هواية او تسلية، بل التزام وتضحية.

حين خضع الدكتور منذر داغر لعملية جراحية في رجله، منعه الطبيب المعالج من المشي والسير عليها، لكنه ابى الا ان يحمل وجعه ورجله على عكازه كما حمل همّ بيئته، وتابع مسيرته النضالية دون توقف متفقداً كل المعالم والمواقع البيئية والاثرية في تنورين، مواجهاً التعديات حين تستدعي المواجهة بايمان وثبات.

هو المدرك للثروة الطبيعية البيئية في تنورين، كإرثٍ تاريخي عمل على حمايتها والاستفادة منها وروّج لها.

من مشاريعه الكثيرة:

-    إعادة مجد الجرد العالي لتنورين، باعادة تحريجه باشجار اللزاب النادر، وحماية ما تبقى من هذه الاشجار، والبعض منا يعرف ما كان لهذه الشجرة من دور في حياة ابناء تنورين الاقتصادية في الزمن الماضي، وما هي قيمتها الوطنية.

-    رَصَد موجة اليباس في غابات الارز إثر اصابتها بالآفات الحشرية، وسلط الضوء اعلامياً على الكارثة التي حلت، وكادت ان تقضي عليها، فاستنهض الهمم في تنورين وتعاون مع الجميع، من جمعيات ومسؤولين ومع النائب الشيخ بطرس حرب، والبلدية، والجمعيات الاهلية، ووزارتي البيئة والزراعة، وقيادة الجيش، الى ان تحقق الهدف بمكافحة ومعالجة الحشرة، فاستعادة الغابة عافيتها ونضارتها ، واخضرارها.

-    ساهم في تحضير ملف مشروع قانون تحويل غابة ارز تنورين الى محمية طبيعية، حيث صدر القانون في 25 شباط 1999 واعلنت الغابة محمية طبيعية.

-        ساهم ايضاً في استصدار قرار من وزارة البيئة باعلان بالوع بلعا - بعتاره، معْلماً طبيعياً وادراجه على خريطة السياحية العالمية.

-        شارك في اعمال ودورات كثيرة منذ سنة 1996 لنزع الالغام من محيط غابات الارز مع قيادة الجيش.

-    اعد، واقام، وشارك في عدة ورش عمل مع وزارة البيئة، بهدف تعريف وابراز معالم المواقع الطبيعية، والسياحية،والاثرية في منطقة تنورين والجوار لاطلاق السياحة البيئية، اي السياحة الخضراء.

-        ساهم في تحضير مشروع بيوت الضيافة السياحية لتنشيط الدورة الاقتصادية الريفية.

-    مشى دروب الرِّجل القديمة في تنورين كما مشاها وهو يافع بين المطحنة والنهر، والجبل وهي الاحب على قلبه فوضع بها خريطة طريق واهداها الى مشروع درب الجبل ليصل بها دروب قرى لبنان من الشمال الى الجنوب.

-        آخرما كان يقوم به تنفيذ مشروع مشتل لزارعة النباتات الطبية والفطرية ، والغذائية، من اجل تشجيع الاهالي على تنويع زراعاتهم.

رحل الدكتور منذر داغر وفي جعبته الكثير من المشاريع التنموية، كانت تنتظر فرصاً متاحة لتحقيقها...

لم يتغيب عن اي اجتماع، او اي نشاط بيئي في تنورين، فهو الحاضر والمشارك الدائم، الذي يعطي الحوار قيمة انتاجية، ويزكيه، ويرجح فيه المنطق والعقل على الجدل العقيم، لكن غيابه غير المعتاد عن اجتماع لجنة المحمية استوقفني. وعندما استفسرت عن سبب الغياب علمت انه تعرض لوعكة صحية.

زرته في مستشفى سيدة لبنان وهو في العناية الفائقة، اخذ يدي وشد عليها بدون كلام، تملكني شعور غريب، وفهمت ان الرسالة قد وصلت، فادركت جسامة الخسارة وسخرية القدر.

بفقدان الدكتور منذر داغر خسرت تنورين فارساً مدافعاً عن بيئتها وتراثها حامياً لها، اعطاها من فكره، وعقله، وقلبه. حاله حال رفيقه وصديقه الراحل الآخر الشيخ نديم حرب.

وبفقدانهما خسرت لجنة المحمية اهم ناشطيها على الاطلاق.

نفتقده كما يفتقد البدر في الليلة الظلماء. يبقى الدكتور منذر داغر في ذاكرتي وفي ذاكرة الكثيرين الناشط في العمل البيئي ، المثل والمثال، قدوة يحتذى ويقتدى بها للاجيال القادمة.                        

منذر داغر: الراحل الباقي فينا

 

                                        كلمة د. انطوان سيف

الامين العام للحركة الثقافية - انطلياس

                                        تنورين في 9 آب 2008

 

      تعجز السيرة الثرة عن الاحاطة بكامل مكنوناتها، يفوتها رهط وافر من منعطفاتها الحاسمة التي هي في المطاف الاخير مادة كينونتها؛ الا انها تستبطن المضنون به على غير اهله من النوازع الحقيقية لخياراتها وافعالها المتدثرة رداء الارادة الحرة التي هي، في معجم الثقات، ملحُ التاريخ.

      ذلك ان منذر حينما اندفع بعفويته الصافية في النضال الطلابي في الجامعة اللبنانية، وجد نفسه في رحاب رفقة من مجايليه اليافعين العشرينيين تماهى بها، وبات مذاك كغيره في تلك الجماعة الناشئة، يرسم دون دراية ومقاصد، كيانها المحدث ويُكسبها بالمراس، على وقع المواقف المتلاحقة، هويتَها، ويهِّيئها لقيادة الحركة الطلابية الجامعية برمتها في خضم تلك المرحلة البركانية الزهرية من وطننا في الستينات التي لم تحظ للساعة بمؤرّخيها الشهود الذين باتوا اليوم، بعد عقود، يحرسون ذاكرة مهددة بالوهن والوشم، ويندثرون الواحد بعد الآخر- استبقى، مع ذلك، في قرارة وجدانه، فسحةً انوية ذاتية حميمية جعلها واحداً من آخر معاقل فرديته، يكبت فيها كل ما يعتبره مجافاة لروح الرفقة والجماعة، و انقلاباً عليها من داخلها، يكظمه بإباء كعذاب شخصي لا حق فيه لسواه.

      النضال مع الجماعة قارَبه بجدية وصرامة كواجب مطلق استجلبه هو الى ساحةٍ بقرار حر. من غير ان يُفرض عليه من سلطة خارجية؛ واجب يؤول تلقاءً الى اقصاء كل اشكال الارتخاء والتخاذل والجبن واللهو، ويكون تلقاء صنو المجاهدة، واقصاها المواجهة الشجاعة.

     عنيداً كان منذر، ككل الانقياء الاصفياء، مزيجاً من الطيبة والصلابة، في شخصية غير نمطية، ضنينةٍ بالتكامل بالآخر لتشكيل النحن الاخوية؛ لا تتنازل عما تعتقده حقاً وصواباً. مثالٌ يخلق في محيطه البشري، من غير ضوضاء ولا شغب كلامي صاخب، حضوراً فاعلاً في العمق في اترابه ورفاقه، خافياً على ذوي الاعين الحجرية، تحتاجه الجماعة دوماً للملمة تبعثرها وترميم اواصر جمعيتها التطوعية الواعية. كغراءٍ لازم لعصبيتها ، اي لوجودها.

     كانت "الجامعة اللبنانية" معملاً فعلياً لشخصيات تلك الاجيال المتعاقبة من الشباب اللبناني الوافدة اليها بمعظمها من الطبقة الوسطى التي ارتقت الى وسطيتها واتسعت بعد اقل من عقدين على استقلال الدولة اللبنانية في خضم الحرب العالمية الثانية، والتي اعقبت هي ايضاً باقل من عقدين الحرب العالمية الاولى التي عرف فيها شعبنا في جبل لبنان مجاعة قاتلة: ثلاث محطات تاريخية متعاقبة على ثلاثة اجيال لبنانية، شهد الجيل الثاني منها تلك الوثبة المميزة في الازدهار الاقتصادي الذي كان نتيجة عوامل داخلية واقليمية ودولية تمثلت بنهاية الحرب العالمية، ونيل الاستقلال الوطني، واتساع حركات التحرر من الاستعمار في العالم الثالث. وبعد الهزيمة العربية واستيلاء الصهيونية على فلسطين واثرها الانقلابي في الانظمة العربية، هربت رؤوس الاموال العربية الى لبنان الآمن الليبرالي، وتدفقت اموال النفط العربي اليه، وفتحت دوله حدودها لعمل اللبنانيين فيها. وكان لبنان لم يشهد منازعات داخلية طائفية دموية منذ ما يقرب القرن، منذ احداث 1860... والجامعة اللبنانية كانت تتويجاً لهذا المناخ واستكمالا له بضغط لم يتوقف من القوى الوطنية الواعية: اولاً من خارجها، ولاحقاً فيها: من طلاب جامعيين واساتذة وطلاب ثانويين ومثقفين ملتزمين... وتأطرت الجامعة اللبنانية كرمز للبنان الثقافة والعلم والانفتاح على ذاته وعلى العالم العربي وعلى العالم الاوسع، وكمشروع نهضوي متجدد يبدأ فيها وبها، كانت زهواً وطنياً ضرورياً تماهت به، وبالتنافس على تطويره، كلُّ القوى وعلى خلفية ارتياب منه وتواطؤ في الاوساط المحافظة من الطبقة الحاكمة.

      في هذه الجامعة اللبنانية (التي لم يتوان البعض عن نعتها، وحصراً، بالجامعة الوطنية) عرفت الثقافة في لبنان بوجوهها السياسية والمعرفية، منعطفاتها الجديدة الكبرى التي كانت احدى شظاياها المميزة نشأة "حركة الوعي" الطالبية فيها كحركة مستقلة عن كل المرجعيات الحزبية والطائفية ذات السلطة المركزية لتوجيه الجامعة من خارج الجامعة. كان يمكن للتوجس ان يكون اخف وطأة لو كانت "الوعي" فصيلاً طالبياً صغيراً، له اشباه كثر مستقلة وصغيرة في رحاب الجامعة . الا انها عندما استلمت تقاليد قيادة الحركة الطلابية الجامعية من ايدي الاحزاب والمرجعيات السياسية العريقة في لبنان باتت مصدر قلق فعلي. حدثٌ عنوانه ايضاً "استقلال": استقلال فعلي لجيل الشباب اللبناني ممثَّلاً "بحركة الوعي" التي كان منذر داغر الطالب المُجد والشجاع والعفيف الصدوق والرزين من رعيل مؤسسيها ، اقله في حدثين مفصليين، كان هو في مركزهما ، يهمني ذكرهما في هذه المناسبة التي هو نجمها:

       الأول: كونه من المجموعة الصغرى التي اختارت اسم "الوعي" من بين اسماء اخرى مطروحة ليصبح اسم المجلة التي اصدرتها رابطة طلاب كلية التربية في الجامعة اللبنانية التي انتدبت لرئاسة تحريرها واصدارها. "الوعي" الذي بات لاحقاً للرابطة وتيارها، اسماً وهوية وبيرقاً، قبل ان تتمأسس مع الجيل التالي باسم "حركة الوعي" وتيارها الطلابي الواسع. "الوعي" كمفهوم مركزي من فلسفات الستينات: الفنيومينولوجيا والوجودية... وعلى الاخص "الوعي" بمفهومه اللبناني والعربي، كنقيض لاغٍ للغفلة والجهالة ونظيرٍ للنهضة المجددة بوجوهها الحديثة...

     والثاني: عنوانه حادثة: حادثة تعرُّض الطالب منذر للاعتداء بالضرب في كلية العلوم، بقصر الاونيسكو حينذاك، حيث استفرد. هذا الحدث اتخذ تلقائياً مدلولاً جمعياً بأن واحداً "منا" قد ضرب! وكان قرار بالرد على الاعتداء في مكان حدوثه، من المجموعة الطالبية التي ينتمي اليها منذر والتي لم تكن بعد محددة بالاسم، هذا الاسم الذي اصبح جامعاً ، بعد ذلك العراك المسائي، بالوافدين من كليات التربية والآداب والحقوق، والذي استمر متنقلا ليلذاك حتى ساحة الشهداء في وسط العاصمة بيروت... لقد ابانت تلك الحادثة عن وجود تيار طلابي نواته وقائدته رابطة طلاب كلية التربية التي تصدر مجلة "الوعي"... لن أتمادى في عرض ردود الفعل على هذه المجموعة الناشئة وتيارها ومحاولات الالتفاف عليها واستيعابها. فالتاريخ اللاحق دلَّ على ان ذاك التيار الشبابي اللبناني كان واقعاً وطنياً حقيقياً واسعاً متحرراً من انتماءات تقليدية نسب زوراً اليها، متوثباً مع من يجسد تطلعاته الى وطن حر معافى من الاستباحات. وقد خاض بنجاح ملفت عام 1968 اضراب الخمسين يوماً الشهير الذي قيل فيه انه كان "اكثر من اضراب، اقل من ثورة". "فالحركة"، بمنذر، تحمل ندوباً تاريخية باقية في بطاقة هويتها.

      تُغوي تلك المرحلة بالكلام المرسل، فصاحب المناسبة احد ابطالها، الا ان لا مجال في هذا المقام للتأريخ بالتفاصيل وبأسماء الاعلام الحاضرين منهم بيننا الآن، والغائبين، من قيادة الجيل الاول المؤسس مع دياب يونس ورفاقه ، وقيادة الجيل التالي الممأسِس مع عصام خليفة وانطوان الدويهي ورفاقهما.

      تلك اللبنة المغامرة المشحونة بهاجس التحرر والتجاوز، في خضم تعددية الايديولوجيات المتداخلة في ساحة عربية فريدة قدمها لبنان: الليبراليات والاشتراكيات والاصوليات المتناحرة المتواطئة لقمع رياح التقدم. لبنة طوّرت التزامها السياسي كنقيضٍ ندّي، استقت منهجيات نضاله من مسيرتها نموذجَ منهجيات ديوي التربوية في تجارب الخطأ والصواب. والاسطع من كل ذلك انها، بتحررها المطلق من مرجعيات اكسترا - جامعية، تجندلت على "لا" صلبة، ولم تفترق على "نعم" كثيرة. وابت ان تقطف شيئاً من جعبة حرَّاس الافكار الراشدة الجاهزة. بارقةٌ غير مسبوقة في زخمها وفي الالتفاف حولها، في الثقافة اللبنانية؛ وعلامة فارقة في الواقع السياسي العربي من الاكثر تعبيراً عن ثقافة عربية حديثة متمردة متحررة مستقلة.

     لقد ظل منذر مدماكاً صلباً في صرح النضال الطلابي من اجل الجامعة اللبنانية كصورة ناصعة ضدِّية لسلطة عاجزة وفاسدة. وعندما عاد اليها كأستاذ جامعي يحمل دكتوراه في الفيزياء، تمادت الجامعة في احباطه وتحطيم آماله. ولم يكن نضاله النقابي الا استكمالا لنضاله الطالبي اذ غاياتُه القصيَّة العليا هي عينها. الا ان النقابية الجامعية للاساتذة، مشفوعةً بالحروب المركبة الداخلية في لبنان وعلى لبنان، وتشرذم القوى السياسية الميليشيوية، وسيطرتها على الجامعة ادارة واساتذة وطلاباً وكليات، بدَّدت تجمُّع الفئة الواسعة التي كانت ولا تزال - في حال تكتلها - قادرة على ان تصد الاستئثار بالقرار الجامعي. صراع الاطراف واستشراء الاعتداء على قوانين الجامعة واعرافها ولجم طموحاتها الاكاديمية، استدعت بالنسبة للبعض تحالفات ومهادنات مصطنعة لم يكن منذر من معدنها. عانى دخول الجامعة الجديدة في ادغال العصبيات الموروثة التي خاض آخر معاركه وحيداً ضدها. استُفرد من جديد، وساقته سياسات المحاور النقابية الى مساكنة اوبئة الجامعة، وفرض مهادنة رموزها الفاسدة. فانكفأ بمرارة عن ساحات الجامعة والعمل النقابي في محيط بات يعج بقيادات وفيرة من غلمان المماليك. انهزم منذر في جامعته اذ انهزمت جامعته في احلامه الملازمة لعمره. ولكنه لم يحنط عزيمته التي يممها شطر عالم اكثر وفاء واكثر حاجة الى حضوره: البيئة الطبيعية، البيئة الفيزيائية في محيطها الانساني، لا العكس، متخذاً من بلدته تنورين متحفاً ينبغي صونه بموازاة ضرورات الانماء.

      في عضويته الرسمية في "الحركة الثقافية - انطلياس"، اذ انتماؤه العفوي اليها كان اقدم، وفيها غالبية من رفاقه السابقين في "حركة الوعي"، اهتم فيها بقضايا البيئة ، فاشرف عام 1995 على تنظيم مؤتمر "البيئة اللبنانية: واقع وآفاق" شارك فيه 16 باحثاً متخصصاً. نشرت حركتنا اعماله في كتاب خاص، مع التوصيات العملية المرفقة الخاصة: بالتربية البيئية، والاعلام البيئي، والتشريع البيئي، وحماية الثروة المائية وحماية الهواء والثروات الطبيعية والمواد الغذائية والتراث الانساني.

      بحدبه على البيئة، افاق ريفيَّته التي لم تمحها حيواته الطويلة في المدن المكتظة، ورسخت عائليتَه، هذا العائلي بامتياز على النمط القديم. ذلك عَودٌ الى السيرة الابوية التي اعطبته عاطفياً، مع كميل ، بفقدان الأهل. لا أزال أذكر فاجعة ذلك الحدث عليهما. التقاعد من الجامعة سلخه عن طلابه، وأقصاه عن الجو الاكاديمي، وفاقم صعوبة المغامرة لدينا في استقصاء شقائه المكتوم. اما تلك الفسحة في وجدانه فأفردها لانشقاقه الداخلي بديلاً عن انشقاق خارجي لم يكن ليبيح لنفسه افشاءه والافراج عن دواخله.

      ان "الحركة الثقافية - انطلياس" تتقدم بالشكر والتقدير من الهيائت المدنية في تنورين التي شاركتها في احياء ذكرى كبير من وطننا هو الدكتور منذر داغر، ومن جميع رفاقه وزملائه وطلابه ومحبيه وذويه بدءاً من عائلته المنزلية وشقيقه الصديق كميل وعائلته ، بأصدق المشاعر المؤاسية بغيابه المبكر. حسبه انه كان مثال الاب والاخ والصديق والزميل والرفيق ومناضلا ابياً طاهراً صلباً تعتز الحياة برفقته. وكان معلماً كبيراً، ومربياً على ثقافة محررة هي ثقافة الوعي والحرية التي، لدهشتي، وجدت كبيراً من وطننا قال فيها، عندما كنا، منذر ونحن، في عهد الولدنة: "الوعي والحرية كلمات لمفهوم واحد.فلولا الوعي لما كانت الحرية، الحرية الداخلية فينا. الحرية الجوهرية".

نذكرك، منذر، أنت الراحل الباقي بيننا، أنتَ الراحل الباقي فينا.

 

منذر داغر

بين صلابة الشجر وطراوة التراب

كلمة الاستاذ حبيب معلوف

 

قيل وكتب الكثير عن بلاد الارز، وقد اصبحت الارزة رمزاً، بقي الارز ام انقرض من لبنان.

كتب الكثير عن بلاد الارز، حين كان وجود الارز ابقى من وجود الانسان. ويبدو ان الوقت قد حان لكي يُكتب عن حماته ايضاً، حين بات الارز بحاجة لحماية لكي يبقى. صلابة، حماس، اصرار، صدق وانهمام... هي بين الصفات الرئيسية التي عرفتها في منذر داغر.

كأنه من صلابة الاشجار في تنورين جاء، والى طراوة تربتها قد عاد.

تحسبه احياناً كتلة هموم، او لربما كرة هموم متدحرجة ومتنقلة، تكبر كلما تقدمت وتطورت. انتقل من همِّ حماية الارز في تنورين الى هم حماية البيئة، الى الانهمام في ورشة تأسيس الحركة البيئية في لبنان.

كان يؤلمه جداً الانقسام بين الجمعيات البيئية. ظهر الانقسام، بداية، بين "التجمع اللبناني لحماية البيئة" الذي كان يضم عدداً من الجمعيات، التي كانت تصنف في خانة الموالاة الدائمة، وبين جمعيات "الملتقى الاخضر" التي كانت تصنف في خانة المعارضة الدائمة، ثم انهمَّ فيما بعد، بنفس الهم التوحيدي حين اعتلم بتأسيس حزبين للبيئة. وحين دعي الى الاجتماع مع احدهما، كان له موقف قاس وصريح ووجاهي، بضرورة التوحيد، وعدم القبول بوجود حزبين. وقد كُلِّف اثر هذا الموقف الحاد والمبدئي بالقيام باتصالات ووساطات، للبحث في امكانية الجمع بين الطرفين. كان لمنذر نفس الموقف المتشدد مع الطرف الثاني، منادياً بضرورة التوحد، مهما كانت الاعتبارات والظروف.

وبالرغم من ميوله المعارضة، وانحيازه الى الافكار والحركات البيئية الاكثر راديكالية، الا ان فكرة التوحيد عنده، كانت هي التي تعود وتسيطر على غيرها من الافكار والقيم.

كان العام 1998، العام الذي بلغت فيه مساعي التوحيد بين الجمعيات ذروتها، اذ حصل اكثر من مؤتمر ولقاء، في نهاية عهد وزير البيئة آنذاك اكرم شهيب، وقد اراد ان ينهي عهده بانجاز توحيدي ما . وقد عقد لهذه الغاية اكثر من لقاء ومؤتمر، كان ابرزها مؤتمرا الرابية والكسليك، اللذان لم يسفرا عن لائحة توافقية يوم الانتخاب ... ليستمر الاختلاف.

      اذكر يوم كتبت مقالة نقدية تحت عنوان "وحدة الجمعيات ليست قيمة عليا"، وانتقدت فيها "تجمع الجمعيات" المهادن والمصانع والذي لا يقوم بدوره المحاسب للسلطات، والذي اعتبرت فيه ان الانقسام على قيم ومواقف، خير من ادعاء الوحدة على الرياء والمصانعة والمسايرة.. لم يوافقني منذر الرأي، وقد اصر على رأيه بان التنوع يمكن ان يكون داخل الوحدة، وداخل الحزب الواحد، مشيراً الى عدد البيئيين القليل نسبيا والذي لا يحتمل الانقسام.

      قلت له يومها، مدافعاً عن وجهة نظري، بأن في الطبيعة تنوعاً هائلا، وهو بالضبط ما يفترض ان يدافع عنه البيئيون، وان فكرة التوحيد، هي فكرة قسرية، غير طبيعية. ثم ان تطبيقاتها على المستوى السياسي، العربي تحديداً، لم تكن مشجعة، لا بل حولت الانقسام الى تشرذم.. وقد اجلنا النقاش لوقت آخر، مفضلين البحث في القيم التي تجمع.

      كان من السهل ان نتفق بأن مهمة ورسالة البيئيين، هي في حماية الطبيعة والتنوع فيها، والدفاع عن مقومات الحياة على كوكب الارض، او في اي نظام بيئي محلي. وحول البحث في اولويات النضال، كان من السهل ان نتفق بان عناصر الحياة مرتبطة فيما بينها بشبكة من العلاقات، محبوكة ربما بخيط واحد، ولكل عنصر من عناصرها دوره ولكل كائن اهميته، وان لا معنى بالتالي للحديث عن الاولي والثانوي والمهم والاهم والعديم الاهمية.

كما كنا نؤمن ان في استمرار وديمومة وسلامة مقومات الحياة على الارض من تربة وهواء وماء وتنوع بيولوجي... قيمة عليا، تندرج تحتها باقي القيم. كما ان للعناصر والانواع غير البشرية قيمة مستقلة عن النفعية البشرية، ولا يحق للنوع البشري ان يتجاوز حاجاته الضرورية للحياة والبقاء، اذا كان ذلك يهدد مقومات الحياة.

كما ان العيش في انسجام وتناغم وتوازن مع باقي كائنات الطبيعة، يمكن ان يشكل قيمة بحد ذاتها.

ثم ان متطلبات العيش والاستثمار لنوعنا البشري يفترض ان تتوقف عند سقف قدرة الموارد على التجدد والبقاء كما هي، دون تغيير في تركيباتها وعناصرها الاصلية والجوهرية.

وان "القضية البيئية"، يما هي ناجمة عن سوء تفاعل الانسان مع الطبيعة، والتي باتت تهدد اسس الحياة وديمومتها، باتت قضية حياة او موت (لنوعنا الانساني على الاقل)، ويجب ان نتعامل معها على هذا الاساس.

واذ نحن نعتبر ان الآخر هو بيئتنا، وان ما يصيبه يصيبنا، فعلينا ان نسعى لان يصبح مثلنا، لكي نحقق اهدافنا العيا، والتي هي حماية اسس الحياة.

كنا نعتقد ان الاتفاق على القيم والمبادئ سهل ، ولكننا لم نعرف حتى الان كيف نترجمها في السياسات.

وقد رحل منذر في منتصف الطريق، بين صلابة الشجر وطراوة التراب.

 

منذر داغر الباقي بيننا

كلمة المحامي كميل داغر

أيها الصديقات والأصدقاء

سيصعب علي كثيراً أن أتكلم على منذر، غائباً، بوصفه أخي. فعلى رغم مرور اكثر من عام ونصف على مغادرته، لم أتمكن من التعايش مع هذا الغياب. ادرك تماماً أننا واريناه، بعد ظهر يوم شديد المطر، في القاطع المقابل لمساكن هذه البلدة الوادعة، وأنه بات يشارك قاطني ذلك المكان كامل مصيرهم، ولكنني أشعر في الوقت عينه بأنه لا زال كليَّ الحضور.

          لذا قد يكون أفْضَلَ إذا قَصَرْتُ كلمتي هذه على منذر الإنسان، كما عرفناه جميعاً، وإن أكنْ أزعم أني ربما كنتُ الأقرب إليه، ولاجل ذلك الأكثر معرفة به، علماً بان المرء يدرك - ولكن بعد فوات الأوان - أن هذه المعرفة كان يمكن ان تكون اعمق وأشمل واكثر حميمية بكثير!

          ففي معظم الأحايين، ننسى مدى هشاشة الحياة، وربما نكون نظن بأننا قد نسبق أحباءنا إلى ذلك القَدَر الذي هو مصير الجميع، وإذ بهم يتقدموننا إليه، ونحسُّ الحسرة القاتلة لاننا لم نحتضنهم كفاية بالقَدْر من المحبة والحنان الذي يستحقون.

أيها الصديقات والأصدقاء

بين كل الإلزامات التي تتشارك فيها الحضارات والأديان، وتتخذ أحياناً شكل الوصايا، كان منذر يَنْشَدُّ قبل أي شيء وفوق كل شيء، الى الأمر الاخلاقي القائل: "لا تكذِبْ!" وربما كان يختصر هذا الأمرُ لديه كلّ ما نَصْطلح على تسميته الاخلاق الإنسانية.

ففي شتى حلقات حياته، منذ الصغر، وحتى رحيله ، كان منذر صادقاً على الدوام:

في علاقته الحميمة بالأهل والأحباء والأصدقاء،

في رحلته الدراسية إلى اعلى التحصيل الجامعي، وارتباطه تالياً بقضية العلم والمعرفة،

ومن ثم في عمله في شتى المجالات،

وإلى ذلك كله، في نشاطاته الاجتماعية جميعاً، ونضالاته النقابية، والسياسية، والبيئية، وهلمَّ جرّاً..

في كل ذلك كان يتوخىّ الصدق دائماً، وأقصى الشفافية، مع النفس أولاً، ومع الآخرين بلا استثناء. وفي سياق ذلك كله، لم يكن يتوخىَّ يوماً نفعاً شخصياً، ولا حتى مديحاً، أو شكراً، أو مجرد تنويه.

أيها الصديقات والاصدقاء

لا بد من أن عديدين بينكم قرأوا ذلك المقطع من سفر التكوين، في الكتاب المقدس عند اليهود، حيث وجد الله، بعد خَلْقه هذا العالم، أن كل شيء حسن. أما منذر فكان يدرك، منذ سنواته الأولى بعد المراهقة، أن أشياء كثيرة جداً من حوله، وفي مدى رؤيته وأبعد، ليست حسنة بالضرورة، وأنه ربما يكون هذا العالم بحاجةٍ لأن يُخلق من جديد. وفي وعيه لهذا الواقع، كان يدرك أن تغييراً بهذه الجسامة لا يمكن أن يكون عملَ أفراد وحسب، بل هو بحاجة إلى فِعْل الجماعة.

ولكن منذر، الذي سعى دوماً للعمل الجماعي، في تطلعه لغد افضل للجميع، ولتبديل شروط الحياة البشرية لأجل سعادة الانسان وخيره، كان يدرك الدور الخاص جداً، الذي يمكن أن يضطلع به الفرد، ليس فقط كقدوة ومثال، بل أيضاً كطاقة ذاتية يمكن أن تبدّل ، مع الدأب والمثابرة، مواقع الجبال ! وفي شتى الحالات ، وحتى اذا لم يكن ذلك في المتناول، فقد آمن بضرورة السعي لكي يصبح ممكناً.

كان يود دائماً أن يعطي المرءُ معنىً لكل لحظة من لحظات حياته. وعلى هذا الاساس، كنا نراه منهمكاً، دائماً، في محاولة تغيير الواقع الذي حوله. مذ كان، بوجه خاص، على مقاعد الجامعة، وانخراطه في الكفاح الدؤوب لأجل جامعة وطنية متقدمة رأى فيها مدخلاً لتغيير عميق في المجتمع اللبناني، في شتى المجالات. من دون أن ينسى العمل، في آنٍ ، في محيطٍ أقل اتساعاً ، هو محيط هذه البلدة بالذات، بلدته تنورين. وقد سعى مع رهطٍ من شبيبتها، في اواخر الستينيات من القرن الماضي، لإحداث نقلةٍ على صعيدها، في الحياة العمرانية والعلمية، وبالتالي السياسية، انطلاقاً من الانتخابات النيابية، وذلك حين دعا وناضل معهم، لأجل انتخاب شعارات مطلبية تمثل حاجات سكانها الفعلية، بدلاً من انتخاب هذا المرشح أو ذاك. وهي الانتخابات عينها التي بات هناك كثيرون، في أيامنا هذه، ممن هم على قناعة بأن ثمة حاجة قصوى لإحداث تغيير جذري في قانونها، بحيث يشكل ذلك مدخلاً الى تغيير عميق في الشريحة المسيطرة  إلى الآن على السلطة السياسية  في لبنان، وبالتالي نحو قيام مجتمعٍ ودولة علمانيّين وديمقراطيّينْ.

هذا ، ومن دون أن يغيب عن اهتمام منذر العمل، على المستوى الوطني العام، ولا سيما على صعيد حماية طبيعة هذا البلد الفريد، ولكن الذي تتناقص فرادته، بسبب الاعتداءات المتواصلة على بيئته، فقد عرفت السنوات الاخيرة من حياته تركيزاً شديداً، بوجه أخص، على حماية بيئة هذه البلدة بالذات. وانطلاقاً من ذلك، اضطلع بالدور الأهم في إنقاذ أرز تنورين ومعه بالتأكيد سائر غابات الارز في لبنان الشمالي، وبقي حتى رحيله يكافح لأجل إعادة تشجير جرود تنورين، وبالتحديد الجرد الجّواني، محمّلاً إيانا عبء استكمال السعي لإنجاز هذه المهمة، الحيوية جداً، والممكن تنفيذها أيضاً، ولا سيما لدورها، في حال إنجازها، في حماية الخزانات الجوفية لمياه هذه البلدة، الشاسعة نسبياً، فيما يقترب لبنان والشرق الاوسط بأسره، واجزاء أساسية من العالم، من أزمة مياه خانقة ، في العقود القريبة القادمة.

أيها الصديقات والأصدقاء

كثيراً ما بدا كما لو كنا، منذر وأنا، على تناقض. وهو تناقض كان احياناً على قَدْرٍ من المبالغة، على الاقل من جانبي أنا، لأنه، في ما يعنيه هو شخصياًكان يبحث دائماً عن تسوية، ويقول لي اذا حدث أن اتضح الخلاف: نتحاور!

وأنا اعترف أنني في حين كنت اعتمد في أحيان عديدة على الحدس، كان هو أمْيَل إلى إعمال العقل. كان العقل قائده ودليله، على الدوام. بيد انه لم يكن ينفصل لديه عن العاطفة.

لذا فمذ كنا لم نبتعد بعدُ عن المراهقة، وفي حين التهمنا في تلك الفترة الكثير  من الاعمال الادبية المحلية والعالمية- وإن يكن طالما تفوّق عليّ في ذلك باستمرار - عثرنا ذات يوم على رائعة الروائي المشهور ميغال دي سرفانتس، التي تصوّر حياة دون كيشوت، ذلك الفارس الاسباني الذي كانت مَلَكة الخيال لديه اكثر جموحاً بكثير من فرسه، المسمّاة روسينانت. قرأناها كلانا بشغف. ولكن إلى الشغف كان منذر يحس بالنصر، نصر من توصّل الى اكتشافٍ هائل.

فلقد قال لي بتؤدَة، ولكن بثقةٍ، بعد وقتٍ قصير على ختمه الرواية: بتُّ اعرفك افضل، بت افهمك اكثر الآن. هذا أنت دون كيشوت!

ولم أشعر بالاستفزاز، ذلك أنه وإن تكشَّف لي ما وراء ذلك الوصف من النقد المبطَّن المحتمل، فقد كنت أحسست خلال قراءتي الكتاب بالكثير من العشق حيال الفارس الكهل المتأبط رمحه، الممتطي فرسه الناحلة، والمتأهب دائماً للقتال، دَفْعاً للظلم، ولأجل صورة في خياله للشهامة، ولكن ايضاً للجمال والعدالة والمحبة، وإن يكن عبر مصارعة الطواحين! وكنت ادرك بالفطرة أيضاً أن منذر لم يكن خارج سطوة ذلك العشق.

كان ذلك قبل عشرات السنين. ولكي لا أطيل اكثر، سوف اقفز إلى اسابيع قليلة، قبل مغادرة منذر هذا العالم. كان قد جاءني، على حين غِرّة، ذات يوم من اوائل كانون الاول/ديسمبر 2006. جلس قبالتي بصمت، وراح يتأمل على الجدار ورائي لوحةً لدون كيشوت ممتطياً فرسه، وهو يمسك بيده رمحاً طويلاً يخال المرء أنه يصل إلى آخر الكون!

ثم راح يتنقَّل ببصره بين تلك اللوحة المستنسخة وأُخرى أصليةٍ رسمها فنان فلسطيني صديق، وهو يستعيد فيها صورة حقيقية للثائر الأرجنتيني الأممي، ارنستو تشي غيفارا، على حصانٍ هو الآخر. غيفارا الذي تشبَّه هو أيضاً بالفارس الإسباني، في الرسالة الاخيرة إلى اهله، قبل مغادرته كوبا إلى بوليفيا، حيث لقي حتفه وهو يقاتل هيمنة واشنطن على الجزء الجنوبي من القارة الاميركية. ففي تلك الرسالة يقول:

"ها أنذا أشعر، مرة اخرى، بأضلاع فرسي روسينانت تحت عَقِبَيَّ. أستأنف السير في الدروب، وبيدي رمح".

بعد ان أجال منذر النظر مراراً في اللوحتين وفيما هو يذهب بتفكيره على الأرجح إلى انتصارات اليسار في بلدان عديدة من اميركا اللاتينية، بما فيها بوليفيا، قال كما لو كان يتابع التفكير بصوت عال:

"يبدو أن ما كافح لأجله صاحبك يتحقق الآن في القارة الجنوبية!"

 

أيها الصديقات والأصدقاء

في مطلع هذه الكلمة اشرت إلى بعض التناقض في ما بيننا. ولكنني أدرك الآن كم كان ذلك التناقض أبعد ما يمكن عن الجوهر. فلقد كان منذر يحب هذا العالم، بكل الاشياء القيّمة والجميلة وحتى الهشة فيه: بناسه العاديين، ولا سيما اولئك المحرومين من العدالة وتكافؤ الفرص، وشتى أسباب الكفاية والفرح؛ وبطبيعة كوكبنا الرائعة، ولكن المهددة بالخراب والتصحر والزوال؛ وبغلافه الجوي الحامي سكانه وكلّ ما فيه من الكائنات، بما فيها الحيوانيةِ والنباتية، ولكن المهدّد هو الآخر بالاندثار، بنتيجة الجشع الرأسمالي والرغبة لدى ارباب العمل في كل مكان في تحقيق أضخم الارباح في أقصر وقت ممكن.

ولأجل تلك المحبة بالذات، كافح منذر على مدى حياته، ولا سيما في سنواته الاخيرة، عواقب النظام الفوضوي الجائر واللاعقلاني الذي يتحكم بحياة بشريةٍ كثيراً ما كانت مغلوبة على أمرها.

إن إرادة الكفاح هذه لدى أمثال منذر داغر لأجل نظام مختلف تماماً، ربما تشكل أملاً حقيقياً بوقف اندفاع عالمنا  الجميل إلى الهاوية. وبقدر ما يزداد عدد هؤلاء، قد نتمكن، نحن واجيالٌ عديدة بعدنا، من التطلع بطمأنينة وثقةٍ إلى المستقبل.