أنطلياس في 2006/01/30

الصادر 27/28

إدمون نعيم: غياب رمز وطني لبناني

          بسط إدمون نعيم انجازات عديدةً على مدى ثمانية عقود تتداخل فيها السيرة الذاتية بالمسيرة الوطنية ظاهراً وجهاراً في محطات بارزة وإن متباعدة، ولكن ضمناً ورمزياً في سياق متّصل بتوتراته ومنعطفاته. فقد وُلد مع سقوط الدولة العثمانية، وتزامنت حياته برمّتها مع حياة الدولة اللبنانية بعلاقة لا تخلو، ككلّ جدلية، من المواجهات والمصالحات، التي اتّخذت في كلّ المرات حلّة المواثيق والاتفاقات التي كان عنوان قوّتها، وضعفها المكتوم، تلك التنازلات المتبادلة، وكأنها تضحيات إرادية "تقنّن" الخصام والتباعد "وتعقلن" خواتمه.

          في مطلق هذه المنعرجات، ظلّ إدمون نعيم فقيهاً دستورياً، حارساً للدستور الذي لا حياة مدنية خارجه. فالمحامي، والسياسي المناضل، وأستاذ القانون توّج مسيرته الأكاديمية بعمادة كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية (1965-1970)، وبعد ذلك مباشرة برئاسة الجامعة اللبنانية (1970-1977). فالقوانين والدساتير، وبخاصة جانبها اللبناني، كوّنت الحيّز الرحب لكل أنشطته الفكرية حيث فيها وحدها تتقاطع الحياة الخلقية والوطنية والتطلعات إلى آفاق مستقبلية لا تقفل ذراها أية هنات في قواعد السلوك  المُحكمة بالبنود والفقرات.

          هذه المثالية كانت من ملامح شخصيته المحبّبة التي كانت تبدو وكأنّها إغراق في بساطة تجافي شراسة المعضلات التي تبرّع لمواجهتها وسعى للانتصار عليها. لقد بنى هيكلاً في منـزله لكتب الحقوق والقانون والمجلات والموسوعات المتخصصة، قد يكون أكبر مكتبة قانونية خاصة في العالم التي تضم على مدى الطابق الأرضي من منزله أكثر من خمسة وعشرين ألف مجلّد في الحقوق والعلوم السياسية والاجتماعية كواحد من مفاخر مظاهر الثقافة في لبنان.

          لقد كان إدمون نعيم "احتياطاً وطنياً أخلاقياً" يُستَنجد به في الملمّات الوطنية للاحتماء بعلمه ومناقبه المتلازمين. استدعي كي يتبوّأ مركز حاكم مصرف لبنان، ولم يكن مصرفياً ولا اقتصادياً محترفاً. "فسكن" في المصرف لحماية العملة الوطنية، وصونها، وانتهى به المطاف إلى السجن الاختياري فيه، خلف قضبانه الصلبة وأبوابه المصفّحة، ليحميه وحده من غارات الداخل وتهديدات الخارج، وليربح أعداءً وخصوماً كانت حسابات‍هم لا تقرب همومه الوطنية على أرزاق شعبه الذي استخدموه في حروب تواصلت سنوات، واستباحوه في أعزّ ما يملك.

          المنعطفات الكبرى في حياة الدكتور نعيم يمكن تلمّسها من مضمون مؤلفاته: فعندما كان هاجسه تعديل النظام الدستوري على مدى عقود، بات بعد حروب الخمس عشرة سنة المدمّرة صاحب مشروع لنظام دستوري جديد، "نظام المجلسين" الذي يقي اللبنانيين، برأيه، عثرات الدهر ويصدّ عنهم جموح المغامرين الذين يدعون قياداتهم والنطق باسمهم: فهو لم يرَ إصلاحاً، ولا مشروعاً وطنياً، إلاّ في دستوريّة الحكم... هذا المناضل المقتحم الحياة العامة بجعبة من القيم يلبسها ثوب "فتاويه" القانونية كمعلم يلقي دروسه جاهراً بصوت عالي النبرة على سويّة واحدة تبغي الإيضاح التام الذي لا يقبل سوى السمع واللبس والإبهام.

          حياته المديدة لم تسعفه في تحقيق واحدة من أمانيه الكبرى في رفد الحياة البرلمانية بخبرات ثرّة عزّ مثيلها. لقد أضناه الوهن ولا أحد يعرف كيف تحمّل في صمته وانطوائه تلك الحقبة الأخيرة من سيرته حيث ضعف الجسد وآلامه حرمته حياةً كان دائماً مستنفراً لمزاولتها بامتياز، دفاعاً عن لبنان السيّد الحرّ والمستقل المؤمِّن لأبنائه العدل والكرامة.

          عندما كرّمته الحركة الثقافية - انطلياس في الرابع من آذار عام 1989 ككبير من أعلام الثقافة في لبنان الذين أغنوا ثقافتنا الوطنية بإنجازاتهم: علماً وسيرة ونموذجاً راقياً، كانت تتماهى بالوعي الوطني وبالذاكرة الوطنية التي تحتفظ للدكتور إدمون نعيم، على تنوّع تصوّراتها وتباعد مواقعها، صورةً واحدة بهيّةً وناصعة هي محطّ فخر واعتزاز.

الحركة الثقافية - انطلياس