د. أنيس مسلّم الذي غاب

في مناقشة كتابه"على أوتار الحنين"في الحركة الثقافية – انطلياس في 12 حزيران 2014

المشاركون: السيّد هاني فحص، د. دياب يونس، المحامي ريمون عازار، أ. جوزف ابي ضاهر، إدارة د. انطوان سيف.

 

-----------------------------

 

على أوتار الأنيس...

بقلم أنطوان سيف

 

        لا تُمتَحن الأنفسُ بأقسى من الغياب. ثمة مَن رأى الحياةَ، بمعناها الأوسع ودلالاتها البعيدة، استعدادًا دائمًا لهذه المواجهة، لا تكون الأفراحُ وآمادُ الحبور سوى استباقٍ بالانتصار عليها، نتوهَّمه ونغذِّيه أحلاماً لا حدود لها.

     المراوحةُ بين اللذةِ والألم لا تُفتِّتُه العاداتُ إلاَّ لتُرسِّخَه، أي لتجعلَ وقعَه أكثرَ إيلاماً. ينبتُ من الغيابِ الحنينُ، يُرهِق الذاكرةَ كأنَّه يستهلكها. انفساخُ الواحدِ هو؟ أم كسرُ الاثنين بعد خمسين من السنين؟ كان منصور يقول إنَّ الولوجَ إلى عمقِ آلامِ عاصي مستحيل. الآلامُ هي مِلكياتٌ ذاتية أنائيةٌ بامتياز. الآلامُ الخارجيةُ هي الأقوى. مَن يموتُ لا يعاني معاناةَ شاهدِ الموت. الحبُّ المعطوبُ لا يندمل، يغيَّر زواياه ليس إلاّ. جرحُ أنيس صلواتٌ، ابتهالاتٌ، رسائلُ متأخرة، طلبُ مغفرةٍ متأخرة، أشواقٌ، نوستالجيا... مترادفةٌ جميعُها في الحدث، متفرقةٌ في ورقِ المعاجم الباردةِ والجافة. المشاعرُ نادراً ما سقطت في آذاننا بغيرِ صيغةِ الجمع. الكلمةُ تجمعُها، وتحبسُها. وحده الشِّعر يحرِّرها من الأسر إلى الوهم، إلى الأجملِ الكاذبِ الذي هو استراحةٌ عابرةٌ بين دمعتين. الأوتارُ للحنين وللأنين وللحزن، وحروف الحاء والنون التي تكظمُ الجراح التي تُصَبُّ عليها الأملاح.

    الانفعاليون معطوبون. المطران اسكندر في مقدِّمته للكتاب أَعلَمَنا أنَّ الأنيس تدرَّبَ على الفراق بغيابِ الوالدة أولاً. ولكنَّ التدرُّبَ لم يؤتِ ثمارَه. لا يَستنزفُ الحرقةَ بسبعينَ دربةً سبعَ دربات! إنَّه القهرُ، بالمعنى الدارجِ للعبارة، حيث الأنا المعطوبُ يسبق منبعَ هذا القهرِ ومسبِّبَه. قالت له جاكلين، افترضَ: لِمن تكتب؟ لكِ أنتِ، قال... لكنَّه ما لبث أن استلحق: كتاباتي تخفِّف وطأةَ الضباب وظُلمَ الغياب (ص 104)!

     بين أنطلياس وزحلة، الرحلةُ الدائرية حيث حقيبة السفر، هنا وثمة، خلفَ الباب. جئنا في هذه العشية نلقي التحيَّةَ على جاكلين. قصائدُك هي جوازُ سفرنا إلى ذكرياتكَ معها، وإلى آنِك... نحاول، متواطئين، أن نحوطَك بكلِّ ما ملِكت قلوبُنا محبةً تخونُها دوماً الكلمات.

 

                                                      أنطوان سيف

أنطلياس في 12 حزيران 2014