لماذا أدى إنفجار المرفأ إلى كارثة في الوسط الثقافي؟

حسن الساحلي

المدن|الجمعة 2020/08/21

 

خلال العقدين الماضيين، تحول محيط مرفأ بيروت إلى مركز استقطاب للعاملين بالفن، من منسقي الإسطواناتDJs والموسيقيين الإلكترونيين، الذين اعتادوا العزف في حانات شارعي أرمينيا والجميزة، الى المتخصصين في مجالات السينما والمسرح والفنون التشكيلية والمعاصرة الذين عملوا في مؤسسات توزعت على احياء المنطقة ذات الطابع التراثي

.

 

تركز سكن الفنانين في أحياء الجعيتاوي والرميل، التي اعتبرت مثالية لبناء استديوهات فردية(حصل الأمر نفسه في مارمخايل والجميزة) ليس فقط بسبب موقعها القريب من المركز الفني والثقافي الجديد للمدينة، بل أيضاً بسبب إيجاراتها الرخيصة وهدوئها وقلة عدد سكانها، مقارنة بالأحياء الأخرى، مع وجود مساحات خضراء وأجواء تؤمن هدوءاً أكبر، وظروفاً جيدة للإنتاج الفني.

 

لهذه الأسباب، تسبب الإنفجار في المرفأ عملياً بكارثة حقيقية للمجتمع الفني، الذي يتركز مؤسساتياً وسكنياً في مناطق مجاورة أو مطلّة عليه، علماً أن الأفراد والمؤسسات تضررت في مناطق أبعد مثل رأس بيروت (مثلا غاليري أجيال وصالح بركات ودار النمر)، زقاق البلاط (مانشن)، ومحيط سوق الأحد (جمعية أشكال الوان تعرضت لأضرار كبيرة).

 

ليس هناك من إحصاء حتى الآن للأضرار والمصابين، لكن المؤكد أن هناك ثلاثة على الأقل فارقوا الحياة هم غايا فودوليان، مديرة غاليري "ليتيتيا" (الحمرا) التي تنتمي إلى عائلة مهتمة بالفن وامتلكت أحلاماً كبيرة في مجال المعارض والفن المعاصر. فراس الدحويش، أحد العاملين في غاليري "أجيال" و"صالح بركات". والمعماري جان مارك بونفيس الذي صمم مباني عديدة في بيروت من بينها المبنى الأيقوني بجوار شركة الكهرباء، وهو المبنى الذي قتل فيه وهو يشاهد حريق المرفأ.

 

يذكر ان بونفيس ينتمي إلى عائلة ذات تاريخ عريق في التصوير الفوتوغرافي، وهي المسؤولة عن غالبية الصور التي توثق الحياة في لبنان والمشرق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (جزء كبير منها مؤرشف ضمن مجموعة دباس في متحف سرسق).

 

أما من ناحية المؤسسات المتضررة في المنطقة المحيطة بالمرفأ، فلا يتسع هذا المقال لذكرها. في نطاق الفن التشكيلي وحده هناك 12 غاليري دمّرت بشكل كامل، وفق مجلة "غاليري" اللبنانية (من بينها "مرفأ"، "تانيت"، "صفير"، "رميل"، Art On 56th ، "شريف تابت"، "طبال"، "ألوان" ...)وعشرين أخرى دمّرت بشكل جزئي. يمكن تخيل الوضع من ناحية المؤسسات المنتمية إلى أنماط أخرى، مثل السينما والمسرح والتصوير والفن المعاصر وغيرها، التي أصلاً كانت تصارع للبقاء على قيد الحياة، أو من ناحية استديوهات الأفراد التي تتوزع في الأحياء السكنية أو تلك المحيطة بالمرفأ.

 

 

هنا بعض الأمثلة عن المؤسسات المتضررة: "استديوSafar" المتخصص في النشر والتصميم وصاحب مجلةSafar التي تصدر باللغة الإنكليزية، "شركة قبوط" للإنتاج السينمائي التي تعتبر أحد أبرز المؤسسات العاملة في مجال الأفلام الفنية، "المؤسسة العربية للصورةAIF"التي تمتلك أرشيفات بصرية لاستديوهات لبنانية متخصصة في التصوير الفوتوغرافي خلال القرن الماضي، استديو "تيونفورك" الذي أنتج غالبية ألبومات موسيقى مشهد الأندرغراوند المحلي، بالإضافة إلى فضاءات تأسست حديثاً في المدينة مثل "متحف الحرب الأهلية" في السوديكو، ومركز مينا للصورة في الصيفي الذي أسسه العام الماضي المصور فؤاد الخوري (تضرر بشكل كبير، ما ينطبق أيضاً على بيت فؤاد الخوري الواقع في المبنى نفسه).

 

الأمر أشبه بضربة قاضية للوسط الثقافي. يحاول الأفراد والمؤسسات تعويض الأضرار عبر حملات تبرع ينظمها الأصدقاء وتتركز في الخارج بشكل خاص. تجدر الإشارة هنا إلى أن بعض المؤسسات قادر على تأمين التبرعات اكثر من غيره، وهو ما يحدده شهرة المؤسسة، والشبكات التي تنتمي إليها في الخارج. مثلاً، مؤسسة مثل متحف سرسق استطاعت تحصيل تعاطف من متاحف أخرى حول العالم، ويبدو أنها ستكون قادرة على تأمين كمية تبرعات بشكل أسرع (العائق الوحيد هنا هو حجم الأضرار الذي قدره المتحف بملايين الدولارات)، ما ينطبق أيضا على غاليريهات الفن المعاصر التي تعمل في شبكات عابرة للحدود، أو المنظمات غير الحكومية التي تعتمد أصلاً على المنح المالية.

 

يظهر هنا دور الفنانين المغتربين الذين يرفعون الصوت لجذب أنظار المجتمعات الفنية حول العالم. من بين هؤلاء، الفنان المعاصر وليد رعد، الذي عرف بشكل واسع في الدوائر الفنية في الولايات المتحدة وأوروبا، وهو أحد مؤسسي منظمة "مفردات" (بلجيكا) غير الربحية التي تتخصص في دعم الكتّاب وفناني الوسائط المتعددة والفنانين التجريبيين من العالم العربي.

 

 

 

قدمت المؤسسة مبادرة بعنوان"Fund the Arts in Beirut"وتهدف إلى جمع التبرعات لدعم المتضررين "بطرق تتسم بالشفافية والمرونة وتضع في الإعتبار صعوبات التعامل مع المصارف". أما الفئات التي تتوجه إليها، فقد حددتها المؤسسة بالفنانين، المفكرين، الفئات النسوية والكويرية، على أن يرتكز الدعم على تأمين طرق استمرارية المؤسسات والأفراد عوضاً عن دعم المشاريع الفردية.

 

من الفرص الأخرى التي فتحت للفنانين والمؤسسات المتضررة من الإنفجار، مبادرة لمؤسستي "المورد الثقافي" و"آفاق"، أتت بعد وقت قليل من إغلاق باب التقدم إلى صندوق طوارئ كان الهدف منه تأمين الدعم المالي لمساعدة المؤسسات اللبنانية على الإستمرار وسط الأزمة الإقتصادية. هذه المرة يخصص دعم الصندوق الجديد لتعويض أضرار الانفجار، من البناء إلى المعدات والممتلكات، علماً أن المؤسستين ستؤمنان جزءاً من المنح عبر حملة تبرعات موجهة للفاعلين الفنيين حول العالم.

 

في لبنان ظهرت أيضاً مبادرات للمساعدة، من بينها مبادرة لمؤسسة "بيروت دي سي" التي خصصت للمخرجين والعاملين في القطاع السينمائي المتضررين من الإنفجار. تأتي هذه المبادرة بدعم من مؤسسة "فورد فاوندايشن"، وقسمت إلى قسمين، الأول محدد للطلبات الطارئة، كالمنزل وتأمين الإيجار، وتعويض خسائر ملحّة. أما القسم الثاني، فتوجه للطلبات الأقل إلحاحاً، ويمكن ان تنتظر بعض الوقت لتأمينها.

 

هناك مبادرات أخرى شبيهة خصصت للفنانين المسرحيين تحت عنوان "تجمع إغاثة المسرح في لبنان"، ومبادرة للمصممين تحت عنوانHouse of Today، ومبادرة للموسيقيين أطلقها استديو "تيونفورك".

 

اللافت انه، بالإضافة إلى هذه المبادرات، فتحت كل مؤسسة باب التبرع من خلال شبكات الأصدقاء في الخارج، ما ينطبق على استديوSafar مثلا، "مركز بيروت للصورة"، "تيونفورك"، أو حتى على حانات ومقاهٍ وفضاءات لعبت دوراً ثقافياً وفنياً في السابق، لكنها لا توضع في خانة المؤسسات الثقافية التقليدية: مثل "ديمو بار" الذي استضاف بشكل دوري عروض الكوميكس والموسيقى التجريبية في الجميزة.

 

(*) الصورتان في النص: لوحة ممزقة لايتيل عدنان في غاليري صفير زملر، وفراس دحويش الموظف في غاليري اجيال الذي قتل في انفجار 4 آب.