الخراب يغطي وجه بيروت الثقافي

«المورد» و«آفاق» ومبادرات أخرى لتضميد الجراح

الأحد - 4 محرم 1442 هـ - 23 أغسطس 2020 مـ رقم العدد[ 15244]ش ا

هكذا أصبحت المكتبة العامة في منطقة الباشورة

بيروت: سوسن الأبطح

جريدة الشرق الأوسط

 

 

الخسارة الثقافية في بيروت، أصعب وأكبر من أن تحصر في أرقام وأعداد. فقد أودى الانفجار الهائل الذي ضرب العاصمة اللبنانية بعديد من المؤسسات الثقافية، وجعلها خارج الخدمة، وشل بعضها الآخر، بينما أصيب جزء ثالث بأضرار جسيمة، وتحتاج وقتاً لإعادة تأهيلها.

عملية مسح الخسائر في هذه المؤسسات لا تزال في مراحلها الأولى، وتحتاج ما لا يقل عن عشرة أيام أخرى لتشكيل فكرة أولية واضحة. الوقت اليوم لرفع الركام، ولملمة الزجاج، والتأكد من صلاحية المباني، وأنها غير آيلة للسقوط؛ خصوصاً أن عدداً لا يستهان به من أصحاب المهن الإبداعية، اختاروا أبنية قديمة أو تراثية كأمكنة لهم. أحياء الجميزة، ومار مخايل، والكرنتينا، التي تعرضت بشكل كبير للخراب، هي موئل غالبية غاليريات الفن. هذا الاختيار جاء في الأصل مقصوداً من قبل الفنانين وأصحاب الغاليريات، لاعتبارهم أنها من المناطق التي لا تزال تحافظ على أصالتها.

ما حدث في الرابع من أغسطس (آب)، قلب المشهد البيروتي في لمح البصر. لحظة واحدة، حصل خلالها ما يعادل سنوات من حرب ضروس. كل المرافق الثقافية طالها الدمار، من متاحف، إلى غاليريات، ومسارح، وكذلك مكتبات تجارية إلى مكتبات عامة، دور نشر، جمعيات، مؤسسات، مطابع، مبانٍ تراثية، لوحات فنية اندثرت، منحوتات تحولت إلى حطام. لا يوجد مجال ثقافي واحد إلا وهو في حداد، على خسارة مادية أو إصابة أحد أعضائه، أو رحيل زميل في المهنة.

الأضرار هائلة في المباني التراثية التي بينها قصور تعود إلى الفترتين العثمانية والفرنسية.يصل عدد المتضرر من هذه العمارات التي صنعت خصوصية بيروت إلى 600 مبنى، ويقدر عدد المهدد منها بالسقوط - بحسب اليونيسكو - بحوالي 60 تحتاج معالجة عاجلة. من بين المباني التراثية الاستثنائية الأهمية «قصر سرسق» الذي صار بعد الترميم الجديد أجمل متاحف العاصمة؛ لكنه تدمر جزئياً، ومن بين مفقوداته أعمال فنية، منها ما تلف، وبينها ما يحتاج ترميماً.

مسارح عديدة أصيبت هي الأخرى. الأولوية اليوم لرفع الركام ونفض الغبار، ليتم التمكن من تحديد بقية الأضرار في معدات الصوت والضوء، والتمديدات، وكلها باتت تكلف غالياً. فمن مسرح «مونو» إلى «دوار الشمس» إلى «الجميزة» الذي كان من بين الأكثر تضرراً؛ حيث نشر القيمون عليه صوراً تظهر مدى الخراب الذي حل به. ليس بعيداً عن موقع الانفجار «مسرح زقاق» التجريبي الذي كان يحاول الاستمرار والتجديد بأقل الميزانيات، معتمداً على طاقاته الشابة، بقيت أضراره محدودة، لحسن الحظ.

ولم يرحم الأذى مركز «المؤسسة العربية للصورة» التي تأسست عام 1997، وكانت حريصة باستمرار على جعل أرشيفها مفتوحاً من خلال المعارض والمنشورات، والتعاون مع المؤسسات الإبداعية. ويحوي المركز مجموعة من أكثر من 600 ألف صورة يعود أقدمها إلى منتصف القرن التاسع عشر، ويصل أرشيفها حتى يومنا هذا. ومن حسن الحظ أن الأرشيف لم يصب بأذى، بفضل توضيب محكم حمى الموجودات من التناثر والضياع، وهذا من الأخبار القليلة المفرحة.

من الصعب جداً حصر الخسارة الثقافية بحسب إيلينا ناصيف، المديرة التنفيذية لـ«مؤسسة المورد» التي تلفت إلى أنه إضافة إلى عناوين المؤسسات والمراكز والغاليريات والمسارح التي نعرفها ونتردد عليها، هناك عدد كبير من الفنانين والمبدعين الذين يشتغلون من منازلهم؛ خصوصاً أولئك العاملين في المجال السمعي البصري مثلاً، والذين لا بد من أنهم فقدوا معدات غالية الثمن، كذلك الموسيقيون الذين خسروا آلاتهم، والرسامون الذين يعملون في بيوتهم، وتلفت أعمالهم ومن المستحيل تعويضها. عليك أن تفكر في عدد المكتبات الخاصة في المنازل المهدمة، وأنت تحصي كم من المكتبات العامة التابعة لبلدية بيروت وحدها، نسفها عصف الانفجار وأطاح بكتبها وواجهاتها الزجاجية. «كذلك هناك المكتبات الصغيرة الكثيرة التي بدأت تجمع بين عملها وتقديم الحرفيات اليدوية، القائمة على المزج بين الأصالة والتحديث في التصميم».

وتلفت ناصيف إلى أن إحصاء الأضرار يعني أيضاً «التفكير في كل الأعمال الفنية، بمختلف أنواعها، وهي كثيرة التي كان يفترض أن تنجز وتأجلت بسبب الكارثة أو دفنت وإلى الأبد، هذه أيضاً خسارة لكنها غير منظورة؛ لأنها ليست مادية».

وأضف إلى كل ما سبق الخسائر التي لحقت بغاليريات الفن العديدة، مثل غاليري «صفير-زملر» وغاليري «تانيت» و«أجيال» و«جنين ربيز»، والمبنى الذي يضم «مؤسسة رمزي وسعيدة دلول للفنون» ويضم أكثر من أربعة آلاف عمل لنحو 400 فنان من مختلف الدول العربية، وكذلك ضياع المجموعة الخاصة لنايلة كتانة نتيجة تدمير منزلها. هذا ما عرف حتى اللحظة، بينما لا يزال كثيرون منشغلين بلملمة جراحهم، ولا وقت لديهم للتحدث عن اللوحات والكتب والمخطوطات، والنوتات والأفلام والقطع الأثرية التي ذهبت هباء الريح.

ومن المفارقات الأليمة أن مؤسستَي «المورد الثقافي» و«الصندوق العربي للثقافة والفنون» (آفاق) اللتين كانتا في طليعة من فكروا في مساندة القطاع الثقافي اللبناني عندما تلقى ضربة بسبب وباء «كورونا»، وبدأتا العمل قبل أشهر لتوفير تمويل خارجي، ومساعدة الفنانين على التشبيك والتعاون للنهوض رغم الجائحة، وجدتا نفسيهما ضحايا للانفجار. فهذه المؤسسات التي تعنى بالتمويل ضُربت هي الأخرى. وإذا كانت مؤسسة «المورد الثقافي» بقيت أضرارها محدودة، فإن «آفاق» كانت أكثر تضرراً، وكذلك مؤسسة «اتجاهات».

هذا لم يمنع «المورد» و«آفاق» من إطلاق حملة تبرعات بعد كارثة الانفجار، من خلال بيان يوضح أن التبرعات ستذهب كاملة لدعم المؤسسات والمساحات الثقافية والفنية المتضررة، وذلك بناءً على تحديد الحاجات الملحة، وفي مقدمها إعادة البناء، وتسديد إيجار أماكن مؤقتة في حال التضرر الكامل. كما ستعمل المؤسستان على نقل وإيواء المجموعات الثمينة من صور، وأفلام، وأرشيف موسيقي، وغيرها، والاهتمام بإصلاح البنى التحتية للمباني ذات الوظائف الثقافية، وتعويض الكومبيوترات التي تدمر عدد كبير منها. كما سيتم الاهتمام بإيجاد مساحات عمل أو سكن لفنانين فقدوا أماكنهم، أو تعويضهم إذا خسروا معداتهم، وذلك بالإعلان عن منصة إلكترونية يتم التبرع من خلالها:

https://www.givingloop.org/afac

وانطلقت منذ وقوع الكارثة عشرات المبادرات الخيرية الثقافية التي شارك فيها كتاب وفنانون، كل يسهم بعرض نتاجه، وإطلاق مبادرته، ليعين على إعادة بناء ما تهدم من نسيج الحياة الإبداعية في بيروت.

وأعلنت بدورها دار «كريستيز» للمزادات عن نيتها تنظيم مزاد خيري تحت عنوان «كُلنا بيروت - الفن لبيروت: مزاد خيري» سيعود ريعه لإعادة إحياء المشهد الثقافي.وسيعقد هذا المزاد عبر الإنترنت في أواخر شهر أكتوبر (تشرين الأول) وحتى النصف الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. سيضم المزاد ما يقارب 40 إلى 50 قطعة تشمل أعمالاً فنية ومجوهرات وساعات وتصاميم عالمية.

الأنشطة الثقافية في بيروت مشلولة، وهو ما لم يحدث حتى خلال سنوات الحرب الطويلة الدامية. هذه المرة الضربة عضوية والطعنة في القلب، والمآسي أصبحت تراكمية، من انهيار اقتصادي، إلى وباء، ومن ثم زلزال النار. الشجاعة وحدها لم تعد تكفي، والناشطون في المجال الثقافي يبذلون جهداً كبيراً لتضميد الجراح.

 

 

أخبار ذات صلة