في وداع الياس الرحباني

                                                                          

                                                                           بيان أمانة الإعلام

في الحركة الثقافية – انطلياس

       

انطوى الياس الرحباني كأنه تسلّلَ من أزمنةٍ استَهلكت كلَّ رصيده من التفاؤل الذي كان دوماً بيرقَ حياته، فتواطأ معها جسدُه على حصاره في المنزل في خريف العمر، واستقوى عليه الوباءُ القاتلُ الذي لا يزال في عزّ جبروته متوعِّداً مهدِّداً الجميعَ، وحاصداً من غير توقُّفٍ أعدادًا متراكمةً من الأرواح، منهم أحبَّةٌ وأهل. غابَ طويلاً قبل أن يغادرَنا، في وضعٍ من تَرهُّلِ الجسدِ والذاكرة. سَئِمَ من "هذه" الحياة التي وصلَ إليها ولم يَخترْها،قال بآخر ما تبقَّى فيه من قوة: كفى، وانسحبَ منها. حيويَّتُه وروحُه المرحةُ، وحتى لُمعتُه الإبداعيةُ، التهمتْها تلك الحالةُ التي آلَ إليها!

عانى الياس الفنانُ المبدعُ الموسيقيُّ من مفارقةِ انتمائه إلى عائلة "الأخوين رحباني" التي اكتملت كينونتُها الإبداعيةُ الموحَّدةُ، في التأليف الموسيقيّ والتلحين، قبل بلوغه: صعوبةُ أن تكونَ الثالثَ قريباً للأخوين، وصعوبةُ أن تكونَ قريباً فنَّياً من "الأخوين"، وأصعبُ أن تبقى بعيداً إلى حدِّ الانقطاع المستحيل الذي لم يفلت من سطوته جميعُ المبدعين في زماننا، في زمانهما!

فكان سِفْرُ الخروج من غيرِ حرقِ الجسور. لقد حملَ الاسمَ الرحباني كوديعةٍ صعبة، لا كجوازِ سَفَرٍ للنجاح والشهرة التي لا يُعرَفُ وقعُها وحدودُها بين الناس والأجيال، ومدى استعدادِها لمحو هذه الدرجة "الثالثة" من وعيها! لقد حفَرَ الياس كينونتَه الإبداعيةَ منفرداً ومتفرِّداً في مساحاتٍ جديدةٍ من الأُغنيات "الشبابيّة"، متَّكِئاً على ثقافته الموسيقيةِ الأكاديمية، بخلاف الأخوين، في تجاوُز الحدودِ الجامدة بين الشرق والغرب، في تأليفِه مقطوعاتٍ موسيقيةً كلاسيكيةً على البيانو، على نسق شوبان مثالِه الأعلى، وفي وضعِه الموسيقى التصويريةَ البارعةَ للأفلام السينمائية العربية والمسلسلات التلفزيونية، بمنافسةٍ ضمنيةٍ مع أهمّ القطع الموسيقية في هذا المجال، ومتساوياً – ومتجاوزاً، لدى بعضِ النقاد – مع أبرز المتميِّزِ منها عالمياً! وفي خوضه مبارياتٍ دوليةً في الألحان والغناء (كان في إحداها 122 دولةً متنافسة) ونالَ الجوائزَ الأولى! أضفْ إلى كل هذه الانجازات الدولية، أكثرَ من 2500 لحنٍ في الموسيقى العربيَّة الحديثة، يؤدِّيها مغنُّون ومغنِّياتٌ شباب عديدون اختارَهم وأطلقَهم، بالإضافة إلى محترفين ومكرَّسين: كصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين (الذي أعطاه واحدة من أنجح أغانيه: يا رايح عالطواحين) وملحم بركات... وأعطى فيروز، في أعمال "الأخوين رحباني" بالذات، باقةً من أجمل أغانيها، وفي أغنيات الأطفال تظهرُ روحُه الفكاهيةُ المرحة على خلفيّةٍ تراثيةٍ حيّةٍ للثقافة الشعبية، بمسحةٍ أنثروبولوجية، التي عاشها مبدعوها (وهنا يتوحّد الرحابنةُ جميعاً في الأجواء الاجتماعية لإنطلياس مجال حياتهم: فالياس وُلد فيها، بخلاف عاصي ومنصور، وحمَلَ اسمَ شفيعها مار الياس وديره الأنطوني الشهير الذي كان المدرسةَ الموسيقيةَ الأولى "للأخوين رحباني" على يد الأب بولس الأشقر في أربعينات القرن العشرين)، وانطلياس اسمُها مضمَرٌ في كلِّ أعمال "الأخوين رحباني"، فأماكنُها وناسُها وحكاياتُها موجودةٌ في ثناياها بالصيغة المحدَّدة، وغالباً بالصيغة المجرّدة، وكثيرُها اندثرَ مع هجوم الحداثة، ولكنَّه باقٍ في الذاكرة الشعبية: "حنّا السكران" ليس شخصيةً أسطوريةً بل انسانٌ عرفتْه شوارعُ انطلياس وأهلُها، والنهرُ والطاحونُ والنبعُ... هي طواحينُ نهر انطلياس و"فوّارُه"، التي عايشَها الجيلُ المخضرم، جيلُ الأخوين، وأقلّ منهما بخمس عشرة سنة الياس، الخضرمة التي أعادَ إحياءَها مرةً إضافيةً بروح المرح والكاريكاتور: "كلُّن عِندُن سيارات وجدّي عندو حمار، بيركّبنا خلفو وبياخدنا مشوار...". تعاصُر وسائل النقل يجعل الصغار يفرحون بتخيُل ركوبهم حمار جَدِّهم في الوقت الذي كان حلمُ آبائهم اقتناءَ السيارة! وبعضُ إنجازات الياس أيضاً كانت في توجُّهه إلى دولٍ وشعوبٍ لمساعدة شعبه ووطنِه لبنان. ففي حادثةٍ لم تُذكر سابقاً، أنه في عام 1989، وكنَّا في لبنان زمن الحرب، وكانت السنةُ ذكرى مرور قرنين على الثورة الفرنسيّة، شاركت "الحركة الثقافية – انطلياس" في إحياء هذه الذكرى في باريس في تنظيم مؤتمرٍ دوليّ بعنوان: "الثورة الفرنسية ورحلتُها إلى الشرق" (أعمالُه في كتاب من "منشورات الحركة")، وكان وفدُ الحركة الذي سافر من لبنان مؤلَّفاً من خمسة: منهم الأب بول خوري، واثنان منهم من أعضاء الحركة، هما أنطوان سيف (رئيساً للوفد) وعصام خليفة. فعرفَ الياس الرحباني بهذا المشروع، وجاءني بشريطٍ مسجّل لأغنيةٍ له، بالفرنسية، عنوانُها: ( Merci France)، كي أُسلّمه إلى أحد الرسميين الفرنسيين بباريس المختصِّين، بواسطة أحد الأصدقاء اللبنانيين هناك وكان يعمل في اذاعة مونتي كارلو. وهكذا كان...

الياس الرحباني الإنطلياسي اللبناني المبدع الذي هوى في أزمنة الشقاء والقهر، كان أحدَ المشاركين الفعليين في نهضة الموسيقى في لبنان والعالم العربي (كان الموسيقار محمّد عبد الوهاب، عندما يزور لبنان، والحصةُ الكبرى من زيارته كانت "للأخوين رحباني"، كان يُمضي، مع ذلك، لقاءات مطوَّلة مع الياس الرحباني تمتدُّ أحياناً ساعات عدة!)! وفي الجانب من التقاطع بين الثقافات في تأليفه الموسيقيّ المميَّز بالغزارة (بعضُ النقاد يعتبره الأغزر بين المؤلفين الموسيقيين العرب، وآخرَ المؤلِّفين الكبار منهم!) والتنوُّع الموسيقيّ الذي رفدَه بأجواء الفرح التي تشي بروحه البهيَّة وأناقتِه الدائمة في الملبَس والمسلك والتعاطي مع الآخرين بمسحةٍ حميمية بل طفولية محبَّبة؛ لم يكن يغضب إلاّ من التردّي في الفن، وبخاصةٍ المكافَأ منه بأكثر من المكافآت على الأعمال الإبداعية أحياناً! تنوُّعُه الثر، الذي لم يكن كلُّه على سوّيةٍ واحدةٍ من القيمة، فيه مع ذلك الكثيرُ من القمم والدرر النادرة. عدمُ استقراره على نوعٍ واحد هو بأحد معانيه ممارسةُ حرية من سطوة "القبيلة" الرحبانية"، كما سمّاها منصور، السطوة الإبداعية الخالدة، وكان علامة فارقة فيها.

                                                                        أمانة الإعلام

                                                                في الحركة الثقافية – انطلياس

                                                                       د. انطوان سيف

2021/1/12