كلمة الحركة الثقافية، أنطلياس، في ذكرى الأب مارون عطا الله.

 

لاحت في الأفق البعيد ابتسامة مضيئة ترسم الأمل في زمن الكآبة والخيبة.

امتدّت يدٌ أصابعها جذورٌ منغرسةٌ في أعماق الذاكرة، تمسحُ غبار النسيان لتُلقي التحية عليكم أنتم يا من حملتم راية الوفاء عنواناً عريضاً لهذا اللقاء.

 تنجلي صورة كاهنٍ في مرآة نورانية تشعّ فرحاً وكرماً وثورة على التحجّر. إنه الأب مارون عطا الله، الراهب الأنطوني الذي نجح في إحداث موجةٍ غير مألوفة على شاطئ النمطية، وأتقن كيفية التجديد والخروج على الرتابة، ناشراً من حوله حبّ الحياة، وفرح التلاقي، محتفلاً دائماً بإيمانه ومنادياً به في كل حين.

نلتقي اليوم، في زمن الانكفاء، وتعداد الأيام الفارغة، والأرقام المقلقة، لنحتفل على الرغم مما نرزح تحته من أعباء، مصرّين على أن نرفع التحيّة إلى من علّمنا عدم الرضوخ أو الاستسلام أمام ما يعترضنا من صعاب، مهما كانت كبيرة. يقول جبران خليل جبران: "أمَرُّ ما في أحزان يومنا ذكرى أفراح أمسنا". نعم، تبدّل الزمن بسرعة، ونحن في مهبّ المجهول. فالانهيار لم يصل بعد إلى حدّه الأقصى. لم يعد لدينا من متّسعٍ للسعادة إلا من خلال العودة إلى ذكريات الماضي المضيء، نستعيدها، نتمسّك بها، نتجوّل في أروقتها، علّنا نتنفّس أريجها فنفرح لبعض الوقت. وها نحن اليوم نصرّ على استجماع ما لدينا من صور وشهادات ومواقف احتفظ بها كلٌّ منا في زاويةٍ من حنين، تعيدنا إلى  الأب مارون عطا الله الذي أتقن لعبة الحياة، وبرع في توليد السعادة، فنشرها كالعدوى من حوله، حيثما حلّ.

أيها الحضور الكريم،

يا أصدقاء وأحباء الأب مارون عطا الله،

يهمّ الحركة الثقافية، أنطلياس أن تؤكّد في هذه المناسبة الكريمة على مزايا هذا العلم في يوم تكريمه، هو الذي كان له الدور الفاعل في تأسيسها أيام اشتدّت فيها الحرب خلال سبعينيات القرن الماضي. لم يتردّد في دعمها، وفي تحفيز الشباب على الانخراط في المقاومة الثقافية، وعدم التخلّي عن السعي الدؤوب نحو الأفضل، والارتقاء نحو الانفتاح، وترسيخ الديمقراطية. صمد في وجه العنف، ورفض التقوقع، وانقلب على التحجّر، فشرّع الأفق واسعاَ قافزاً فوق الحدود، نابذاً كل الحواجز. شكّل حالة مميّزة تنادي بالقيم وتعوّل على الثقافة. نشيطٌ، متفجرٌ، يضجّ بالحياة، والمشاريع تولد عنده كجريان الدم في الشريان. متوقّدُ الذهن، لا يهدأ له بال حتى ينُجز ما يسعى إليه. كالبركان يلفظ حممه المضيئة ليبثّ الحماس، ويستنهض الهمم. 

يقول شاتوبريان: "الإرادة الحثيثة التي لا تنثني، تعلو على كل شيء، وتعلو حتى على الدهر"، هذا ما ينطبق بالتحديد على رغبة الأب مارون، وإصراره على متابعة المسير لحظة اشتداد الأزمات، وزيادة حجم الأثقال المرمية على أكتافه. صاحب إرادة لا تنكسر: خطّط، صمّم، جمّع، أحصى، وانطلق في رحلة الأيام المضرّجة بجرح الوطن، يقوده إيمانٌ لا يشيخ. وكما قال تولستوي بأن "الإيمان قوة الحياة"، هكذا كانت قوة الأب عطا الله متدفّقة من فيض إيمانه، وعزمه على تحدّي الألم بمختلف صوره. كيف لنا أن نفهم هذه الشخصية المميّزة، بمعزلٍ عن محرّك أساسٍ فيها هو الإيمان؟ الإيمان بالله معطي الحياة، بالكلمة المتجسّدة، بالإنسان، بالقيم، بقوة المحبة والتسامح.

عشق الحرية فلبسها ثوباً لصيقاً بجلده، مطرّزاً بالأفكار المتجدّدة، والمسلكيات الجريئة، والمواقف الرافضة للخضوع والاستعباد في مختلف أشكاله.

في الختام، نشكر جمعية "معاً نعيد البناء" بمجمل أعضائها، وبخاصة الزميلة العزيزة د.كريستيان صليبا التي لم توفّر جهداً، على الرغم من كل التزاماتها، من أجل إنجاح إحياء هذه الذكرى.

 

يبقى أن نلقي ألف تحية وسلام لروح هذا المارد الأنطوني الذي ينطبق عليه قول مخائيل نعيمة: "ليس المجد أن تمشي إلى غاياتك الأرضية على أكتاف الناس، إنما أن تحملهم على كتفيك إلى غاياتهم السماوية".

 

أنطلياس في 6 أيار 2023

الأمينة العامة

نايلة ابي نادر.