تكريم الرّئيس الياس بو ناصيف

الرّئيس الياس بو ناصيف

قدّم التكريم:الرئيس سامي منصور

أدار اللقاء: المحامي جورج بارود

       كرّمت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس"القاضي الياس بو ناصيف،  ومن خلاله العلمَ والنّزاهة والشّفافية والشّجاعة في إحقاق الحقّ، والقضاءَ المتحرر من كل الضغوط باستثناءالضمير الحي وتطبيق القوانين، الذي هو أحد أسس الدولة العادلة المعاصرة.

وصف المحامي جورج بارود المحتفى به بأنّه رجل وقور يبعث الطّمأنينة في النّفوس ويلتزم الاتّزان والموضوعيّة والنّزاهة وصلابة الموقف؛ ويؤمن أوّلاً بالحرّيّة وبأنّ لا خير في القانون ما لم يتوخّ القاضي تحقيق العدالة من خلاله، وثانيًا بأنّ هيبة القضاء تعكس هيبة الدولة، فإذا ضلّت النّزاهة والعدالة سبيلهما، أمست الدّولة بأسرها مهدّدة. وقدّم الأستاذ بارود نبذة عن حياة المحتفى منذ بداية حياته العمليّة مدرّسًا لدى وزارة التربية الوطنية، وانتسابه إلى نقابة المحامين في بيروت بعد نيله إجازة في الحقوق، ثمّ تركه المحاماة والتحاقه بمعهد الدروس القضائية. وبعدذاك، تقلب في مناصب قضائية متعددة، من مستشار لدى محاكم الاستئناف المدنية في جبل لبنان وبيروت، إلى رئيس للهئية الاتهامية في بيروت بالتكليف، ورئيس للجنة الاستملاك الابتدائية في لبنان الشمالي، ورئيس محكمة الاستئناف المدنية في بيروت الناظرة بدعاوى الايجارات والتوجب والقضايا النقابية، إلى أن عُيّن في أيار من العام 2008 رئيسًا للغرفة الأولى لمحكمة التمييز. بالإضافة إلى ذلك، عيّن عضوًا في المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وعضوًا في المجلس العدلي، ورئيسًا للجنة العفو الخاص، ورئيسًا للمجلس التأديبي للقضاة وللخبراء المحلّفين، ناهيك عن إصداره مئات القرارات في مختلف القضايا التي تعود لاختصاص المحاكم التي ترأسها أو شارك في هيئاتها.

 

        وتُركت مهمة تقديم المحتفى به للرئيس سامي منصور، زميل المحتفى به في معهد الدروس القضائيّة، وهو قاضٍ معروف ومشهود له  بالنزاهة والعمل الدّؤوب، حائز دكتوراه دولة في الحقوق وكانت أطروحته بعنوان: "نظرية الظروف الطارئة في القانون المدني"، وله عدّة مؤلّفات، وما يزيد على أربعين بحثًا قانونيًا، إلى جانب مئات الأحكام القضائية المميّزة. رأى القاضي منصور أنّ المحتفى به مكافحٌ منذ بداية حياته، و"متلقّي أوجاع الحياة بصمت وكبرياء"، ولكنّ هذا لم يمنعه من أن يحبّ زملاءه وأن يكون جامعًا لهم. وشدّد القاضي منصور على أنّ سيرة المحتفى به القضائيّة كانت حافلة بالنّجاحات، وكان مسؤولاً ونزيهًا وحياديًّا ومتحفّظًا وشجاعًا وصادقًا وصاحب رسالة، مجسَّدًا بذلك "القواعد الثّماني التي أطلقتها الوثيقة اللبنانية المتعلّقة بأخلاقيّات القضاة"، وبقي متواضعًا على الرّغم من المناصب العالية التي تبوّأها، ولم تحمله "رياح الغرور إلى صحاري مضلّلة".

 

        وتُرك المنبر للمحتفى به الرّئيس الياس بو ناصيف الذي تحدّث عن مدى تأثير وفاة والده في حياته، وكان في الثالثة من عمره، وكان الوالد في السادسة والعشرين، إذ جعله هذا الأمر يتحمّل المسؤوليّة باكرًا، وعن الصّعوبات المادّية التي واجهها والّتي كادت أن تحول دون متابعته علمه، عند كل مرحلة دراسية، غير أنّه واظب على الدّراسة وبلغ أعلى المراكز. وشدّد الرئيس بو ناصيف على أنّ استقلال القاضي "فعلُ إرادة نابع من القاضي ذاته"، مشيرًا إلى أنّ عدم فرض السّلطة ذلك إنّما ينمّ عن رغبتها في إبقاء قبضتها محكمة على السّلطة القضائيّة. وختم شاكرًا جميع القضاة الّذين عاونوه في المحاكم وأسهموا في إنجاح العمل القضائيّ، و"الحركة الثّقافيّة-أنطلياس" على هذا التّكريم متمنّيًا لها دوام الازدهار والتّوفيق في إعلاء شأن الثّقافة في لبنان.

        وكانت شهادات بالمحتفى به من الرئيس جان فهد، والرئيس السابق لمجلس القضاء الأعلى فيليب خيرالله، والمستشارة روزين غنطوس، والقاضي إيليا.

        وفي الختام قدّم أمين عام الحركة، الدكتور عصام خليفة شعار الحركة إلى المحتفى به ونسخة عن "النصّ الأصليّ لعاميّة أنطلياس الشهيرة، عاميّة 1840.

 

كلمة المحامي جورج بارود

في يوم تكريم الرئيس الياس بو ناصيف

الحركة الثقافية في أنطلياس

الخميس 14 / 3 / 2013.

 

        مجرد لقائه يوحي لك بالوقار، وذكر اسمه يترك في نفسك الطمأنينة على ملف عالق بين يديه مدعيًا كنت أم مدافعًا، فهو الضمانة الكافية التي تريحك، ربحت الدعوى أو خسرتها.

        ما شاع عنه، أن تفوقه لم يقلل من تواضعه، فإذا ناقش رأيًا أو انتقد فتوى، فإنما كان يلتزم الاتزان والموضوعية، دون أن يؤثر ذلك في تفرده وتمايزه. ولا عجب، "فالتواضع مفقود لدى صغار الادعياء، لكنه يصبح العظمة بعينها إذا صدر عن عالم عظيم".

        الرئيس الياس بو ناصيف الذي تكرمه الحركة الثقافية في أنطلياس اليوم، عالم كبير متواضع، يؤمن بأن لا خير في القانون، ما لم يتوّخ القاضي من خلاله العدالة (مع ان القانون هو القانون،Dura lex sed lexكما يقول الرومان). فإلى جانب علمه ومعرفته، فهو يتعاطى الشأن القانوني كفضيلة، والعدالة عنده صناعة متجسدة في القرارات التي تصدر عنه.

        إلى جانب تواضعه، فالرئيس بو ناصيف صلب الارادة، قوي الشكيمة، لا ينحني أمام إغراء أو ضغط من حيثما أتى. ويشهد قراره في نتائج انتخابات المتن الشمالي عام 2002 على صلابة موقفه.

        يؤمن بالحرية، فمنابت الفقه لديه تكون حيث منابت الحرية التي لولاها لما كان تطور أو ازدهار في علم القانون.

        إنه من مواليد العام 1944، من قرية كفرقطره، قضاء الشوف، بدأ حياته العملية مدرسًا لدى وزارة التربية الوطنية – بعد أن تخرج في العام 1963 من دار المعلمين والمعلمات في بئر حسن – تابع دروسه الجامعية ونال الاجازة في الحقوق من الجامعة اللبنانية عام 1968، وانتسب على أثرها إلى نقابة المحامين في بيروت محاميًا متدرجًا في مكتب الاستاذ ناجي نبيل البستاني.

        ترك المحاماة والتحق بمعهد الدروس القضائية وتخرج منه عام 1975.

        قرر مجلس شورى الدولة اعتباره قاضيًا أصيلاً اعتبارًا من تاريخ 4/10/1975 بعد مراجعة تقدم بها أمامه طعنًا بمرسوم تعيينه الذي اعتمد فيه تاريخ 23/2/1977 تاريخًا لتعيينه.

        وقد كنت يومها في دائرة الدراسات القانونية لوزارة المال وتمت مراجعتي بالامر، وكان جوابي كما هو عليه دائمًا، أنه أمام الاحكام القضائية، جواب الادارة يقتصر على عبارة "لانفاذه وفقًا لمضمونه" دون زيادة أو نقصان، إلا ّ في حالات نادرة جدًا تقضي بإعادة المراجعة لاسباب تتعلق بأمور جوهرية، بعكس ما هو عليه حال الادارة اليوم، حيث يتم تفنيد الاحكام والتعليق عليها وانتقادها والاستنساب في تنفيذها، الامر الذي يوهن الدولة، ويُعرض هيبة المؤسسات خاصة القضائية منها للخطر.

        تقلب في مناصب قضائية متعددة من مستشار لدى محاكم الاستئناف المدنية في جبل لبنان وبيروت، إلى رئيس للهئية الاتهامية في بيروت بالتكليف، ورئيس للجنة الاستملاك الابتدائية في لبنان الشمالي، ورئيس لمحكمة الاستئناف المدنية في بيروت الناظرة بدعاوى الايجارات والتوجب والقضايا النقابية، إلى أن عيّن في أيار من العام 2008 رئيسًا للغرفة الاولى لمحكمة التمييز.

        نال في العام 1982 دبلومي القانون العام والخاص من كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، وأعدّ موضوعًا لنيل شهادة الدكتوراه في الحقوق بعنوان: مفاعيل الاحكام الاجنبية في لبنان بإشراف العلامة الدكتور إدمون نعيم.

        إنتخب عضوًا في مجلس القضاء الاعلى عن غرف محكمة التمييز.

        عيّن عضوًا في المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وعضوًا في المجلس العدلي، ورئيسًا للجنة العفو الخاص، ورئيسًا للمجلس التأديبي للقضاة، وللخبراء المحلفين.

        طرح اسمه مؤخرًا وتم التداول به كرئيس لمجلس القضاء الاعلى، ولكنّ ما حال دون ذلك قصر ولايته لاقترابه من بلوغ السن القانونية.

        أصدر الرئيس بو ناصيف مئات القرارات في مختلف القضايا التي تعود لاختصاص المحاكم التي ترأسها أو شارك في هيئاتها، فبات العديد منها يشكل اجتهادات ومراجع يفد إليها رجال القانون.

        له دراسات عديدة منشورة في مجلات قانونية متخصصة، نذكر منها:

1-    الاستملاك غيرالمباشر والمشاكل الناجمة عنه – النشرة القضائية لعام 1975.

2-    المقام على الصعيد الدولي، النشرة القضائية لعام 1975.

3-    صلاحية محكمة الجنايات الشاملة؛ وهي مجموعة دراسات ألقاها في معهد الدروس القضائية.

 

        إنه صديق دائم للكتاب، وللحركة الثقافية، ونادرًا ما يغيب عن متابعة نشاطاتها ومعارض الكتاب فيها وندواتها.

        ما تركه الرئيس الياس بو ناصيف من بصمات في الذاكرة، أنه يوم كان يرأس محكمة الاستئناف الناظرة في الدعاوى النقابية حيث تكثر الملفات الخاصة بالمحامين، كان يفهم دور المحامي الذي ينبري مدعيًا عن طالب الحق أو مدافعًا عن ظنين أو متهم. وقد اعتبره دومًا يتكلم بلسان موكله، ولا يعكس في ادعاءاته أو دفاعه عقيدة شخصية لديه، فدوره لا يتعدى إسعاف موكله ونجدته لتحصيل حقوقه، وما يقوله يعبّر عن حقيقة نسبية يضعها في الميزان لتحقيق العدالة. أما الحكم النهائي فيعود للقاضي الذي على ضوء ما يدلي به الفرقاء، يتخذ قراره.

        أليس هذا ما كان يعلمه أفلاطون، وما يُبنى عليه دومًا لارساء العدالة؟

        لذلك ترى المحامي يدافع في قضيّة، ثم لا يلبث أن يدلي بعكس ما كان قد أدلى به، في قضية مشابهة دون أن يُلام أو يؤاخذ.

        اقتنع دومًا الرئيس الياس بو ناصيف بأن هيبة القضاء تعكس هيبة الدولة. فإن ضلت العدالة طريقها والنزاهة سبيلها، أضحت الدولة بكافة مؤسساتها مهددة. وبحفاظ القاضي على استقلاله الشخصي يؤمن استقلال القضاء كسلطة، ويصون المؤسسات ويحافظ على الجمهورية. فهيبة القضاء لديه تتحقق بالنزاهة وعدم الاضرار بالغير وبإعطاء كل ذي حق حقه، وإلاّ فلا عدالة ولا خير يرتجيان.

 

        أيها القانونيون الكبار من بلادي، بأفكاركم وعلمكم وخبرتكم رسّختم أسس الوطن، وجعلتموه يضاهي بعظمته كبار بلدان العالم. أولسنا أحفاد مدارس الحقوق المتعاقبة عبر التاريخ ومنذ أيام الرومان؟

        أوَ لم يسري حب القانون الذي بلغ ذروته أيام مدرسة بيروت للحقوق في عروق من اختار القانون رسالة أو مهنة؟ أوَ ليست طبائعنا هي نفسها تلك التي طبعت علماء نشأوا على هذا الشاطئ وعلموا في مدرسته وطلابًا أمّوا إليها من أقاصي الدنيا؟ وقد قيل فيها: "ما لنا للدهشة والاستغراب! أوَ ليست بيروت موطنه، أمّ الشرائع ومرضعتها"، ذلك لان ثمة هالة من الوقار كانت تجلل أساتذتها، تنبع من مناقبيتهم ورصانتهم وأدبهم الرفيع، ومن أداء من كانوا يعتبرون تعليم القانون وممارسته ترسلا ً وكهانة.

        الياس بو ناصيف تكريمك اليوم تكريم لجميع القضاة الشرفاء في لبنان، إنك القاضي النموذج علمًا وأخلاقًا ونظافة كف، فهنيئًا لك مكرمًا كعلم من أعلام القانون.

        وإن الحركة الثقافية في أنطلياس تفتخر بهذا الاختيار.

 

القاضي سامي منصور.

          قاض ٍ معروف ومشهود له في النزاهة والعمل الدؤوب. درس في الكلية العاملية، وتابع دراسته الجامعية في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية حيث نال الاجازة في الحقوق، ثم تابع دراساته العليا في القانون العام والخاص ونال دكتوراه دولة في الحقوق وكانت أطروحته بعنوان نظرية الظروف الطارئة في القانون المدني.

          إلى جانب أطروحته، له خمسة مؤلفات أخرى:

-        موسوعة القانون الدولي الخاص بالاشتراك مع الاستاذين نصري دياب وعبده غصوب وهي من ثلاثة أجزاء.

-        الوسيط في القانون الدولي الخاص.

-        منهجية البحث القانوني.

-        الاموال والحقوق العينية الاصلية بالاشتراك مع القاضي مروان كركبي.

-        ومدخل إلى علم القانون جزء أول بالاشتراك مع الدكتور حسن محيو.

له ما يزيد على أربعين بحثًا قانونيًا، منشورة جميعها في مجلات ومراجع قانونية ومنها مجلة العدل التي تصدرها نقابة المحامين في بيروت.

          إلى جانب المئات من الاحكام القضائية المميّزة.

          دخل معهد الدروس القضائية في العام 1973، وكان زميلا ً لمكرمنا الرئيس الياس بو ناصيف، وتخرجا معًا، كما عُينا معًا قاضيين أصيلين، وطعنا معًا بمرسوم تعيينهما لجهة اعتماد تاريخ التعيين أمام مجلس شورى الدولة الذي اعتمد 4/10/75 بدلا ً من 23/2/1977 تاريخًا لتعيينهما.

          تنّقل في مناصب قضائية حسّاسة ومتعددة، من قاض ٍ منفرد للايجارات، إلى قاض ٍ للامور المستعجلة، فرئيس للمحكمة الابتدائية، ورئيس لمحكمة الاستئناف المدنية – الغرفة العاشرة، وكلها في بيروت، إلى رئيس غرفة في محكمة التمييز كذلك، بالتزامن مع تعيين مكرمنا الرئيس الياس بو ناصيف في العام 2008.

          وقد عيًن وانتخب عضوًا في مجلس القضاء الاعلى على أربع دورات.

          إنه رجل قلم وقانون وهو علمٌ يقدم علمًا آخر من أعلام الثقافة والقانون.

          إنه القاضي الرئيس سامي منصور.

 

 

 

محطات وذكريات

 

كلمة الرئيس الياس بو ناصيف

 

أوائل العام 1947 كنت دون الثالثة من عمري عندما توفي والدي وهو في الرابعة والعشرين من عمره تاركاً زوجته وأربعة أولاد تترواح أعمارهم بين الثلاثة أشهر والست سنوات. وقد رعتنا الوالدة بمعاونة جدي وولديه وكانت لنا الأب والأم في آنٍ معاً.

 

كان لفقدان الوالد الأثر الكبير في حياتي إذ لم أنعم يوماً بحنان الأبوة ورعايتها كسائر الأولاد الأمر الذي جعلني أتحمل المسؤولية باكراً وأشارك في الحياة الإجتماعية إبتداءً من الثانية عشرة من عمري.

 

لما بلغتُ السادسة أُرسلت الى المدرسة وكنت كل صباحٍ أبكي معانداً لا أريد الإلتحاق بالصف فكانت ترافقني أمي ولا زال صوت جدي يرنّ في أذنيّ قائلاً :" أتركيه دون مدرسة هذا الولد لن يطلع منه شيء".

 

في السنة الثانية بدأت أرافق الأولاد للذهاب الى المدرسة في كفرقطره سيراً على الأقدام لمدة ساعة تقريباً صعوداً من مزرعة الدوير التابعة لبلدة كفرقطره بالرغم من الطقس الماطر والعاصف وحمّال الكتب يتدلى من كتفي حاملاً قطعة الحطب تحت إبطي من أجل تأمين التدفئة في المدرسة، وبعد الظهر أعود الى الدوير حيث كان منزل جدي لتحضير الدروس والفروض على ضوء قنديل الكاز لعدم توافر التيار الكهربائي آنذاك.

 

وكانت المدرسة عبارة عن غرفة واحدة يدّرس فيها معلمٌ واحد جميع صفوف الإبتدائية وكان تلامذة كل صف يجلسون على مقعد واحد طويل. بقيت في هذه المدرسة لغاية العام 1955 حين سُجلت كطالبٍ داخلي في مدرسة مار يوسف الحصن في بلدة غوسطا الكسروانية وقد نلت آنذاك شهادة الدروس الإبتدائية.

 

بعد ذلك كدت أتوقف عن متابعة الدراسة لعدم توافر المال اللازم لدفع الأقساط المدرسية. وبناءً على نصيحة أحد المعارف تسجلت في المدرسة الدولية في بيروت لتعلم الضرب على الآلة الكاتبة بغية العمل في أحد المكاتب التي كانت منتشرة في محيط العدلية.

 

لكن العناية الألهية لم تتركني وذات يوم في بدء السنة الدراسية شاهدتني سيدة في المحل التجاري العائد لعمي وسألته عمن أكون وفي أي مدرسة أدرس ولما علمت أني توقفت عن الدراسة قالت له: "غداً صباحاً ستمر إبنتي التي تدرس في تكميلية فرن الشباك الرسمية للصبيان وتأخذه معها لتسجيله فيها، وكانت هذه السيدة رحمها الله سبب متابعة دراستي التكميلية.

 

أمضيت في المدرسة المذكورة أربع سنوات نلت بنهايتها شهادة البريفيه اللبنانية والبريفيه الفرنسية في آن، وقد أُرسلت للعمل في إحدى شركات الضمان الكائنة في شارع المصارف في بيروت لكني صُدمت عندما تبين لي أن عملي هو office boyولم أصدق يومها متى ينتهي النهار الأول كي لا أعود الى العمل ثانيةً.

 

بناءً لنصيحة قريبٍ لي إشتركت في العام 1960 في مباراة الدخول الى دار المعلمين والمعلمات الإبتدائية وذلك طمعاً بالمنحة الشهرية التي كانت تُدفع للطلاب لمدة تسعة أشهر وكانت بقيمة ستين ليرة لبنانية، ولتأمين مصاريف باقي السنة عملت خلال فصل الصيف في أحد المقاهي في بيروت.

 

في نهاية حزيران 1963 تخرجت حاملاً شهادة التعليم بالإضافة الى البكالوريا القسم الأول التي تبعت دروسها في إحدى المدارس الليلية التي كانت منتشرة في بيروت.

 

عيّنتُ مدرساً لدى وزارة التربية الوطنية وكنت في التاسعة عشرة من عمري في مدرسة عين داره الرسمية وتابعت منهاج البكالوريا القسم الثاني في ثانوية المخلص المسائية.

 

في العام الجامعي 1964 إلتحقت بكلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ونلت بعد أربع سنوات الإجازة في الحقوق وكان من بين أساتذتنا كبارٌ أذكر منهم الدكتور إدمون رباط والدكتور إدمون نعيم والدكتور بطرس ديب والرئيس الأول ألبير فرحات والدكتور عاطف النقيب والدكتور مصطفى العوجي والأستاذ أميل بجاني والدكتور نقولا أسود والدكتور بيار صفا والرئيس خليل جريج وغيرهم رحم الله من توفي منهم وأطال عمر من لا يزال على قيد الحياة.

 

كان معدل النجاح في كل سنة يقتصر على حوالي أربعين الى خمسين طالب أذكر منهم الأستاذ الياس كسبار الذي كان الأول بين رفاقه والأستاذ إبراهيم طرابلسي ومعالي الدكتور خالد قباني والدكتور نعيم مغبغب والأستاذ عطالله غشام المدير العام لوزارة الداخلية والأستاذ حسان هاشم المدير العام في وزارة الطاقة والمياه وغيرهم.

 

في العام 1969 تركت التدريس وإنتسبت الى نقابة المحامين في بيروت كمحامٍ متدرج في مكتب المحامي ناجي البستاني معالي الوزير السابق لاحقاً.

 

في أواخر العام 1972 أُعيد إفتتاح معهد الدروس القضائية إشتركت في المباراة وكنت بين الفائزين. وتخرجنا في تموز 1975 في بداية الأحداث اللبنانية.

 

أول مركز قضائي شغلته كان مستشاراً لدى محكمة إستئناف جبل لبنان الغرفة الخامسة التي كان يرأسها قاضٍ عالم مثقف شفاف يتمتع بإستقلالية تامة ألا وهو الرئيس فيليب خيرالله الذي أصبح لاحقاً الرئيس الأول لمحكمة التمييز أطال الله عمره وأكثر من أمثاله، وقد إتخذته طوال عملي القضائي كمثالٍ أعلى لي.

 

في العام 1990 عيّنت مستشاراً لدى محكمة إستئناف بيروت وكانت برئاسة القاضي مارون عزيز الذي إستقال ليمارس المحاماة.

في أواخر العام 1992 عيّنت رئيساً لمحكمة البداية في جبل لبنان.

وفي أول العام 1996 رئيساً لمحكمة إستئناف جبل لبنان الغرفة الرابعة وكان مركزها في بعبدا وإنتقلت في أواسط العام 1997 الى قصر العدل في جديدة المتن.

أواخر العام 2002 عيّنت رئيساً لمحكمة إستئناف بيروت الغرفة الثانية عشرة لغاية آيار 2008 إذ عيّنت رئيساً للغرفة الأولى لمحكمة التمييز التي كانت تنظر بتمييز القرارات الجزائية الصادرة عن المراجع الجزائية في البقاع وتمييز دعاوى الإيجارات الصادرة عن جميع محاكم الإستئناف في لبنان لحين إحالتي الى التقاعد.

 

قضيت 39 عاماً ونيّف في العمل القضائي وكنت أعتبر القضاء رسالةً أكثر مما هو وظيفة كسائر الوظائف، والرسالة تتطلب العمل والتضحية دون حساب.

أما بشأن إستقلال القضاء فكنت أعتبر ولا أزال أن الإستقلال هو "فعل إرادة" نابع من القاضي ذاته الذي عليه أن يكون مستقلاً بمعزل عن وجود قانون للسلطة القضائية أو عدمه، هذا القانون الذي لم يرَ النور الى يومنا هذا وأعتبر أن ذلك مرده عدم رغبة السلطات بإقرار هكذا قانون كي تظل مسيطرة على السلطة القضائية التي نص عليها الدستور الى جانب السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.

 

إن القضاة المستقلين كثر والإستقلالية تمنح القاضي قوةً في إحقاق الحق دون رهبةٍ أو مسايرة لأي مرجع سوى إعمال ضميره والقانون.

 

أن النصوص المعتمدة حتى اليوم غير كافية لتأمين الإستقلالية وسأبدي بعض آرائي الخاصة بهذا الموضوع:

1-  إصدار قانون يجيز إنتخاب جميع أعضاء مجلس القضاء الأعلى وعدم الإكتفاء بإنتخاب عضوين من رؤساء محكمة التمييز فقط،

2-    جعل التشكيلات القضائية نافذة دونما حاجة لإصدار أي مرسوم يستقل بإعدادها مجلس القضاء الأعلى وحده،

3-    إعتماد الكفاءة والإنتاجية والإستقلالية عند إجراء كل تشكيلات قضائية دون التقيد بالطائفة والمذهب،

4-  إعتبار لجوء أي قاضٍ الى أي مرجعٍ كان غير مجلس القضاء الأعلى من أجل تبوء أي مركز قضائي مخالفةً مسلكية يُحاسب عليها تأديبياً،

5-  زيادة عدد المفتشين العامين والمفتشين التابعين لهيئة التفتيش القضائي وتوزيعهم على مراكز المحافظات لمراقبة عمل القضاة والمساعدين القضائيين تفعيلاً للإنتاجية.

 

وهنا لا بد من الإشارة الى ما يتعرض له القضاء من هجماتٍ وتشكيك بواسطة الإعلام على أنواعه والذي من شأنه زعزعة ثقة المواطنين به، وفي رأيي يجب إستدعاء كل من يتعرض لقاضٍ أو للقضاء بشكل عام للإستفسار منه على ما يأخذه على القاضي وإجراء التحقيق اللازم وعدم ترك الأمور دون ملاحقة.

 

وفي النهاية أشكر جميع القضاة الذين عاونوني في سائر المحاكم وساهموا في نجاح العمل القضائي فيها، كما أتقدم بالشكر من الحركة الثقافية في أنطلياس رئيساً وأميناً عاماً وأميناً للسر وجميع الأعضاء على إقامتهم هذا الحفل التكريمي وأتمنى للحركة دوام الإزدهار والتوفيق في إعلاء شأن الثقافة والكتاب في لبنان، وأشكر الحاضرين الذين شاركوا في هذا التكريم متمنياً لهم التوفيق والنجاح في مهامهم.

 

إن لبنان سيبقى بخير طالما قضاؤه بخير.

 

أنطلياس في 14/3/2013

                                                                   القاضي الياس بوناصيف