عقدت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس"ندوة لمناقشة كتاب المهندس والأكاديمي ميشال عقل الذي يحمل عنوان: "بالثقافة نبني"، الصّادر عن دار "مختارات"، شارك فيها الدكتور ناصيف نصّار والدكتورة منى فيّاض، وأدارها الدكتور أنطوان سيف.

الدكتور أنطوان سيف اشار إلى أن هذا الكتاب هو توأم لكتاب آخر للمؤلف بعنوان: "الأرضليست ملكا ًلنا" صدرا معاً الصيف الفائت. وتساءلعن معنى "بالثقافة نبني" خصوصاًبعد عناوين مشابهة ، مثل "بالتربية نبني" الذي أطلقته الدولة عندما أطلقت المناهج المدرسية الجديدة في مطلع العام 2000، والشعار الذي أطلقه في الحرب الاستاذ فارس الزغبي:" خلاص لبنان بالثقافة". ناهيك عن المعادلة اللغوية للدكتور ناصيف نصار في المرحلة نفسها: "تغيير في الثقافة من أجل تغيير بالثقافة"... ولِم ليس "بالسياسة نبني"؟ خصوصاً وأن المؤلف انتقل في مرحلة لاحقة إلى العمل السياسي المباشر بمعية النائب نسيب لحود؟ وسأل بأية ثقافة نبني؟ وتوجَّه إلى المهندس عقل قائلاً: "أهلاً بك في عالم تأليف الكتب"... وأنت الصديق والرفيق في تأسيس "الحركة الثقافية-أنطلياس"،واصفًا إيّاه بـ"الفتى السبعيني المشعّ دوماً حيويةً وطيبةً وعطاءً". ورأى الدّكتور سيف أنّ كتاب "بالثّقافة نبني" يصل متأخراً ومتألّقًا، ويحمل في طيّاته "تجربة شخصيّة عمرها نصف قرن". وتحدّث الدكتور سيف عن أهمية الثقافة كإنجاز بشريّ مؤسّس للتّنوّع البشريّ، ومشيرًا إلى أنّ الكاتب سلك "دربًا ثقافيّة في السياسة" وأنّ كتابه "سيرة ذاتيّة، ولكن بصيغة الجمع، يمكن قراءته كحكمة معتصرة" غالباً ما تأتي عقب تجربة غنية لمجرًب نبيه.

الدكتور ناصيف نصّارشدّد على ضرورة عدم مقاربة كتاب "بالثقافة نبني" وحده، ذلك أنّه قرين كتاب آخر "الأرض ليست ملكًا لنا"، فالكتابان يؤلّفان معًا حصاد ميشال عقل، إذ يبرهن الأوّل التزامه الثقافي في مجال الهندسة، والثّاني التزامه في المجالات الأخرى، ويضيء الواحد منهما جوانب مهمّة في الآخر. ويتألّف كتاب "بالثقافة نبني" من مجموعة مقالات ومواقف على مدى ثلاثين عامًا تقريبًا، وهو بالتالي يحمل قيمة للذاكرة التي لا بدّ من استعادتها حتى لا تقع مواقف ميشال عقل القيّمة هذه طيَّ النسيان، ولا سيما أنّها تحمل معاني قريبة من عالم اليوم. يُقرأ الكتاب إذًا من باب الذاكرة ومن باب الالتزام في الحاضر، وتوظيف المواقف السابقة فيه في شتى المجالات. فعلى الرّغم من تنوّع  مقالات الكتاب، إلاّ أنّها تتكامل وتتّحد. وتقوم هذه الوحدة على أركان ثلاثة، هي: الوطنية والديموقراطية والتقدّمية. ورأى الدكتور نصّار أنّ هذا الكتاب يبدي رأيًا في أحداث سابقة، ويدفع إلى البحث عمّا هو أفضل. وشرع إلى التفكير مع المؤلّف انطلاقًا من عنوانه "بالثقافة نبني"، واعتبره محاولة لجعل الثقافة حيّزًا تأسيسيًّا وتوجيهيًّا. بالإضافة إلى ذلك، توقّف نصّار عند اشكاليات يطرحها الكتاب، مركّزًا، لدى المؤلف، على أولوية الثقافة في بناء المجتمع، ذلك أنّ الكتاب يقوم على فرضية تكوّنت في إطار التعامل مع الثقافة ضد نظريتين هما: الأولوية المعطاة للاقتصاد في بناء المجتمعات (النظرية الماركسية)؛ والأولوية المعطاة للسياسة. أمّا إعطاء الأولوية للثقافة فيعني التعامل معها كعامل أساسي. وقال الدّكتور نصّار إلى أنّ المؤلف عقل يميل إلى مقولة كون الثقافة نتاجاً شعبياً، ولا يفهم الثّقافة بكونها إنتاج نخبة، بل إنتاج شعب بكامله. إلى جانب ذلك، دعا ميشال عقل إلى التفكُّر بمثل التعامل مع إشكالية الديموقراطية، بحيث تطرّق الدّكتور  نصّار إلى ثقافة الديموقراطية الصحيحة التي تحمل في طياتها قضايا المساواة والسلطة والعلمانية، لا الثقافة بمعناها العام، متسائلاً لِمَ مجتمعنا لا يتقن للساعة العمل في إطار الديموقراطية الليبرالية أو التوافقية؟

وتُرك المنبر للدكتورة منى فيّاض التي أعربت عن سرورها بالمشاركة في هذه النّدوة حول كتاب الصّديق المهندس ميشال عقل. واستذكرت الوصف الذي اختاره له عن حقّ الراحل نسيب لحّود: "المهندس-المثقّف"، هذا العقل المستنير العلماني والمؤمن بقيام الدولة الحديثة المتخلّصة من طائفيّتها والمنفتح على التنوع والغنى الثقافي والديني. وقدّمت الدكتورة فيّاض نبذة عمّا يتناوله المؤلّف في كتابه، إذ يتطرّق إلى تجربته الانتخابيّة التي رأى فيها وسيلة تعبئة نضالية أكثر مما هي مقعد نيابي، وإلى ولادة "حركة التجدد الديموقراطي" التي شكّلت علامة فارقة في العمل السياسي اللبناني، وإلى مراحل الأحداث والنّضال من أجل لبنان سيّد ومستقلّ. ولفتَ الدكتورة فيّاض في الكتاب مدى آنيّة الأحداث المذكورة، علمًا بأنّها ترقى إلى ثمانينات القرن الماضي، فضلاً عن مفهوم المهندس عقل للثقافة، كما مارسته "الحركة الثقافية-أنطلياس".

ومن ثمَّ كانت مداخلات في الندوة للأساتذة موريس نهرا، والدكتور محمد الحاج، عميد معهد الفنون في الجامعة اللبنانية، والدكتور عصام خليفة.

وفي الختام كانت كلمة إيضاحية مطبوعة للمؤلف المهندس ميشال عقل عن محاور كتابه وأطاريحه ومقولاته. وشكر المتكلمين في الندوة والحضور والحركة الثقافية-انطلياس.

"بالثقافة نبني"  لميشال عقل

بقلم د. انطوان سيف

 

        لا تنصاع الرغبات دوماً لأحكام الإرادة. تغوي بالسياحة في زمنٍ أهلَّتُه مفتوحةٌ، تتمرّد على الحاسم في القرار الذي لا يأبى الاندراج في الآن والهُنا. هذا الكتاب يعطيك الانطباع أنه يصل متأخراً، ولكن متألقاً. يحمل في طيّه تجربةً شخصية عمرها نصف قرن. يؤرخ أحداثَها بنقاط ارتكازٍ "ثقافيةٍ" تجعل السيرة تزدوج: الأنا في أوعيتها المتعاقبة والمتشاركة. كأنه ابتدع لذاته الحميمةِ إطاراً جمعيّا تلهج فيه قليلاً "بالأنا" وكثيراً "بالنحن"، هذا النحن القديم الذي يؤطره الحيّز الأنطلياسي – الأنطوني من "نادي الشراع" عام 1965، الى الحركة الثقافية – انطلياس منذ 1978 ولهذه الساعة، إلى انتظارات الشباب (1995)... التي كلها تقول السياسيَّ بلغاتٍ غيرِ سياسية، او نصفِ سياسية، إلى السياسي التام (وهو عنده ثقافيٌّ دوماً، ولكن بغير اللغة الثقافية الحصرية) مع "المنبر الديمقراطي" و"حركة التجدد الديمقراطي" بمعيّة قامةِ نسيب لحود الوطنيةِ الوارفة. "بالثقافة نبني" هو سيرةٌ ذاتية، وفي الآن ذاته، حتى مع عبارة "مختارات من تجربتي"، عنوانِه الأصغر، سيرةُ جماعةٍ وجماعاتٍ، وحقبةٌ لا تُفهم إلا بومضها على الأوسع الوطني في أكثر مراحله صعوبةً ومأساوية. روايةٌ عن مغامرةٍ للثقافة مشت بين القذيفة والقذيفة، وطال مسارُها ولا يزال. عبرتْ حواجزَ الموت المفروضةَ على الأرض واستهانت بها، واستحقّت، معه ومع رفاقه، وسامَ البقاءِ المشرّفِ من رتبةِ عنيد.

        ولكن ماذا يعني ميشال عقل بعبارة "بالثقافة نبني"؟ وهو المهندس البارع الذي يبني صروحاً أخاذةً من الحجر، وللبشر؟ لماذا ليس: بالسياسية نبني؟ بعد خروجنا من حروب الخمس عشرة سنة عزمتْ الدولةُ على وضع مناهجَ تعليمٍ جديدة، بعد مناهجَ شاخت اكثرَ من ثلاثة عقود، فأطلقت ورشة المناهج الجديدة تحت شعار "بالتربية نبني"؛ وفي عزّ تلك الحروب التدميرية، قبلذاك، أطلق فارس الزغبي (الذي له تنويهٌ به مخصوصٌ من المؤلف في هذا الكتاب) شعارَ: "خلاص (أو تخليص) لبنان بالثقافة". لقد اتخذتِ الثقافة، مع انجازات الانثروبولوجية، أبعاداً عمومية وشمولية متلازمةً مع الخصوصيات الجماعية، في أواخر القرن العشرين، تجعلها إنجازاً بشرياً عاماً ومخصوصاً مؤسساً حقيقياً للتنوع البشري الذي غدا من أرفع القيم المعاصرة. وأعطت بذلك معنى واسعاً للأنشطة البشرية برمّتها، وعلى رأسها النشاطُ السياسي، علماً وممارسة. فالثقافة هي العمق الذي تتمظهر به أنشطة البشر، وقيمُها الشاملةُ المبتدَعةُ والمنتشرةُ باتت تشكّل ديونطولوجيا كلِّ نشاطٍ أو مهنةٍ منها. بهذا أيضاً تقاربت سائرُ الأنشطةِ المهتمةِ بالشأن العام وتكاملت من غير أن تتناقض مع بعضها البعض. وبهذا أيضاً سلك المؤلف درباً ثقافيةً في السياسة، متميزةً بهذا الاقتران. لم يجد حسن صعب، على سبيل المثال، حرجاً من موضعةِ تسمية "حركتنا الثقافية" في إطارها التاريخي اليوم، فأسماها: "ثقافيَّة انطلياس"، تماماً كما سالفتها: "عاميّة انطلياس"! إلاّ ان الثقافة المُعطى لم تكن كافية لحراك التاريخ بالإرادة والوعي، فكان لا بدّ من العمل على التحوّل الثقافي بين الجماعات المختلفة، بعد تطهير مصطلح "التثاقف" و"المثاقفة" من الفوقية الاستعمارية التي صاحَبتْه في المنشأ والمسار، ومن التمركُز الغربي المعروف، والشرقي أيضاً الأقل شهرةً. هذا الحراك الجمعي الإرادي الواعي صاغه ناصيف نصّار بمعادلة لغوية هي: "التغيير في الثقافة من اجل التغيير بالثقافة". في هذه المدرسة الثقافية السياسية المثلى، إنطلاقاً من أنطلياس أولاً ودوماً، لم يجد ميشال عقل عناءً، في الانتقال والعود، من الثقافة إلى السياسة وبالعكس. نعم، "بالثقافة نبني"، أينما كنّا وكائناً ما كان انجازنا.

        أما بعد،

        هذا كتابُ ذاكرةٍ أرْخت الكثيرَ من أثقالها، لتزيد من حدَّة بصرِها وصفاء مائها، ذاكرةٍ شخصيةٍ بصيغة الجمع. يمكن قراءته كحكمةٍ معتصَرةٍ إلى حدّ عنوان من كلمتين، فيها فعلُ المضارع ينطوي على الفعل الماضي: حيث "نبني" تعني بنينا"، وفيها ايضاً صيغة الحاضر وصيغة المستقبل المفتوح الآفاق على سماء ناصعة الصفاء، مهما ادلهمّت الظروف، ومهما انتشت الجهالةُ بقطعها رأسَ تمثالِ أبي العلاء المعرّي.

        ميشال عقل الصديق والرفيق في تأسيس هذه "الحركة الثقافية" ومسيرةِ تألقها المديدة، نغتبط هذه العشية بالالتفاف حولك، أنت الذي طالما زيّنتَ منبرَها بحضورك البهيّ؛ أيها الفتى السبعيني، المشع دوماً حيويةً وطيبةً وعطاءً. أهلاً بك في عالم التأليف، تأليف الكتب. أديباً كان دوماً نائماً فيك، قرب المهندس، دون أن تدري، وهنيئاً لنا تغدق علينا هذا الكتابَ الوثيقةَ ومضاً من تاريخ "الحركة"، وتعدُنا بأخوةٍ له قريباً، وبكمٍّ من الحصاد الوفير لا ينقطع