تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي

الأب الدكتور إيلي كسرواني

قدّم التّكريم: الدكتور باسيل عاكولة

أدار اللقاء: الدكتور الياس كسّاب


أقامت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس" حفل تكريمللموسيقي الأب الدكتور إيلي كسرواني الذي بذل جهدًا استثنائيًّا لجمع التراث الموسيقي السرياني الإنطاكي وتكييفه مع تقنيّات العصر، وكشف الترابط بين هذا التراث والفولكلور الشعبي، فأغنى لبنان بعلوم الموسيقى الأصيلة والثقافة الموسيقية الرفيعة.

 كلمة ترحيب للدكتور الياس كسّاب،بالإنابة عن الآنسة بريجيت كسّاب، فتحدَّث عن أنواع الموسيقى التي يهتم بها وبنشرها البروفسور الأب إيلي كسرواني، الذي هو واحد من الذين "أنعم عليهم الرب بنعمة الخلق الموسيقي" كي يساعد الإنسان على فهم الحياة، لأنّ وجه الله يظهر في كل نوتة موسيقية، تحمل الإنسان "على جناحيها ليتّحد بالخالق ويشكره على خلقه".

وتُركت مهمّة تقديم المحتفى به للدكتور باسيل عاكولة، العلاّمة المثقّف العراقيّ الحائز دكتوراه في الآثار والكتابات الساميَّة، فتحدّث عن العلاقة المميّزة التي جمعته بالأب كسرواني منذ سنوات الدراسة في باريس، إذ رافق المحتفى به وشجّعه في مسيرة إعداد أطروحته عن "نظام اللحن المثمَّن" (أو الأوكتوئيخوس) في الكنيسة السريانية. واستهواه آنذاك أنّ الأب المكرَّم في هذه العشية كان الوحيد الذي يمتلك "الذاكرة والمعرفة بالأصول والفروع في المساحة السريانية التي تشغلها كنيستُه، وله الصوت والمكانة". وتجدر الإشارة إلى أنّ الكنز الموسيقي الذي كان في حوزة المحتفى به، هو أقدمُ من الموروث الكاثوليكي وأكثر أصالة منه، فأنقذ هذه الثروة الموسيقية الشرقية من الضياع. وقد أسهمت هذه الموسيقى في تغذية الروحانية المسيحية السريانية.

وتُرك المنبر للمحتفى به الأب الدكتور إيلي كسروانيالذي شكر بتأثّر كبير "الحركة الثقافية-أنطلياس" وأهل الثقافة الأصدقاء لهذا التكريم، وشرع في الحديث عن أسرار وأحداث مفصليّة خوّلته تحقيق الإنجازات التي حقّقها. فروى عن شغفه بالموسيقى منذ نعومة أظفاره، وبالعزف على البيانو في سنوات المراهقة، فكانت له دعوتان هما الكهنوت والموسيقى، إذ "مُسح منذ البدء موسيقيًّا ولُحّن كاهنًا". غير أنّ حياته كانت "حكاية حرمان وممانعات" من رؤسائه في السلطات الكنسية جعلته مقدامًا وعنيدًا في طلب العلم، فتوّج علومه بشهادة الدكتوراه. وتحدّث الأب كسرواني عن اختياره الموسيقى السريانية حرصًا على هويّتها، وعن تأسيس العلوم الموسيقية في جامعة سيدة اللويزة، وعن وضع كتاب "نظريّات الموسيقى السريانية".

 

وكانت أيضاً شهادات بالمحتفى به من الأب الدكتور بديع الحاج، والشاعر حبيب يونس، والمسرحي منير كسرواني.

    إلاّ أنَّ اللافت في هذه المناسبة هو أنَّ هذا التكريم الطويل الذي دام، استثناءً، أكثر من ساعتين تخلَّلته حفلةُ غناء سرياني وعربي بمرافقة جوقة مع عزف موسيقيّ حيّ بقيادة الأب كسرواني، وقسم منها من تأليفه، أمام جمهور غصَّت به القاعة.

        وفي الختام قدّم أمين عام الحركة، الدكتور عصام خليفة، شعار الحركة إلى المحتفى بها ونسخة عن "النصّ الأصليّ لعاميّة أنطلياس الشهيرة، عاميّة 1840.

   

        وبعد الاحتفال وإخلاء قاعة المسرح، توجَّه جميع أعضاء الحركة إلى المبنى القريب الخاص بالمناسبات العامَّة في مجمَّع دير مار الياس، أنطلياس، للاحتفاء بختام معرض الكتاب للمهرجان اللبناني للكتاب الثاني والثلاثين، مع كل الموظفين والمشاركين والعاملين فيه على مدى الاسبوعين الفائتين.  

 

 

 

 

كلمة الأستاذة بريجيت كسّاب

عندما تغرق في هموم الدنيا ومتاعبها، لن تجد لك انيسا" سوى من يعيش احاسيسك ويفهمها، من يسعى ان يلطّف اجواءك بعبير سماوي يحاكي الشعور بلمسات وهمسات النغمات الموسيقية الرقيقة حينا" والعاصفة احيانا"  وكأنّها بركان يثور ويفيض ليرمي حممه الحارقة و يعود بعدها ويهدأ ليرقص مع قلبك على جمل موسيقية رائعة تنبش التراث وتنعش ذاكرة الثقافة العتيقة كالخمرة الجيدة التي تنتظر من يسكر بجودتها ليعود ويطلب المزيد دون ان يكتفي، ينتشي دون ان يسكر، يسافر في افكاره دون ان يرحل. قلّة هم من انعم عليهم الرب بنعمة الخلق الموسيقي هذه، فيساعد الانسان كي يفهم الحياة ويستطيع ان يحبها بحلوها ومرّها، يساعده كي يرى وجه الله في كل نوتة موسيقية تسافر فيه على جناحيها ليتحد بالخالق ويشكره على خلقه وعلى توزيع مواهبه.

واحد من هؤلاء نستقبله في رحاب الحركة الثقافية - انطلياس مكرّما نقدم له اعجابنا باقة ملوّنة يفوح اريجها في ارجاء هذا المسرح العابق بحضور محبيه واصدقائه الذين اتوا ليصفقوا له ويستمعوا الى موسيقاه وتراتيله، انه البروفيسور الأب ايلي كسرواني، هو من اغنى الوطن بعلوم الموسيقى والثقافة الموسيقية العالية الجودة وفتح هذا الباب على مصراعيه لكل محب ومتذوّق لهذا النوع من الموسيقى.

نرحب بكم في هذه الأمسية التكريمية الموسيقية نختتم فيها المهرجان اللبناني للكتاب لهذا العام ، برنامجنا الليلة مزيج من الكلمات والألحان والترانيم والموسيقى والأغاني التراثية.

بداية موسيقية بترنيمة من اختيار المكرّم .

من يقدم الأب كسرواني هو علم كرّم على هذا المنبر بالذات عام 2003 هو الدكتور باسيل عكولة .

ابن العراق الحبيبة حيث ولد وتعلم وأنهى دراسته في الموصل

انتقل الى بيروت وحصل على اجازة في الآداب من جامعة القديس يوسف ، كما حاز على اجازة في فقه اللغة واجازة في  في تاريخ وآثار سورية ولبنان في العهد الأغريقي الروماني .

ودكتوراه في الآثار والكتابات الساميّة من جامعة ليون في فرنسا عام 1974

له العديد من الدراسات والنشاطات العلمية والأشراف العلمي والمؤلفات والأبحاث في العربية والفرنسية ،كما شارك في عدة مؤتمرات في الدول العربية والأجنبية .

 

كلمة حبيب يونس في تكريم الأب البروفسور إيلي كسرواني

الحركة الثقافية أنطلياس – 17 آذار 2013

 

فيلسوف البساطة العميقة

 

هو مبتدأُ البَخورِ المرفوعُ بالجُبَّة الظَّاهرةِ على قامته العالية،

هو فاعلُ الأرضِ المرفوعُ بمعولٍ وثلمٍ وخيرٍ عميمٍ ظاهرةٍ جميعًا على جبينه وعلى ما أتت به يداه،

هو الكلمة الدَّافقة نهرًا صافيَ الحروف والمعاني، نَقِيَّها، عَذْبَها، تتمرَّى بصفحة جريانه الحقيقةُ علمًا، والمعرفة بحثًا، والجُرأة قولًا وفعلًا

هو النَّغم المشغول بالتماع الرؤيا ذهبًا، بانسكابِ دمعة فرح، بانسياب ضحكة طفل فَرِحٍ بلعبة، على مقامه هو قبل أيِّ مقام... المقام الكسرواني.

إيلي كسرواني، معه يتحول بحر الموسيقى جملةَ ماء تجري في سواقي الروح، وتترقرق في نبع الأحاسيس، وتعبُر سهول الجسد إلى آخر سنابل الخصب،

وبه ينهض التراب من سريره ليعتمر الشمس ويرتدي الندى ويرافق الشجر والناس في رحلة العمر والنياسم،

وحينذاك يحمل مايسترو الجمال عصاه، يعطي إشارة البدء، ولا تعود السمفونية تنتهي، إلا لتبدأ من جديد.

لا أغالي في ما سبق، وأنا أقرأُه مفكِّرًا أو مؤلِّفًا موسيقيًّا أو ملفان فلسفة ولاهوت وأدب. فمنه تعلَّمت أن الموسيقى أكثر من لغةٍ عالمية، قلها لغةً إنسانية.وبالغ أكثر، قلها الإنسان.

الموسيقى، في كتابه، مرآةُ المشاعر، وأجملُ ما فيها أنها كتلك المشاعر، لا تقبض عليها بعينٍ أو بأذنٍ أو بيد، تقبض عليها بتجلِّيات الرُّوح.

ومهما تتنوعْ مدارسها وأساليبها ومقاماتها وإيقاعاتها، تبقَ هي إياها، دعوةً الى الفرح المطلق، رحلةً في جِنان الجمال، موعدًا يؤرجحك بين أرضٍ وسماء، على مركَبة النشوة، وما الفضاءُ إلا ثُمالةُ كأسِكَ.

كأنَّا بالله وهو يخلق الكونَ في ستة أيام، كان إمَّا يرنِّم وإمَّا يستمع الى سمفونياته التي أبدعها من ماءٍ وتراب، من خرير أنهر وحفيف شجر، من عصف رياح وتغريد عندليب، من وقع خطى آدم وخفقة قلب حوّاء... حتى إذا ما استراح في اليوم السابع، فإنما على استعادة تلك السمفونيات.

بسيطًا كان في ما خلق، ولكن جميل، وما من نغمٍ جميل إلَّا ذاك المفرطُ في بساطته، لأنه نابعٌ من حقيقة الإنسان وجوهره، لا من قشورٍ صنعها ليخدع نفسه أولًا، وزخارفَ ظنَّ أنها تعوِّضه بشاعةً صُنْعَ يديه.

هذه البساطة هي الأصالةُ بعينها، سواءٌ عزفتها آلة موسيقية واحدة أو أوركسترا، سواءٌ عبّر عنها النغم، أو توافقُ الأنغام، سواءٌ أدّاها صوتٌ أو جوقُ أصوات.

ومهما بدا المصبُّ بعيدًا عن النَّبع، حين تفرِض الموسيقى حضورها جمالًا وبساطةً، يتلقَّاها الإنسان كأنَّه هو النبع، وكأنَّها هي المصبُّ.

تُلغى المسافة، ليملأَها النغم، فيمتلئ به الروح.

هكذا أقرأ الأب إيلي كسرواني، هو القائل "إن قدر الموسيقى أن تتمدد في الحضارات ولا تموت"، فألخصه بفيلسوف البساطة العميقة.

ذات أمسية، جمعتُ ربيعه في قطرة عطر. كنت في حضرة "كونشرتو الرَّبيع"أمسية موسيقيَّة، أحيتها جوقته "ميزوبوتاميا"، عددتُها مفصليَّة في تاريخ الأمسيات والموسيقى في لبنان، وجَرُؤت على القول إنَّ في الإمكان التأريخَ بـ"ما قبلها وما بعدها"، لأنها بانوراما لا تحدُّها أطرٌ، وليس لزرقة السَّماء أن تدَّعي أنَّها مظلَّتُها، ولأنها تخطت الوجدان الشخصيَّ إلى الوجدان الجماعيِّ، حاضرةٌ فيه ذاكرة الأمس ووعي الحاضر، وساطعةٌ فيه شمس الغد، ولأنها بمقدار ما كانت كلاسيكيَّة شرقيَّة، جعلنا خلالها نقبض على الحداثة بروحنا، حتَّى أن أصابعنا شاركتنا لمسها، ومثُلَتْ أمام أعيننا، ولو مجرَّدة، حقيقة مطلقة، واستطابتها الألسن، وسما بها السَّمع، وعبق أريجها في أرجاء النفس والمكان، ونهضت من بين حواسنا، تلك النَّائمة المسمَّاة الحاسَّة السَّادسة، لتقول: لا حداثة إلَّا من جوهر الكلاسيكيَّة، وما الشَّرق إلَّا مهد القداسة، ولتضيف هانئة: كانت أمسية عزَّزت فينا الأمل في أنَّ الموسيقى في لبنان ما زالت بألف خير، على رغم ما يُبَثُّ ويُنتج ويروَّج له، وهو لا يعدو كونه طفرة جلدية، أو بثورًا ناتجة من عروبة في المعدة، أو حَبَّ شباب.

أمسيتذاك، وبونا إيلي يقود الجوقة، جعلنا نقبض على النشوة وهو يستمع إلى ما ابتكرت روحه وصنعت يده بمتعة، مرنِّمًا همسًا وإيماءً كل نوتة وكل كلمة، لكأنَّا بالأرض حيث وقف تقول له: عذرًا أيها الطائر الغرِّيد، فضائي صار أضيق من جناحيك.

فموسيقى الكسرواني القائمة على المقامات الشرقية، ينوِّعها ويصهرها ويُشبعها، بنت وعي كامل، لأنَّها تجسيد لاختبارات ودراسات، ومرآة لتراث غني قادر على أن يكون حاضرًا بأصالته وروحه، غدًا قبل اليوم، يسعد النَّفس والروح، وينظِّف الأذن من ضوضاء موسيقي وضجيج غنائي وهجانة سطحية. جملته الموسيقية نسيج وحدها، قائمة في ذاتها، ولكن متخطِّية أيَّ زمان وأيَّ مكان، على رغم أنَّها وليدة التَّراكم الموسيقي من أوَّل نغمة جرت على لسان، وعلى رغم أنَّها آتية من كوكبِ غدٍ لم يصل بعد شعاعه الأوَّل إلى الأرض.

دقيق بونا إيلي في اختيار المقام، لا بل في تفضيل نوتة على أخرى، علمًا أن التَّطريب، وهو كثير في أعماله، مدروس ومضبوط حتَّى في أدقِّ تفاصيله، من دون أن يفقد جماليَّته، أو يُشعر سامعه أن عنصر الارتجال مفقود.

وأنهي بحقيقتين من فكر بونا إيلي... حسم بعلم وبحث ومعرفة أن التراث السرياني الماروني، سواء كان دينيًّا أو شعبيًّا، واحد، "لأنَّ الشعراءُ، بمن فيهِم الزجالونَ، كانوا في غالبيتهِم، رجالَ دينٍ، يرنمونَ التراتيلَ البسيطَةَ الأحاديةَ النغم، المتوارثَة عبرَ الأجيالِ عن السريانيةِ المارونيةِ، على الوزنيِن الأفراميِّ واليعقوبيِّ، بخاصةٍ. وما زالت على هذه الصورة، أبعادًا صغيرة وأجناسًا رئيسة، تناجي الله بدَفقِ الأحاسيسِ فيها، وتخاطبُ الإنسانَ ببساطتِها. وإذْ تردِدُها أنتَ، هي نشوةُ السماءِ تنتابُكَ، هي الدمعةُ تعبّرُ عن فرحِك".

وهذه التراتيل نفسُها، بحسب بونا إيلي، تحولت زجلياتٍ تعالجُ مواضيعَ أرضيةً دينيةً اجتماعيةً تاريخية وطنية انسانية وكونتِ الفولكلورَ ألحانًا وبُنيانًا وأوزانًا وإيقاعات. فما إن يخرُج المؤمنُ من الكنيسةِ، حتى تصبحَ ساحتُها ساحة بيت الله المكانَ الانتقالَي، حيث تخلعُ الأنشودةُ عنها ثوبَ الترنيمة، وترتدي لباسَ القرادي أو الأغنية الفولكلورية، تروحُ تُغنَّى في الساحةِ والبيتِ، وتطردُ وحشةَ السهرات.

جرئيَن كانْ أجدادُنا. تجاسروا فغنّوا التراتيلَ والترانيمَ، طربًا وأهازيجَ. لم يُثنِهم عن ذا عقابٌ، بل أرادوهُ بوعيٍ، والا لما دخلت هذه الأوزانُ والإيقاعاتُ والألحانُ في اللاوعيِ الجماعيِّ، وأصبحت تراثًا. وحتى زجلياتُ ابن القلاعي، بتناوُلِها طبيعتْي المسيحِ أوصلتاها إلى كل مؤمنٍ، إلى قلبهِ، قبل عقلِه... على ما يستنتج فخورًا.

وحسبه أنه مبتدع علم سماه موزيميديولوجيا... يجعل من الموسيقى علمًا متكاملًا بين التأليف والعزف والإعلام والمصطلحات والكتابة، هو الذي لا يهنأ إلا ببلوغ الكمال، كيف لا وقد درس الألحان السريانية جميعًا، وعددها يفوق السبعمئة وستين، ورتبها وولفها ونوطها، تراثًا يشبه الخمر المعتق.

يبقى أنني سألته ذات مقابلة تلفزيونية، كيف تجرؤ، بونا إيلي، على تلحين لفظة الله على نوطة خفيضة، ابتسم وأجاب، دالًّا بيده إلى قلبه: ومن قال إن الله في السماء وليس في قلبي؟

ومن قال، بونا إيلي، إنك، كلمة ونغمًا، لست أيضًا إلَّا في قلبي؟