د.وليد الخوري

الأصوليات الدينية ...

 

تنشغل المننديات الفكرية،والمجتمع الثقافي عموما بظاهرة الأصولية الدينية،وهي وإن كانت جذورها ضاربة في جميع الأديان وفي الإيديولوجيات الوضعية بما هي أديان بديلة عند معتنقيها، يبقى العنوان العام صيغة للإشارة إلى مراد خاص وهو الأصولية الإسلامية التي تشغل المكان وتملأ الزمان، وقد درج استعمالها بإطلاق وعلقت عليها مأسي الدنيا والآخرة في آن.غير أن مقتضيات الموضوعية،توجب النظر إليها من باب العلم،وحيثيات الإستخدام بعيدا عن الأحكام االفكرانية المتعسفة.

الأصولية لغة هي نسبة إلى أصول والأصول جمع أصل،والأصل "أسفل كل شيئ " وقيل فيه: ما يبنى عليه الشيئ، فعلم أصول الفقه ما يبنى عليه الفقه"،والأصولي هو الذي ينظر في أدلة الأحكام وفي القواعد  التي يعتمدها الفقيه والمفتي في حكمه وفتواه.

وإذا كان الدين،كل دين،ينبني على أصول،فإن القرآن والسنة هما الأصلان الثابتان اللذان يقوم عليهما الدين الإسلامي،وبعلة مستخرجة منهما يترجح حكم الإجماع أو الإجتهاد باعتبارهما أصلين إضافيين يغطيان الوقائع والمستجدات التي لاحكم لها في القرآن والسنة..وعليه،فالأصولية بما هي عودة إلى الأصول، مسلك يقطعه كل مؤمن بغية تأصيل علمه وتحصين عمله في ضوء أحكام العبادات والمعاملات المدبرة لشؤونه في الدنيا والآخرة.

هذا الجانب المعرفي والمنهجي للأصولية هو موضع اتفاق بين جمهور العقلاء وأهل العلم،و رمي حامله بالأحكام السلبية وإلباسه تهمة العداء للحريات، فيه شيئ من التجني إلا إذا كان الرافضون للأصولية، يرون إلى الإسلام دينا يتعارض مع الحريات العامة،وهذا بحث آخر له مجاله وله وقته.

 

                             

 قراءة الأصول،هي بيت القصيد،باعتبارها سعي في سبيل القبض على مراد المتكلم(الله) ،ومعضلة التطرف تتحقق عندما يحاول القارئ أن يحتكر مراد المتكلم،قل عندما يقرأ في الأصول مراده ويدعي أنه مراد المتكلم وأن المخالف له كافر أو مبتدع.

وتتفاقم المعضلة عندما يحمل القارئ الذي يصح أن يكون فردا أوحزبا أوجماعة، مشروعا سياسيا يسعى إلى جعله مشروع المتكلم،من خلال قراءة للأصول يجمع فيها مايناسبه من آيات  أحاديث يعتبرهامحكمات و صحيحة، ويؤول في ضوئها الآيات والأحاديث التي لاتخدم مشروعه من باب اعتبارها آيات متشابهات وأحاديث ضعيفة ومشكوك في صحة إسنادها.                                         

 

وعليه

 فإن مشروعه السياسي المغطى بالعباءة الدينية  هو برأيه واعتقاده مشروع المتكلم(الله)،وكل خروج عنه،أواختلاف معه،هو بمثابة الخروج على إرادة الله وبالتالي،يكون بمعنى من المعاني بمنزلة التارك أو المبتدع أو المرتد ،ومعاقبته،ماديا ومعنويا واجب شرعي يقتضي فعله مع إشعار بالعقاب على تركه.

على هذا النحو وبهذه البساطة،يصادر صاحب هذا النمط من التفكير المختزل للدين والمشوه لمقاصده،حقوق الله،يستثمرها في صراعاته من أجل السلطة.مسلطا باسم الدين سيف التكفير على رقاب الناس الذين لايرون رأيه ولايعتقدون معتقده.

 

إن التاريخ الإسلامي حافل بالحركات الدينية المتطرفة التي يتجلى فيها إقحام الدين في السياسة إقحاما صارخا،وقد لا يكون المجال متاحا في هذه الندوة للتفصيل في هذا الموضوع ،غير أن التقديم  لايستوفي غرضه إذا ما فاتت الإشارة إلى مفاهيم ارتبطت ارتباطا وثيقا بالقراءات الدوغمائية الموجهة لأصول الدين والسلف الصالح.

                         

رأس هذه المفاهيم الحاكمية_حاكمية الله، وهو أجلى مظاهر استثمار الدين في السياسة،بعد أن استحضره الداعية الإسلامي السلفي الباكستاني أبو يعلى المودودي(1903_1979) من أدبيات الخوارج الإعتقادية والسياسية،لقد انبنى هذا المفهوم على الأصل القرآني"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون"(المائدة 44)،وأتبعه بمفهوم "الجاهلية" للتعبير عن إدانته للمجتمع الذي تسود فيه أنماط عيش لاتتطابق مع أحكام الهداية الإلهية، في كتابه"المصطلحات الأربعة"قدم المودودي قراءة سلفية لمفاهيم الإله، الرب، العبادة، الدين،فاستعاد بهذه القراءة تعريف كلمة "المسلم" مضفيا عليها مضامين جديدة.فهو يرى أن الناس اليوم لاسيما أغلب الناطقين بالشهادتين لايعرفون المعاني والدلالات التي أتى بها القرآن ولا يدركون"الغرض الحقيقي والمغزى الجوهري من دعوة القرآن"،التي تحمل،في منظوره،ربطا بين مفهومي "الوحدانية" و"الإستخلاف"،معتبرا أن أساس الدولة الإسلامية حاكمية الله الواحد الأحد،والأرض كلها لله وحده،وهو ربها والمتصرف في شؤونها.فالأمر والحكم  والتشريع كلها مختصة بالله وحده،وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب،بل ليس للنوع البشري من سلطة الأمر والتشريع،ولا مجال في حظيرة الإسلام ودائرة نفوذه إلا لدولة يقوم المرء فيها بوظيفة خليفة الله(المودودي،نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور،دمشق،دار الفكر،1969،صص77_78)،رافضا في ضوء ما تقدم، إطلاق وصف الديمقراطية على نظام الدولة الإسلامية،بل يجد أن الوصف المناسب هو الحكومة الإلهية أو التيوقراطية(م.ن.ص34).

لقد انتقل استخدام هذه المفاهيم في ستينات القرن الماضي إلى تنظيم الإخوان المسلمين بقيادة سيد قطب ،فأضفى عليها طابعا متشددا،إثر محاولة الإنقلاب الفاشلة التي قام بها الإخوان ضد النظام الناصري.

 

وجد سيد قطب أن العالم يعيش جاهلية مدمرة،لأنه يتجاهل معنى "لا إله إلا الله"،وأن الحاكمية لله وحده،ويعتبر أن "إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورهاوأشكالها وأنظمتها وأوضاعها..."(سيد قطب،معالم في الطريق،بيروت،دار الشروق،ط1983،ص67)،وينتهي إلى أنه"لا بد من تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض...ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم...لكنها تقوم بانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد،ورده إلى الله وحده،وسيادة الشريعة الإلهية وإلغاء القوانين البشرية"(م.ن.ص68).لقد شكل كتابه" معالم في الطريق" مرجعا تأسيسيا لجميع الحركات الإسلامية المعاصرة،فانفتح مع هذا الخطاب باب التكفير على مصراعيه،وهو لم يخف موقفه بل أعلنه بصراحة قائلا:إن الناس ليسوا مسلمين،كما يدعون وهم يحيون حياة جاهلية،ليس هذا إسلاما وليس هؤلاء مسلمين،والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام ولتجعل منهم مسلمين من جديد"(سيد قطب،معالم في الطريق،بيروت،دار الشروق،1983،ص67).                               

 

الله صاحب الشرع، هو الحاكم والحاكمية من خصائص الألوهية،وهي قاعدة مشتركة بين هذه الحركات،تجتمع حولها على مواجهة كل حكم وضعي،وعلى ضرورة العمل من أجل إسقاطه،لأن واضعيه غارقون في جاهليتهم، يتعدون على حقوق الله،ويتجرؤون على مشاركته في ألوهيته التي هي له وحده،لكنها تتمايز في أساليب العمل التي تصل عند بعضها، لاسيما تلك التي نسجت على منوال سيد قطب   وخرجت من رحم القطبية، وتحتل راهنا المشهد السياسي المتفجر، إلى التوسل بالعنف باشكاله المختلفة،وأدواته الفتاكة في سبيل تحقيق أهدافها.

 

ثقافة الحاكمية هذه،في تجلياتها الحزبية والتنظيمية، تحاول الإمساك بمفاصل العلم والعمل في الفضاءين السني والشيعي، على امتداد المجتمعات الإسلامية،وهي قابلة لتوليد مفاهيم تصل إلى حد تشريع إعلان الحرب على مجتمع المسلمين،وتشريع الجهاد داخل المجتمعات الإسلامية،بمافيه جهاد النكاح الذي تنتهك فيه حقوق المرأة   بحجة إسهامها المأجور عند رب العالمين،في إطفاء شهوات المجاهدين في سبيل الله. وتنتج مشاريع سياسية يستثمر فيها الدين من أجل  الفوز بالسلطة،استثمارا يشوه الدين ويفسد السياسة،وليست مواكب القتل التي تعبر في أكثر من اتجاه مزهوة بالأكفان الموشاة بعبارات التمجيد و الإخلاص للدين للطائفة والمذهب،سوى مشاهد حية ينتشي بها المتلحفون بكلمة الله يرسلونها في مطالع الأقوال والأفعال،قبل القتل وفيه وبعده. 

                           

لاشك أن مثل هذا الفكر المناهض لكل مختلف معه إنسانا كان أوفكرا أودينا،والداعي إلى إلغائه ماديا ومعنويا وشطبه من معادلة الشراكة التي يفرضها واقع العيش معا في مجتمع واحد،قل شطب المجتمع الذي يقوم على هذه الشراكة المعقودة تحت سقف الإعتراف المتبادل بين أطرافها،أقول، لا شك أن مثل هذا الفكر، يشكل الخطر الأعظم على القيم الإنسانية وفي طليعتها الحرية.هذه القيمة الجوهرية المتعبة لأهل الإستبداد ،يغتصبونها تارة باسم الإيديولوجيا وطورا باسم الدين،ويتسابقون على التنكيل برافعي رايتها والمؤمنين بها أصلا، يتهشم بغيابه وجه الإنسانية،  وتنسد الأبواب إلى الديمقراطية،وتتقطع أوصال العقل بعد اعتقاله، وينزوي الحوار مغلوبا على أمره تحت مظلة السجال المهووس بلعبة إفحام الآخر من أجل إلغائه، وتتبدى الآمال بكل انفتاح على ما أنتجته الحداثة من ثراء معرفي وقيم ثقافية واجتماعية ،يحتاجها كل مجتمع يطمح إلى التقدم والتجديد.

 

                                               د.وليد الخوري

--------------------------------------------------------------------

د. حازم الأمين

 

اذا أراد المرء، لا سيما اذا كان صحافياً مثلي، أن يعقد علاقة بين عنوان الندوة "الأصوليات الدينية وخطرها على الحريات في المنطقة"، وبين ما يجري في محيطنا، فلا يُمكن الا أن يلحظ ترفاً في العنوان، ذاك أن خطر الأصوليات في هذه الأيام يبدأ في تهديدِها حقَنا في البقاء على قيد الحياة، لا حقنا في الحريات. لا بل هي تطرح اليوم حق مُعتنِقها في البقاء على قيد الحياة فتدفعه الى أن يُفجر نفسه ويقتل أبرياء.

والحال أنني كصحافي، مرة أخرى، كان من أكبر هواجسي في الأشهر الأخيرة، ظاهرة الإنتحاريين اللبنانيين الذين نفذوا عمليات ضد لبنانيين أبرياء، فتعقبت بعض سيرهم مدفوعاً بهلعي الخاص قبل أن أكون مدفوعاً بهاجس مهني. ورأيت أنني قد أضيف شيئاً على هذا اللقاء اذا شاركتكم ملاحظات واستنتاجات تقترب من عنوان الندوة من دون أن تبلغ ترَفها.

أولاً هناك سهولة وسرعةٌ تَفوَّق بها لبنان على غيره من الدول في عملية انتاج الانتحاريين. فإذا كان إعلان حزب الله رسمياً هو المحدِّد الرئيس لانطلاق هذه الظاهرة، وهذا ما اعتقده، فان الزمن الذي احتاجه ظهورها كان أسرع من الزمن الذي احتاجه العراق لبدء إنتاج انتحاريين عراقيين. ذاك أن الإنتحاريين في السنوات الثلاث الأولى من عمر الإحتلال الأميركي للعراق كانوا جميعهم من غير العراقيين. وفي سورية ما زلنا الى اليوم نشهد انحساراً في ظاهرة الانتحاريين السوريين، فيما يُشكل غير السوريين السواد الأعظم من منفذي هذه المهمة.

ثانياً، ضعف علاقة الإنتحاري اللبناني بـ"السلفية الجهادية" التي يُعزى إليها معظم الهجمات الانتحارية في المنطقة. ففي تعقبي سير ثلاث انتحاريين لبنانيين لم أعثر على سلفية صلبة في ما سمعته عنهم من محيطين بهم. كانوا شبان أحياء أكثر منهم عقائديين. وتتقدم الإضطرابات الشخصية في سيَرَهم، المضامين الذهنية التي كانت وراء فعلتهم. معين أبو ضهر، مُفجر السفارة الإيرانية، كان أقرب في شخصيته وفي شكله الى فتية حيٍّ والى "بادي غارد" منه الى داعية سلفي. وقتيبة الصاطم كان يتيماً على رغم أن والديه أحياء وكان يعيش في المنزل مع والده وزوجاته الثلاث. وهو تردد على نحو عابر الى مسجد، واستعاده والده من جامعته بعد أن شعر بتطرفه فاستعاض له عن الجامعة بمعهد مهني.

الشابان ليسا فقيرين على ما قد يحلو لنا أن نعتقد، وليسا سلفيين أيضاً. وما كان يُلِح عليهما كي ينفذا المهمة كان مجرد حَقنٍ تعرضنا لمثله عشرات المرات على مدى حروبنا الأهلية المديدة. أما السؤال عن سبب الاستجابة طالما أننا تعرضنا وتعرض في السابق أشباههم في المنطقة وفي الطائفة لمثل ما تعرضا له، فجوابه بسيط وبديهي. وهو أن هناك طلباً الآن على مثل هذه الأفعال. في السابق كان الطلب على القتال مثلاً أو على أنواع أخرى من العنف. اما اليوم فالطلب هو على الانتحار. وليست الجهة التي تطلب هي الجهة التي أعلنت مسؤوليتها عن العملية. الطلب يصدر عن مكان ما من الوجدان الجماعي. يشعر الفتية أنهم بفعلتهم انما يُخاطبون وجداناً جماعياً ويُردّون على أذية جماعية. يشعرون أنهم جزءاً من ضائقة جماعية، وأنهم يُلاقون الجماعة بفعلتهم. ليس مهماً ما اذا كانت الجماعة تقبل بما أقدموا عليه، فهم يعتقدون أنها ستقبل في النهاية. ويقترب وصف الانتحار هنا بأنه موضة من الحقيقة، ذاك أن الأخيرة تبدأ نخبوية وتشيع مع الوقت. كما أن للإنتحار علاقة بالموضة لجهة توليده المنتحرين من المنتحرين. هذه حقيقة عاينتها بنفسي في معظم البلدان التي شهدت الظاهرة. فما أن يبدأ شبان قليلون بالإقدام على تنفيذ عمليات انتحارية، حتى يلحق بهم عدد مُضاعف من الشبان في هذا المجال، ويلحق بالملتحقين الجدد أضعافهم فتتسع الظاهرة وتعم، ويعم معها الموت.

ثم أن المنتحرين فتية وشبان، هم في معظمهم لم يبلغوا الخامسة والعشرين من أعمارهم، وهو أيضاً العمر الذي تشتغل فيه الموضة فتسبق الموضة التي بلغها من هم أكبر سناً.

أسباب الظاهرة، على ما عاينتُ، سابقة على أزماتنا الراهنة. مصنع الانتحار ليس قشرة خارجية طارئة، وليست السلفية بطبيعة الحال. فالأخيرة تُقدم للمنتحر موضوعاً لفعلة كان مستعداً لها قبل أن تبلغه السلفية. تقول له اذهب الى الجنة مثلاً، لكن قبوله المهمة موجود قبل وجود هذا الدافع الشكلي. قبوله المهمة منوط بالجوهر الخاص المتأزم والمضطرب. وهنا تأتي مهمة عنوان لقائنا هذا:

كيف يمكن بناء مجتمع يمتص القابلية للعنف وللقتل انتحاراً.

--------------------------------------------------------------------

الدكتور عبدو قاعي