كلمة المحامي جورج بارود في تكريم إدمون رزق

                        الحركة الثقافية – أنطلياس

                        بتاريخ 7 / 3 /2014

        وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.

        أمحَللٌ للسياسيين عندنا أن يحوّلوا أحلامنا إلى كوابيس كلما اقترب استحقاق أو توترت علاقة أو تعثرت بوادر حلّ إقليمي أو دولي، والعقلاء في وطننا مهمشون، لا رأي لهم لانهم لا يطاعون.

 ومن نحاسب نحن المواطنين على الوضع الذي وصلنا إليه؟

        أنعفُّ عن انتخاب الانتحاريين والارهابيين يوم الاستحقاق النيابي، عملا ً بالقواعد المعمول بها في الانظمة الديمقراطية؟ أو نحاسب من سيترشح على تناوب السلطة يوم لن يبقى هناك من سلطات أو مشروع لدولة؟

        وهل يعود هناك من نفع لندم على إزهاق الفرص المبذولة من رجال دولة قابعين اليوم في الظل وفي طليعتهم إدمون رزق، وقد تحمل وتحملوا على مدى سنوات، من الارزاء والمخاطر ما يكفي، سعيًا منهم إلى وقف آتون الحرب، والمباشرة بوضع أسس لدولة مرتجاة، ولكن دون جدوى.

 

        إدمون رزق، إسم يختصر كل الالقاب. فإن ناديته بصاحب المعالي أم بالنائب السابق، أو بأي لقب آخر تشعر وكأنك تحّجم قامته. فهو أستاذ في القانون، مثقف مترامي الآفاق، كاتب، وخطيب بليغ. وهو أولا ً وأخيرًا محام ٍ كبير، وهذا اللقب هو الاحب إلى قلبه.

        قال في نقابة المحامين في بيروت بمناسبة إحياء يوم المحامي بتاريخ العاشر من تشرين الاول من العام الفائت: " أن روب المحامي أكرم الحلل وأجمل المطارف، وأن جدول النقابة سجلُ شرف... وشرف المهنة أمانة في عنق المحامي، وتاريخ النقابة وديعة مقدسة في حرز نقبائها ومجالسها وقلوب أبنائها، ومصدرُ فخر ٍ لاجيالها".

        يأسرك بشخصه، ويسحرك ببيانه، فإلى جانب الدهشة التي يتركها في نفسك، يشعرك بأنه المحامي النموذج ، الفصيح، المفكر، والعالم الذي يفحمك بمنطقه، مدّعمًا دومًا كلامه بالحجج الدامغة، مسبغًا عليه ثوبًا من الروعة؛ فتظن وأنت تسمعه أو تقرأ له أنك أمام علاّمة بحّاثة، يجمع بين الشكل والمضمون إلى حد الاعجاز، ورجل دولة يطوع السياسة ولا يلجها إلا من خلال الحقائق الثابتة والوقائع التاريخية، ويوظف هذا كله في خدمة لبنان، الوطن الذي أحبه وآمن به نهائيًا، موحدًا، جامعًا لكل أبنائه، يعيشون فيه بوئام، على قدم المساواة، بروح التسامح والمحبة، يبنون لذواتهم وأبنائهم مجتمعًا يطمئن فيه الواحد للآخر دون خوف أو شعور بغبن أو تسابق على اصطياد المراكز وتهافت على اكتناز المغانم.

        قال بالمناسبة المذكورة عينها:

        "إن الاعتراف بحق الآخر في الاختلاف، قبوله كما هو، احترامه، واعتبار المواطن الانسان أخًا في نعمة الحياة، هي موجبات طبيعية، وبالنسبة للمؤمنين بأي دين، هي عبادة".  

        ألا تصلح هذه العبارات ميثاقًا يهتدي به اللبنانيون، ونموذجًا لمقياس درجة الانتماء إلى الوطن لا بل إلى الانسانية بوجه ٍ عام؛ إن طبقت سادت المساواة والصالح العام واستقامت العلاقات بين المواطنين والناس أجمعين.

 

        أيها الحضور الكريم،

        عندما تكرّم الحركة الثقافية في أنطلياس إدمون رزق، تختصر بشخصه جميع الاعلام الذين نفتقدهم في هذا الزمن الرديء ؛ نفتقد خبرتهم ومشورتهم وحكمتهم، نفتقد آراءهم وبعد نظرهم، وقد عاركهم الزمان فتيقنوا من خلال تجاربهم مما لا يزال غامضًا بالنسبة لكثيرين يحاولون تكرار الاخطاء التي بات من الصعب جدًا على الوطن تحملها.

        إننا بتكريمه نسلط الضوء على رجال يملكون القدرة على إيجاد الحلول لاحاج ٍ مطروحة، تشعرنا بأنه مكتوب علينا الانتقال كل عقد أوعقدين من حالة التلطي في الملاجئ من قذيفة عشوائية إلى حالة الهروب من الوطن لتحاشي الموت بسيارة مفخخة أو انفجار في مكان ٍ ما، حتى يغيّر الله في تفكير من تشرّبوا لوثة ولوج الجنة من خلال الانتحار والموت وقتل الابرياء، ذلك لاننا لا نريد أن نسمع بأن الوطن هو لجميع أبنائه، وأن "العبور إلى المواطنية هو الحل والعلاج"، وأن الكيان هو أهم من التسييس والوجود أعز من التطييف.

        فيا أيها القيّمون على شؤون الوطن وشجون المواطن، هلاّ سألتم إدمون رزق وأهتديتم برأيه لتتعلموا من التجارب، علكم تريحون العباد وتتركون في نفوسهم بعضًا من الرجاء بعد هذا الليل الطويل الحالك السواد، فتعملون على ما يؤمن استمرار السلطة وانتقالها بالطرق الديمقراطية الهادئة لتحاشي الفراغ، علّ النفوس تستكين، وينحسر التشنج، ويخفت نور الكراهية، وتصم الآذان عن الاصوات النشاذ التي تدعو إلى الموت والثأر وقتل الآخر، وقد تكاثرت وتغلغلت في مجتمعنا على غير عادة، لا سيّما وأن بوادر التفاهم قد لاحت مظاهرها بعد تشكيل الحكومة، وهدوء الخطاب السياسي؛ وإلا فتكونون قد ساهمتم في الاجهاز على الدولة والقضاء على الوطن الذي أحببناه وأحبّه إدمون رزق وعمل على صونه ورفعه من كبوته بعد حرب استمرت ما يقارب الخمسة عشر عامًا، لكنها إن استمريتم بتعنتكم ، ستعود بعد عقدين لتذّر بقرنيها مجددًا، وقد أثقلت الخزينة العامة بالديون وهاجرت الادمغة والكوادر المثقفة، وتقلصت قدرة المواطن على العيش، وبات مستقبل المقيم أضغاث أحلام... وانتقلنا من مرحلة الخوف على الكيان إلى مرحلة الخوف على الوجود.

        أيها اللبنانيون،

        إننا في هذا اليوم، نطلق صرختنا من منبر الحركة الثقافية في أنطلياس، موئل العامية حيث أقسم أجدادكم على الولاء للوطن:" لا تنكثوا بالعهد وتهملوا المبادئ التي كرّس إدمون رزق حياته مناديًا بها؛ فإنه وأمثاله لا يزالون يملكون القدرة على دفن الاحقاد وإحياء العيش المشترك ورسم طريق الخلاص.

--------------------------------------------------

دكتور  نبيل خليفه

في تكريم معالي المحامي إدمون رزق

الحركة الثقافيّة – انطلياس

2014-3-8

الأخوات والأخوة.

أعرف إدمون رزق منذ أكثر من نصف قرن،

وليس طول الزمن ما يجعلني أعرفه أكثر،

بل معنى الإنسان فيه عبر الزمن ما يجعلني أقدّره أكثر.

فكلّما قرأته،

أو استمعت إليه:

خطيباً على منبر الكلمة،

محامياً أمام محراب العدالة،

نائباً في الندوة النيابيّة

وزيراً في مجلس الوزراء

مناضلاً في الاجتماعات والمؤتمرات الحزبيّة

أديباً ومتكلّماً في المؤتمرات الثقافية

صحافياً لامعاً في المؤتمرات الإعلاميّة

.. في كل هذا وفي غير هذا..

أحمل لإدمون رزق صورةً في قلبي وعقلي وضميري،

صورةً قائمةً ومستمرّةً تزداد مصداقيّةً ونورانيّةً ووهجاً مع الزمن

صورةً لم أجد أفضل منها للتعبير عنه،

إنّها صورة إدمون رزق الرجل الرمز للكبرياء الوطنيّة.

 

الليلة، أجد نفسي مدعوّاً إلى الدخول في مغامرة صعبة ولكنّها محبَّبة إلى قلبي.

مغامرة السعي للإحاطة برجل يتخطّى غنى شخصيّته حدودَ الكلمة.

غنيّ: بأخلاقيّته، ومناقبيّته، وعصاميّته وشفافيّته وثقافته.

.. ومع ذلك، سعيتُ في حدود الممكن والوقت المتاح، إلى استبيان وتحليل مقوّمات ومكوّنات ومحدّدات هذه الكبرياء الوطنيّة، فرست عندي على قيم عشر:

إدمون رزق رجل القيم العشر التي تعبّر عن ذاته وفكره ومعنى وجوده أي: عن فلسفته في الحياة.

أولاً:  هو رجل الرمزيّة اللبنانويّة (Libanisme)إذ هو جذريّ في مارونويّته (Maronitisme). فمنذ مار مارون وابراهيم القورشي ومار يوحنّا مارون، وصولاً إلى البطريرك الياس الحويّك، بلور الاضطهادُ الإيديولوجيّةَ المارونيّة وتوّج نضالَ الموارنة بإعلان لبنان الكبير عام 1920 بحدوده التاريخيّة من درجة الحمرا جنوباً إلى قمم الشيخ والزمراني شرقاً، إلى النهر الكبير شمالاً، وقد وصفه ميشال شيحا بأنّه "الحدث الأهمّ في تاريخ لبنان"، إذ تمّ عبره إعلان "الأمّة اللبنانيّة"! أهمّ وأخطر من ذلك، حقّق الموارنة أعظم إنجازين في تاريخهم، إذ انتقلوا من أرض الاضطهاد في سوريا إلى أرض الحريّة في لبنان، ومن خطر فقدان الذاتيّة هناك إلى مناعة الحفاظ على الذاتية هنا. وباجتماع هذين الأمرين، الحريّة والذاتيّة، تحوّل لبنان إلى رمز مارونيّ يحمل طابع القداسة التاريخيّة. صدّقوني، إدمون رزق من موقعه، وفي موقفه، كان أحد بناة ودعاة وحماة هذا الرمز بدءاً من خطّ القمم تحدّياً لمَن وما وراءها، وفي وجه كلّ "شراشيح" الموارنة الدينيّين والزمنيّين الذين خانوا تاريخهم وشوّهوا فكر الخوري ميشال الحايك والخوري يواكيم مبارك والمطران حميد موراني. إدمون رزق بأصالته اللبنانيّة – المارونيّة ظلّ أحد الحرّاس الأمناء القلائل للبنان الرمز.. لبنان المتوّج في بهاء الحريّة.

 

ثانياً:  رجل لاهوت السؤال. فهو جذريّ في مسيحيّته. المسيحيّة هي ديانة السؤال وليست ديانة الأجوبة الجاهزة. عاش إدمون رزق مسيحيّته في قلق السؤال: في الدين، في المجتمع، في السياسة، في الفكر ومؤلّفاته، في مختلف ميادين الفكر تبرزه على الدوام إنساناً مسكوناً بهاجس القلق الفلسفي. حول الله والإنسان والتاريخ والمصير. رجل كهذا تشغله القضايا الكبرى ويجتاز العديد من مسالك الشك للوصول إلى اليقين. وبمقدار ما هو يسأل فإنّه يؤكّد إيمانه: إيمانه بالله، إيمانه بالإنسان، وإيمانه بالوطن.

 

ثالثاً: رجل لاهوت الأرض. فهو جذريّ في هويّته ووطنيّته. عند إدمون رزق أرض الوطن توحد اللبنانيّين  هويةً ومصيراً. وهو صاحب الشعار المشهور في زمن الحرب: لبنان أكبر من أن يُحتوى وأصغر من أن يُقسَّم.

       فالأرض هي القاعدة-الأساس لوجودنا التاريخي

       بها ترتبط هويّتنا

       وإليها يعود انتماؤنا.

إنّ لها بُعداً روحيّاً ميتافيزيقيّاً في تكويننا الثقافي،

وصورتها كلّها في البال والخيال، مثل شلاّل جزّين تماماً.

إنّها صورة الأرض بمساحة 10452 كيلومتراً مربّعاً لا تنقص سنتيماً واحداً.

إنّه الوطن الأرض بحدوده التاريخيّة.

فالوطن عند إدمون رزق هو فعل إيمان بمعنى الوجود.

 

رابعاً: رجل القيادة التاريخيّة.فهو جذريّ في مشروعه المستقبليّ.

إدمون رزق هو قائد.. وإنْ لم يترأس:

فيه صفات الشخصيّة القياديّة أولاً

ويعبّر أفضل تعبير عن مشاعر الجماعة التي يمثّلها ثانياً.

ولديهما، هو والجماعة، مشروع مستقبليّ يريدان تحقيقه لشعبهما ووطنهما ثالثاً.

ومع القائد والجماعة والمشروع المستقبلي تولد القيادة التاريخيّة.

ولكنّها قيادةٌ يُخشى منها وعليها في ظروف معيّنة ولحسابات واعتبارات معيّنة،

ظروف الحكم على نوعيّة القامات والخامات في معترك العمل السياسيّ الحزبي/الوطني.

ومع ذلك، لم يخذل إدمون رزق محبّيه يوماً، بل احتفظ بكاريسما الذات.

ميزة إدمون رزق أنّه لم يعمل ولم يقدِّم مصالحه على حساب مصالح الجماعة والأمّة.

بل العكس هو الصحيح.

فلم يسقط من مستوى القيادة إلى مستوى الزعامة الانتفاعيّة.

بل ظلّ ملتزماً بقول ماكس فيبر: "بأن عمل رجل السياسة هو المستقبل، والمسؤوليّة تجاه المستقبل". ولذا ظلّ طوال حياته واقفاً ومتمرّداً.

فصحّ فيه قول سعيد عقل:

فإنّك خطّ كالشهامة واقفٌ... إذا انهار ظهر الناس أنتَ لهم ظهر.

 

خامساً: رجل التأسيس.فهو جذريّ في دستوريّته القانونيّة.

ندرك معنى وأهميّة الدستور في حياة الأمم.

ولعلّنا نحن اللبنانيّين من أكثر الشعوب اهتماماً بدستورنا وحرصاً عليه، لأنّه النص الضامن لاستقرارنا السياسي / الاجتماعي.

وهو الوثيقة التي ترسي القواعد التأسيسيّة لحياتنا العامّة!

ميشال شيحا كان الرجل المؤسّس الأول لدستورنا عام 1926

وإدمون رزق كان الرجل المؤسّس الثاني لدستورنا عام 1991

إنّ وثيقة الوفاق الوطني في الطائف هي نصّ سوبرا-دستوري.

وتعديل الدستور تمّ بناءً على هذه الوثيقة.

وإدمون رزق كان الأساس والمؤسّس في الوثيقة والتعديل معاً.

سادساً: رجل الثقافة والشجاعة. فهو جذريّ في تطلّعاته وممارساته.

عندما قال صديقك أندره مالرو وزير الثقافة الفرنسي: "إنّ مشروع الإنسانيّة للقرن الحادي والعشرين يُختصر بكلمتين: الثقافة والشجاعة"، كان يراهن على قوى الانتلجنسيا الحيّة داخل المجتمعات، من أمثالك. قوي تمتلك الثقافة، ليس فقط كثراث، بل كرهانٍ سياسيّ من جانب، وكقوّةٍ للخلق والتجديد وإعطاء معانٍ جديدة للمغامرة الإنسانيّة من جانب آخر. ومع هذا الرهان، فأنت تمتلك الشجاعة الضروريّة للمواجهة والمرافعة دفاعاً عن القضايا المحقة لشعب لبنان وشعوب العالم، في الأمن والاستقرار والتقدم والسلام.

  فكنتَ في أحلك الظروف، وفي كل الظروف، ولا زلت، محامي العدالة ومحامي الوطن ومحامي القضيّة.

 

سابعاً: رجل العمل السياسي كتحدّ أخلاقيّ، فهو جذريّ في مواقفه

طوال حياته السياسيّة، وفي أيّ مقام أو مقال أو مجال، وفي أيّ منصب أو مهمّة، إدمون رزق هو إدمون رزق: لا يجامل، لا يساير، لا يبيع ولا يشتري، لا يتنازل، والأهمّ أنّه لا يخضع. إنّه إنسان ممنّع. ومناعته قائمة على قاعدة ثابتة وسور محصّن، إنّها مناعة خلقيّة. وعندما يتحوّل العمل السياسي لدى رجل السياسة إلى معادلة أخلاقيّة، تسقط كل المغريات ويبقى عطر الكرامة. الكرامة المرتبطة بنبل الذات ونبل القضيّة التي طالما تماهى معها والتزم بها ودافع عنها، وخلاصتها: محبّة الناس وحماية القيم ومصلحة الأمّة.

 

ثامناً: رجل الالتزام الحرّ، فهو جذريّ في حزبيّته

أجل، إدمون رزق كتائبيّ عتيق في حزبيّته. ولكنّه لم يكن، ولا يمكن أن يكون إلاّ رجل الالتزام الحرّ. وهما كلمتان تبدوان متناقضتين. إذ كيف يكون ملتزماً حزبياً؟ وكيف يكون حرّاً في آن؟

يكون إدمون رزق ملتزماً وحراً لأنّ الحزبيّة لديه ليست حزبيّة الانقطاع أو الانكفاء أو الفئـويّة،

بل حزبيّة اللقاء والحوار والانفتاح في المجتمع، وحزبيّة الالتزام والمبدأ والعقيدة في الفكر، وهي في الحالتين ليست حزبيّة الولاء للأشخاص أو للأهواء أو للظروف.  إنّ هذا النموذج الفذّ من الحزبيّين الأحرار يعطي العمل الحزبي في لبنان والعالم العربي، بُعداً روحيّاً وأخلاقيّاً وفكريّاً وسياسيّاً جديداً، بُعداً لا يأسر الحريّة في شرنقة الحزبيّة، بل بُعد يمنح الحزبيّة إكسير الفاعليّة كي تكون حقاً مدماكاً أساسيّاً في بناء مجتمع المعرفة ليس في لبنان فقط، بل في عالمنا المعاصر.

 

تاسعاً: رجل الرؤية والوعي، فهو جذريّ في حسّه التاريخي.

السياسة كما عرّفها فريدريتش راتزل، هي فنّ التوقّع (La prévoyance)، هي الرؤية والوعي في آن. وعيٌ لما كنّا عليه ولما نحن فيه ورؤية لما نأمل أن نكون عليه وفيه. وفي هذا يشكّل إدمون رزق نموذجاً للواقعيّة التاريخيّة. معنى ذلك أنّه مدرك تماماً لواقعنا اللبناني بتركيبته وخصائصه الأساسيّة، لعلاقته بمحيطه الطبيعي العربي، ولضرورة استشراف مستقبله على ضوء ما لديه من أفكار وتطلّعات روحيّة وثقافيّة واجتماعيّة تحريراً للإنسان وتمجيداً للحياة. إنّ غنى التجربة الثقافيّة – السياسيّة تجعل من إدمون رزق مثالاً للشخصيّة اللبنانيّة العامّة المدعوّة لخدمة الشعب وقيادته في آن. ولكن ليس في أيّ اتجاه كان، بل على الصراط المستقيم. لأنّ القاعدة الأساسيّة تقول: "إن التحليل الصحيح للأمور هو حلّها". إنّ إدمون رزق بحسه التاريخي الواقعي / المستقبلي ليس رجل توصيف بل رجل تحليل للوضعيّة اللبنانيّة / الإقليميّة / الدوليّة، ومن هنا قدرته التي تبدّت في أكثر من مناسبة وأزمة على صياغة رؤية إستراتيجيّة تتجاوز حاجز الشكوى والنواح لترسم طريق الخروج من مأزقنا التاريخي. لم تكن لديه الإمكانيّات للتنفيذ ولم يُعطَ.. ولكنّه كان دائماً "يرى صحيحاً ويرى بعيداً.." كما كان يُفترض في القادة الاستراتيجيّين اليونان الذين تختارهم أثينا لقيادة شعبها.

 

عاشراً: رجل الأدب والكلمة البكر، فهو جذريّ في عربيّته!

آخر العنقود وألذّه وأطيبه: إدمون رزق الأديب. لعلّها الميزة الأقرب إلى نفسه والأكثر طيباً وذائقة في نفوسنا. فهو تلميذ الحكمة. ومثل هذا الانتماء ببُعده الديني والوطني والثقافي في آن أكسبه ثقافة الانفتاح على الحياة والتاريخ. وسهّل له تجاوز أزمة النموذج الثابت في الأدب والشعر. وأزمة البناء في النص وأزمة القيم الجماليّة وأزمة اللغة التي لم تعد لديه لغةَ هبوط على الحياة بل لغة صدور عنها، وأزمة الخلق بحيث لم يعد النموذج – المثال للإبداع تقليداً للقدماء، بل الإبداع بخلق عالم جديد ورؤيا هي تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها. لقد كان إدمون رزق من الأدباء الذين "خلقوا لغةً في قلب اللغة"، كما يقول جبران. ذلك أن الكلمة لديه هي دائماً كلمة بكر خرجت من جِلدها القاموسيّ واكتسبت ظلالاً من المعاني والعواطف والتخيّلات المؤثّرة والموحية لكأنّها تُستعمل لأول مرّة.

هذه القدرة الأدبيّة: اللغويّة / التعبيريّة / الفكريّة / الإيحائيّة المميّزة جعلت من إدمون رزق سيّد المنابر بدون منازع وجعلت منه المتكلّم المفضَّل والمحبَّب والأبرز، جعلت منه خطيب عاشوراء. ذلك أنّ إخواننا الشيعة لديهم حسّ مرهف يعكسه ما في القلب وعلى اللسان وخاصةً في موضوع مأساوي، موضوع استشهاد الإمام الحسين!

 

في الخلاصة.

أختم مداخلتي أمامكم باعتذار وتأكيد:

-        الاعتذار لأنّي تناولت إدمون رزق بملامح عامّة وأساسيّة فيه وليس المجال متاحاً في مثل هذا اللقاء وهذا التعريف أن ندخل في تفاصيل أيّ من مؤلّفاته أو قيمه الفكريّة والسياسيّة. وأنا أدرك، أن رجلاً بمثل هذا الحضور والفاعليّة والجذريّة في حياتنا اللبنانيّة، لا يمكن إيفاؤه حقَّه في ندوة محدّدة، ولقد حاولنا تعويض هذا النقص بجعل سيرة حياته C.V.جزءاً من الاحتفاء به.

-        وأمّا التأكيد، فعلى كلمات ثلاث شكّلت الأساس لهذه المرافعة المتواضعة منا أمام المحامي الأكبر، وهي: الرجل والكبرياء الوطنيّة والجذريّة.

مؤكّداً على تعبير الرجل الرجل في زمن ندرة الرجال الرجال.

ومؤكّداً على صورة الكبرياء الوطنيّة التي أحملها شخصيّاً له كلّما نظرت إليه أو فكّرتُ فيه.

ومؤكّداً ثالثاً على الجذريّة كخلاصة للأخلاقيّة والمبدئيّة والعقلانيّة في بلد تلوّث معظم سياسيّيه بالوصوليّة والتقلّب فذكّرني بقول لميشال شيحا حول مصائب لبنان الثلاث: "بلد بدون سلاح، بدون حلفاء ومحكوم بأسوأ الساسة".

 

أخي إدمون رزق،

كنتَ وستبقى، كقيمة ورمز، نداءً للفرح،

مجسِّداً للسيمفونيّة التاسعة في حياة لبنان،

سيمفونيّة الكبرياء الوطنيّة.

               شكراً لك.

د. نبيل خليفه

جبيل في 21/2/2014.

 


إدمـون رزق

سيرة ذاتيّة -C.V.

 

الوضع العائلي

وُلِدَ في جزين (لبنان الجنوبي) يوم 11 آذار 1934.

والده: أمين فارس رزق (أديب وشاعر – صحافي ومعلّق سياسي 1890-1983).

والدته: نديمة سليم ناصيف (1908-1986).

له أربعة أخوة: روزيت وأنطوانيت وأنطوان وإلهام.

تزوج (27 آب 1959) من رينه ديمتري كريستودولو (مجازة في الفلسفة والتربية وعلم النفس)

ولهما ستة أولاد: أمين، بهجت، نديم، ناجي، فادي، وجمانة.

وتسعة أحفاد: ريّا وإدمون، يارا وإلسا، يُمنى ومكرم، أدريانا وآدم، ماريا.

 

الدراسة

-        مدرسته الأولى: روضة الأخت أفدوكيا – الأشرفيّة – بيروت، 1938-1939 ثمّ مدرسة الآباء اليسوعيّين في جزين 1942.

-        تابع دروسه الابتدائيّة والمتوسّطة في مدرسة سيّدة مشموشة الداخليّة – جزين (1943-1946)، والثانويّة في مدرسة الحكمة – بيروت (1946-1949)

-        درس الحقوق في جامعة القديس يوسف، والأكاديميّة اللبنانيّة. انتخب رئيساً للجنة طلاّب الحقوق – ثم رئيساً لرابطة خرّيجي الأكاديميّة اللبنانيّة بجميع فروعها.

 

التعليم والصحافة والمحاماة

-        تولّى تدريس اللغة العربيّة وآدابها في مدارس: الحكمة – الأهلية للبنات – المعهد الأنطوني (بعبدا) – المعهد اللبناني (بيت شباب) (1951-1958)

-        انتخب عضواً في مجلس نقابة المعلمين (1952-1956)

-        شارك في تأسيس "حلقة الثريّا الأدبيّة" (1956-1963) وتأسيس "نادي فتيان الشلاّل"، الثقافي الرياضي (1956)، و"رابطة شباب منطقة جزين – مغدوشة" (1956).

-        انتسب إلى نقابة المحرّرين (1952-1959) ومارس الصحافة في جرائد: "الرواد" – "السياسة" – الأنوار" – "نداء الوطن" و"العمل" (1952-1968).

-        كتب افتتاحيّات في: "الجريدة" – "السفير" – "البيرق" – "اللواء" – ومقالات في مجلاّت: "الحوادث" – "المستقبل" – "النهار العربي والدولي" – "الحكمة" – "الفصول"...

-        عمل في إذاعة لبنان الرسميّة محضِّراً للنشرة الصباحيّة بالعربيّة، ومشرفاً على النشرة الفرنسيّة (1958)، وكاتباً للتعليق السياسي اليومي في الإذاعة، باسم الدولة (1959-1968)، والتعليق الخاص لتلفزيون لبنان (1966- 1968).

 

العمل الوطني والسياسي

-        سنة 1960 تولّى رئاسة إقليم جزين ثم رئاسة مجلس أقاليم الجنوب، في حزب الكتائب.

-        انتخب عضواً في المكتب السياسي للحزب (1961)

-        ابتداءً من 1960، أصبح الناطق اليومي باسم حزب الكتائب في مقال "من حصاد الأيام"، في جريدة "العمل"، والمعبّر عن مواقفه، ومحاميه، وأحد خطبائه الرئيسيّين.

 

النيابة والوزارة

-        سنة 1968 خاض معركة الانتخابات في دائرة جزين، بلائحة ثلاثيّة، تحت شعار "الوعي الشعبي"، وفاز بالنيابة مخترقاً اللائحة المنافسة، ليصبح أحد أصغر نائبين في ذلك المجلس.

-        في أيلول 1968 شارك مع وفد نيابي لبناني في مؤتمر البرلمانيّين الفرنكوفون المنعقد في قصر فرساي، بدعوة من الجنرال شارل ديغول وحضوره، مع أركان الجمهوريّة الخامسة الفرنسيّة (أندريه مالرو – إدغار فور – ميشال دوبريه – كريستيان كوف دو ميرفيل) وانتخب نائباً لرئيس لجنة العلاقات العامّة. نال وسام الفرنكوفونيّة (لابلياد)، ونشأت علاقات وديّة – ثقافيّة بينه وبين رجالات الفرنكوفونيّة (آلان بيرفيت وزير العدل ثم عضو الأكاديميّة الفرنسيّة وأمينها العام – كزافييه دونيو – فرنسوا دونيو – عضو الأكاديميّة الفرنسيّة).

-        شارك في مؤتمرَي الجمعيّة العامّة الفرنكوفونيّة في مونتريال (1970) وداكار (1972).

-        سنة 1969 قام، مع وفد نيابي بجولة خارجيّة استغرقت عشرة أسابيع وشملت دولاً إفريقيّة وأميركيّة (جنوبيّة وشماليّة) للاتصال بالمغتربين، وتوطيد علاقاتهم بالوطن الأم، وحضور اجتماعات مجلس الأمن حول حريق المسجد الأقصى.

-        سنة 1972 أعيد انتخابه نائباً عن دائرة جزين، مع لائحته بكاملها.

-        شارك في وفود برلمانيّة إلى مؤتمرات دوليّة وأدّى مهمّات رسميّة في الولايات المتحدة، دول "الاتحاد السوفياتي" السابق، وأوروبا، والدول العربيّة (مؤتمر البرلمانيّين للشرق الأوسط بدعوة الرئيس جمال عبد الناصر (1970) – مؤتمر اتحاد البرلمانيّين العرب في الجزائر (1977) – مؤتمر اللوكسمبورج للبرلمانيّين العرب والأوروبيّين (1977) – مؤتمر اللوكسمبورج للبرلمانيّين العرب والأوروبيّين (1977) – مؤتمر البرلمانيّين من أصل عربيّ في دمشق (1986) – مؤتمر وزراء الخارجيّة العرب والأوروبيين في باريس – قصر الإليزيه (1989) – مؤتمر وزراء الاتصالات العرب في الجزائر (1990)...

-        شارك في أنشطة ومؤتمرات أدبيّة، ثقافيّة وسياسيّة، في عواصم عربيّة وأوروبيّة (باريس – لندن – الرياض – المغرب – تونس – الجزائر – العراق – الكويت – أبو ظبي – الأردن...).

-        عُيِّن وزيراً "للتربية الوطنيّة والفنون الجميلة" في حكومة الدكتور أمين الحافظ (نيسان – حزيران 1973) وأعيد إسناد الحقيبة نفسها إليه في حكومة الرئيس تقيّ الدين الصلح التي خلفتها، إضافةً إلى حقيبة الإعلام.

-        خلال تولّيه وزارة التربية، تمّ إنشاء الكليّات التطبيقيّة في الجامعة اللبنانيّة، ومضاعفة عدد الثانويّات الرسميّة، وتعزيز المدارس المهنيّة، وإنشاء البكالوريا التقنيّة وتطبيق شعار: "لكل تلميذ مقعد، ولكلّ صف أستاذ...".

-        سنة 1973، وبصفته وزيراً للتربية الوطنيّة والفنون الجميلة، وقّع باسم لبنان اتفاق إنشاء "المركز الدولي لعلوم الإنسان والإنماء" مع مدير عام منظمة الأونيسكو الراحل "رينه ماهو".

-        أوائل عام 1976 شارك في "هيئة الحوار الوطني"، إلى جانب الشيخ بيار الجميّل، الرئيس كميل شمعون والعميد ريمون إدّه.

-        في آذار 1976 اختاره الرئيس سليمان فرنجيّه ليكون رسوله الشخصي إلى البابا بولس السادس الذي استقبله في مكتبته لمدة 45 دقيقة.

-        سنة 1984، ولأسباب مبدئيّة، تتعلّق بالمصلحة الوطنيّة العليا والمناقب السياسيّة، بعد وفاة الشيخ بيار الجميّل، استقال من حزب الكتائب مع رفيقه النائب والوزير الشهيد لويس أبو شرف، محتفظاً بعلاقة ودّية مع رفاقه السابقين.

-        ربطته صداقة شخصيّة متينة بالرئيس كميل شمعون ساعدت على التقريب بينه وبين الشيخ بيار الجميّل ثم العميد ريمون إدّه لإنشاء "الحلف الثلاثي" (1965).

-        سنة 1973 مثّل رئيس الجمهوريّة في حفل تنصيب رئيسَي البرازيل (برازيليا) وفنزويلا (كاراكاس)، إلى جانب الرئيس صبري حماده.

-        سنة 1987 أسّس، مع نوّاب من مختلف الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة "الكتلة البرلمانيّة المستقلّة" التي جسّدت الوحدة الوطنيّة، وكانت تعقد اجتماعاتها في مكتبه، وأصدر مجموعة بياناتها في كتاب "شهادة في زمن الصمت" (1996).

-        سنة 1989، شارك في اجتماعات النواب في بكركي، برئاسة البطريرك الماروني وحضور الأساقفة والرؤساء العامّين، وكتب البيانات الصادرة عنهم.

-        حضر مؤتمر الطائف (1989* وكان عضواً في لجنة صياغة وثيقة الوفاق الوطني.

-        على أثر اغتيال الرئيس الشهيد رينه معوّض، واجتماع النواب في شتورا، كانت الأكثريّة المؤلّفة من مختلف الطوائف والأفرقاء، تميل إلى انتخابه خلفاً له، لكنّ ظروفاً سياسيّة واعتبارات مبدئيّة أدّت إلى عزوفه عن الترشّح، وانتخاب الرئيس الياس الهراوي.

-        في حكومة الدكتور سليم الحص، الأربع عشريّة، الأولى بعد الطائف، تسلّم حقيبتي العدل والإعلام، وتولى وزارة الاتصالات بالوكالة، فأجرى أول تشكيلات قضائيّة في تاريخ المحاكم اللبنانيّة، متجاوزاً القيود التقليديّة من طائفيّة ومذهبيّة أو حزبيّة فئويّة...

-        كلّفه مجلس الوزراء وضع مشروع تعديل الدستور بموجب اتفاق الطائف، ففعل، وتمّ التعديل وفقاً للأصول.

-        في 1992، عزف عن المشاركة في الوزارة أو الترشح للانتخابات بسبب التنكّر لاتفاق الطائف, في ظلّ الهيمنة السوريّة.

-        سنة 2001، أسّس "لقاء الوثيقة والدستور"، مع عدد من النواب الذين شاركوا في مؤتمر الطائف، ومعظمهم وزراء سابقون، من كل الطوائف. وقد أصدر اللقاء سنة 2004 كتاباً بعنوان "شهادة ومواقف"، ولديه جزء ثانٍ يغطي السنوات العشر التالية قيد الإصدار.

 

النتاج الفكري والأدبي

-        أصدر كتابه الأول "رنين الفرح" سنة 1958، والثاني "آراء ودماء" سنة 1971.

-        في 1996 صدرت المجموعة الأولى من أعماله الكاملة "الاثنا عشريّة"، وهي تضم الكتب الآتية: في سبيل لبنان – شهادة في زمن الصمت – آراء ودماء (طبعة ثانية) – العلاقة السوريّة – مشاركة في الإسلام (مختارات من خطب على منابر المساجد والحسينيّات، ومقالات في مناسبات إسلاميّة) – في كنف المسيح – رنين الفرح (طبعة ثانية) – حباب الماء – نشيد الغربة – أيام الترف – في اذّكارهم – الملقَط.

-        لديه كتب معدّة للطبع، منها: عمري الآتي – الثريّا: حلقة وشباب – من الهراء – نصوص إضافيّة – باسم الدولة – مواعيد الاثنين – في ضيافة الشمال – أحاديث في أحداث، بالإضافة إلى الجزء الثاني من كتاب "شهادة ومواقف".

-        في 2011 جمع ما أمكن العثور عليه من قصائد والده أمين رزق وأصدر ديوانه "العُرف الباقي".

-        يرأس منذ 2010 لجنة الثقافة والتراث في "نقابة المحامين".

 

-----------------------------------------------------------------

       كلمة ادمون رزق

        شاكراً تكريمَه

  في الحركة الثقافية - انطلياس

 

الرَدُّ على الإِرهاب بمهرجاناتِ الكتاب

       بالجميلِ مُطّوَّقٌ وبالجمالِ مأخوذٌ... أَفاءَت عليَّ المحبّةُ، مَسَّـتْـني حُميّا الشعرِ واجتاحَتني نَشوةُ الكلمةِ، حتى بِتُّ كأنّي ساورَتْني خُيَلاءُ، فتداركتُ نفسي بانسحاقٍ، مسائلاً مع الكتاب: "مَن انا، يا ربُّ، حتى بلَغْتَ بي الى ههنا" ؟

       أصدُقُكم، يا أُصيحابي، أنّني مُحْرَجٌ، كما ولا مرّة !.. فكيفَ أوفِّقُ بين شعوري بعدمِ الاستحقاقِِ، وبين المجيءِ الى تكريمِ نفسي، للحُظوَةِ بكل هذه الإِنعامات ؟!

       لقد حاولتُ الاعتفاءَ من معاناةِ الموقف، حتى خَشيتُ تأويلَهُ تَدَلُّلاً يُمَوِّه استعلاءً، فأطَعْتُ شاكراً وفَخوراً... وكيف أفوِّتُ سانحةَ المثولِ في مُصَلّى الثقافةِ، مَهْدِ "العاميّةِ"، حَرَمِ عَقْدِ "الوِثاقِِ الوطنيِّ"، قبل "الميثاقِِ" و"الوثيقةِ"، الأصدَقِِ من ظاهريِّ الوِفاقِِ وباطنيّ الشِقاق، كاذِبِ العِناقِِ ورُغاءِ الأبواق !

       هنا في كَنَفِ مار الياس، نَبيِّ عهدِ الناموسِ (القديم)، قدّيسِ عَهْدِ النعمةِ (الجديد)، الذي أشهدَهُ اللبنانيون على وأدِ الفتنةِ، بالولاءِ للوطن، حِفاظاً على موروثِ فخرِ الدين، إمارةِ حريّةٍ في امبراطوريةٍ ذميّةٍ، شُعْلَةِ حضارةٍ، لم يُطفئها اضطهادُ مئاتِ السنين، ما أخمدَتْ جُذوتَها مشانقُ ومَجاعةٌ، جَرادٌ وجِزْيَة، ولا استنزفَتها سُخْرَةٌ وهُجرة، فعاد الياس الحويّك يُحيي عاميّةَ سَمِيِّه، في "دولةِ لبنان الكبير" !.. لتُجَرَّبَ كلَّ يومٍ، محنةً وفِتْنَةً، اجتياحاتٍ واحتلالاتٍ، تَعَدُّدَ وَلاءاتٍ وعهودِ وصايات، ثم تعودُ فتكتشفُ ذاتَها في الآلامِ والنَكَبات، لتلتمسَ، خلاصَها في الوَحْدة !

 

       ها نحنُ إذاً، في رحابِ "الحركة الثقافية"، مسرحِ الأخوين رحباني، الصديقَين العبقريَين، ودورةِ الجارِ المبدع، وديع الصافي، مع زملاءٍ وإِخوانٍ، رفاقٍ وأهل، أحبّةٍ وخُلاّن... ولأنَّ من طقوسِ التكريم، كشفُ الذاتِ، أودُّ الاعترافَ أوّلاً بأنني كثيرُ الخطايا والأخطاء، فأعتذرُ من الصميمِ، عمّا قد اسأتُ أو تسبّبتُ، من غير قصد، بتصرّفٍ عفويّ أو موقفٍ عَجول، وعن أيِّ تقصيرٍ بدر منّي، لتعذُّرٍ او استحالة، سَهْوٍ أو نِسيان، يَشفعُ بي أنني ما نَوَيْتُ إلاّ خَيراً، ولا تمنّيتُ سوى الحقّ، في ايِّ قضيةٍ ونحو أيِّ شخص.

 

       ثم إنني، أعترفُ جَهْراً، ومن دونِ توريةٍ، بفضلِ كلِّ معلّمٍ واستاذ، تتلمذتُ له، وأحفظُ جميلَ كلِّ مَن وّجَّهَني، أشارَ عليَّ وصوّبَ لي، معتـزّاً بصداقاتي، معتـدّاً برفاقي في المدارسِ والجامعات، زملائي في الإِعلامِ والتعليم، المحاماةِ والخِدمةِ العامة، الى كبارِ الوطنِ الذين شرّفَني العملُ معهم، والاكتسابُ من خِبرَتِهم ومناقبِهم، وقد آزروا نجاحاتي وشجّعوني في هِناتي.

       إنني مَدينٌ بالكثير، لكثيرين، لكلِّ مَن تبصّرتُ فيه قدوةً، خصَّني بلفتةٍ او دُعاءٍ...

 

       ... ثم خَتَمَ كلمتَه بشكر الحركة الثقافية على مبادرة تكريمه، وخصّ بالامتنان مدير الندوة المحامي جورج بارود، والمتحدث الأول الباحث الدكتور نبيل خليفه، واصحاب المداخلات، الأب انطوان ضو، المحامي الشاعر ريمون عازار، الشاعرة الرسّامة باسمة بطولي، الدكتور جورج شبلي.

       كما شكر جميع "الأحبّة الحاضرين" وحيّا الآتين من جزين...

 

الحركة الثقافية- انطلياس،    
ادمـون رزق          

 مسرح الأخوين رحباني - 7 آذار 2014