التوراة والتاريخ، التاريخ والنصّ التوراتي، انعكاسات على التوراة، الألواح والأسفار

الأب سهيل قاشا

تحقيق وتقديم: جوزف مفرّج، دار الأجيال للدراسات والنشر

مقدّمة الأباتي أنطوان راجح

بداية يسعدني أن أرحّب بكم في دار الحركة الثقافيّة انطلياس، وهي تحيي مِهرجانَها السنويّ السابعَ والثلاثين للكتاب، ويشرّفني أن أقدّم هذه النَدوة حول مؤلَّف نفيس، لكاهن باحث، يتكّىء على دعم صاحبِ دارٍ شهير للدراسات والنشر.

ليس لي أن أفنّدَ مكنونات الكتاب، بأكثرِ من تقديم القائلينَ فيه. لذا أكتفي بتمهيد سريع يُدخلنا في أطار موضوع المؤلَّف الشيّق، أي التوراة والتاريخ.

إنّ ارضَ كنعان وحدةٌ جغرافيّة سمّيت الهلالَ الخصيب، وهي منطقةٌ ترويها أنهارٌ على جانبٍ من الأهميّة. فقد احتوت منذ أقدم العصور، عددًا كبيرًا من السكّان، ونَمَت فيها مراكزُ حضاريّةٌ هامّة.

منذ العام 3000 قبل المسيح على أقلّ تقدير، كان لبلادِ ما بين النهرين السفلى تأثيرٌ في طول الهلال الخصيب. لقد سيطر عليها على التوالي السومريّون والأكَديون والأموريّون والحوريّون والكلدانيّون والفُرس وغيرُهم أيضًا، فكان لها اشعاعٌ على قدر من التجانس. وأضاف إنشاءُ الامبراطوريّةِ الفارسيّة الى هذا التأثير اسهامَ الشعوب الهنديّة الأوروبيّة المقيمةِ في ايران إسهامًا فاعلًا. وثمّةَ مستعمرةٌ يهوديّة كانت استوطنت اسكندريّة مصر، في زمن أخضعت اليهوديّة نفسَها لسلطة اللاجيّين (البطالسة)، فترجمت كتبَ الشريعة الى اللغة اليونانيّة القديمة وعُرفت بالترجمة السبعينيّة لأنّها تمّت بتوافقِ اثنينِ وسبعينَ شيخًا كبيرًا، فأضيفت الى النسخ الآراميّة والعبريّة والقبطيّة واللاتينيّة وغيرها.

وكانت سبقت دخولَ فلسطين في التاريخ، حوالى السنة 1200 قبل المسيح، حقبةٌ طويلة لم تُنقل كلُّ حوادِثها وكلُّ مآثرِ شخصيّاتها، إذ بقيت في التقليد الشفهي المتناقل. في هذه الحقبة، يُبرز التقليدُ الكتابي بعضَ الشخصيّات العظيمة،منها إبراهيم واسحق ويعقوب وأجداد أسباط بني إسرائيل.

في الدين اليهودي القديم، اتُخذ قرارٌ رسمي في شأن التوراة (أو الشريعة) منذ الزمن الذي ثبّتها عزرا وأصدرها، في السنة 398 قبل الميلاد، ومنذ ذلك الحين، اعترفت السلطاتُ الفارسيّة بأنّ "أسفار موسى" تؤلّف دستورًا يحكم جميعَ يهود الامبراطوريّة.  وفي وقت لاحق، حُدّدت مجموعة ثانية، وهي مجموعة "الأنبياء" الأوّلين (يشوع والقضاة والملوك) والآخرين (أشعيا وارميا وحزقيال والأنبياء الصغار الاثني عشر). لم يكن للمجموعة الثانية سلطةٌ منظّمة تعادل سلطةَ المجموعة الأولى، لكنّها كانت أساسًا لشرحها وامتدادًا لفحواها. ومع تثبيت مجموعةِ المزامير، وهي ضروريّة للصلاة الطقسيّة، نشأت فئةٌ ثالثة من الكتب المعترف بها رسميًّا والمستعملة في عبادة الهيكل وفي الاجتماعات المجمعيّة، وهي فئة المؤلّفات. تشكّل كلُّ هذه المجموعات نسبة الى المسيحيّين العهدَ القديم من الكتاب المقدّس، وأسفارُها الخمسة الأولى هي كتبُ التوراة (سفر التكوين، سفر الخروج، سفر الأحبار، سفر العدد، سفر تثنية الاشتراع).

الاّ أنّ العهدَ القديم ليس قديمًا للمسيحيّين الاّ نسبةً الى العهد الجديد. فقد كان العهدُ القديم الكتابَ الوحيد نسبةً الى يسوع وتلاميذه، وهو قد هذّب الى حدّ ما نفسَ يسوع الذي تبنّى قيمَه في معظمها، لأنّه لم يأت ليبطل الشريعة والانبياء، بل ليكمَّلها، ويدعو فيها الى سبر الروح تحت قشرة الحرف، أي ليبلغَ بها الى درجة من الكمال، بإظهار ما لها من صلة بسرّ الخلاص الذي حقّقه.

وبعد أن سلّم الكتابيّون بنـزع مرجعيّة  كامل كتب التوراة عن موسى،  يأتينا اليوم، باحثٌ موسوعيّ عراقيّ من بخديدا شرق الموصل، ليكشفَ نصوصًا مسماريّةً صبغت الحضارة القديمة، فيفتّشُ فيها عن مرتكزات للتوراة، وعن آليّةِ تطوّرها، مشيرًا الى تواصلِ تنقيب لفترة خمسٍ وعشرينَ سنةً، استنطق فيها الكلمةَ الجامدة، وقارن الاقتباسات، واستجلى الواقع من الخيال في بطون المصادر، ومتون المراجع، فتمخّضَ بنتيجتها كتابين سابقين: الأوّل بعنوان: "أثر الكتابات البابليّة في المدوّنات التوراتيّة"، والثاني بعنوان "مقتبسات شريعة موسى في شريعة حمورابي"،  وهو يتحفنا اليوم بكتابه" التاريخ والتوراة"، يضيفُه الى سلسلة قيّمة من سائر نتائج أبحاثه وكتبه، أمثال سيرة الشهيد مار زينا، وسيرة الشهيدة شموني في قره قوش، ولمحات من تاريخ نصارى العراق، وكنائس باخديدا، والمرأة في شريعة حمورابي، والمسيحيّون في الدولة الاسلاميّة، وغيرها.

في خلاصة الكتاب يقول من دون ادّعاء، إن التوراة ليس سوى صورةٍ مصغّرة عن ملحمة كلكامش البابليّة التي سبقتها بمئات السنين، وأيضًا قصّةُ الخلق البابليّة وغيرُهما من قصص العراق القديم الأدبيّة مع حكمة حكمائه. أترك للمنتدين وللمتخصّصين مناقشة هذه الخلاصة وتقويمها.

 

في كلّ الأحوال، بعد الاطّلاع الوافي، يستحقّ الأب سهيل قاشا الجزيل الاحترام أن نهنّئه مرارًا وتكرارًا على كتابه الجديد، لما فيه من إضاءات سخيّة على الكتب المقدّسة، وأن نحيّي تجلّدَه العلميّ في خدمة التاريخ والحقيقة، متمنّينَ له دوامَ الصحّة والعافية، لمزيد من مثل هذه العطاءات. إنّه يدفعنا الى الخروج، في هذا الشرق خصوصًا، من دوّامة تجاورنا الأخرس ومن اكتفائنا بالتسمّر في أبجديّة فهمِنا الخاص لمستنداتنا الدينيّة.


_______________________________________
 

كلمة الأستاذ عبدو لبكي

_____________________________________________

كلمة الأستاذ جوزف مفرّج