المهرجان اللبناني للكتاب/ السنة السابعة والثلاثون/ 2018/ دورة وجيه نحلة.

 

 

كلمة ناصيف قزّي في تكريم هنري العويط

 

 

الحركة الثقافيَّة انطلياس، في 13 آذار 2018.

*

 

هنري العويط... عاشق "الآفاق"

 

باسم الثقافة البنَّاءة... المسؤولة... ثقافة الفكر الحر، لا ثقافة الحريَّة المتفلِّتة، ولا الثقافة المعلَّبة.

باسم الفكر المنعتق عن كلِّ أشكال العصبيَّات وأوهام السلطة والتسلُّط...

باسم ثقافة الإنفتاح والتألق... الثقافة الأنيقة والراقية... ثقافة الإلتزام القيمي والوطني والإنساني... في زمن "الهاجوج والماجوج" السياسي... زمن العدالة الإنتقائيَّة المنقوصة... والخطاب النَسوي الذي أسقط سيمون دو بوفوار بشطبةٍ من إصبع أحمر الشفاه... وخصل الهاي لايتنغ على الشاشات صبح مساء...

باسم الثقافة التي منها تفوح رائحة "العاميَّات"، وأريج "لبنان الكبير"... "لبنان الرسالة" الحضاريَّة الأبقى في وجه الأُحاديَّة التوسعيَّة العدوانيَّة المتربِّصة بحقِّنا في أرضنا، ومياهنا وثرواتنا الجوفيَّة... كما في وجه تكفيريَّة مارقة شوَّهت حقيقةَ بلادنا وجوهرَ رسالاتنا...

باسم جماعة ثقافيَّة استشرفت كلَّ المخاطر والأخطار، منذ عقود، يوم وقفت في وجه الحرب ونظامِها... لتَنْذُر نفسها للعطاء، بل لمجانيَّة العطاء، لأجل مواطنٍ معافى من كلِّ التشوُّهات التي أصابت، وقد تصيب، مجتمعنا، من الداخل ومن الخارج؛ ولأجل إنسانٍ إنسانيٍّ، يلامس بوجوده معنى الكائن؛ ولأجل وطنٍ عظيم بدلالاته والأبعاد... يعتزُّ بتاريخه وعطاءاته في هذا المشرق العربي الجريح؛ وطبعاً، لأجل دولة مدنيَّة عادلة وقادرة وذات طابع علماني.

باسم هذه الجماعة الثقافيَّة... الحركة الثقافيَّة انطلياس، الحركة المنارة... أرحب بكم، أيها الكرام، أجمل ترحيب... في هذا اليوم المميَّز... لنعلن لكم ومعكم الدكتور هنري العويط علماً من أعلام الثقافة في لبنان.

*

أيها الأصدقاء،

هنري داوود العويط هو الإبن البكر لعائلة مسيحيَّة مارونيَّة متواضعة من بلدة بزيزا الكورانيَّة. متأهل من السيدة جيزال وليم أبيلا ولهما أبنة وحيدة، جيهان.

يشغل الأستاذ العويط الآن، إلى موقعه الأكاديمي في الجامعة اليسوعيَّة وتدريسه مادتي "الأدب العربي الحديث" و"الترجمة"، رئاسة "اللجنة الوطنية اللبنانيَّة لليونسكو"... والمدير العام ﻟ"مؤسسة الفكر العربي".

تدرَّج هنري في تحصيله العلمي من "مدرسة بزيزا الرسميَّة"، ثم "المعهد الوطني في شكّا"، حيث كان والده عاملاً بسيطاً هناك في معمل الإسمنت... إلى "مدرسة الآباء اليسوعيِّين" في غزير، لينال شهادة البكالوريا الفرنسيَّة عام 1966.

تأثَّر الفتى في نشأته بدائرته العائليَّة، ولا سيما بعمه الخوري ميشال.

انتقل، بعد ذلك، إلى جامعة القديس يوسف في بيروت، لينال فيها، تباعاً، إجازة في الفلسفة وأخرى في الأدب العربي، من معهد الآداب الشرقيَّة... وعام 1986 دكتوراه فئة أولى في اللغة العربيَّة وآدابها.

للآباء اليسوعيين فضل كبير عليه. وقد تعاون مع الكثيرين من بينهم، ولا سيما الأب جان دوكرييه Jean DUCRUET، والأب ميشال ألارد Michel ALLARD. وهذا الأخير ترك فيه أثرا طيِّباً.

درَّس هنري العويط الفلسفة العربيَّة والفلسفة العامة وتاريخ العلوم عند العرب في عدد من المؤسسات التربويَّة الخاصة.

أصبح منذ العام 1977أستاذاً لمادتي الأدب العربي الحديث والترجمة (كما سبق وذكرنا) في معهد الآداب الشرقيَّة.

تنقَّل في الجامعة اليسوعية بين وظائف إداريَّة وأكاديميَّة عدة: من أمين عام الجامعة إلى نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديميَّة.

شغَل، إلى ذلك، عضويّة لجان وهيئات وطنيَّة وعربيَّة ودوليَّة: من "اللجنة المكلفة بوضع الأهداف العامة والخاصة وإعداد برنامج كتابي التاريخ والتربية الموحَّدين، بناءً لأحكام وثيقة الوفاق الوطني" إلى "لجنة معادلات التعليم العالي"، وصولاً إلى رئاسته "اللجنة الوطنية اللبنانيَّة لليونسكو" منذ 2008، وتسلمه أمانة سر "المركز الماروني للتوثيق والأبحاث" بين عامي 2008 و 2013، وتوليه مهام المدير العام ﻟ"مؤسسة الفكر العربي" منذ العام 2014.

ولا يسعنا، في هذا السياق، إلا أن ننوه بمشاركته في عضويَّة اللجنة الثلاثيَّة التي وضعت أهداف كتابي التاريخ والتربية الموحَّدة، من جهة، وبإعداده لنص "الكنيسة المارونيَّة والتعليم العالي" المدرج ضمن نصوص وتوصيات "المجمع البطريركي الماروني" الصادرة عام 2006. كما بدوره على مستوى إنجاز المعادلات عبر "اتفاقيَّة دوليَّة للإعتراف بمؤهلات التعليم العالي". وكانت منظمة اليونسكو قد اختارته من بين خمسة عشر شخصيَّة لإنجاز تلك المهمَّة.        

*

أيها الأصدقاء،

لهنري العويط مساهمات كتيرة في مؤتمرات وطنيَّة وعربيَّة ودوليَّة. وله مؤلفات وأبحاث ومقالات عديدة في اللغتين العربيَّة والفرنسيَّة. كما كانت له ترجمات مختلفة، من بينها ترجمات لعدد من كتابات بعض الآباء اليسوعيين: من الأب سليم عبو إلى الأبوين رينيه شاموسي وميشال آلار.

كتب عن العربيَّة في الأوريان لو جور بين 1973 و1976. وكانت له إطلالات كثيرة، عبر "حوليَّات" و"النهار" وغيرها، على أدبائنا المعاصرين: من جبران والريحاني إلى أنسي الحاج ومتري بولس، مروراً بفؤاد سليمان ويوسف حبشي الأشقر وغيرهما.

تأثر هنري العويط، فيما تأثر، بالعالِمَين المارونيّين اللذين طبعا عقوداً من تاريخ الموارنة المعاصر، عنيت الأب ميشال الحايك والخوري يواكيم مبارك.

والمفارقة أنه عندما تحدث في تكريم الأب سليم دكاش اليسوعي، الرئيس الحالي للجامعة اليسوعيَّة، منوهاً به "إدارياً رشيداً، وتربوياً رائداً، وعالماً بحَّاثةً، ولبنانياً أصيلاً"... لم يُشِر إلى ما يعرفه جيداً، من أنَّ الأب دكاش، قادمٌ من روحانيَّة مارون الناسك وأنطاكيَّة يواكيم إلى رهبانيَّة سان إينياس... الرهبانيَّة التي أدركت باكراً، بُعَيْدَ نشأتها في بداية عصر النهضة الأوروبيَّة، وما سمي، بعد ذاك، ﺑ"الإصلاح"؛ أدرَكَت أهمّيةَ الموارنة ودورَ علمائهم في ترشيد الكنيسة وتماسكها... وهم لا يزالون مستمرين في تلك الرسالة.

*

أيها الأصدقاء،

في مقالته الأخيرة "كلنا للوطن... وطن للجميع"، يدعو هنري العويط إلى "حوار ديمقراطي حر" في سبيل "بناء لبنان وديموته، واستقلاله وسيادته، ومنعته ومناعته، واستقراره وازدهاره" [عدد النهار الخاص/ شباط 2018].

باختصار هنري العويط، الذي يهوى المطالعة والسباحة والسفر، هو "عاشق الآفاق"... إنه مثقف متمكن وأكاديمي عريق... صاحب رؤية في الإدارة التربوية والتعليم العالي... ناقد أدبي: شعراً ونثراً... مترجم وكاتب باللغتين: العربيَّة والفرنسيَّة... وفوق ذلك وطني أصيل.

هذا غيض من فيض سيرة ذاتية تنير العقل وتثلج القلب. فأن يكرس لبناني ماروني، وعلى خطى الكثيرين من أترابه، ومن الجامعة اليسوعيَّة بالذات؛ أن يكرِّس حياته لخدمة اللغة العربيَّة، "لغتنا الأم"، وإبراز دورنا كلبنانيين في ذلك... فهذا أمر يسجَّل له في دراسات الفكر العربي ومساره النهضوي.   

*

أخي هنري،

لقد جسَّدت في ما كتبت، ومن مواقعك كافة، إلى قيمة لبنان الحضارية في هذا المشرق، دورَه الريادي في إحياء الثقاقة العربيَّة، وهذا ما يَبْرُزُ في كتاباتك في مجلة "أفق" التي تصدرها مؤسستُكم اليوم، ولا سيما في ما يمكن أن أسميه زمنَ أفول النهضة وخيبات روادها... بل أكثر من ذلك، أقول، زمنَ موت الحداثة.

هنيئا لنا ولعالمنا العربي بك وبأمثالك من حملة الشعلة في مواسم الظلمات.  

 

___________________________________________

تكريم الدكتور هنري العويط

الحركة الثقافيّة انطلياس – 13 أذار 2018

كلمة الدكتور جرجورة حردان

حضرة رئيس الجلسة، الدكتور ناصيف قزّي المحترم،

عزيزي الدكتور هنري العويط،

ايها الحفل الكريم،

في البداية تحيّة إعجاب وإكبار وعِرفان إلى الحركة الثقافيّة – انطلياس التي شرّفتني بالتكلم من على منبرها، فاتاحت لي ان اعيش الليلة لحظة من اجمل لحظات حياتي. فأغتنم هذه الفرصة لأبوح  بما كنت أعيشه، كمراقب لتطورالحركة منذ نشأتها، وبما كنت أردده على مرّ السنين بيني وبين نفسي، وضمن حلَقات الأصدقاء والزملاء: الحركة حلم تحقق وغدا مشروعًا  كبيرا كبر لبنان، فأصبح مكونًا من مكوّنات هويتنا الثقافية. الا بورك مؤسّسوها والمتعاقبون على حمل مشعلها، والمؤتمنون حاليّا على تراثها واستمرار اشعاعها. اللهم زد وبارك، لتبقى نشاطاتها مواسم خير تشهد على الأصالة في الإبداع والإنتاج.

وما يضاعف سعادتي ويطعّمها بنكهة  شخصيّة نادرة ان الدكتور هنري العويط الذي طلب الي الاشتراك في تكريمه ليس زميلًا اكاديميًا عزيزًا علي فحسب، بل صديقًا وأخًا. هو رفيق العمر بامتياز منذ ما يقارب الخمسين عامًا.

ولا يظنّنّ احد ان شهادتي فيه ستكون سهلة المنال:

 فهي في قسمها الاول، الذي ساتناول فيه مساراتهالعلميّة والأكاديميّة والتعليميّة والتأليفية والإدارية على المستوى الوطني ثم الإقليمي فالدولي، لن توفيَه حقّه كاملًا، فهي نتيجة اختيار محصور يفرِضه الوقت لعدد محدود من الاتجاهات الجوهريّة في خضم تلك المسارات المتشعبة الغنيّة التي يصعُب نقلها كاملة بأدق تفاصيلها.    

وكذلك الامر في قسمها الثاني الذي سانفُذ فيه من الواجهة العلميّة والمهنيّة والإنتاجيّة الى هنري العويط الإنسان في تصرفاته و قراراته وعلاقاته بالآخرين، فلست الرفيق او المراقب الوحيد لهذا المسار الإنساني، ففي حلقة الزملاء والأصدقاء حوله عشرات يشعر كل واحد منهم بانه على اقرب مسافة منه، فمهما بحت به عنه، سيبقى بوحي نقطة في بحر انسانيّته.

فعذرًا على محدوديّة كلمتي وجزئيّتها.

1-    العطاء

اخترت العطاء عنوانًا لمسارات القسم الأوّل لانه المفهوم الاساسي الذي يجمع بينها، ولان هنري العويط معطاء بالفِطرة والإرادة، لا يعرف الإنطواء والانكماش، بل يشارك الآخرين ما عنده، وفي ما عنده الكثير الكثير مما يستحق ان يُعطى.

عطاؤه في التعليم، ولعله الاهم بالرغم من كمّيّته التي تضاءلت مع ازدياد المهام الأخرى، لم يأت اختيارًا مهنيًّا  بالصِدفة او بديلًا عن اختيارات أخرى لم يتسن له بلوغها، بل اختيارًا إراديًّا، عقليًّا، ووجدانيًّا شدّ اليه وشغف به منذ مروره  بمقاعد الدراسة. وكل من تتلمذ على يده، إن في المرحلة الثانويّة او في المرحلة الجامعيّة، يعلم ان شخصيته  بمعالمها الذهنيّة والنفسيّة والتواصليّة تفسر ذلك الاختيار وتجيب عن الأسئلة التي طالما طرحها تلامذته وطلابه: ما سر نجاحه؟ وكيف يحببنا بمواده؟ ولماذا يمر الوقت في حصصه بهذه السرعة؟

واللافت في تعليمه ميزتان اولاهما تعدد ميادينه وغزا رتها، من الفلسفة في المدارس الثانويّة الى الأدب العربي المعاصر والنقد الأدبي في معهد الأداب الشرقيّة، مرورًا بالترجمة في مدرسة الترجمة، وكل ذلك في جامعة القديس يوسف التي كرّس لها تعليمه الجامعي كاملًا.

اما ميزة تعليمه الثانية فاعتماده على المناهج والاساليب الحديثة في العمليّة التربوية، فادخل المقاربات الألسنيّة الى النقد الأدبي، وجعل دراسة النصوص اساسًا وانطلاقًا لتعليم الأدب والفلسفة. فكان سباقًا مبتكرًا لا في المضمون فحسب، بل في  الاستثمار التربوي ايضًا،  فلم يدرّس محاضرًا، مستأثرًا بالكلام، موزّعًا للمعلومات، بل منشّطًا لفريق المتعلمين، يطرح عليهم الأسئلة ويقترح عليهم التمارين ويحثَّهم على التعبير والنقد والنقاش وصولًا الى الاستنتاج .

وكما في التعليم كذلك في التأليف، فجاءت مؤلّفاته متعددة المحاور، تغطّي الترجمة والدراسة الادبيّة النقديّة وتحديث اساليب تعلم اللغة العربيّة وتعليمها وإشكاليّات التعليم العالي. لن اعرِضها بالتفصيل، بل اكتفي بارقام اعدادها، وبذكر اهمها بمنظاري أوّلًا وبما يميّزها ثانيًا.

-         المؤلفات– الكتب: بالفرنسيّة ثلاثة، وبالعربيّة ستّة من بينها:

L’Université Saint-Joseph de Beyrouth et ses institutions (1875 – 2002) en collaboration avec Jean Ducruet, publications de l’USJ, 2006

          الترجمات:اربع عشرة مجملها الكلمات السنوية التي القاها رؤساء جامعة القديس يوسف من سنة 2000الى سنة 2012

          وعشرات المحاضرات والمقالات بالفرنسيّة والعربيّة في الميادين المتعددة التي ذكرناها.

-          وامتازت مؤلفاته، كمقارباته في التعليم، بمضامينها التحديثيّة المبتكرة، وباساليب تخطِف انتباه القارئ وتحمِله الى عوالم لم يألفها فيقبل عليها ويستمتع بأجوائها.

ولذا غالبًا ما تساءل طلابه وزملاؤّه وقرّاؤه: لماذا لم يحصر نشاطاته بالتعليم والتأليف فحرمهم من اضعاف اضعاف ما قام به في هذين المجالين؟

ذلك أنه انصرف باكرًا الى العمل الإداري، إذ لم تخفَ كفاءاته وطاقاته في التنظيم والتخطيط والتوجيه على ثلاثة آباء يسوعيين تعاقبوا على رئاسة جامعة القديس يوسف، السعيدي الذكر الأب جان دوكرويه، والأب رينيه شاموسي، رحمهما الله، والأب سليم عبو، اطال الله بعمره،  فأوكلوا اليه المهام تلو المهام، فشغَل منصِب الامين العام ثم منصِب نائب رئيس الجامعة للأمور الأكاديميّة، كما أسس، بالتوازي مع مهامه المركزيّة، المعهد الجامعي لإعداد المعلّمين والمديرين وكان مديرًا له، كما أسس كلّيّة العلوم التربويّة وكان عميدًا لها.

ولم تكتف الجامعة باللجوء الى كفاءاته المتمايزة في الداخل فأوكلت اليه مهام تمثيلها، ففاقت انشغالاته الخارجيّة مسؤوليّاته الداخلية:

فعلى الصعيد الوطني، راح يتنقّل في وزارة التربية والتعليم العالي بين لجنة المعادلات التي بقي فيها اربعين عامًا واللجان التربويّة الأخرى كاللجنة الفنّيّة، ولجنة كتابَي التاريخ والتربية، ولجان المناهج، فكان من الطبيعي، من خلال خبرته المتينة والمتعددة الابعاد  ان يشارك في إعداد القوانين الخاصّة بالتعليم العالي وضمان الجُودة، وان يرأَس اللجنة الوطنيّة للاونيسكو طوال سنوات.

وعلى الصعيد العربي، لم يدخل محفلا جامعيًّا او علميًّا الا واصبح من اهله ومن المتأصلين فيه والمشاركين في تنفيذ مشاريعه، وراح يتنقّل عُضوًا ناشطًا فاعلًا بين اتحاد الجامعات العربيّة، والمركز الإقليمي للجودة والتميّز، والمجلس الدولي للغة العربيّة، والمكتب الإقليمي للتربية في الدول العربيّة.

اما على الصعيد الدولي، فعمِل طوال سنوات في تجمّع امناء السر في الجامعات الفرنكوفونيّة وفي لجنة الخبراء المكلّفة بإعداد الاتفاقيّة الدوليّة للاعتراف بمؤهلات التعليم العالي.

وهل نتعجب، بعد هذه الكفاآت والمسارات والإنجازات، من قرار القيمين على مؤسسة الفكر العربي العريقة منذ بضع سنوات، باختيارهمديرًا عامًّا لها؟

وكيف لا يطرح الذين تعاطوا معه في مجالات اختصاصاته وشهِدوا لنجاحاته، من زملاء ومعاونين ومقربين، سؤالا يراودهم باستمرار: أو لم يضَلّ هنري العويط مساره في الحياه؟ او لم يكن مؤهلًا لان يكون سفيرًا او محاميًا او قاضيًا او نائبًا او وزيرًا؟

وعنه اسمح بالإجابة: نعم هو مؤهل لذلك كلّه، ولكنه لم يخطئ قط باختياراته، فما يهُمه اوّلًا واخيرًا هو خدمة الشأن العام، في اي مركز يسهلها، وعن اي طريق اتت، فمساراته، منذ جهاده الشبابي الأول في نِقابة المعلمين الى تحمل المسؤوليات المتعددة على الصعد كافة، تصب في خانة تلك الخدمة، وهي اولًا واخيرً خدمة الآخرين.

2-     المرجِع

واخترت المرجِع عنوانًا للقسم الثاني والأخير، لان المرجع هو الشخصية  التي نرجِع اليها، بعد ان اختبرنا كفاءتها وحنكتها وحكمتها فنستنجد بها عارضين امامها المشاكل ومنتظرين منها النصائح والإرشادات لبلوغ الحلول. وطوال ممارسته إدارة الأمور الأكاديميّة  في جامعة القديس يوسف، غدا هنري العويط مرجعا  للطلاب والأساتذة والمسؤولين على حد سواء : إن احتاج برنامج جديد لموافقة داخليّة او خارجيّة، او تعثرت معادلة شهادة من الشهادات، او اختلفت الآراء حول تفسير مادة من مواد الانظمة، تهافت الجميع اليه، ولسان حالهم يقول : ما لنا الا قرع باب العويط، حلال المشاكل جميعها.

ولهذه الثقة العمياء ما يبررها، فكلهم يعلم انه الضمانة الثابتة لصحة اي رأي، او لصواب اي تفسير، او لعدالة اي قرار، اذ يعلم كلهم كذلك انه  لا يخطئ في تحاليله وقراراته، فهو ان رفض اقتراحًا فلأن الاقتراح لا يمكن ان يؤخذ به، وإن قبِل بتسوية فلاقتناعه بانه سينجح بإنجازها. نعم يقوم عفويًّا بدور الوسيط،  ولكن لن تتم الوساطة على حساب النظام. فبقدر ما يمكنه ان يكون مضيافًا، ليّنًا، متساهلًا، عندما يكون الطلب معقولًا لا يتعارض مع الأنظمة والقوانين، بقدر ما يمكنه ان يكون  صارمًا، قاطعًا عندما يفتقد الطلب التبرير المنطقي والقانوني، فيأتي جوابه المعهود بوضوحه وقساوته: لا، هذا مستحيل. فيعرف محدّثه ان الحكم صدر وان النقاش انتهى. غير ان كل ذلك يتم في جو بعيد عن التشنج او التجريح او التوبيخ.

ذلك ان وراء هذه التصرفات كلها انسانا بكل ما للكلمة من معنى، يصغي اليك باهتمام، فيريحك ويشعرك بانه سيخدُمك برموش عينيه، يتقن الحوار فيطرح عليك الاسئلة المناسبة في اللحظة المناسبة، يدخل الى عالمك ليعيش معك همومك وشجونك وتساؤلاتك، بل يحِل محلّك مذكّرا بالمُهل التي تحددها الانظمة والقوانين وبماعليك القيام به  دون إبطاء او تاجيل، وكاني به يسهر، مثلك بل اكثر منك، على مصالحك ومشاريعك.

وبكلمة، سيدي الرئيس، ايها الحفل الكريم،

لم يدخل هنري العويط ميدانًا الا وحلّق فيه، ولم يعالج ملفًّا الا وانجزه، ولكم كان كبيرًا حظ التلاميذ والطلاب والزملاء والمسؤولين والمعاونين الذين تعاطوا معه، فتأثروا بشخصيّته المتمايزة واقتدوا بتصرّفه الإنساني الفريد الذي طبعهم ببصمة انسانيّة لا يملِكها ولا يتقنها الا امثاله.

اما انا فكنت على الدوام من المحظوظين برفقته وصداقته، وما شرف الاشتراك الليلة في تكريمه الا دليل آخر على هذا الحظ الذي سافتخر به ماحييت.  

والسلام.

_____________________________________

 

نصّ الكلمة التي ألقاها الأستاذ البروفسور هنري العَويط في حفل تكريمه

 في الحركة الثقافيّة - أنطلياس، في إطار المهرجان اللبناني للكتاب – السنة السابعة والثلاثون 2018 – دورة وجيه نحلة

الثلاثاء 13 آذار 2018، الساعة السادسة مساءً

إنّي من المعجبين بمونتسكيو، وبروحِ شرائعِه، وأسعى إلى أن أطبّقَ إعلانَه المشهور: ""لو عرفتُ أنّ شيئاً ما يُفيدني ويُلحقُ الضررَ بأُسرتي، لَطَرَحتُه من ذهني. ولو عَرَفتُ أنّ شيئاً ما يُفيد أُسرتي ولا يُفيد وطني، لَسَعيْتُ إلى نسيانه. ولو عَرَفتُ أنّ شيئاً ما يُفيدُ وطني ويُلحقُ الضرَرَ (...) بالجنسِ البشريّ، لاعتبرتُه جُرْماً (...)، لأنّني إنسانٌ قبل أن أكونَ فرنسيّاً (أو) لأنّني إنسانٌ بالضرورة، وإنّما أنا فرنسيٌّ من قَبيل الصُّدفة".

وقد قمتُ، وأنا أُعِدُّ كلمتي هذه، باسترجاعِ أبرزِ المحطّاتِ في مسيرةِ حياتي، في ضوءِ ما حدّده مونتسكيو من مبادئ، فتبيّن لي أنّ الأسرةَ التي تحدّرتُ منها، والمؤسّساتِ التي عمِلتُ في إطارها، ساعدتني في أن أكونَ وفيّاً لما يرتّبه عليَّ إيماني بالنهجِ الذي رَسَمَه، من مواقفَ والتزامات.

فبزيزا، قريتي الوادعة التي أبصرتُ فيها النور وترعرعتُ في ربوعها، لا تعرِفُ للتعصّبِ معنىً، وتحتضن، على الرَّغم من قِلّةِ تعدادِ أبنائها، ثلاثَ طوائفَ متآخية.

والعائلةُ التي أنتسبُ إليها، كابدت شظفَ العيش، ولكنّها أورثتنا، أخواتي وإخوتي وأنا، منظومةً من المبادئِ الروحيّةِ والوطنيّةِ والإنسانيّة، تهبُ الحياةَ قيمتَها ومعناها. وربّانا الوالدان على حبِّ الوطنِ والولاءِ له، وتغليبِ الصالحِ العامّ على المصالحِ الذاتيّةِ أو الفئويّة. ومن بين القيمِ الأثيرةِ التي نشّآنا عليها ، وغرساها فينا، قيمُ الحريّةِ والعدالةِ والمساواة، وفضيلةُ المحبّةِ والانفتاحِ على الآخر، كائناً مَن كان، واحترامِ كرامته المُطلقة، والاعترافِ به وبحقوقه.

ثمّ حظيتُ بفُرصةِ التتلمذِ على الآباءِ اليسوعيّين، وأنا مدينٌ لهم بالكثيرِ ممّا أجتهدُ لأكونَ عليه، على صعيدِ إعمال العقل، والإعلاءِ من شأنِ الفكرِ والثقافةِ والتربية، وممارسةِ أقصى درجاتِ التطلّب، والحِرصِ على إتقانِ العملِ وجودته، وحُسنِ التمييز (discernement)، والتصدّي لأشكالِ التمييزِ كافّةً(discrimination) ، وقبل ذلك كلّهِ، وفوق ذلك كلّهِ، التحلّي بروحِ الخدمة.

وتفرّغتُ للتعليمِ في مجموعةٍ من المدارس، وفي طليعتها مدرسةُ كرمل القدّيس يوسف، التي إليها يرجِعُ الفضلُ في إطلاقِ مسيرتي المِهْنيّة، وفي تعرّفي إلى جيزال، شريكةِ حياتي، وأغلى ما مُنحتُ من عطايا. فهي التي علّمتني، بحبّها وتفانيها ونكرانها الذّات، أجملَ ما في العطاءِ المجّاني، وأدخلتني في عوالم أنطوان دوسانت اكزوبري الساحرة، وهي تتلو عن ظهرِ قلب، على مسامعِ ابنتنا جيهان، ثمّ على مسامعِ حفيدتنا ماريّا وحفيدنا بيار، حَكايا الأمير الصغير، وساعدتني على أن أفهمَ عمقَ مقولةِ مؤلِّفه: “Si je diffère de toi, loin de te léser, je t’augmente”.،"إنّي وإن كنتُ مختلفاً عنك، لا أُلحقُ بك الضررَ، بل أغنيك".

وأمّا جامعةُ القدّيسِ يوسف، فإنّ شِرعَتها تنصُّ حرفيّاً على ما يلي: "لا ترضى جامعةُ القدّيس يوسف أن تكونَ في خدمةِ طبقةٍ اجتماعيّةٍ أو جماعةٍ إتنيّة، وهي لا ترضى أيضاً أن تكون مُرتَهَنَةً لإيديولوجيّةٍ معيّنة". هذا النصّ، الذي تولّيتُ نقلَه من الفرنسيّة إلى العربيّة، اجتهدتُ أيضاً في ترجمةِ أحكامِهِ، في شتّى المناصبِ التي شَغَلْتُها فيها، على مدى أربعةِ عقود، في مجالَي الإدارةِ والتعليم.

وقد نِلتُ، منذ ما يربو على ثلثِ قرن، شرفَ الانتسابِ إلى اللجنةِ الوطنيّةِ اللبنانيّةِ لليونسكو، وهي فعلاً إسمٌ على مسمّى، لأنّها وطنيّةٌ بامتياز، سواء في تأليفها أم في مهامّها، عابرةٌ للطوائفِ والمناطقِ والأحزاب، منذورةٌ لخدمةِ لبنان، كلِّ لبنان، وجميعِ اللبنانيّين، ومؤتمنةٌ على رسالةِ منظّمةِ اليونسكو النبيلة، ومبادئها الإنسانيّةِ السمحاء.

وتنسجم توجّهاتُ مؤسّسةِ الفكرِ العربيّ، التي استضافتني في رحابها في المحطّةِ الأخيرةِ من مسيرتي المِهْنيّة، تمامَ الانسجام مع ما ألِفتهُ من توجّهات. فمع أنّ مقرّها في بيروت، يتوزّعُ نشاطُها من مؤتمراتٍ وندواتٍ ودراساتٍ وتقارير، على مجموعِ الدولِ العربيّة، في المشرقِ والمغرب. وفضلاً عن طابَعها العربيّ الشامل، تمتاز بانفتاحِها الواسعِ والمتنامي على أربعةِ أقطارِ المعمورة. وخيرُ ما يجسّدُ مداها العالميّ، برنامجُ الترجمة الذي أطلقه رئيسُها، المثقّفُ المتنوّر، الأمير خالد الفيصل، بعنوان "حضارة واحدة"، تدليلاً على أنّ لشعوبِ العالمِ لغاتٍ وثقافاتٍ مختلفة، ولكنّها مدعوّةٌ إلى أن تتلاقى وتتحاورَ وتتفاعلَ وتتلاقح، لأنّها تنتمي جميعُها إلى حضارةٍ واحدة، حضارةِ الإنسانيّة الجامعة.

هذه هي، بإيجازٍ كلّي، المُناخاتُ الروحيّةُ والفكريّةُ والثقافيةُ التي عِشتُ وأعيش في فضاءاتها. فاسمحوا لي أن  أذكرَ عناوينَ ما ولَّدَتْهُ فيَّ هذه المُناخات من اقتناعاتٍ عميقة ومبادئَ متأصِّلة، أستلهمها وأتصرّفُ بوحيها.

إنّي، أيّها الأعزّة، أُحبُّ أُسرتي، تلك التي وُلدتُ فيها، وهذي التي بنيناها، جيزال وأنا؛ وإنّي شديدُ التعلّقِ بأهلي وأقاربي. ولكنّي لم أشعر يوماً بأنّ هذه الأواصرَ قد قيّدتني، بل كانت لي دوماً مُلهماً، وحافزاً على المزيدِ من الانفتاحِ والخدمةِ والعطاء.

وإنّي مقيمٌ على الولاءِ للبنان، وعلى الإيمانِ بدعوتِه ورسالتِه ودوره، على الرَّغم ممّا يشوبُ نظامَه من تشوّهات؛ وأنا معنيٌّ إلى أبعد الحدود بحريّته وبالحريّاتِ فيه، وسيادتِه وسيادةِ القانونِ على أراضيه، ومعنيٌّ أيضاً بأمنهِ واستقرارهِ وازدهاره، ومعنيٌّ خاصّةً بمستقبلِ شبابه. لكنّ هذه المشاعرَ لم تَحُلْ يوماً دون تعاطفي القويّ مع شعوبِ العالَمِ العربيّ، وتضامني مع قضاياه، وفي طليعتها قضيّةُ فلسطين.

ولم يمنعني شَغَفي بلغةِ الضادّ، التي كرّستُ لتعزيزِها وتحديثِ أساليبِ تعليمها وتعلّمها صَفوةَ جهودي، من اهتمامي باللغاتِ الأجنبيّة، وقد درّستُ باستمرار، إلى جانبِ اللغةِ العربيّةِ وآدابها، مادّةَ الترجمة، وهي في جوهرها عمليّةُ مثاقفة، وفعلُ خروجٍ من الذّات لملاقاةِ الآخَرِ المغاير.

أنا أعرفُ حقَّ المعرفة أنّ العلاقةَ بين هذه العناصر المختلفة، مسألةٌ إشكاليّة، ولا ينعقدُ بشأنها الإجماع. ولكنّي أؤمنُ إيماناً وطيداً بأنّ التنوّعَ والتعدّدَ هما، إذا أحسنّا تدبّرَهما في بَوتقةِ الوحدةِ الجامِعة، مصدرُ غنىً. وفي ما خصّني، شكّلَت هذه المكوّناتُ والأبعادُ دوائرَ هويّتي المركّبة، وقد تداخلت وتكاملت وتناغمت وائتلَفت، بصورةٍ طبيعيّة، من غيرِ افتعالٍ أو عَنَت، وبمنتهى العَفْويّةِ والسلاسة، فغدت عندي من الثوابتِ والمسلّمات.

فدعوني، أيّها الأحبّة، أعترفُ أمامكم، بأنّي أنا المارونيَّ المشرقيَّ الصميم، تنبِضُ في عروقي روحٌ مسكونيّةٌ، وتشدّني إلى الإسلامِ الحنيف وشائجُ قرابةٍ روحيّةٍ مكينة، وتربِطُني بالأديانِ والمعتقداتِ كلِّها، ما تنادي به وتدعو إليه من قيمٍ إنسانيّةٍ مشترَكة.

ودعوني أُعلنُ أمامكم، أنّني أنا المتجذّرَ في أُسرتي، وابنَ الكورةِ الخضراء، لبنانيٌّ أصيل، عربيُّ الهُويّة والهوى، وأشعر، مع أنّي لا أحملُ جنسيّةً أجنبيّة، بأنّني مواطنٌ أمميّ، وإنسانٌ بلا حدود، بل ابنُ الهُنا والماوراء، ولذا تَراني أُحبُّ الآفاق، لأنّها تحملنا تارةً على التواضع، وتدعونا تارةً أخرى إلى الانفتاح، وتحثّنا في الأحوال كلِّها على الأمل.

فالأماكنُ التي نقيم فيها، مهما كبُرَت، والزوايا التي ننظر منها مهما اتّسعت، والمعارفُ التي نحصّلها مهما عظُمَت دائرتُها، والحقائقُ التي نؤمن بها وإن استقيناها من منابع اليقين، تبدو حين نقيسها على رحابةِ الآفاق ولامحدوديّتها، أسيرةَ حدودِ الزمانِ والمكان، وعرضةً للنقد أو المراجعة، وبنتَ النسبيّة، وقَبَساتٍ أو ملامحَ لا ترتقي إلى مرتبةِ الكليّات. فنتعلّم من النظرِ إلى الآفاق والتأمّلِ في ما تختزنه من دلالاتٍ على المُطلَق واللامتناهي أو إشاراتٍ إليهما، أن نعترفَ بما يفرضه علينا شرطُنا البشريُّ من حدود، وبأنّ الحقيقةَ أشملُ من مقاربتنا الجزئيّةِ لها، فنتخلّى عن ادّعائنا امتلاكَها واحتكارَها، ونروّض أنفسَنا على فضيلةِ التواضع.

 

وتدعونا الآفاقُ إلى التمرّسِ بمزيّةِ الانفتاح. غالباً ما نتحدّثُ عن الأبوابِ الموصدة، أو الحائطِ المسدود، أو سُبلِ العيشِ التي ضاقت، وهي أوصافٌ لا يمكننا أن نُطلقها على الآفاق، لأنّها بطبيعتها مشرّعةٌ ومفتوحة، سواءَ أكانت في مشارقِ الأرضِ أم في مغاربها، وراء أمواجِ البحرِ أو عند أطرافِ الصحراء. والانفتاحُ الذي تدعونا الآفاقُ إلى عوالمه ومداه هو نقيضُ الانغلاق، في أنماطه كافّةً، وفي أشكاله وألوانه ومظاهره كلِّها. إنّه نقيضُ الأنانيّةِ، وقبضِ اليد، والتعصّبِ، والأصوليّاتِ، والتقليدِ الأعمى، والتحجّرِ، والجمود. تعلّمنا الآفاقُ الانفتاحَ على العالَم، بما يعبر الحدودَ ويتجاوزها ويُلغيها ؛ وتُعلّمنا الانفتاحَ على الآخَر، بتخطّي الحواجزِ التي تفصلنا عنه أو تُبعده منّا. إنّه انفتاحُ الفكرِ والقلبِ معاً، والالتزامُ بمسيرةِ التجديدِ المستمرّ والتجدّدِ الخلّاق، وقبولِ الانخراطِ في مغامرةِ الكشفِ الدائم.

 

وتحثّنا الآفاقُ على الاعتصامِ بحبلِ الأمل. فهي توجّه إلينا، في صمتها البليغ، النداءَ تلو النداء، لنغالبَ اليأسَ – وما أكثرَ دواعيه -، ونَنشدَ التغيير – وما أحوجَنا إليه -. فانقشاعها بعد اختفاء، يؤكّد لنا أنّه مهما تقلّصت فسحاتُ الأمل، وتلبّدت سماءُ حياتِنا بالغيوم، وانحجبت الرؤية أو تعطّلتِ الرؤيا، ثمّة رجاءٌ لا يخيب بانبلاجِ الفجرِ وبزوغِ النور. ولعلّ أجمل ما في الآفاق أنّها تحفّزنا. فكلّما بدا لنا أنّنا اقتربنا منها، زادت عنّا ابتعاداً، مجسّدةً جدليّةَ الحلم والواقع في أجلى مظاهرها. فكأنّي بها تستفزّنا وتحرّضنا، بل هي تشحذ منّا العزائم وتدعونا إلى الإيمان بأنّ بلوغَ الهدف رهنٌ بقبول تحدّي السعيِ الدؤوبِ إليه.

 

وبعد، فإنّي إذ أتوجّه بعاطفةِ شكرٍ حارّ وتقديرٍ عميق إلى الحركةِ الثقافيّةِ في أنطلياس، صاحبةِ الدعوة إلى هذا اللقاء، وإلى جميعِ مَن لبَّوا دعوتَها، وإلى مَن غمروني في حديثهم عنّي بفيضٍ من دفقِ عقولهم وقلوبهم، أستميحكم عُذراً إن أنا ختمتُ كلمتي بالإفصاحِ عمّا يعترني من حَرَج. ومَرَدُّه، من جهةٍ أولى، إلى أنّني تعوّدتُ أن أحتفي بالآخرين، لا أن أكونَ المُحتَفى به. فلطالما شاركتُ في تكريمِ الفائزين بجوائز الإبداع التي تمنحها مؤسّسةُ الفكرِ العربيّ، ولطالما شاركتُ، من على هذا المِنبَرِ الثقافيِّ العريقِ بالذّات، وفي غيره من المنتديات، في تكريمِ كوكبةٍ من الأعلام. ومَرَدُّه، من جهةٍ ثانية، إلى أنّ المنجزاتِ التي نسبتموها إليّ، لا يحِقُّ لي أن أدّعي مُلكيَّتَها الحصريّة، لأنّها في الحقيقةِ ثمرةُ جهودٍ شاركني كثيرون في بذلها.

 

من أبلغِ ما قَرَأْت، هذه العبارةُ المنقوشةُ بالعربيّة على الواجهةِ الأماميّةِ لقصرِ الصَنوبر في بيروت: "المرءُ كثيرٌ بأخيه" (Chaque homme est augmenté par son frère). إنّ هذا الشعارَ المحفورَ ينطبق عليَّ، حفراً وتنزيلاً، بل يكادُ يختصر شخصيّتي، وما حقّقته وأحقّقه من أعمال.

 

أنا بِكرُ ثمانيةٍ من الإخوةِ والأخوات. وعلى الرّغم ممّا يتمتّع به كلُّ واحدٍ منهم، من سماتٍ مميِّزة واستقلاليّةٍ في الموقفِ والرأي، أرى نفسي في القِيَم التي يجسّدونها، والمبادئِ التي يناضلون باسمها، وفي ما يُسدونه لمجتمعهم من خَدَمات، وأغتني، لا بحبّهم فقط، بل بالرسالةِ التي يحمِلون لواءَها، كلٌّ في مجالِ اختصاصه، وبالشهادةِ التي يُؤَدّونها.

 

ولأنّ مفهومَ الأخِ لا يقتصرُ على رابطةِ الدم، بل يشمُل البشرَ جميعاً، إخوتَنا في الإنسانيّة، وبالأخصّ مَن تدعونا مقاديرُ الحياةِ إلى العملِ معهم، فإنّي أؤمنُ إيماناً قويّاً بمبدأ التعاون ونهجِ الشراكة. إنّي مقتنعٌ بأنّ التعاونَ وبناءَ الشراكات ضروريّان، لأنّه يتعذّرُ على أيٍّ منّا، فرداً كان أم مجموعة، مؤسّسةً كان أم دولة، ومهما كانت طاقاتُه ومواردُه، أن يضطلعَ بمفردهِ بجميعِ المهامّ، ويواجهَ تحديّاتِها كلَّها. وإنّي واثقٌ بجدوى التعاونِ والشراكات، لأنّ في اعتمادهما تخفيفاً للأعباء، ومضاعفةً للفاعليّة، وضماناً للنجاح، وترابحاً أكيداً.

 

وقد أسعفني الحظُّ بأنّ جميعَ مَن عمِلت معهم، في جامعةِ القدّيس يوسف، ولجنتَي معادلاتِ التربيةِ والتعليم العالي، واللجنةِ الوطنيّةِ اللبنانيّةِ لليونسكو، ولجانِ المركزِ التربويّ للبحوثِ والإنماء، ومؤسّسةِ الفكرِ العربيّ، وغيرِها من الهيئاتِ والمؤسّسات، كانوا لي بمثابةِ إخوة، فشكّلنا معاً فريقاً متجانساً، متضامناً، ومتكاملاً، اغتنيتُ بكفاءاتِ أعضائه، وخِبراتِهم، وما نشأ بيننا من صداقاتٍ ومودّات. وإنّي لَمدينٌ لهم بالكثيرِ ممّا وجدتم أنّني أستحقُّ بسببه هذا التكريم.

 

فاسمحوا لي، لا أن أعترفَ بفضلهم فحسب، بل أن أعتبرَ أنّ التكريمَ الذي خصصتموني به، يتجاوزني كفرد، ليشمُلَ جميعَ مَن أسهموا في بناءِ شخصيّتي، وفي تحقيقِ ما قُدّرَ لي أن أُنجزَه. فالمرءُ كثيرٌ بإخوته. وأنا، أيّها الأحبّة، لستُ مفرداً بصيغةِ الجمع، بل أنا جُموعٌ غفيرةٌ بصيغةِ المفرد، لأنّني كثيرٌ بإخوتي، وأنتم إخوتي.

___________________________________