كلمة الأستاذ حنا أبي حبيب في تقديم ندوة حول كتاب

"لمن يهمّه الأمر: رحلتي مع الأيام" للواء محمود طي أبو ضرغم

في الحركة الثقافية – انطلياس يوم الثلاثاء 13 آذار 2018

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

        

أيها الحضور الكريم،

          أهلاً بكم في الحركة الثقافية – انطلياس، في مهرجانها السابع والثلاثين للكتاب، وفي رحاب دير مار الياس العريق – دير العامية الذي جمع أبناء الجبل عام 1840، على اختلاف طوائفهم، امام مذبحه المقدّس ليقسموا ذلك القسّم العظيم الذي تردّدُ اصداءَه حجارة الدير منذ مئةٍ وسبعين ونيّف من السنين.

          وبعــــــــــد

          يوم عرض عليّ الدكتور عصام خليفة، أحد أركان هذه الحركة التي لي شرف الانتساب إليها منذ ثلاثة عقود، إدارة هذه الندوة، لم أتردد لحظة في القبول. كيف لا، والكتابُ حول كبير من أبناء الجبل، جمع الى شهامة القائد العسكري، اصالة الأخلاق ونبل الانسان الهائم بحب وطنه لبنان وبالمؤسسة التي نذر حياته لأجلها مؤسسة الجيش اللبناني الباسل؛ انه اللواء الركن محمود طي أبو ضرغم.

          عرفت اللواء الركن محمود طي أبو ضرغم أول مرّة في آذار 1982، كانت المناسبة تدشين المبنى الجديد لثانوية كفرحيم الرسمية – مسقط رأسه، كنت يومها أحد أساتذة اللغة العربية وآدابها والناظر العام فيها؛ وكلّفت بتقديم الاحتفال. اذكر يومها انه تقدّم مني طالباً التعرّف إليّ مبدياً إعجابه بما قلت فعرّفته بنفسي، وقلت انا من الجبل وإليه أعود، لا أزال اذكر ذلك الوجه المكلل بمهابةٍ قلّ نظيرها، وتلك القامة الشاهقة وكأنها قدّت من صخر، وتلك القسمات التي تفيض رجولةً وإباءً، فقلت في نفسي هذا الرجل اسم على مسمى: محمودٌ وطيٌّ وضرغامٌ، يعني: أسدٌ هصورٌ.

          أما الكتاب الذي يجمعنا الليلة، "لمن يهمه الأمر – رحلتي مع الأيام" فينبئكم سيرة هذا الكبير إنه الثالث له بعد "وجوه من التراث العربي صورة وسيرة" الصادر عام 2009 من امرئ القيس الجاهلي حتى أدباء العصر الاندلسي وبعد...

          غريبٌ أمر هذا الرجل، لعلّه لم يأخذ بحكمة ابي الطيب المتنبي، كبير شعراء العرب، في قولته "المجد للسيف ليس المجد للقلم" وهو الذي امتشق سيف الجيش المرهف كما امتشق ايضاً قلم الأديب، وآثر ان يغمس مداده في محبرة الأدب فكان لنا هذه الكتب.

          تنفتح مقدمة "رحلتي مع الأيام" على "رسالة حبّ لك" أي لها شريكة العمر ادال نسيب بركات التي سبقته الى دنيا الخلود عام 1999 كتبها لها قبيل وفاته في حزيران 2015 بثلاثة أشهر، يليها مجموعة الفصول – المذكّرات التي جمعها وأصدرها نبيل ورلى – ولدا اللواء – أطال الله عمرهما بعد رحيله ونعم الأبناء ونعم الوفاء.

          أيها السادة،

          اللافت في الكتاب صعوبة تصنيفه، فالقارئ او الباحث يحار في اعتباره مذكرات ام سيرة ذاتية! ذاك ان ابوابه لا تراعي تسلسل الأحداث زمانياً بشكل منتظم. لقد بدأه بذكر أصول عائلته الكريمة التي تتحدر من عشيرة يمانية قدمت الى الحجاز قبل الإسلام ومنه انتقلت الى سوريا ولبنان في القرن العاشر الميلادي (الفصل الأول شجرة البيلسان ص 11) لتستقر في غير ما مكان  ويستمر العرض فتتعرف الى اللواء من المهد الى اللحد، من الولادة في كفرحيم الشوفية في حارة القرميد 18 كانون الثاني 1927 الى الغياب المبكر لوالدته وهي في الثالثة والعشرين الى تدرجه في التعليم من مدرسة الضيعة الى مدرسة الفرير في دير القمر والشهادة التكميلية ثم بمدرسة الحكمة في بيروت والليسيه الفرنسية فدخول المدرسة الحربية 1950 وتخرجّه ملازماً 1953 وزواجه 1961 حتى تقاعده 1987.

          شغل اللواء الركن مناصب كثيرة نذكر منها:

1-     قائد مدرسة التزلج والقتال من عام 1959 الى 1964

2-     مؤسس وقائد فوج المغاوير عام 1966

3-     قائد الشرطة القضائية 1978

4-     مستشار عسكري للرئيس الوزير كميل شمعون 1975 – 1978

5-     قائد منطقة جبل لبنان العسكرية 1983

6-     رئيس اركان الجيش اللبناني 1984 حتى تقاعده 1987

7-     وزير في الحكومة العسكرية 1988

 

واللافت في الكتاب هذا الكم من الصور التي تؤرخ لسيرة الرجل وللأشخاص الذين عمل او عملوا معه. لكنه يكاد لا ينسى احداً منهم في ما سطر من مذكرات، ولقد تكلّم عنهم بكياسة الدبلوماسي وبحكمة اهل الحكمة كما يلفت الانتباه الدقة في تحديد التواريخ باليوم والشهر والسنة. وهو في كل ما كتب يثبت انه عشق لبنان دائماً على الرغم من مساحات اليأس والخيبة كما يقول. وكتابه للذين يحبون لبنان بعيداً عن المحاصصات السياسية والتجارية، والمدرسة الحربية في نظره (الكلية الحربية اليوم) مصنع للمواطنية الصحيحة، التي يفتقر اليها لبنان (ص 87) والجيش هو العمود الفقري للوطن (ص 90) وهو آخر من ينقسم وأول من يلتحم (ص 113).

أما الأمر المثير للتساؤل فهو عدم إتيان الكتاب على ذكر حرب الجبل السيئة الذكر بشيءٍ، ترى ألم يكتب اللواء فيها وعنها بعضاً من مذكراته ام انه آثر ألا يلّوث قلمه بتلك الأحداث السوداء فضرب صفحاً عنها؟؟ لا شك أن الخبر اليقين عند نبيل ورلى اللذين توليا جمع هذه المذكرات، وكذلك قلّ في موضوع تعيينه وزيراً في الحكومة العسكرية السداسية التي شكلها الرئيس امين الجميل قبيل نهاية عهده في أيلول 1988 برئاسة العماد قائد الجيش سابقاً فخامة الرئيس ميشال عون حالياً والتي لم يلتحق بها، وهذا الكتاب لم يأتِ على ذكرها لا من قريب ولا من بعيد، والجواب عند أهل الكتاب.

لقد اتهم اللواء الركن أبو ضرغم بانه طائر غرّد خارج سربه وقد ذكر بنفسه هذا الأمر؛ لكنه ردّ بالقول انه لم يمارس إلا قناعاته وايمانه بما رآه صالحاً للوطن.

حسبه انه غرّد في سرب المؤسسة العسكرية، سرب الشرف والتضحية والوفاء سرب الجيش اللبناني حامي الوطن، وكفاه فخراً بذلك، ولأمثاله يكتب الخلود والوفاء.

                                                                                      وشكراً.    

______________________

كلمة السيدة مي الخليل

بداية بدّي رحّب بالمشاركين بهالندوة، الأستاذ رفيق شلالا المستشار الإعلامي برئاسة الجمهوريّة، والأستاذ نبيل محمود طي أبو ضرغم، والرياضي الدولي سيلفيو شيحا، وكمان مدير الندوة الأستاذ حنّا أبي حبيب، وبدّي قول أنا كثير سعيدة بالمشاركة بالندوة حول كتاب لرجل كبير من لبنان، ومن مؤسستو العسكرية، هوّي " الغايب - الحاضر " اللواء محمود طي أبو ضرغم، واللّي كتابو بيحمل عنوان مركّب :

" لمن يهمّه الأمر – رحلتي مع الأيام "

وقبل ما إتوقّف عند الكتاب بالشكل والمضمون، لازم قول كلمة بحق اللواء الركن أبو ضرغم، الإنسان والزوج والأب والقائد المقدام، واللّي كتب فصل مشرق من فصول لبنان الوطن، والإنسان، والرسالة .

ويمكن يكون البعض استوقفو شخصية اللواء الركن أبو ضرغم العسكرية، لجهة الحزم والشجاعة والإقدام، لكن هالمواصفات ما كانت قادرة تغفل شخصيتو من الجانب الإنساني، كزوج عاشق لعيلتو. والأكيد إنّو كان ورا سمة العشق إمرأة اختارها لتكون شريكة حياتو بعد قصة حب دامت لسنوات، والدليل على ذلك إنّو بداية كتابو المألّف من 13 عنوان كانت " رسالة حب لكِ " بقلم اللواء الركن أبو ضرغم. والقارئ لهالرسالة بيلاحظ الأسلوب الرومانسي من خلال عبارتو اللّي قال فيها : " أنا هائم بين وجهك المشرق ووجه الوطن الذي عشقته دائماً...  ". بعدين بيرجع بيقول : " مازال وجهك يضيء ليالي الإنتظار حتى نلتقي مجدداً في مكان آخر وزمن آخر...".

وبمقدمة الكتاب، بيستوقفنا إشارة إبنو نبيل اللّي بيحكي عن قضية مهمة هيّ دايماً مدار نقاش وبتتعلّق بتكريم الشخصيات اللّي قدّمت لوطنها، وكتير منها ما أخذت حقها من التقدير، وضرورة تكريم هالشخصيات بحياتها.

وبوصل عند الحفيدة ميرا طلال، وتحت عنوان " ملاكي بين النجوم " واللّي وصفتو بالملاك بين النجوم، وكشفت قدّيش كان يحمل من العظمة بأفعالو، وبنفس الوقت ، سمة الإيمان اللّي كانت عندو من خلال تردادو لعبارة " الحمد لله ... ".

طبعاً من غير الممكن اختصار الكتاب اللّي بيضم 139 صفحة بين معلومات وصور بهالندوة، لكن اخترت بعض العناوين اللّي استوقفتني ورح علّق عليها، ومنها عنوان " شجرة البيلسان "، وكان مدخل لمعرفة تاريخ وموطن النسب العائلي " بني طيء " أو " الطائي "، وهيّ عشيرة يمنية قال عنها إبن خلدون إنّها ملأت السهل والجبل، حجازاً وشاماً وعراقاً وفي الجولان والأردن وفلسطين وشمال سوريا، ما يعني عراقة أصل ونسب .

وعن ولادتو بحارة القرميد ببلدة كفرحيم، بيعزف اللواء الركن أبو ضرغم قصايد نثر عن مسقط راسو، وبيفاخر بالمواصفات الجغرافية والبيئية، وبيحكي عن إنطباعات طفولتو المرتبطة بشجرة البيلسان العطِرة .

وتحت عنوان " في بيتنا جندي "، بيأسر المؤلّف بسرد تاريخي مشّوق، بيحكي قصة نشأتو الدراسية، وتفوّقو العلمي، وصولاً للمدرسة الحربية سنة 1950، ووضعو العائلي، مشيداً بوالدو، الرجل النبيل الشجاع اللّي نذر نفسو لأولادو بعد وفاة زوجتو. وهون بيعطينا اللواء الركن أبو ضرغم صورة عن العيلة المثالية اللّي تربّى بأجوائها .

وتحت عنوان " الثلج ذهب لبنان "، أضاء اللواء على ثروة لبنان من الثلج وكيف لازم نستفيد من هالنعمة اللّي ربّنا خصّ فيها لبنان الوحيد بمحيطو العربي، وكيف لازم نحافظ عليها، وإشارتو لاستلامو قيادة مدرسة التزلّج بالأرز سنة 1959 وتطويرها عسكرياً ووطنياً، واستضافة العديد من الدورات والمباريات الدولية العسكرية، وانتدابو للخارج، خصوصاً ب سويسرا، لزيادة قدراتو بمجال التزلج وتسلّق الجبال، وكانت تجربة ملفتة، بعد ما تسلّق أكثر من قمة عالحدود السويسرية – الإيطالية .

طبعاً اللّي عايشوا وعاصروا اللواء الركن أبو ضرغم لاحظوا إنّو كان يتمتّع بقدرات جسدية، ومن هون كانت مهمتو تكليف إنشاء فوج المغاوير سنة 1966، واللّي اختار عناصرو من خيرة الضبّاط بالمركز العالي للرياضة العسكرية، واليوم يعتبر المغاوير من أبرز القطع بالجيش اللبناني .

وتشاء الظروف والأقدار بإندلاع الحرب بين العرب وإسرائيل سنة 1973 ، وأهمية الدور اللّي قام فيه بمنطقة الجنوب، بعدا عودتو للمدرسة الحربية، وهالمرّة كمساعد لقائدها اللواء فرنسوا جينادري اللّي كان إلنا الشرف بجمعية بيروت ماراثون معرفتو كعّداء بارز.

وبيرجع مرّة جديدة لفوج المغاوير، وهالمرّة المهمة توسيع هيكلية الفوج تقديراً لكفاءتو وخبرتو، وكانت علاقتو مع المغاوير عائلية و دايماً يفاخر ويقول : " لي أبناء إسمهم المغاوير " .

وبعد فترة بتوقع حادثة عين الرمانة ب 13 نيسان 1975 ، وبيلعب هون دور الإطفائي، وبيتنقل من منطقة لمنطقة مع محاولات لتقريب وجهات النظر بين الزعماء اللبنانيين بعهد كمال جنبلاط وكميل شمعون، مع الدور الكبير اللّي قام فيه حول أحداث الدامور – السعديات. هالسمة بشخصيتو، بتخلينا اليوم نشعر بحاجة لأمثالو بواقعنا السياسي المتأزّم .

كانت الألقاب تلبقلو وتليق فيه، من قائد لمنطقة جبل لبنان، لقيادة الشرطة القضائية، لمستشار أمني لوزيري الداخلية كميل شمعون وصلاح سلمان، ورئيس لهيئة إنماء الضاحية الجنوبية بعد الفيضانات، وكانت الخاتمة رئيس لهيئة الأركان بالجيش اللبناني سنة 1984 ، حيث شغل الموقع لمدة 3 سنوات تعاون خلالها مع قائد الجيش وقتها العماد ميشال عون، وكانت بيناتهم قواسم مشتركة عديدة .

ومع الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان " إستراحة وذكريات " بتكون فعلاً " إستراحة محارب "، ساعة اللّي أحيل للتقاعد سنة 1987 . بيعود اللواء الركن أبو ضرغم، الكاتب والمؤلف، لحياتو العائلية، ولولادو نبيل ورلى، وصهرو طلال كمال الخليل، وأحفادو ميرا ونور وسني. ورغم الإستراحة ما هدي، لأنّو بداخلو نبض روح ما بينضب، وكانت مبادرتو تأسيس رابطة قدماء القوى المسلّحة والمجلس الوطني لقدامى موظّفي الدولة.

وإذا كان لا بدّ من مسك ختام، فهيّ الإشارة لهواية الرسم اللّي كان يمارسها وفلسفتو حيالها بقولو :

" الفن، وإن كان إحدى صرخات اليأس، سيبقى إحدى المساحات الرحبة للحرية " .

وبالخلاصة، هالكتاب يعتبر إغناء للمكتبة الوطنية لا بل أكثر، مادة تدرّس بالمدارس والجامعات حتى تتعلّم الأجيال، ويكون عامل شحذ للهمم والولاء الوطني .

____________________________

كلمة الأستاذ رفيق شلالا

في الندوة حول اللواء الركن محمود طي أبو ضرغم

معرض الكتاب – أنطلياس

في 13 آذار 2018

أيها الحضور الكريم،

دعيت للكلام في هذه الندوة عن اللواء الركن الراحل محمود طي أبو ضرغم، فشعرت فعلاً بالسرور لاستذكار بعض مما عرفته عن هذه الشخصية العسكرية، والوطنية، والانسانية المميزة، ولأنني أؤمن أن هذه المناسبة هي فرصة لتكريم هذا الرجل الذي أعطى وطنه والمؤسسة العسكرية كما يليق بالرجال أن يفعلوا، ولا أحد أقدر من عائلته وأصدقائه، على ايفائه بعضاً مما بذل، وضحى به في سبيل أرضه وبلاده وقسمه العسكري.

لغيري أن يتحدث بإسهاب عن مسيرته العسكرية، والبصمات التي خلفها في مؤسسة الجيش والتي دخلت في كتاب تاريخها، ووجدان أفرادها، وانجازاته داخل هذه المؤسسة، من تكليفه بتأسيس فوج المغاوير من قبل قائد الجيش العماد اميل البستاني في العام 1966، الى تعيينه رئيساً للأركان في العام 1984، مروراً بتسلمه قيادة الشرطة القضائية في قوى الأمن الداخلي في العام 1978.

 ولي أن أنوِّه بمناقبيته العسكرية التي عُرف بها. مناقبية تعكس شخصية محمود طي ابو ضرغم، الانسان، المستقيم، الصادق، والمندفع في تمسكه بالقيم والمبادىء، لا سيما كل ما يتعلق منها بسلوكيات العسكري وانضباطه ووفائه لوطنه وشعبه ولرسالة العيش المشترك التي بُنيت على أساسها دولة لبنان الكبير.

العيش المشترك، خبره اللواء أبو ضرغم ابن كفرحيم الشوفية الذي تلقى قسماً من علومه في مدرسة الأخوة المريميين. هذا الشوف المتداخل القرى، بين مسيحية ودرزية، لطالما اختصر صورة لبنان وقدره. فمن كبوات الخصام، واحتراق خيوط المودة، والمحبة، والتعايش، خلال الحرب الأهلية، نهض متعالياً على الجراح، ململماً شظايا التشتت والتهجير، ومعيداً لحمة الأصالة إلى قلوب أبنائه. وقد طبعت مرحلة الحرب حياة اللواء ابو ضرغم ونفسيته، فروى جانباً صغيراً منها في كتاب ذكرباته، وهو المتعلق بأحداث بلدة الدامور، مختصراً حتمية ووحشية ما جرى بالقول: "ما كان يجري على أرض لبنان كان يتخطى كبار القادة وصغارهم". كلام مؤلم وجارح لمن يريد أن يتذكر عبثية ما جرى، أدخل ولا شك يقيناً الى نفسه، بأنه لا يجوز لأبناء لبنان الصغير بجغرافيته، أن يحولوه إلى كرة في ملعب الكبار.

لذلك عذبته جروح الحرب في لبنان، وعانى من فظاعة ما يجري، وخصوصاً أنه عايش انقسام الجيش في بدايات الحرب، وهو الذي يعتبر الجيش عائلته الكبرى، والعامود الفقري للوطن كما وصفه في مذكراته، والحصن الذي يفترض أن يقي لبنان من التصدع، والانقسام، ويحفظ استقلاله وسيادته.

تجلت شخصية اللواء ابو ضرغم الوطنية في أصعب الظروف وأكثرها حرجاً، وفي المحطات الدقيقة في تاريخ لبنان، حين كان يُدعى الى القيام بالواجب والمهمات الحساسة، ليس فقط لأنه عسكري وقائد متفانٍ، بل بالأخص لحسه الوطني، وايمانه بوطنه لبنان، وحبه لهذا البلد الذي كان وراء انخراطه في المؤسسة العسكرية، ليس من باب المهنة بل من باب الرسالة والخدمة والسعي الى المساهمة في حفظ الأرض وأمن المجتمع ووحدة الشعب. وهو الذي قال عن لبنان في ختام مذكراته: " الحقيقة التي ما زالت قائمة أمام عيني، وفي أعماق عقلي وقلبي هي ان لبنان يستحق أن نرعاه بإخلاص، ليس لأجلنا فحسب بل لأجل إنسانية الانسان".

لذلك عندما دُعي إلى المشاركة في حكومة انقاذية، في ظرف وطني معقد وحساس، أدرك أنه مدعو إلى تأدية الواجب والقيام بمهمة وطنية صعبة. لكنه آثر عدم القيام بها ولو عن غير قناعة، حفاظاً على الوحدة الوطنية، ونتيجة أسباب صارحني بها في إحدى المرات، وائتمنني على سرها، الذي سيبقى بناء على رغبته سراً، لأنه لم يشأ حتى أن يشير إليه في كتاب مذكراته. وقد لمست تفهماً للأسباب التي لم يشأ البوح بها، من خلال التقدير الذي يكنه فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون للواء أبو ضرعم، وثنائه على شخصيته العسكرية، ومناقبيته، ووطنيته.

يبقى أننا حين نكرم شخصية مثل اللواء الركن محمود طي أبو ضرغم، ونتحدث عنها عبرة للأجيال ووفاء لعطاءاتها الوطنية، علينا أن نعرج على الجانب الانساني لهذه الشخصية. من محبة أبنائه وتكريمهم له، ندرك أنه لم يكن أباً عابراً في حياتهم، ولا زوجاً عادياً. هو المثقف، والفنان، والملتزم، والأصيل في سلوكياته ومسيرته. وعلى حد ما عبَّر نجله الصديق نبيل في مقدمة ذكريات والده :" إن هذا الطراز من الناس ليس ملكاً لأسرته وعائلته، بل هو ملك للوطن والمواطن".

هنيئاً لوالد أعطى عائلته، فأدركت حجم العطاء وبادلته تحية التقدير. إن الشعلة التي أضاءها اللواء أبو ضرغم في تاريخ لبنان الحديث، باتت مخلدة اليوم بين دفتي كتاب مروية قصصه بحبر الصدق، ودموع التأثر، وفخر الانجاز. ومحفوظة أيضاً بين يدي من تربطني به صداقة أعتز بها، عنيت به  نبيل محمود طي أبو ضرغم، الحريص على ذكرى والد استثنائي، لا تختصر سيرته بصفحات قليلة، لكنها كافية لتلمس بصماته الوطنية، والدروس المناقبية التي تركها في عهدة المؤسسة العسكرية.