كلِمَة مُدِير النَّدْوَة،

الأُسْتاذ ايلي ريمُون الحجَل.

      أيُّها الأعِزَّاءُ؛ كيْفَ لِلْحِيَادِ العِلْمِيِّ، والوِجْدانيِّ، أنْ يَسْتقِيمَ، حَقًّا، في الكلامِ عَلَى "الظَّاهِرَةِ الرَّحْبانيَّةِ"، ونحنُ في أنطليَاس، وفي مَسْرَحِ الأخَوَيْنِ رَحْباني، وعَلَى بُعْدِ أمْتارٍ مَعْدُودَةٍ مِنْ شارعٍ يتَزيَّنُ باسمِهِمَا الخالِدِ؟! ثمَّ، هَلْ ثمَّةَ، أصْلًا، إمْكانٌ لِلْحِيَادِ، أوْ شرْعيَّةٌ لَهُ، في أيِّ حَديثٍ عَنِ الإرْثِ الرَّحْبانيِّ، ومُنْجَزاتِ الأخَوَيْنِ، وفَيرُوزَ، ومَسِيرَةِ هؤلاءِ المجيدَةِ؟!

      وَلِكَيْ نُدْرِكَ، فِعْلًا، قيمَةَ هذا الإرْثِ العَظيمِ، والفَضْلَ الجلِيلَ لأصْحَابِهِ، عَلَى إنجازِنا الإبْداعيِّ الوَطَنيِّ، عُمُومًا، فلْنقْرأْ كِتابَ "هَـاشِـم قَـاسِـم" الصَّـادِرَ، حَدِيثًـا، عَنْ دارِ بيسَـان؛ ولْنتَصَوَّرْ، تاليًـا، حَـالَ الفنِّ اللُّبْنانيِّ، مُجرَّدًا مِنَ "البَصْمَةِ الرَّحْبانيَّةِ": شِعْرًا، ولحنًا، ومَسْرَحًا غِنائيًّا، وعَطاءً حَضارِيًّا عامِرًا بالحرِّيَّةِ، والفَرَحِ، والتَّجْدِيدِ...! لِنتَخيَّلْ، وَلَوِ افْتِراضًا، وتَوَهُّمًـا، ذاكِرةَ الإبْداعِ اللُّبْنانيِّ، ومَشْهَدِيَّـةَ نهرِ الفَنِّ اللُّبْنانيِّ الهادِرِ، مِنْ دُونِ الرَّافِدِ الرَّحْبانيِّ الأصِيلِ...!!

      وعَلَيْهِ؛ فأيُّ هُوِيَّةٍ لِلُبْنانَ ـــ المعْنى، والجوْهَرِ، والفِكْرةِ، وفَلْسَفَةِ الحضُورِ المشِعِّ: شرْقًا، وغرْبًا، مِنْ دُونِ المُسَاهَمَةِ الرَّحْبانيَّةِ، وتجربةِ الرَّحْبانيَّيْنِ الإبْداعِيَّةِ؟! وأيُّ وَعْيٍ جَمَاعيٍّ مُشتَرَكٍ، بلْ أيُّ تأسِيسٍ لذائقَةٍ جَماليَّةٍ عَابرةٍ لحدُودِ الهوِيَّاتِ الصُّغرَى، والقاتِلَةِ، أحْيَانًا، مِنْ دُونِ صَوْتِ فَيرُوزَ، وسُلْطانِ حَنْجَرتِها، القادِرَيْنِ عَلَى تخْصِيبِ الثَّقافةِ الوَطَنيَّةِ الجامِعَةِ؟!

      أيُّها الأعِزَّاءُ؛ رأيُنا أنَّ الكِتابَ، الَّذي نحنُ في صَدَدِ مُناقَشتِهِ، اليَوْمَ، يَبْدأُ، مِنْ حَيْثُ انتَهَى، أيْ مِنَ الفِقْرةِ الأخِيرةِ، فيهِ... فهُنا، في زَعْمِنا، تَتَظَهَّرُ رِسَالةُ المؤلِّفِ، بما تختَزِنُ الفِقْرَةُ المذكورةُ مِنْ مَواقِفَ، وبما يَسْتبْطِنُ المسْكُوتُ عَنْهُ، في خَلايا هذهِ الفِقْرَةِ، مِنْ شجْبٍ، ومَرارةٍ، حَيْثُ يَعْزُو الكاتِبُ، في ص. 268، أسْبَابَ اسْتِفْحَالِ حَالِ التَّراجُعِ، والانكِفاءِ، والإسْفافِ، والاسْتِهْلاكيَّةِ، والتَّقْليدِ، إلى واقِعَةِ وَفاةِ "عاصِي"، وتَوَقُّفِ الظَّاهِرةِ الرَّحْبانيَّةِ، بَعْدَها!

      فَعَنْ أيِّ فَنٍّ تمخَّضَتْ مَرْحَلَةُ مَا بَعْدَ تَوَقُّفِ الظَّاهِرةِ الرَّحْبانيَّةِ، واقِعيًّا، وفنِّيًّا، مَعَ انْطِفاءِ "عاصِي"؟ وفي أيِّ سِيَاقٍ نهضَوِيٍّ، وإبْداعيٍّ، جَرَتْ هذهِ الوِلادَةُ؟ سُؤالٌ إشْكاليٌّ للتَّأمُّلِ، والتَّفَكُّرِ، ومُقارَعَةِ الذَّاتِ... لا سِيَّما عِنْدَ مَنْ يَرَوْنَ، في الفَنِّ، فَضاءً لوِلادَةِ لُغةٍ فنِّيَّةٍ جَديدَةٍ، ومَدارًا لتفَاعُلِ مُقارَباتٍ جمَاليَّةٍ جَديدَةٍ، وإطارًا مُعَدًّا لِفَتْحِ مَسَاراتٍ جَديدَةٍ أمَامَ الموسِيقَى، بُغيَةَ العَمَلِ عَلَى تحرِيرِها مِنْ قَوالبِها التَّقليدِيَّةِ... تمامًا، كمَا يَرى مُؤلِّفُ الكِتابِ، ويُجاهِرُ بذلِكَ!    

      وَبَعْدُ؛ فإنَّنا نَقَعُ، في ص. 65، عَلَى العِبارَةِ المِفْتاحِيَّةِ، لأُطْرُوحَةِ الكاتبِ، حَيْثُ يقُولُ " لَقَدْ شكَّلَ الرَّحْبانيَّانِ بصَوْتِ فَيرُوزَ، وغَيرِها، مِدْمَاكًا رَئيسًا في بِناءِ الشَّخْصِيَّةِ الوَطَنيَّةِ اللُّبْنانيَّةِ، عَلَى مُسْتَوَى الأُغْنيةِ، ونصِّها"... هذهِ الفِكْرةُ المِفْتاحِيَّةُ تتَكرَّرُ، في صِياغةٍ أُخْرَى، في ص. 265، حَيْثُ يُبيِّنُ الكاتِبُ مَعَالمَ إسْهَامِ التَّجْربةِ الرَّحْبانيَّةِ في تعْزيزِ مُقوِّماتِ شخْصِيَّةِ لُبْنانَ الثَّقافيَّةِ، والاجْتِماعيَّةِ، والإنسانيَّةِ؛ قَبلَ أنْ يَسْتطْرِدَ، في سِياقٍ مماثلٍ، ويُغْنيَ أُطْرُوحَتَهُ، بإظْهارِ دَوْرِ الرَّحْبانيَّيْنِ في التَّأسِيسِ لِلْوَطَنيَّةِ اللُّبْنانيَّةِ الفنِّيَّةِ، في مُقابلِ الوَطَنيَّةِ الواقعيَّةِ، السِّياسيَّةِ، الإيديُولُوجيَّةِ، الحزْبيَّةِ، الرَّسميَّةِ... أيْ في الخرُوجِ مِنْ لُبْنـانَ ـــ السَّاحَـةِ، إلى لُبْنـانَ ـــ الواحَـةِ، وَمِنْ لُبْنـانَ ـــ البُؤْرَةِ، إلى لُبْنـانَ ـــ الفِكْرةِ...  

      هذهِ العِبارةُ المِفْتاحِيَّةُ، وإنْ كانَتْ تَشِي بحقيقةِ دَوْرِ الرَّحْبانيَّينِ في صَوْغِ الهوِيَّةِ الثَّفافيَّةِ، والوَطَنيَّةِ، والفنِّيَّةِ، للُّبْنانيِّينَ، فإنَّها، في مُوازاةِ ذلكَ، لا تُجنِّبُ مُربِّيًا، مِثْلي، أهْوالَ الخوْفِ عَلَى مُسْتقْبلِ الإرْثِ الرَّحْبانيِّ، وقُدْرتِهِ الموْضُوعيَّةِ عَلَى قَهْرِ الأزْمنَةِ، ومُقاوَمَةِ تحوُّلاتِ العُصُورِ، حِينَ أرَى مَاهِيَّةَ الانشِغالاتِ الفنِّيَّةِ، لَدَى أجْيالِنا الطَّالِعَةِ، وحِينَ أُعَايِنُ طَبيعةَ الاهْتِمَامَاتِ الفِكْريَّـةِ الَّتي يَلْهَثُ خَلْفَها أبْناؤُنـا، وَهُمْ، غالبًـا، في حَالةٍ مِنَ الاسْتِلابِ، والتَّشوُّشِ، والغُرْبةِ...!!  

      وَعَلَى العُمُومِ، نحنُ في حَضْرةِ كِتابٍ قَيِّمٍ، يُشْبِهُ عَالَمَ الرَّحْبانيَّيْنِ، مِنْ حيْثُ البَسَاطةُ المُمْتَنِعةُ، وكثافةُ المَعْنى، وألَقُ الأُسْلُوبِ، وذكاءُ الصِّياغةِ، وعُمْقُ الفِكْرةِ... وهوَ، إلى ذلكَ، كِتابٌ يحْترِمُ مَبادِئَ التَّوْثيقِ البَحْثيِّ، ويحفَظُ الأمانةَ العِلْمِيَّةَ، في العَوْدةِ إلى المصادِرِ، والمراجِعِ، وفي الحِرْصِ عَلَى تنْوِيعِها، واسْتِحْضارِ المفِيدِ مِنْها، بلا حَشْوٍ، ولا   إطْنابٍ؛ لا سِيَّما وأنَّ هذا الإصْدارَ الجدِيدَ يَأتي بَعْدَ مجمُوعةٍ مِنَ الإصْداراتِ الَّتي تناوَلَتِ "الثِّيمَةَ الرَّحْبانيَّةَ"، بالبَحْثِ، والسَّرْدِ، والتَّحْليلِ؛ ولَعَلَّ في طَليعَتِها مُؤلَّفاتِ نبيل أبُو مراد، ونزار مروّه، وهنري زغيْب، وفوَّاز طرابُلسي...

      أيُّها الأعِزَّاءُ؛ أصَابَ "هَاشِم قَاسِم"، حِينَ رأى في المنجَزِ الرَّحْبانيِّ، عُمُومًا، وفي المسْرَح الغِنائيِّ، خُصُوصًا، قُوَّةً فائقَةً،للتَّحْرِيضِ عَلَى الحُلْمِ، والأمَلِ... فعَلَى هذهِ الثُّنائيَّةِ، قامَتْ فلْسَفَةُ التَّجْربةِ الإبْداعيَّةِ الرَّحْبانيَّةِ؛ وبالسِّلاحِ الَّذي وَفَّرَتْهُ، واجَهَ الرَّحْبانيَّانِ سُؤالَ القَهْرِ، وسُؤالَ الفَقْرِ، وسُؤالَ الاسْتبْدادِ، وسُؤالَ الوَقْتِ، وسُؤالَ الحيَاةِ، بأعْقَدِ تفاصِيلِها! وبهذيْنِ الحُلْمِ، والأمَلِ، تطَلَّعَا إلى التَّغييرِ، مِنْ دُونِ الوُقُوعِ في فَخِّ التَّبْشيرِ، والوَعْظِ السَّاقِطِ... (ص. 174)     

      أيُّها الأعِزَّاءُ؛ يَرَى الكاتِبُ، في ص. 64، أنَّ الوَطَنَ الرَّحْبانيَّ " كانَ أرْضًا يتَوَجَّبُ الدِّفاعُ عَنْها، ومَكانًا تتَوَجَّبُ فِيهِ اسْتقامَةُ القانُونِ، والعَدالةِ، والحرِّيَّةِ، ليُصْبِحَ مِسَاحَةً إنسانيَّةً ذاتَ جماليَّةٍ خاصَّةٍ، وهُوِيَّةٍ..."؛ وبِدَوْرِنا، لَنا، نحنُ، في الحَركةِ الثَّقافيَّةِ ـــ أنطليَاس، الرُّؤْيةُ نفْسُها، والقَناعَةُ عَيْنُها؛ ولأجْلِ هاتيْنِ الرُّؤْيةِ، والقَناعَةِ، نعْمَلُ، ونجتَهِدُ، صَوْنًا لِلْقِيَمِ، وإرْضاءً لِلضَّمِيرِ، وتَوْقًا إلى الوَطَنِ/النَّمُوذَجِ، حَيْثُ وَحْدَةُ الأرْضِ والنَّاسِ، وحَيْثُ الإبْداعُ الحيُّ الَّذي لا يَشِيخُ!

___________________________

 

"الظاهرة الرحبانية: مسيرة ونهضة"

لهاشم قاسم

بقلم د. أنطوان سيف

 

          لا تنكفئ الإرادة الجامحة أمام إغواءات لا تخوم لمخاطرها، إذ أنها تشبه وهمَ المشاعات التي تدّعي كلّ الميول المصابة بالولع والوجد ملكيةً لها فيها.

          ذاك ان هاشم قاسم عندما عقد العزم لركوب مغامرة الخوض في التجربة الرحبانية لم يخامره إمكان، على مدى سنوات أربع، تثبيط العزيمة، ومع التوغل، فتور الهمّة لدى رؤيته انه يسافر في أرض لم تمح دعسات روادها الكثر؛ وبإيمان المتعبّد الضيّق الأفق في المعتقد الواسع العلم بمكتنزات الآخرين، لم يلوِ على فخامة ما يمكن ان يفلتَ منه ويجهله، ولا أن يمارس تجاهل العارف وسوء تقديره، فالتجربة بمدلولَيها المثيرين للتنبّه والمسؤولية وتوابعها: الأول في نطاق المعرفة التي تكون هي بوّابتها بلا منازع في العلوم الموثوقة، الطبيعية والرياضية، وما تلفحه صوب العلوم الإنسانية، والثاني وهو الإغواء والخطيئة التي يتضرّع المؤمنون كي لا يدخلهم الشيطان فيها. انه عرف هؤلاء الرواد وجلّ أسفارهم الكبيرة: نزار مروة وسفره بعنوان: في الموسيقى العربية والمسرح الغنائي الرحباني، ونبيل أبو مراد: الأخوان رحباني الحياة والمسرح؛ وهنري زغيب: في رحاب الرحابنة، وفواز طرابلسي: فيروز والرحابنة... وروّاد فعليين ومن غير أسفار كبرى من الثقات: محمود زيباوي، عبد الغني طليس، وشعراء وكتّاب لا مجال هنا لذكر أسمائهم، لفحتهم ككل الناس الريح الرحبانية الممتطية صوت فيروز ومذذاك بدأوا مغامرة السباحة في هذا "المدى" الذي رفع بالموسيقى والغناء والشعر والمسرح الكلفة بين الأرضيات والسماويات.  غالبية هؤلاء، جمعوا البحث الذي يفضي إلى الجديد المضارع لكثير من وجوه الابداع، والشهادة الحية مع مصدر هذا النبع عاصي ومنصور، لكأنّ الجميع يخفون مأرباً لا يضنّ كثيراً بخفاياه، ولا لمن ليس من اهل الأحوال لا الأقوال، وهو انغزازهم في زمانهم المشترك الذي يلحمهم معاً وهو النصف الثاني من القرن العشرين ويشهدون معاً على ثقافة جديدة حديثة كسرت محارة القديم المنهَك والمنهك، من حيث هو خلاص حضاري ثقافي شامل ينتقم، بأحد حركاته، من قرون جرّارة من الانحطاط.

          هل نحن فعلاً، كما يقول المؤلف، أمام عصر رحباني هو "محطة فنية فاصلة"؟ أما "تجربة رحبانية بسمات إبداعية استقراؤها مرة جديدة، أو بالحري مرات جديدة لا تتوقف، هو "أكثر من ضروري"، كما افتتح بذلك كتابه، لأنّ ما كان معها هو غير ما كان قبلها وما ظهر بعدها" (المقدمة، ص 11)؟

          حسبه أنه لم يظهر للظاهرة بدلالاتها الابستمولوجية المعرفية فالظاهرة، اكثر من حدث استثنائي، نهيمن على الزمان مرحلة طويلة، تتسمّى هذه المرحلة باسمها. والظاهرة هي أيضاً رأس جبل الجليد، حيث حقائقها، لا حقيقتها، هي ما تستبطنه، وما تستدعيه، وما تحرّض عليه، وما تبتدعه، وما تفككه وتذريه ليتسنى لها الاستئثار بكل المشهد.

          فلنقرأ، او فلنستقرئ، هذا السفر الجديد، المؤلف من سبعة أجزاء كبرى تتراوح حجماً ومضموناً لنرَ كيف لملم شظايا ظاهرته الكبرى في مألفة تدّعي انها لم تتنكر لما وعدت به! 

_________________________________