ندوة حول كتاب عبدو قاعي

أن يصبح الانسان ما وُجد عليه"

كلمة مديرة الندوة الدكتورة هند الرموز

        رجعت بنا إلى أنفسنا، نحاسبها ونقتلع منها أشواك الإهمال والشك لنزرع بذور العمل الجبّار، العمل على بناء حصنٍ للإنسانية تطايرت اجزاؤه مع انفجار الانانية فينا، تلك التي ترمي بنا في حالة مروّعة من الجمود والتقوقع.

        انها الكلمة، كلمة عبدو قاعي، كلمة ليست كتلك المخطوطة بالوجدانيات المبرمجة، ليست كتلك الراقدة في قوالب متعددة الأشكال، تعفّن بعضها من ثقل النفاق واللهو بمشاعر القارئ، ويبس بعضها الآخر قبل أن ترى النور لأنها كتبت في عتمة ليل التسلّط والرغبة في الشهرة.

انها كلمة انسابت كلمات معطّرة بقراءات فلسفية في أبحاث ومؤلفات غزيرة نذكر منها:

ايمائية الروح في قلب المدينة

على درب المدينة: هموم وأحلام

L’après religion (religare), le pourquoi de l’apocalypse?

Solitude et solitudes

Du pouvoir des mots

Le silence, gestuelle de la vie

عبدو قاعي متخصص في علم الاجتماع والديموغرافيا والإدارة التربوية. أستاذ جامعي وباحث شريك في مؤسسة ريتش ماس. منسّق المركز اللبناني للدارسات والأبحاث، في جامعة سيدة اللويزة.

يسافر عبدو قاعي في ابحاثه بين الأرض والسماء، يبحث عن عالم آخر، عالم حقيقي للإنسان، مرتكز على أركان الحياة الحضارية والتي تتمثل في الحوار والايمان والسلام والدين.

يغربل عبدو قاعي مفهوم المواطنية والشأن العام والتربية، يتطرق الى قضايا كثيرة في البيئة والاقتصاد والتنمية وتعدد الثقافات. يندّد بالجشع الذي يطبع عصرنا فيدعو الى ملاقاة الآخر والى الاستثمار بوصفه عملاً للتبصّر وليس هدفاً نصل اليه عبر تدمير الاخلاق والذات والحضارة والتاريخ.

يأخذنا أيضاً عبدو قاعي في تجوال على درب المدينة نلحظ هموم المجتمع اللبناني المتخبّط بين ما كان وما سيكون، متسلحاً بقوة الكلمة، متسربلاً بالحقيقة. انها الجمالية الأنبل.

واليوم أيضاً، كلمة عبدو قاعي تؤنسن الزمان والمكان وتملأ المسافات بين السؤال والسؤال الآخر، بين الأنا والأنا الآخر، تبحث عن روحها لتجدها في كتاب بعنوان: ان يُصبح الانسان ما وُجد عليه. ان يُصبح الانسان ما وُجد عليه يشكّل محوراً غنياً لحوارات متلفزة بين عبود قاعي وأمل ديبو، لقاءاتتبلورت وطبعت لتنقل امل الكاتب في الانسان، في "الحركة الارتقائية التي يقوم بها، حركة تصاعدية ترفعه الى مصاف الكلمة الواعدة" (انتهى الاقتباس).

نقرأ في هذا الكتاب عن الكلمة الصورة والفعل، ترسم الفكرة والانفعال لتصهرهما حياة وعدالة تشاد على أسس دينية واجتماعية وايكولوجية وسياسية تدحض العنصرية على مستوى العائلة والعمل والتمثيل السياسي.

من الكلمة الى شمولية الزمان والمكان من اجل إعادة لقاء خطّ التاريخ، الى البحث عن الفضائل سبلاً لتكوين الذات السامية المحررة من المادية، الى إبراز الهوية الجديدة لمجتمعات تفتك بهيكليتها التكنولوجيا والحروب الإرهابية. أعمدة غرسها عبدو قاعي في ارض الرجاء الذي يتطلع اليه، رجاء الغد. نافورة تنفث ايماناً بمستقبل أفضل مع اعلان شرائع جديدة للمساواة بين البشر.

هذا ما قاله عبدو قاعي وكتبه. فماذا يقول فيه اليوم ضيفانا الدكتور وجيه قانصو والدكتور مشير عون. كيف يقرأ وجيه قانصو رؤية عبدو قاعي في الانسان والإنسانية.

وجيه قانصوأستاذ جامعي في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم الفلسفة – الفرع الأول، متخصص في علوم التأويل والفلسفة السياسية والفكر العربي المتوسط والحديث.

من أهم مؤلفاته: فلسفة التعددية الدينية، النص الديني في الإسلام من التفسير الى التلّقي، الشيعة الامامية بين النص والتاريخ.

مشير عونأستاذ جامعي في الجامعة اللبنانية، قسم الفلسفة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الفرع الثاني، باحث في الفِسارة الفلسفية (علم أصول التفسير) وفلسفة الدين، وقضايا التعددية الثقافية وتلاقي الحضارات في التجابه والتحاور. تناهز كتبه الثلاثين باللغتين العربية والفرنسية، ومنها: بين المسيحية والإسلام (1997)، الفسارة الفلسفية (2004)، الفكر العربي الديني المسيحي، مقتضيات النهوض والتجديد والمعاصرة (2007)، بين الدين والسياسة (2008)، بين الابن والخليفة، الانسان في تصورات المسيحية والإسلام (2010)، هايدغر والفكر العربي (2011)، تصوّرات انتروبولوجية. بحث في التعددية الثقافية العربية (2016).   

_________________________________

 

عبدو قاعي في رحلة سؤال الذات للذات

الدكتور وجيه قانصو

في العلاقة مع عبدو قاعي، تنتفي ثنائية العلاقة بين أنا وآخر، أو ذات وموضوع.  فالآخر يصبح هذا النداء الذي تتردد أصداء كلماته في داخلك، فلا تعود الكلمة ألفاظاً حاملة للمعنى، أو وسيلة تواصل واتصال وتعبير، بل هي فعل كشف وانكشاف ذاتي، وتوق باطني للخروج من أنانوية سُدت فيها منافذ عبورها إلى الوجود والتحقق.

عبدو قاعي ليس ذاتا قبال ذاتك، أو ذاتاً جمعتك به صدفة اللقاء، فعبدو قاعي يحرك منذ لحظة التقائك به نداء الأزلية في داخلك ويذكرك بحنين الخلاص ويستحثك على الخروج من ذاتك المحاصرة بأفعال التنافس والسيطرة، إلى ذاتِك التي تطل على اللامتناهي،  بل ذاتِك التي ترمي نفسها في عالم اللاتناهي واللاتحديد، بعد أن توقظ فيها معنى أن توجد أو تنوجد.   

أما الموضوع الذي هو نص الكتاب الذي بين أيدينا، فليس أطروحة أو برهان أو تصميماً جديداً للمعنى. بالتالي لسنا أمام نص يحمل رسالة بالمعنى التقليدي، أو ايتكار لمعنى نجهله، أو معلومة لم نكن تعرفها. بل هو حركة بين الذات وملهمتها، حوار بين الذات الغارقة في عالم القوة وصراع الإرادات من جهة والذات التي تدفعها إلى الخروج من سقوطها، ومن حالة النسيان لكينونتها ومقتضيات انوجادها، بل نسيان للوجود المنوجدة به والموجودة به هنا أو هناك.

يسافر بك عبدو قاعي إلى من ذاتك إلى ذاتك بذاتك ولأجل ذاتك، عبر حوار السؤال والسؤال المضاد، الذهاب والإياب، السعود والسقوط، لخلق مساحة معنى جدلية خارج "التحديدات المعهودة والبناءات اللا حدودية"، ولتتأنسن الكلمة معه، حين نخرجها من البرمجة التي تفصلها عن مدلولها الأصلي وتعطل وظيفة الكشف فيها وتحيلها حلقة داخل شبكة معقدة من سياسات التطويع والاضباط والتحكم.  تحرير الكلمة هي تحرير للإنسان نفسه، لأنها بيته ومسكنه، وهي التي تهبه طاقة اللعب الحر الذي يأخذه إلى الأمكنة اللاحدودية، بل اللامكان الذي فيه تبدأ اللانهائية. 

أكثر ما يقلق قاعي هو الانشطار الحاصل في الإنسان، حال التمزق والألم التي تنتجها الطبيعة البدئية فينا، التي تستولد شتى أنواع الدفاعات والتقوقع، وتسجننا داخل إرث الفواصل والغيرية السلبية مع الآخرين.  إنها انسانويتنا الأولى المحكومة بالكائن الاحتماعي الذي أوجدته دواقع البقاء وإشباع الحاجة، والتي عطلت فينا قدرة الانفتاح الكوني، وطاقة الخلق الدائم للذات  وللكون.

يريدنا قاعي أن نحيي في داخلنا حالة الخلق اللامتناهية، التي تتجاوز سجن النعم واللا، الصح والخطأ، الاخذ والاستئثار، الربح والخسارة، الانتصار والهزيمة، إلى الكيانية الأوسع من الجزئية الثقافية، ورقعة الإتصال الإنساني، وفضيلة العطاء من دون شروط.

هذا يستدعي بنظر قاعي اختراق التراث نفسه لكشف تناقضاته الداخلية، ومناقشة الحدث التاريخي الذي تحدد الإنسان بداخله، والقفز من عالم السيطرة والتحكم، للخروج من طبيعتنا الأولى المحكومة بهاجس البقاء وإشباع الرغبة، إلى الطبيعة الثانية التي ترمي بنا في حقول المعاني اللامتناهية, وتجعل فعل الخلق يرتد على ذاتنا، فيحيلها ذاتا في حال تكون دائم لا نهاية لها.

هذا يحصل بقليل من الكلام وبكثير من الإنصات، بل بصمت كامل وإصغاء إلى لحظات الخلق القائمة في الكون، حتى تستعيد الكلمة قدرتها على التعبير عن نفسها بصدق وشفافية.

 عبورنا إلى الكلمة الكاشفة وقوة الخلق الكامنة فينا، تستدعي حرية إنسانية، التي لا تحصل إلا عبر الخطيئة، أي استذكار الخطيئة التي تستولد فينا حس المسؤولية بأن علينا تحمل مسؤولية ما نفعله. وأن الحياة ليست صعوداً بلا توقف بل حالة سقوط، لا في العدم والفناء، بل في الحال الذي يوقظنا من الغفلة والنسيان والسطحية، ويحيي فينا قدراتنا الخلاصية الموجودة فينا، ويخرجنا من وضع التلهي بالاصطفاء والتمايز والأنانية التي سدت منافذ الارتقاء وأمعنت في سقوطنا بوهم أننا نملك الحقيقة وحدنا وأن من حقنا أن نحتكر حق الوجود والحياة .

 لهذا يدعونا قاعي إلى أن نحمل صليبنا من جديد، فحمل الصليب ليس حدثاً تاريحياً حصل مرة واحدة، بل هو فعل وجودي، وسمة كينونة إنسانية لا بد استمرارية لممارستها، لكي تتحرر الكلمة من وظيفة السيطرة وضجيج الحياة اليومية وقساوة القلوب المتكلسة، ونعيد لها مهمة فعل الخلق، وكاشفية قوة الحياة وديمومتها، وقدرتها المطلقة على تحرير ملكات التحول لدى الإنسان التي ترتقي به إلى طبيعة الخلق.

هذا كله يكون بالمراجعة، التي تحرر الكلمة من تكلسها.  فعلى كل حامل شهادة أن يقرأها من جديد بالرجوع إلى المرجع الأصل، بعد التخلي عن الرتابات والصدامات لنرتقي إلى روج المعنى الذي لا نلتقي به إلا في غيرية الذات.

المراجعة تفرض علينا تخطي مذاهبنا التي نشأنا عليها، لنبلغ المعنى العميق للرسالات الروحية التي تتفجر فيها أسرار كلمة الحياة.  وهذا لا يحصل إلا بالتدرب على الصمت الذي يسهل علينا هجر حصون الذاكرة والتخلي عن أنانيتنا التي تتحصن داخل ميكانزمات طائفيتنا.

معايير التحرر الإيماني هو بناء المساحة العامة. فالإيمان عند قاعي هو ارتقاء من الحالة الاجتماعية القبائلية البدئية إل موقع الفعل المجتمعي الإنسانوي الحقوقي، التي يكون فيها الإنسان اكثر انفتاحا على كل مجالات الإصغاء، التي تكشف عن قيمة الإنسان الشاملة في السلوك الإنساني، حيث السكن في النور الذي يلغي وحشة الظلام.

الإنسان يحدث في الزمن لكنه يُحدث أمورا على صفحات الزمان تطال الأماد اللامتناهية للزمان، التي تتخطي كل حدث للارتقاء إلى طبيعته الشمولية في لا حدودية أفاقها الزمانية والمكانية.

 الإنسان كائن ممزق ينزع إلى الخروج من الاستقطاب الذي تضعه فيها الفراغات التي تفصل بين الأزمنة والأمكنة. عبر صراعات تواريخها المختلفة والمتعاقبة.

مطلوب قراءة ترتقي بالإنسان إلى ذاته الإنسانية العليا، وتمكنه من التقاط خطوط الشمولية ليعيد للإنسان نفسه في ظل كلمة السلام الواحدة التي تجمعهم.

يدعونا قاعي إلى الخروج بل التمرد على إيماننا الذي تحول إلى تكوينات معتقدية، وصار نتيجة تاريخ طويل من الصراعات يميزني عمن لا يشبهني لا من أن يجمعني به ويفصلني عمن لا يجاريني بدل أن يشملني معه.  في حين أن المسيح دعانا إلى الاختيار بين الإيمان والاعتقاد التي هي كالقبور المكلسة. يجب تجاوزها إلى محبة بدون شروط. الإيمان هو الانعطاق الذي يجمعنا به في ما يتخطى الحدود الرقانبية.

هي وضعية تفقدنا بعدنا الخلاصي أو تفرغه من مضمونه وبعده الإنساني، ليصبح تاريخنا تاريخ نزاعات وصراعات.

 البعد الخلاصي يستعاد بالمراجعة، التي هي طوعية من ذاته على ذاته من ذاته.  لا يمكن بلوغ السلام إلا بالمراجعة. الثورة هي أولا ثورة على الذات عبر المراجعة. قبل أن تكون على الآخرين. نستلهم الثورة في عمق ذاتنا لنصبح مشروع إنسان من جديد,  عبور إلى الذات السامية وعبور إلى ملاقاة الآخرين. والفضائل لا تكتشتب بل تكتشف فيي الذات عبر تحريرها من رواسب الأنانيات التي تتآكلها .  

المراجعة تؤمن لنا العبور إلى الذات السامية  التي   باتجاه منابع الحياة في ذاته, لتتقتح على الكون والإنسان، تنجلل   بالمرؤة والنزاهة والتعالي فوق الصغائر.

البحث في أعمق أعماق التاريه هو الزمان اللامتناعي صدى للصمث ومن بعد الصمت, مشروع الحب الكامل. 

والعبور نحو الآخر بالحوار، حيث يلتحم المعنيون بالذات الإنسانية للارتقاء إلى فسحة الآماد اللامتناهية, الحور تغلب على الذات لينحو باتجاه حين آخر. كلمة تريحهم من أنانيتهم لتجمعهم بذاتهم الغيرية. 

المسيح : عندما تعترفون أنكم أصبحتم اثنين فأنتم بالذات ترون النور. لا بد من اعتراف الإنسان بآخريته. بذلك  يصبح الحوار مساهمة في مشروع الخلق من أجل ديمومة الحياة. ورحلة من النقص إلى الكمال عبر عطاءاتها من ذاتها إلى ما هو خارج ذاتها. الحوار يعني أن النقص لا يسد إلا بالعطاء الكامل لذاته عطاء من الذات إلى الذات. بعطاءه لذاته ولغيره تكتمل إنسانيته.  الحوار هو اهداء الإنسان ذاته لذاته ولغيره خارج أوليات الدفاع, عليه أن يسافر إلى ذاته في هجرة لا عودة فيها من ذاته الأأنانية.  

 

دعانا قاعي إلى الساحة التي تفقد فيها الذات تمايزها في وسط الناس، والآحرين، لكنها تجد نفسها وقد استحالت آخر وآخرين تجمعها بهم معية إنسانية وكلية إنسانية متعالية لا تتحقق إلا عبرهم، ولا تضيء ذاتها أو تصل إلى النور إلا عنجما تنطفيء من أجلهم أو تحرق نفسها لتضيء لهم فسحة الوجود.

مجازر العالم اليوم، يني أن طريق السفر ما يزال طريق السقوط والنسيان والتلهي، والبعد عما يختلج في كينونتنا أو ما تستدعيه من توق تحقق إنساني كلي. طريق يأخذنا إلى الأنطفاء الباطني الشامل رغم توهج الضوء الذي يضيء بيوتنا وشوارعنا ومدننا.

___________________________________

عبده قاعي

رسول الوجدان الإنسانيّ في لبنان

مشير باسيل عون

 

1. الكتاب الوصيّة

 

بعضٌ منّا يتفكّر بعقله، وبعضٌ يتفكّر بقلبه، وبعضٌ آخر يتفكّر بوجدانه. أمّا القلّة القليلة، وعبده قاعي منها، فتتفكّر بالثلاثة. بعضٌ منّا يغترف من معرفته النظريّة، وبعضٌ يغترف من مراسه الوجوديّ، وبعضٌ آخر يغترف من سيرته الذاتيّة. أمّا القلّة القليلة، وعبده قاعي منها، فتغترف شرعًا من الينابيع الثلاثة. بعضٌ منّا يلمّ بحقل معرفيّ واحد، وبعضٌ يلمّ بحقلين اثنين، وبعضٌ آخر يلمّ بحقول ثلاثة. أمّا القلّة القليلة، وعبده قاعي منها، فتُلمّ بحقول معرفيّة شتّى، أبرزها علم الاجتماع وعلم الديمغرافيا وعلم التربية وعلم المعرفة وعلم اللاهوت الصوفيّ والأدب والفلسفة.

هو وجوديٌّ مسيحيٌّ يفترض الجوهر الإنسانيّ رسالةً يُنتدب الإنسانُ إلى الاضطلاع بها، في حين أنّ وجوديّة سارتر تجعل الإنسان صانعًا لهويّته. فالفعل الإنسانيّ هو فعلٌ في إنجاز هويّة الذات التي لا تكتمل نسبيًّا إلّا بالموت. والاكتمال النسبيّ يُنسب إلى مسرى كلّ فرد من الأفراد. أمّا الوجوديّة المسيحيّة، وقاعي منتسبٌ إليها، فتتصوّر في الكيان الإنسانيّ أوّلًا ماهيّةً يستودعها الله هذا الكيان حتى تنقلب، من ثمّ، هويّةً تاريخيّةً تنجزها حرّيّةُ الإنسان الذاتيّة. هي إذًا ماهيّةٌ في هيئة القابليّة المزروعة في الكيان الإنسانيّ تستنهضه حتّى يستخرج منها كلّ ضروب التحقّق الممكنة. وكلّ إنسان، على حدّ تعبير عبده قاعي، يوجد على ماهيّة منسوجة على قياس فرادته.

مفارقة عبده قاعي أنّه مثاليٌّ روحانيٌّ أثيريٌّ، ولكن على دُربة ومراس في حقل الاجتماعيّات والتربويّات والمعيشيّات. ولذلك تجلّت مثاليّته ناشبةً في معترك المعاناة الوجوديّة (ص 65). فأتى هذا الكتاب (عبده قاعي، أن يصبح الإنسان ما وُجد عليه. السفر إلى الذات بين السؤال والسؤال الآخر، منشورات جامعة اللويزة، لبنان، 2017) أشبه بوصيّة يعهد فيها إلى الأجيال الآتية في لبنان. أمّا تعاقب المواضيع فيه، فإنّها تشبه تعاقب المسائل التي تناولها جبران في نبيّه، ويتناولها المتصوّفون الكبار في أسفارهم البليغة. من بين هذه المواضيع آثرتُ اختيار الإنسان لما بذله عبده القاعي من جهد عظيم في استجلاء هويّته المشرّعة، واستطلاع رسالته البنّاءة، واستخراج معاني معيّته الحضاريّة السويّة.

 

2. هويّة الإنسان المنعتقة من كلّ حدود

الإنسان، في عُرف عبده قاعي، كائنٌ روحيٌّ ينتمي إلى الفضاء الأعلى، قادرٌ على إعادة خلق ذاته. بهذا التعريف ينسج قاعي على منوال تيار دو شاردان وفلاديمير فرناندسكي (ص 18)، ويحذو حذوهما في نحت قوامٍ للإنسان يتجاوز ما تُبصره العين المجرّدة في الكيان الظاهر. سبيله إلى ذلك القولُ بأنّ الكلمة الحيّة هي دليل وجود الروح في الإنسان (ص 14). وعليه، كانت وجوديّة قاعي وجوديّةً روحيّةً تعاين في الروح طاقةً جبّارةً على التجاوز الدائم. في هذا السياق، يميّز قاعي الطبيعة البدئيّة الأولى في الإنسان من الطبيعة الروحيّة الثانية التي  تهذّب الأولى وترتقي بها إلى مصفّ الخلق والابتكار (ص 16). أمّا العوائق التي تمنع الإنسان من البلوغ إلى الطبيعة الثانية، فأساسها الإرثُ والتملّك اللذان هما علّة الاختلال في الطبيعة الإنسانيّة (ص 17). أمّا حركيّة الانتقال من الطبيعة الأولى إلى الثانية، فيعاينها قاعي في مقولة اللعِب. ذلك أنّ الإنسان هو كائن اللعِب، أي كائن الارتحال من موضع إلى موضع، ومن حالة إلى حالة، ومن محطّة سفر إلى محطّة سفر، وكأنّي باللعِب ينشئ للإنسان الروحيّ خصوصيّتَه الفذّة، ويزيّن فيه وجوده التاريخيّ بالالتماعات الوضّاءة الأصيلة. بيد أنّ اللعب يحمله قاعي على أسمى معاني البراءة الخلّاقة، شأن الإنسان فيه كشأن الوليد تقلّبه يدُ الدهر في معترك النضال الوجوديّ، فتُصرَف إليه الفضائلُ والمبرّاتُ بغير عناء منه لصفاءٍ في كيانه، وتُصرَف عنه الرذائلُ والارتكاباتُ بغير حذر منه لانفطار كيانه على الإيثار المحبّ.

 

3. سفر الإنسان تجاوزًا لإنسانيّته البدئيّة

هذا، باقتضاب، في الهويّة. أمّا الرسالة الذي يُنتدب إليها الإنسان، فقوامها سفرُ الإنسان إلى ذاته الإنسانيّة في هجرةٍ لا عودة له عنها إلى ذاته الأنانيّة (ص 125). يقين قاعي أنّ الطرح الإنسانيّ الحقيقيّ إنّما هو الانتماء إلى عالم اللانهاية، إذ إنّ الإنسان لا يني في سفرة كونيّة لاحدوديّة تربطه بالرجاء الإلهيّ (ص 26). ولكن من أين يأتي الإنسانَ مثلُ هذا الاندفاع الترحاليّ ؟ يعتقد قاعي أن الإنسان يمتلك قدرةً خلاصيّة تأتيه من ارتقائه إلى الطبيعة الروحيّة الثانية الناشبة فيه (ص 29). ومن ثمّ، يجب عليه أن يؤمن بقدرته الخلاصيّة الذاتيّة (ص 36). للسفر في نصوص قاعي دلالاتٌ شتّى. فهو تارةً يعني الانسلاخ عن الواقع الأنانيّ والإسهام في بذل الذات من أجل الآخرين. وبذلك تكون البذليّةُ هي عين الخلاص (ص 31). وهو تارةً أخرى يرمُز إلى الثورة يركَبها الإنسان حين ينتفض على ذاته المادّيّة ليبلغ ذاته الروحيّة (ص 79). فالثورة الحقّة هي إعادةُ النظر في جميع الرغبات الأنانيّة حتّى يتمكّن الإنسان من اختبار الحبّ والسعادة (ص 80). وهو طورًا يشير إلى تحرير المعابر في الإنسان، أي إلى تسهيل عبور الإنسان إلى منابع حرّيّته. تحرير المعابر يبدأ حين يَقبل الإنسان أن يحرّر ذاته من ذاته ليعبُر عَبر ذاته إلى هويّته الإنسانيّة المطلقة (ص 84).

في جميع الأحوال لا يستقيم السفرُ الكيانيّ إلّا بتجاوز الجزئيّة الثقافيّة الخاصّة من أجل الانفتاح على البعد الكونيّ (ص 19). غير أنّ هذا التجاوز لا يتدبّره قاعي على مقياس الجدليّة الهيغليّة. ذلك أنّ جميع طروحات التاريخ ناقصة. أمّا الأطروحة الأقوى والأثبت والأبقى، فهي أطروحة السلام الكونيّ الذي يختزن كلّ الجزئيّات الثقافيّة، ولكنّها أطروحة آتيةٌ من الفضاء الأعلى (ص 25). وبذلك ينجلي خطأ هيغل الذي وضع خطوط الأحداث التي بموجبها تتجابه التواريخ على مستوى خطّ التاريخ وحسب، في حين أنّ الجزئيّات كلّها ناقصة في منظور السلام العلويّ (ص 29). من الواضح أنّ قاعي لا يُقنعه هيغل في جدليّته الفكريّة الناشبة في عمق التاريخ الأرضيّ، في حين أنّ قاعي يتفكّر ويكتب من موقع الإيمان المسيحيّ، وهذا حقّه، فينجلي الإنسان أمامه في شموليّة الزمان والمكان (ص 64). ومع ذلك، فالإنسان يظلّ هو هذا الوجود الذي يعطي المعنى لما هو موجود كمعنى (ص 67). الإنسان هو الصانع الثاني بعد الصانع الأوّل. في صنعته هذه تعتلن سماتُ رسالته الحضاريّة التي تبلغ به، فردًا وجماعةً، حدود الانصهار والاندماج والتضمين (ص 97). وهي مقولاتٌ ثلاثٌ يتبسّط فيها قاعي حين يكبّ على تدبّر معاني المعيّة الإنسانيّة الكونيّة. جديد عبده قاعي في تدبّر رسالة الإنسان مقولتان، اللعب والسفر، وقد استلّهما، على أغلب الاعتقاد، من قاموس اصطلاحات ما بعد الحداثة، ولكن من غير أن يساير هذا الفكر في بعض من طروحاته التفكيكيّة الهدميّة العدميّة العبثيّة. ظنّي به أنّه ينزلهما منزلة المقولتين الأنتروبولوجيّتين بهما يمهر التصوّرَ الرساليّ للكائن الإنسانيّ في عمق أعماق ماهيّته.

 

4. شروط المعيّة الإنسانيّة الحقّة

إذا كان الإنسان في صميم ذاته كائنًا روحيًّا، وإذا كانت رسالته تتحقّق باللعب والسفر، فكيف يستطيع أن يحيا في معيّة نظرائه حياةً سليمةً، عادلةً، بهيجةً، مثمرةً ؟ أوّل شروط المعيّة صونُ الطبيعة والبيئة اللتين تحتضان المعيّة الإنسانيّة. لذلك كان نقد قاعي للعقلانيّة والفعّاليّة المفرطة نقدًا شديدًا قاسيًا (ص 60). آن الأوان لكي يكفّ الإنسانُ عن الاستقواء والاستعلاء واستنهار الطبيعة (ص 26)، وفي استخدامي مقولة الاستنهار جريٌ على المنوال الذي أنشأه هايدغر في صورة الغشْتِل (das Gestell) الذي يستجلب وينهر ويزجر ويستخرج عنوةً مكانز الأرض الدفينة. من شروط بناء المعيّة الإنسانيّة السليمة أن يسائل الإنسانُ المقولات الاجتماعيّة والسياسيّة والتربويّة والبيئيّة من أجل إعادة بناء الوعي. ولا تستقيم هذه العمليّة الجليلة إلّا بالعودة إلى المعنى الأصليّ للكلمة من خلال الشهادة الذاتيّة (ص 38). هي عودةٌ يضمنها للإنسان ضربٌ من الهرب نحو صمت اللانهاية (ص 33) لأنّ القيمة لا يعثر عليها الإنسان في النظُم الوضعيّة، بل في الإصغاء إلى لحظات الخلق في أنظمة الحياة (ص 27). في زمن الأمميّة الأمّيّة الناشطة في معجم الأبجديّة الرقميّة المعولمة (ص 46)، أضحت الذاكراتُ حصونًا للدفاع عن الصراعات الأنانيّة والتأويلات المنغلقة على المنفعات الذاتيّة (ص 47). ولذلك تكلّست الكلمة في الحوار المزيّف، ممّا جعل الناس ينكفئون إلى هويّاتهم الضيّقة وتأويلاتهم العقيمة (ص 40). فاقتصرت معاهدات السلام البشريّة على استجلاء الحدود الحقوقيّة المحض، فيما معاهدة السلام المنبثقة من الطبقات العلويّة ترتقي بالإنسان إلى مستوى قدرته الخلاصيّة الذاتيّة التي أرادها له المسيح، على ما يذهب إليه عبده قاعي (ص 43).

خلاصة القول أنّ المعيّة الإنسانيّة السليمة لا تُبنى إلّا في اختبار المعايشة بين ذاتيّات حرّة، متساوية، مستقلّة، منعتقة من انتماءاتها البدئيّة الاجتماعيّة والثقافيّة التي ينبغي تصفيتها وغربلتها من ألبستها الأيديولوجيّة العقائديّة وأطرها الزمانيّة المكانيّة لتحقيق علمانيّتنا الإنسانيّة والاجتماعيّة الشاملة، بحسب تعبير عبده قاعي نفسه (ص 140). حين تعكف الذاتيّات الحرّة على البحث الحواريّ في ما هو غير موجود في منطق الحوار، تبلغ كلّ ذات إنسانيّة إلى ما هو غير موجود فيها في الأصل (ص 121)، أي إلى ابتكار ضروب خلّاقة من الوجود الحرّ السعيد. أفضل السبُل إلى ذلك اختبارُ سلام الصمت والاتّضاع والإصغاء إلى الآخرين (ص 113)، وكأنّي بعبده قاعي يتسربل بسربال اللاهوتيّين النسّاك الصوفيّين الذين آثروا الصمت على الكلام، والاختلاء على المخالطة، والنفي على التوكيد، والتنزيه على التوصيف. فاختبروا أقاصي المعنى المربك باعتلانه، الملهم بانحجابه.

في خاتمة الكتاب، وربّما في خاتمة المسرى الوجوديّ، يفاتحنا عبده قاعي ببحثٍ هو أعمق من البحث الفكريّ العلميّ، إذ يعترف قائلًا : "بكيتُ على حالي البحثيّة لما لها من ارتباط بقناعاتي الذهنيّة المجرّدة" (ص 108). في مثل هذا الاعتراف الحميميّ الذي يذكّرنا بأدبيّات الاعتراف الفلسفيّ أو الدينيّ أو الأدبيّ، يقرّ قاعي بأنّ البحث عن السلام هو أمنية الوجود برمّته، وبأنّ الوجوديّات الصادقة أرفع مرتبةً من الذهنيّات المتوقّدة. يلتفت قاعي إلى أمجاد الأرض، فيراها ممسوحةً بالنقصان والزوال والبطلان لأنّ الدنيا الأنانيّة غرّارةٌ، ضرّارةٌ، حائلةٌ، مانعةٌ، مثبّطةٌ. بيد أنّ التنازع بين الاختبار الروحيّ المثاليّ والاندفاع الاجتماعيّ الواقعيّ هو الذي حثّه إلى بثّ الأفكار النيّرة، وبذر الحكَم المضيئة في تضاعيف كتاباته، يصبّها في قالب الأصالة والصدق، مضرّجةً بنضالات الذات الخاشعة المتّضعة، صافيةً من ادّعاءات الأنا المتضخّمة، غنيّةً بالنضج المختمر وما يتوارى وراءه من معاني الشفّافيّة الروحيّة، والبِلوريّة الفكريّة، والنصاعة المسلكيّة.