ندوة حول كتاب د. أديب صعب: المقدّمة في فلسفة الدين

"المقدمة في فلسفة الدين":

كتاب تأسيسي وفلسفة عربية أصيلة

الدكتور نقولا أبو مراد

 

لا يقتصر فضلُ هذا الكتاب، "المقدمة في فلسفة الدين"، على أنه الكتاب التأسيسي لفلسفة الدين في ثقافتنا العربية المعاصرة، بل هو الكتاب الوحيد، حتى اليوم، الذي يَطرَح فلسفة دين عربية أصيلة. وكم يسرني أن قراءتي الأولى للكتاب حصلت مع الكاتب نفسه، مطلع 1994، حينَ طلب إليّ أستاذي الدكتور أديب صعب أن أساعده في مراجعة النسخة الأخيرة التي وردته من دار النهار للنشر قبل طبعها. أمضينا أيّاماً في مكتبه المنزليّ، يقرأ هو عليّ النصّ المخطوطَ وأتابع أنا المطبوعَ، أو العكس. وكأستاذٍ من الطراز الأرفع، لم يبخل عليّ الأديبُ بتعليق هنا وتوضيح هناك حول المضمون والخلفيات الفلسفية، وطبعاً حول مسائل لغوية، بما فيها دقائق متعلقة بقواعد اللغة العربية، وبعلامات الوقف، من فواصل ونقاط وما إليها، توضَع كل منها في مكانها المنطقيّ. هذه رافقتني، وما تزال، بعد مرور ما يقارب العقود الثلاثة، تحضرني بصوته ونبرته كلما كتبتُ نصّاً أو حيّرتني حالة تنتمي إلى قواعد اللغة.

بعد تلك القراءة الأولى، عدت إلى الكتاب مراراً، وقد توسعت قراءاتي، الفلسفيّة وغير الفلسفية، في العربية ولغات أخرى، وتبيّن لي ألّا عهد للكتابة الأكاديمية العربية بهذه السلاسة. وقد توقّفَ كبار الكتّاب والمفكرين عند هذه الخاصّية في كتابة أديب صعب، التي تزاوِج بين البساطة والعمق. يقوم نهج المؤلّف على الكتابة بلغة عاديّة إلى أبعد حدّ ممكن، مع الاقتصاد في المصطلح وعدم اللجوء إليه إلّا عند الضرورة، ومع تفسيره لدى وروده للمرة الأولى. أذكر أنه كان يخبرنا، في الصفّ، ما كتبه فيلسوف أكسفورد المرموق غيلبرت رايل (Gilbert Ryle)حول لغة الفلاسفة التحليليين البريطانيين، وهو تأثُّرُهم بلغة الروائيين، ومنهم أوسكار وايلد، أكثر من تأثُّرهم بالمصطلحات الفلسفية المعقدة. وطالما كتب أديب صعب عن عناصر الخطاب الثلاثة: المخاطِب والمخاطَب والخطاب، منتقداً الخطاب الأكاديمي الغامض والعسير، الذي يقتصر على أهل الاختصاص، وداعياً إلى أن يكون المخاطَب المختصّين من كل المجالات وطلاب الثقافة عموماً.

الفصلان الأوّلان من "المقدّمة" – (1) "ما هو الدين"، و(2) "الدين والفلسفة" - كانا فتحاً جديداً في التأليف العالمي في هذا الموضوع. وهما يؤكدان على أهمية تاريخ الأديان وتاريخ الفلسفة لفلسفة الدين. الفصل الأول مقارنة "وصفيّة" (تمييزًا لها عن المقارنة "القيميّة") بين الأديان، قائمة على دراسة صعب الشخصية لأديان العالم. وهو ضروري كتمهيد لفلسفة الدين، لأنّ كثيراً من الناس يسألون عند سماعهم العبارة للمرّة الأولى: "فلسفة أيّ دين؟". ويوضح المؤلف أن فلسفة الدين ليست فلسفة دين بعينه، بل هي فلسفة الأديان كلّها لجهة العناصر المشتركة بينها، أي ما يكوّن جوهر الدين. وهو ما يسمّيه، بلغته المميَّزة، "الدين في الأديان" أو "الوحدة في التنوُّع". وفي الفصل الثاني يطرح مقولة أنْ "لا دين بلا فلسفة ولا فلسفة بلا دين"، فيُظهِر أن الصياغات العقائدية في كل الأديان ارتكزت إلى الفلسفة. ويستعرض تاريخ الفلسفة في عصورها القديمة والوسيطة والحديثة بالتركيز على تفاعل الفلاسفة مع مسائل الدين. وقد صار هذا الفصل مرجعاً يحيل أساتذةُ الجامعات طلّابَهم عليه لمراجعة تاريخ الفلسفة.

بعد ذلك تلي فصول منهجية تتناول المسائل الكبرى في فلسفة الدين، وهي: وجود الله، الخبرة (التجربة) الدينيّة، المعجزة (العجيبة)، مسألة الشرّ، الدين والأخلاق، الوجه الآخر للحياة (البقاء بعد الموت). يحلل الكاتب أهمّ الآراء الفلسفية في كل مسألة، متوخيًّا الدقّة والشمول والعمق، ويخلص في كل فصل إلى نظرة بديلة. وهناك مسائل أخرى، مثل: الخطاب الإلهيّ والنبوّة، الدين والعلم، الدين والدولة، التعصب والتسامح، الايمان والالحاد، تعليم الدين، الرعاية، الانسانية كدين. هذه المسائل الاضافية وسواها عالجها صعب في كتابيه الرابع والخامس في مجموعته الفلسفية: "وحدة في التنوّع" (2003) و"دراسات نقدية في فلسفة الدين" (2015). وكان قد طرح مسألة تعليم الدين في كتابه الأول، "الدين والمجتمع"، الصادر عام 1983، مقدماً، بجرأة وجدّية، النظرية الأُولى، التي ما تزال الكلمة الفصل، في هذا الموضوع.   

النقطة المحورية في "المقدمة" هي نظريّة المعرفة الخاصّة بالمؤلف. وهو يطرحها بعد تعريض نظرية ديفيد هيوم، الفيلسوف الاسكتلندي الشهير من القرن الثامن عشر، الموسومة بالتجريبية لنقد مفصّل. وتقوم نظرية المعرفة عند صعب على توسيع معنى العقل في ضوء المعقول. فالمعقول الديني غير المعقول العلمي وغير المعقول في أي نطاق آخر. وهذا يستتبع أن يكون العقل مفهوماً نسبياً تابعاً للمعقول. ومع هذا المفهوم المتحرك للعقل يَبطل تصنيف الحقائق غير العلمية وغير الخاضعة للقياس، ومنها الحقائق الدينية، تحت الحقائق "الذاتية" المفتقرة إلى الموضوعية. وفي نظرية صعب البديلة للمعرفة أن لكل موضوع نوعاً أو أنواعاً من الموضوعية والذاتية الخاصة به. وهو يرى ضرورة "تصفية حساب فكريّ" مع ديفيد هيوم كشرط لقيام أيّ دفاع فلسفي عن الدين. هذا الدفاع، كما يرى المؤلف، أحد شروط اللاهوت، إذ "لو لم يكن الدين بمعناه العامّ مبرَّراً، فلا يمكن تبرير هذا الدين أو ذاك". هذا يعني أن الدفاع الفلسفي عن مفهوم الألوهة، أي التبرير العقلي للايمان بالله، شرط للدفاع اللاهوتي عن الرسالات الدينية كوحي إلهي، وإلا أصبح الدين نظاماً من الأخلاق أو الاصلاح الاجتماعي. نظرية المعرفة الجديدة هذه، التي يطرحها المؤلف، تحلّ إشكالاتٍ جوهريةً بين العقل والايمان، وترسم علاقة واضحة للدين مع الأنظمة المختلفة من علم وأخلاق وسياسة وسواها.

الكتاب عمل تأليفيّ صارم، يتحرى كل التفاصيل والمناقشات المتعلقة بموضوعاته من مصادرها الأساسية. لكنه عمل خاصّ بالمؤلف وحده من حيث: (أ) تصميم كلّ فصل، (ب) اختيار الاستشهادات الفلسفيّة، (ج) اعتماد المصادر الأوّلية لكل الاستشهادات، (د) إقدام المؤلّف على ترجمة كل المقاطع التي يستشهد بها من الكتب الأجنبيّة إلى العربية. (ه) نسج فلسفة دين خاصّة، تقف مع أفضل الفلسفات. ممّا يؤسَف له اليوم اعتماد اللغة العربيّة وحدَها لغةً للتعليم والمراجع في معظم البلدان العربيّة. وهذا أدّى إلى صدور ترجمات لكتب كثيرة في العلوم الانسانية والاجتماعية هي، إلى حدّ بعيد جداً، ترجمات سيّئة وغير دقيقة... علماً أنّ اللغة العربيّة الجامعية، لغة الأساتذة والطلّاب والمؤلّفين، لا تتصف عموماً بالسلامة.

ذهب أديب صعب أيضاً إلى حدّ ابتكار عبارات خاصّة به وحده، مثل: "المعجز هو القانون الطبيعي قبل أن يكون ما يخرق القانون"؛ "المعجز هو فعل الخلق قبل أن يكون فعل الخرق"؛ معادلة "الدين أخلاق" ومعادلة "الأخلاق دين"؛ "الوجه الآخر للحياة" بدلاً من العبارة الشائعة "خلود النفس". هذا الكتاب هو فلسفة عربية للدين. ومؤلّفه فيلسوف كأيّ غربي يوصف بأنّه فيلسوف. ومن الشاذّ جداً أن ينظر العرب إلى أنفسهم نظرة وضيعة، فيسمّوا فلاسفتهم "مفكّرين"، فيما يسمّون الغربيين "فلاسفة". هناك فلاسفة عرب بالتأكيد. وهذا الكتاب، بالتأكيد، فلسفة عربيّة. ومؤلّفه ليس فيلسوف دين فحسب، بل فيلسوف بكلّ معنى الكلمة. فالدين موضوع يشمل: الميتافيزيق، نظرية المعرفة، المنطق والمنهج، الأخلاق، الفنّ، السياسة. وهذه هي مواضيع الفلسفة الرئيسية.

من هنا نفهم إصرار المؤلّف على أنّ "أل" التعريف في عنوان كتابه تشير إلى أنّ الكتاب "عمل تأسيسيّ". وهذا أمر لاحظه الذين تناولوا الكتاب بالمراجعة والدراسة. في اللغة العربية كتب قليلة جداً تدور على فلسفة الدين، كلّها نُشرَت بعد "المقدّمة" (1994). لكنها إمّا مترجمة وإمّا تنتمي إلى "المداخل"، أي التقديم الموجز للموضوع، لا بل لجوانب محدودة منه، نقلاً عن مراجع أجنبية وبعيداً عن أيّ ابتكار. أمّا هذا الكتاب، كما قلنا، فهو يقدّم فلسفة عربية، ويقف إلى جانب أفضل الكتب العالمية في حقله. إنّه "المقدّمة في فلسفة الدين"، لا "مقدّمةٌ في فلسفة الدين" أو "مدخلٌ إلى فلسفة الدين".

"المقدّمة" هو الكتاب الثالث بين خمسة كتب متكاملة (خماسيّة) لأديب صعب في فلسفة الدين. ويمكن القول بأنّ "الدين والمجتمع"، الصادر عام 1983، هو الكتاب العربي الأوّل في فلسفة الدين، إذ قدّم الموضوع من ضمن الدراسات الدينية العلمية التي تختلف في منهجها عن اللاهوت كنظام مختص بدين معيّن. لكن حتى وإن اعتبرنا "المقدّمة في فلسفة الدين" الكتاب الأوّل في الموضوع، فالكتاب صدر عام 1994، قبل أيّ كتاب عربي آخر. والأحرى أنّ المؤلّف أدخل موضوع فلسفة الدين إلى الثقافة العربية المعاصرة مع إدخاله هذه المادّة، خريف 1973، كمادّة تعليمية إلى معهد القدّيس يوحنّا الدمشقي اللاهوتي في البلمند، الذي أصبح نواة جامعة مزدهرة، كان لي فيها شرفُ التتلمذ على يد رائد من روّاد الفلسفة العربية والمشرقية.

ختاماً، لقد أسهمت "المقدّمة" في إدخال أسماء ومناقشات في فلسفة الدين إلى الثقافة العربية المعاصرة. من هذه الأسماء رتشارد بريثويت (Richard Braithwaite)، الفيلسوف البريطاني التحليلي في كتابه "نظرة فيلسوف تجريبيّ إلى طبيعة الايمان الدينيّ". ومن الأسماء جون ماكوري (John Macquarrie)، الفيلسوف البريطاني الذي استعار مقولات مارتن هايدغر الوجودية وطبّقها على اللاهوت. وقد ورد الكلام عنه للمرّة الأولى في "الدين والمجتمع" (1983). معظم الكتابات العربية في هذا الموضوع تعتمد "المقدمة في فلسفة الدين". ومع إشارة بعضها إلى هذا المصدر، الذي يكاد يكون الوحيد في حقله لشموله وأصالته ومصداقيته وأحكامه المعللة والبدائل التي يطرحها، إلا أن عدداً منها يغفل ذكر المصدر، كما لو كان العمل مشاعاً.

وقد أجمعت الأوساط الثقافية، في لبنان والعالم العربي، على أهمية الكتاب، فاعتبره المطران جورج خضر والسيد محمّد حسن الأمين الكتاب العربي الأول في موضوعه، وتوقفا عند أُسلوب المؤلف "الصافي حتى البلّورية" (خضر)، الذي "يقلل من جفاف الفلسفة" (الأمين). وأشار إليه القاضي طارق زيادة كـ "عمل تأسيسي في الفكر الديني اللبناني والعربي". فيما وصف الدكتور جورج قرم أعمالَ المؤلف بأنها "تتويج للأعمال الفكرية المهمة لسلسلة من رواد النهضة ومرجع جامعية أساسية". وقال الأكاديمي العراقي الدكتور إحسان الحيدري إنه اعتمد "المقدمة" مرجعاً أساسياً لكتابه "فلسفة الدين في الفكر الغربي المعاصر". وإذ سَمَّى الدكتور محمّد الشيخ، الأكاديمي والمفكر المغربي، أديب صعب "شيخ فلسفة الدين في العالم العربي"، وصف المفكر التونسي الدكتور الطاهر بن قيزة فلسفة صعب بأنها "إضافة سيدوّنها التاريخ". وفي مصر وَصَفَ الدكتور راضي رضوان، عميد كلية دار العلوم في جامعة القاهرة، أديب صعب بأنه "أيقونة فلسفة الدين" و"أستاذ فلسفة الدين الأول في عالمنا العربي والاسلامي المعاصر". وأَطلَقَ الأكاديمي الدكتور محمّد ثروت، المؤلف في علم الاجتماع الديني، على أديب صعب لقب "أديب الفلاسفة"، وهو اللقب الذي كان يُطلَق على الفيلسوف المصري زَكي نجيب محمود. وكتبت الدكتورة صابرين زغلول، أُستاذة الفلسفة في جامعة عين شمس، إنّها مَدينة لكتب أديب صعب في حبها لفلسفة الدين وتخصصها بها. والكتاب معروفٌ ومعتَمَد على أوسع نطاق في الأوساط الجامعية العربية. وإذ تشكّل فلسفة الدين جزءاً لا يتجزأ من كل دراسة فلسفية، فلا شك أن "المقدمة في فلسفة الدين" لا تقتصر على كونها المصدر والمرجع الأوفى والأكثر مصداقيةً لدراسة هذا الموضوع، بل هي مصدر ومرجع لا يُستغنى عنه. كما إنها من الكتب النادرة التي تطرح فلسفة من إبداع صاحبها.

ليس غريباً أنه بعد هذا الكتاب، صارت عبارة "فلسفة الدين" في لغتنا العربية ملازمة لاسم أديب صعب ولعنوان كتابه "المقدمة في فلسفة الدين".

______________________________________________

ندوة حول كتاب "المقدمة في فلسفة الدين"

كلمة الأستاذ نعوم خليفة

هناك ظاهرة متأصلة في طبيعة البشر ألا وهي الحاجة الى الايمان او العبادة. وقد بدأت هذه الظاهرة أولاًبالإيمان بالظواهر الطبيعية وعبادتها، كونها تجسّد القوة وتدعو الى الخوف، فعبد الانسان الشمس وجعلها إلهاً كما عبد الرياح والحيوانات وقوى غير منظورة واعتبرها آلهة وأطلق عليها أسماء مختلفة.

كما الحاجة الى الايمان، برزت أيضاً مسألةالتوحيد فبالرغم من تعدد الآلهة، كان هناك رئيس عليها هو إله الآلهة، وقد تعددت الألقاب وتنوعت التسميات من زفس الى جوبيتر وغيرها. وقد مثلت هذه الآلهة قوى متعددة ترأسها قوة خارقة مطلقة هي مبدأها جميعاً. وقد حاول الانسان البحث عن هذه القوة الفائقة أو المبدأ الأول أو هذه الحقيقة المطلقة التي تسيّر الكون وفق قوانين ونواميس محددّة. وإذا كان البحث عن الحقيقة هو غرض الفلسفة وهدفها الأبعد، لذلك ارتبطت بالدين وغدا الاثنان وكأنهما توأمان لا يفترقان، فكلاهما يسعيان الى معرفة الحقيقة وتحديد المسار المؤدي إليها والتعريف بالوسائل والطرق الموصلة الى تحقيق راحة الانسان وسعادته. وفي هذا المعنى يعتبر إخوان الصفا أن الفلسفة أولها محبة الحقيقة وأوسطها البحث عنها وفق مقتضيات العقل وقدرته، وآخرها القول والعمل بما يوافق الحق. وهكذا فلا قيمة لأي علم دون عمل.

والايمان من جهته يرتكز على محبة الحق والسعي الى الإحاطة به للوصول الى هدفه الأسمى ألا وهو السلوك بمقتضى ما عرفناه منه، لأنه وبحسب يوحنا الرسول، لا قيمة للإيمان بدون عمل: لا نحب بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحق.

لذلك فالتشابه تام بين الفلسفة وبين الدين من حيث الغرض والهدف لكن الوسائل مختلفة.

وإذا كان الدين يرتكز على الايمان بمجموعة من العقائد او الحقائق، فالفلسفة تحاول ان تحدّد منهجية البحث عن هذه الحقائق والوسائل المؤدية اليها. وإذا كانت الفلسفة تسعى الى البحث عن الحقيقة الأولى المطلقة، وإذا كان الدين ينطلق من الايمان بالحقيقة الأولى المطلقة، لذلك كان البحث الفلسفي يصب أخيراً فيما ينطلق منه الدين. اذا كانت ركيزة الدين هي الايمان فركيزة الفلسفة أيضاً هي الايمان. الايمان في الدين يقوم على الاعتقاد بإله واحد او حقيقة مطلقة مهما اختلفت التسميات حولها، والفلسفة تقوم على الايمان بقدرة العقل على كشف الحقيقة وتحديد الوسائل لبلوغها. واذا كانت غاية الدين التعريف بالخير والشر وهداية الناس الى الطريق الواجب اتباعها لتحقيق الأول وتجنّب الثاني عملياً في السلوك فكذلك الفلسفة تُعنى ايضاً بمعرفة الخير والشر والإرشاد الى الطرق الواجب اتباعها لتحقيق السلوك الأخلاقي.

وهكذا فلا ايمان خارج العقل، والعقل بدوره يرتكز على الايمان بقدرته على كشف الحقائق، فلا خلاف بينهما اذاً بل تكامل تام.

ومنذ الوعي الأول للإنسان رأى أن كل ما يحيط به متبدل ومتغير فظنّ البعض ان حقيقة الوجود وجوهره هو التبدل الدائم، في حين رأى البعض الآخر ان الحقيقةلا يمكن ان تكون متغيّرة متبدلة، فقرر ان الثبات هو جوهر الوجود. وإذا كان الفكر في جدلية متواصلة كما اعتبر هيغل، بحيث كل حقيقةٍ تنفي سابقتها وتبني على انقاضها حقيقة جديدة تكون توليفة من الاثنتين وصولاً الى حقيقة أولى مطلقة، تتخطى كل متغيّر او متحوّل. وهكذا انطلق افلاطون، معتبراً أنه لا يمكن الركون الى الظواهر الحسية المتبدلة في معرفة الحقيقة بل لا بد من وجود حقيقة مطلقة ثابتة تكون موضوع المعرفة الإنسانية، فقرّر ان هناك حقيقة أولى غير مادية او محسوسة، إنما روحانية، هي أساس كل الحقائق ومبدأها، وأطلق على هذه الحقيقة مثال الخير المحض، تأكيداً لنزعة التوحيد أما ما يقع تحت الحواس ليس سوى ظلال او صور للحقائق الروحانية أي المثل، وهذا ما أشار إليه المؤلف في الفصل الأول من الكتاب باعتبار ان المحسوس الرمز سبيل الى غير المحسوس الحقيقة الروحانية.

وإنطلاقاً من الجدلية نفسها إعتبر أرسطو ان لا حقيقة خارج الكائن المحسوس، الذي هو موضوع المعرفة والحقيقة الجوهرية التي يجب البحث عنها، ومع ذلك اضطر الى التسليم بحقيقة ثابتة دعاها المحرك الأول أو الصورة المطلقة والفعل التام. وهكذا كل فكر فلسفي لا بد أن يصل إلى التسليم بحقيقة ثابتة وإلّا انتفت المعرفة واستحال نقلها وسقطت حجة الفكر. وأعود الى التأكيد، فاذا كان الدين مجموعة عقائد او حقائق فإن هذه الحقائق لا تُدرك إلا بالعقل، وبهذا المعنى يعتبر الكندي ان صدق الحقائق الدينية لا يُعرف إلا بالمقاييس العقلية معرفة لا ينكرها إلا الجاهل.

وعلى خُطى أرسطو، رأى الفارابي ان الوجود لا بد ان يرتبط بموجود اول او حقيقة أولى تكون في أساس هذا الوجود وقد أطلق على هذه الحقيقة الأولى تسمية واجب الوجود، او الضروري الوجود القائم بذاته، مستعيناً بنظرية الفيض في تفسير صدور الموجودات عن الأول (الله)، وتبعه في ذلك إبن سينا وقد استند الاثنان في هذه النظرية على افلوطينمن أجل التوفيق بين الايمان والعقل. وابن رشد بدوره رأى ان لا خلاف بين الحكمة والشريعة او بين الفلسفة والدين، فهدفهما واحد وان اختلفت الوسائل المؤدية الى الحق والطرق الموصلة إليه.

وكذلك، نحافلاسفة الغرب من أغسطينوس وتوما الاكويني مروراً بديكارت، وباسكال وسبينوزا  وكانط وهيغل وغيرهم كثر، وصولاً الى الوجودية والفكر الحديث، منحى من سبقهم الى جعل فكرة الله او الحقيقة المطلقة محور تفكيرهم وفلسفتهم سواء نفياً او ايجاباً.

وكتاب المقدمة في فلسفة الدين يُعتبر تأسيساً لفكر منهجي موضوعه الدين يرمي الى وضع الأسس التي يجب ان ينطلق منها، والمنهجية الواجب اتباعها من قبل كل باحث في الدين، فيحدد الموضوع اولاً لينطلق الى وضع منهجية البحث، معرّفاً بمنطلقاته، من تحديد العلاقة بين الدين والفلسفة في الفصل الثاني، لينتقل في الفصل الثالث الى الكلام على وجود الله محدِداً الأسس النظرية للبحث، ينتقل بعدها الى الكلام على الخبرة الدينية أي الممارسات والطقوس والشعائر، ليعرض من ثمً الى مسألة العجيبة او المعجزة، او كما يسميها البعض  خرق العادات، في الأديان المختلفة، ليتوقف في الفصل السادس عند مسألة الشر وأسبابه مستعرضاً آراء الفلاسفة في هذه المسألة، ليصل الى مسألة الاخلاق المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالدين، إذ إن مسألة الخير والشر تشكل موضوعاً مشتركاً بين الاخلاق والدين، فالاخلاق ترتبط بالسلوك أي تطبيق النظريات والمفاهيم الأخلاقية عملياً في السلوك الانساني، وهذا ما يهدف إليه الدين أيضاً، اذاً لا يكفي ان نؤمن بالحقائق الدينية بل ينبغي تطبيقها في المجال العملي، أي في الحياة، فلا قيمة للإيمان بدون عمل، لأنه يبقى فارغاً من أي مضمون وقاصراً عن تحقيق أهدافه. والكتاب يذكّرني بمقدمة إبن خلدون التي وضع فيها أسس علم الاجتماع ومبادئ علم التاريخ.

يصل المؤلف في نهاية المطاف الى الكلام على الوجه الآخر للحياة الذي هو الهدف الابعد أو الغاية القصوى التي تسعى اليها جميع الأديان باعتبارها أن الحياة لا تنتهي بالموت بل وراء الموت حياة أُخرى.

أعتذر إن أطلت، فالكتاب يستحق الكلام بإسهاب، لكنّي عرضتُّ موجزاً سريعاً لمحتواه ولم أُخض بالتفصيل في فصوله، لأن في ذلك تعدّياً على مهمة المشاركين ودورهما في هذه الندوة. اما دوري فينحصر بالتقديم لهما وهذا ما يغبطني ويشرفني.

 

- الدكتور أديب صعب: فيلسوف وشاعر وأكاديمي في لبنان، خرّيج الجامعة الأميركية وجامعة لندن في الآداب والفلسفة والتربية والدراسات الدينية.

له خمسة كتب في فلسفة الدين: "الدين والمجتمع"(1983)، "الاديان الحيّة"(1993)

"المقدّمة في فلسفة الدين"(1994)، وأُعيد طبعهُ عام (1995) وعام (2022)، إضافةً الى كتب في النقد الثقافي، منها "هموم حضارية"(2006)، مع عدد من المجموعات الشعرية، آخرها "حيث ينبع الكلام"(2019) أستاذ الفلسفة طوال عقود، مع التركيز على تاريخ الأديان وفلسفة الدين، في جامعة البلمند شمال لبنان. رأسَ تحرير مجلة (الأزمنة) طوال فترة صدورها في النصف الثاني من الثمانينات، وقد ساهم فيها كبار المثقفين العرب. شارك في مؤتمرات علمية كثيرة، ونشر دراسات في كتب محرّرة ومجلات مختصة في الفلسفة والآداب.

- الدكتور نقولا أبو مراد: متخصص في دراسة الكتاب المقدس واللغات القديمة. حائز على شهادة الدكتوراه من إلمانيا، وقد درَّس مواد الكتاب المقدس في عدد من كليات اللاهوت في لبنان، وخصوصاً في معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في البلمند.

له تفاسير ومقالات عديدة ويحاضر كأستاذ ضيف في عدد من الجامعات في أوروبا.

- الدكتور أحمد الزعبي: أستاذ الفكر السياسي الإسلامي والحضارة العربية في جامعة القديس يوسف في بيروت.

له دراسات في مجال تخصصه، وفي قضايا المواطنة وحقوق الانسان والعلاقات بين الأديان.

____________________________________________________

ندوة الحركة الثقافية أنطلياس ودار النهار  

حول كتاب "المقدمة في فلسفة الدين" للدكتور أديب صعب

الاثنين 6 آذار 2023

مداخلة د. أحمد الزعبي – أستاذ في الجامعة اليسوعية

 

بعضُ الكتبِ أيقونات، لا تشيخ.. وكأنها كتبت للاحتفال بها كل يوم .. وكأنها لا تبحث في سرديات ماضوية بمقدار ما تتطلع إلى بناء عقلِ المستقبل.

من هذه الأيقونات الثريّة.. الثريّة جداً لكن السهلة إلى حدّ الفيضان، كتاب "المقدمة في فلسفة الدين"، وليس (مقدمة في فلسفة الدين) كما يقول أديب صعب، العلامة الفيلسوف المدقق في مقدمة كتابه. هذا العمل التأسيسيّ، الوصفيّ والعياري في آن، هدفَ إلى غرضين، وقد حققهما بتميز:

·      عرض نظريات الفلاسفة حول الدين ومسائله بتحرّي مصادرها الأوليّة.

·      مناقشة هذه النظريات والآراء للخروج بنظرية بفلسفة دين خاصة. وهو فعل فعلاً بطرح نظرية معرفيّة جديدة بديلاً عن نظرية ديفيد هيوم التجريبية لتلائم الدين والتجربة الدينية.

في نظريته، التي صاغها بكثير من المعرفة والتعمّق والاطلاع الاستثنائي على المصادر الأوليّة، ينتفي وضع الدين خارج "الموضوعية" و"العقل"، وتبطل إحالته على مرتبة "ذاتية" تفتقر إلى اليقين، لأن لكل موضوع موضوعيته وعقله ودرجات اليقين الخاصة به، ولأن العقل مفهوم نسبي تابع للمعقول، والمعقول الديني مختلف عن المعقول العلمي وعن أي معقول في نطاق آخر.

مع نظرية المعرفة هذه يطرح كتاب أديب صعب معنى واسعاً للدين، فلا يبقى محصوراً بما يمارسه الناس في أمكنة العبادة خلال أوقات ومناسبات معينة، بل يغدو نطاق الدين الحياة الإنسانية كلها وقد وضعت في ضوء الإلهي أو المقدس. هنا لكل من: ماهية الدين، العلاقة بين الفلسفة والدين، وجود الله، الخبرة الدينية، المعجزات والخوارق، الشرّ، الدين والأخلاق، الروح والبقاء بعد الموت، والخطاب الإلهي، والتعددية الدينية، وطبيعة الايمان، ولغة الدين، وتعليم الدين، والدين والعلم، والدين والدولة.. مكان ودور ومنهجية.

هذه الفلسفة هي دفاع عن الدين، لأنه أمام التهميش والتفسّخ والابتعاد والتشكيك والهجمات.. لا بدّ، قبل الدفاع اللاهوتي، من دفاع فلسفي عن الدين. أي عن مبرر وجود الدين. وهنا أيضاً، تبدو فلسفة الدين شرطاً للاهوت، يقول أديب صعب. ثم ان الدفاع اللاهوتي يحصل على وجه أفضل إذا عرضَ المدافع دينه من غير أن يتعرّض لأديان الآخرين أو يفاضل بينها.

ثمة نقطة شديدة الأهمية، عرض لها الكتاب، وهي أن: اللاهوت يتناول ديناً معيناً، ويحاول ايضاحه والدفاع عنه، فيما تنطلق فلسفة الدين من أسئلة الإنسان الدينية الفطرية، وهي أسئلة مشتركة بين الأديان كلها ولا يختص بها دين دون سواه، وتحاول أن تدافع عن الدين كدين، وليس عن دين بعينه... كلاً، فلسفة الدين ليست لاهوتاً (ولا يمكن لها أن تكون)، ولكن لا يمكن أن يقوم لاهوت بعيداً عن فلسفة الدين. إذ لو لم يكن الدين بمعناه العام مبرراً، فلا يمكن تبرير هذا الدين أو ذاك.

من دانتي (الشاهر الإيطالي: 1265 – 1321)، إلى كونفوشيوس، زرادشت،

الأديان التوحيدية والأديان التعددية..

الطاوية، الهندوسية، والبوذية،

العمل مختبر الإيمان، ففي المسيحية أن من يكتفي بالايمان أن الله واحد لن يزيد فضله عن فضل الشياطين الذين "يؤمنون ويقشعرّون.. ولكن هل تريد أن تعلم، أيها الانسان الباطل، أن الغيمان بدون أعمال ميت" (يعقوب:2-19،20)، وفي القرآن أن الله "خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم أحسن عملاً" (الملك:2).

ما هو الدين؟ من الأمور التي أجمعت عليها الأديان أن هناك نوعا ًمن المحدودية يلازم معرفتنا لله، وهو أننا لا نعرفه في ذاته أو طبيعته.. بل في تجلياته وعبر خبرتنا.. هذا ما عبّرت عنه الطاوية بقولها إن الطاو مستحيل لأنه مغلّف بالأسرار الكونية، لكنه القوة الفاعلة في هذه الأشياء، وإدراكه يحصل بالحدس. لذلك لا تسألُ الطاوية: ما هو الطاو؟ بل كيف يفعل الطاو في الموجودات؟ وهذا هو موقف الهندوسية والبوذية من الحقيقة المطلقة. أما موقف اللاهوت المسيحي الشرقي من هذه المسألة أن معرفة الإنسان لله تتم من خلال "قواته" في الوجود، لا من خلال جوهره أو طبيعته. أما المسلمون فحرصوا على عدم استخدام عبارة "اللاهوت" واستعاضوا عنه بعيارة "علم الكلام" تأكيداً على هذا الموقف. ... من هنا كانت لغة الدين في الكلام عن الله لغة مجاز ورمز.  

الدين والفلسفة ... ولعله الفصل الأهم والأعمق والأخطر في الكتاب:

ما هي علاقة الدين بالفلسفة.. ترابط أم تنافر؟ هل يوجد دين بلا فلسفة أو فلسفة بلا دين؟

أليست الفلسفة "حبّ الحكمة"، أليس الدين كلّه حكمة؟ وإذا كان آباء الكنيسة الأوائل، المدافعون عن المسيحية، وجدوا في المسيحية "الحكمة الكاملة"، لدرجة أن يوحنا الدمشقي (675-749)، اعتبر، كأسلافه من آباء المسيحية الشرقية، أن الفلسفة والعلوم الدنيوية خادمة للاهوت.

و"الحكيم" من صفات الله في الإسلام، والإنسان مفطور على معرفة الله من التأمل في الخليقة التي تعكس تلك الحكمة. والقول بأن الإسلام دين الفطرة، أي دين البديهية أو دين العقل الصافي الذي يستطيع الاستدلال على وجود الله من النظر (في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) (الأعراف: 185). وفي القرآن كثرت دعوة "أولي الألباب" و"أولي الأبصار" أي أصحاب العقول والنظر، إلى الاعتبار والتفكير، أي تحاضي الخطأ في الفهم والاستنتاج. وهذه هي الآيات التي عوّل عليها ابن رشد في كتابه (فصل المقال) ليدّعم رأيه القائل بأن "الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها" وأن "الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا هو القياس" (فصل المقال، 28).

الفارابي ... ابن سينا ...الغزالي...

أبو الحسن الأشعري: "أن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين ومالوا إلى التخفيف والتقليد، وطعنوا على من فتّش عن أصول الدين ونسبوه إلى الضلال، وزعموا أن الكلام في الحركة والسكون والجسم والعرض.. وصفات الباري عز وجل بدعة وضلال".. وردّ عليهم بقوله "أن النبي لم يقل أيضاً إنه من بحث عن ذلك وتكلم فيه فاجعلوه مبتدعاً ضالاً" (الاشعري: استحسان الخوض في علم الكلام: البير نادر، أهم الفرق الإسلامية، 50).

علاقة الدين بالفلسفة في أعمال الفلاسفة من مختلف المدارس والاتجاهات والعصور... وأسّس عليه فصولا أخرى في الكتاب ليناقش قضايا: وجود الله، الخبرة الدينية، العجيبة، مسألة الشر، الدين والأخلاق، الوجه الآخر للحياة.. وفق منهجية عبّر عنها بقوله "يمكن أن نضاعف مسائل فلسفة الدين إلى حدّ لا يبقى معه ملائماً جمعها بين دفتي كتاب واحد. وإذا كان التركيز على بعض المسائل، في أي حقل من حقول المعرفة، آتيا من كونها مسائل أساسية لا يستقيم أي بحث بدونها، فهناك مسائل أخرى، قد تكون بعض أهميتها قائمة على كثرة معالجتها في زمان ومكان معينين، أو على تقدير الكاتب لأهميتها الظرفية رغم ضآلة التطرق إليها".

في الإشكالية؟

هل من أثر للفلسفة في تجديد الفكر الديني؟ أو لماذا نحن محتاجون إلى فلسفة الدين؟ كيف نقطع الطريق على القراءات المتطرفة للدين، ووظيفته، ودوره، ورحابته؟

إن واحداً من أوجه محنة التفكير الديني السائد في العصر الحديث، يكمن في إعلاء قيمة النص، من أجل تحجيم حقّ العقل في التفكير والمساءلة، وحق العقل في التفكير في دلالات النص، وحق العقل في نقد أعمال السلف، وذلك بسبب ترسيخ الأفكار (القطعية) في تلك الطريقة في التفكير.

يتناسى هذا التيار أن اجتهاد العلماء في مجالات علوم الدين؛ هي تنزيل للمطلق (الكتاب والسنة) في حركة النّسبي (الواقع المتغير)، وتنزيل للرّوحي على حركة الواقع الإنساني، ولما كان الواقع متغير، والبيئات مختلفة، كان من الضروري للفكر الديني أنْ يتجدد بتجدد واقع الناس ومشكلاتهم، لأن الدين الواحد لا يؤدي في الواقع الاجتماعي المتغير بصورة واحدة.

إذاً نحن في محنة كبرى، لأننا لا نميز بين ما هو مقدس وحدود هذا المقدس، وما هو بشري وحدود هذا البشري، وذلك لأن توسيع دائرة المقدس على حساب البشرى، هو سعى نحو سجن الواقع في النص، وحركة الواقع تنفلت من أي قيد أو سجن يمكن أن يسعى له معلبو الأديان.

من ثم كانت الحاجة والضرورة الملحة إلى تجديد الفكر الديني، باعتباره يمثل المنتج البشري حول فهم النصوص المؤسسة لكل دين، ولما كان الناس يعيشون فى واقع متغير، فإن مطلب تجديد فهم الدين، أصبح مطلباً ملحاً وضرورياً، لاستمرارية حضور الدين بشكل فاعل في المجتمع، وإذا كان التجديد مطلباً ملحاً، وكان التجديد هو عبارة عن فاعلية العقل فى فهم النص وتفسيره، وتقديم قراءة جديدة له، فإن تفعيل المقدرة العقلية لدى القائمين على تجديد الفكر الديني أمر في منتهى الأهمية، ولكن كيف تتأتى مسألة تفعيل الممارسة العقلية؟ إنّ هذا لا يتمّ إلا عبر تعليم الفلسفة (فلسفة الدين) لمن يقومون على شأن تجديد الفكر الديني، إنّ الفلسفة تكسب هؤلاء فاعلية عقلية ومقدرة نقدية، ويمكن أنْ نحدّد الأثر الإيجابي للفلسفة في  جوانب عدة:

أولاً: أنّ الفلسفة هي الصورة العليا لفاعلية العقل البشري في انتاج الأفكار، ولذا فإن تعلمها لأصحاب تجديد الفكر الديني، يمكن أن يمدهم بأفق واسع لرؤية الأديان ودراستها، وهذا ما يتجلى في مبحث فلسفة الأديان، والذى يبرز الأهداف العليا للأديان، وعلاقتها بالعلوم والمعارف   .

ثانياً: تقدم الفلسفة المعين الخصب للمنهجيات الحديثة في العلوم الإنسانية، ولعل أهمها البنيوية، والظاهرية، والتفكيكية، والهرمنيوطيقا (التأويلية ) والسيموطيقا (علم الدلالات)، والتاريخية الاجتماعية، وهذه المناهج هي نتاج فاعلية العقل البشرى، وهذه المناهج فاعلة في دراسة الظاهرة الإنسانية عامة، والظاهرة الدينية خاصة، وما تتميز به هذه المناهج أنها تفتح لصاحبها آفاقاً جديدة في دراسة علوم الدين من كافة النواحي، وتربط الدين بحركة الاجتماع البشرى وتطوره، ولذلك فإن هذه المنهجيات فاعلة في تقديم قراءات جديدة للدين من ناحية، وللفكر الديني والتراث من ناحية أخرى، وهذا ما يثرى مسألة تجديد فهمنا للدين، وتجديد الفكر الديني.

ثالثاً: وتسهم دراسة الفلسفة بالنسبة لصاحب الفكر الديني بأنها تُمتعه بأفق مفتوح، وعقلية منفتحة في النظر للأفكار والمعتقدات، كما أن انفتاحية العقل على الآخر يجعله باحثاً عن المشترك الإنساني العام بين الثقافات والأديان، وهذا ما يرسخ للتعايش وقبول الآخر.

رابعاً: وتمنح دراسة الفلسفة لأهل الاختصاص في الفكر الديني رؤية جديدة للعالم والفكر تقوم على النسبية، فتحدث تحولاً في جوهر اعتقادهم في النظر للاجتهادات البشرية الدينية بأنها أفكار نسبية مقيدة بزمانها واجتهادات أصحابها، ولا تتسم بصفة الإطلاق.

خامساً: إنّ دراسة الفلسفة كان لها تأثيرها الفاعل في بزوغ حركة الإصلاح الديني في أوروبا أولاً، وفي ظهور وتطوّر حركة الإصلاح الديني في العالم الاسلامي ثانياً، وينبغي أنْ نُدرك أنّ العمائم العظيمة، التي صاغت أفكار حركة الإصلاح الديني من أمثال: رفاعة الطهطاوي، والأفغاني، ومحمد عبده، وأمين الخولي، وأحمد أمين، وخالد محمد خالد، ومحمد البهي، وعبد الله دراز، قد قرأوا أو درسوا الفلسفة، وكانت لها تأثيرها الخلاق في صياغة منتجهم الفكري والعلمي الذى خلده لنا تاريخ الثقافة الإسلامية، ذلك المنتج الذى يعلي من قيمة العقل البشري، ويعلى من تغير الزمان، وضرورة تجديد فهمنا للدين في ضوء التطور والتغيير  .

خاتمة:

مقارنة بين أعمال أعمال أديب صعب وعبد الجبار الرفاعي ووجيه قانصوه وساري حنفي.

وأقصد بأعمال أديب صعب: سلسلة "الدين والمجتمع"، "الأديان الحيّة"، و"المقدمة في فلسفة الدين"، "وحدة في التنوّع"، و"دراسات نقدية في فلسفة الدين"..

لكن هذا الكتاب (عميق، وصافي وبلوري) بحسب المطران جورج خضر، فالفكر الديني كان يعاني من فجوة مخيفة، قال محمد حسن الأمين، فـ "جاء أديب صعب بإنجازه الضخم ليملأ هذا الفراغ"، فكان بحق، كما يقول محمد الشيخ، (شيخ فلسفة الدين في العالم العربي).

نحتاج هذه الأعمال لـ :

·      جسر الهوة بين علوم الشريعة والعلوم النظرية والإنسانية.

·      تحويلها لمادة منهجية في كليات اللاهوت والدراسات الإسلامية والمقارنة والفلسفة والحضارة...

توجيه شكر عميق لدار النهار والحركة الثقافية – انطلياس.