ندوة حول كتاب د. جوزف أبو نهرا  Les moines et l’histoire rurale du Liban1710-1960
 
كلمة سعاد سليم 

ملخص

ان كتاب الدكتور جوزيف ابو نهرا عن دور الاديار في الحياة الريفية في لبنان من القرن الثامن عشر حتى القرن العشرين يشكل موسوعة لتاريخ لبنان الزراعي والريفي. فالارض كانت مصدر الانتاج الأساسي. وهو يظهر كيف تطوّرت الأوقاف في نموّها تماشيًا مع أوضاع كل عصر وحاجات السكان.

وهو يصنف أنواع الانتاج المختلفة وأنظمة الري وعقود الشراكة وأنواع الضرائب. ويستعرض مختلف الرزنامات وطرق التأريخ المعتمدة. الى جانب العملات والأوزان المعتمدة في المنطقة في ذلك الوقت.

 

كما يتوسع الأستاذ أبو نهرا بالحديث عن دور الدير الثقافي في تأسيس أول مطبعة عربية في لبنان وتأسيس مدرسة ثانوية في رحاب الدير.يعتبر هذا الكتاب مرجعا للطلاب والباحثين في مجال تاريخ لبنان و المنطقة.

_________________________________________

نص المداخلة في تقييم كتاب الدكتور جوزف أبو نهرا :

Les Moines et l’Histoire Rurale du Liban, CERPOC,2021.

د. سيمون عبد المسيح

1-  ينتابني شعور قلق يتعلق بمرور الزمن، ذلك أن علاقتي بالنواة الأولى لهذا الكتاب تعود الى النصف الأول من الثمانينات، وقد مضى أكثر من 40 سنة على قراءتها، ولا يزال انطباعي أنها كانت ثورة داخل النمط المنهجي والتفسيري الذي كان سائدا في الحقل التأريخي في لبنان. لن استرسل في هذه المقدمة في الإشارة الى العلاقة الشخصية التي نسجت مع أستاذي الدكتور جوزف أبو نهرا منذ سبعينيات القرن الماضي كي لا أؤثر مسبقا بوجود تحيز، ولكني لم أر مهربا من التوقف عند هذا المسار الطويل من "التأثير" باعتباري أعتز بقوة بانتمائي الى التيار التأريخي الذي كان أبو نهرا من أركانه مع زميلي المشاركين في قراءة هذا السفر / الكتاب الموسوعي (بطرس لبكي وسعاد أبو الروس سليم).

2-  فكرت مليا بمفهوم "التأثير" وكيف يمكن لمؤلف ما أن يكون بداية تحول في النمط التفسيري، أي كيف يصبح كتابا ما عملا تأسيسيا في المسار الإبستمولوجي لحقل معرفي معين. يبدأ التأثير من فكرة أن أرشيفا محليا (وبخاصة أرشيف الأديار) يمكن أن يكون مادة للعمل المختبري، وانطلاقا من مادته يمكن إعادة كتابة التاريخ، حيث تبرز الحاجة الى استثمار كافة أنماط التفكير التاريخي النقدي والاستنتاجي والاستقرائي.

3-  إذا الثورة كانت منهجية وتنطلق بشكل أساسي من كيفية استثمار أرشيف الأديار بما يحتويه من أوراق مفردة هي بخاصة عقود بيع وشراء ومقايضة للأرض وتحديدها ونزاعاتها والشراكة عليها من جهة، ودفاتر المحاسبة التي يمسكها الرهبان وفق علم وأصول مصدرهما مدينة حلب بتراثها التجاري العريق، وهذا يعني أن العقلنة ليست حكرا على الحضارة الغربية كما يتصور عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (M.WEBER).

4-  فالتاثير الأول هو في كيفية تحليل تلك العقود من خلال قراءة ذكية نطل من خلالها على وقائع التاريخ الريفي وعلى جغرافيته وطوبوغرافيته وأسماء أماكنه وأنواع زراعاته، وبنيته الاجتماعية وأطرافها من بائعين ومشترين ومحررين ومتمنين وشهود، والإطار القانوني الذي يحكم علاقاته التبادلية من خلال الصياغات الشكلية والمضمونية للعقود، وحضور النظام الضرائبي من خلال ذكر قيمة الميري المتوجبة على الأرض موضوع العقد، وصولا الى استثمار تواريخ تلك العقود وروزناماتها المتعددة بما يعكس التنوع والتثاقف الثقافي، ولكن كل ذلك في سياق ديناميكي يمتد على الزمن الطويل، وباستنتاج جوهري هو خصوصية الملكية الفردية في جبل لبنان.

ولكن على أهمية التحليل للعقد المفرد – وكلمة التحليل تأخذ هنا كل معناها بمعنى التوقف عند كل مكون من مكونات العقد – فإن التحليل الكمي الممتد على الزمن الطويل، بمعنى تحويل أعداد العقود أكانت بيعا أو شراء الى جداول رقمية وترسيمات بيانية بحسب السنين، يقدم معطيات تاريخية لها قيمة كبيرة، بحيث يستنتج منها تموجات الحركة العقارية والقدرات الشرائية للدير مثلا كمشتر كبير ومصادر هذه القدرات من جهة والعوامل الاقتصادية والمالية الضاغطة على البائعين، وعلاقة كل ذلك بتطورات الاقتصاد العام. أفليس من معنى لتطور التوسع العقاري للدير على مدى قرني الثامن عشر والتاسع عشر وتحوله الى بائع لبعض تلك الأراضي في القرن العشرين؟ والأمر عينه ينطبق على بعض عائلات الخنشاره بشكل معكوس حيث تحولوا الى مشترين منذ ثلاثينيات القرن العشرين بعد أن كانوا بائعين؟ هذا هو المعنى الذي يشكل جوهر التحليل التاريخي.

5-  "إن التاريخ بالأرقام ثورة في فهم التاريخ" كتب فرنسوا فوريه (F.Fouret). لقد نشأت الدراسات التاريخية التي تعتمد وتستند الى الاقتصاد والإحصاء، في المجتمع الأميركي زمن الثورة الرأسمالية الديمقراطية حيث ظهر "التاريخ الاقتصادي الجديد". والمنهجية المستعملة في بحوث هذا التاريخ مأخوذة بحذافيرها من الاقتصاد الكمي. ولقد ارتبط نمو هذه الأبحاث باختراع الحواسيب الالكترونية القوية، القادرة على خزن وتعبئة آلاف وربما مئات الآف المعلومات. فالإنجاز الذي كان يتطلب تضافر جهود عشرات الباحثين على مدى سنين عديدة أصبح في متناول فرد وفي ظرف زمني معقول. وبفضل الحاسوب استطاع الباحث المستقل أن يستغل معلومات رقمية هائلة.. وهكذا بدأت ثورة الكم أو الرقم في البحوث التاريخية، وبخاصة في البلدان التي تملك وثائق رقمية. إن هذا الاتجاه الناتج عن ثورتين (في علم الاقتصاد وفي العلوم الدقيقة) والمليء بالأرقام والجداول والرسوم البيانية هو تاريخ كمي أو إحصائي، ومن منظور الوثائق المستعملة هو تاريخ جدولي بحيث لا بد أن تتوافر مجموعات من الأعداد المتناسقة في الحقل الواحد (الأسعار، الكميات، المسافات، المساحات .. ). التاريخ الكمي وارد في ظروف معينة، لا يتحقق إلا حيث توجد جداول إحصائية وهذه لا توجد في كل مكان وزمان . ومن مثل أديار الرهبان يؤمن هذه الشروط الصعبة حيث تم الحفاظ على دفاتر المحاسبة لأكثر من ثلاثة قرون؟

6-  إذا تبدأ القصة من هنا، حيث "بصمة" أبونهرا القوية. "بصمة" ترتبط بنظرية "المؤلَف" الذي يشكل تأسيسا مؤثرا ومرجعية لا يمكن تجاوزها. ولكن من جهة يستمر أبو نهرا في خط مدرسة الخصوصية اللبنانية بتمايز استقلاليته الذاتية، وسيادة الملكية العقارية الخاصة، والوطن الملجأ لممارسة حريات الفكر والمعتقد، حيث تم التخلي عن سهول سوريا الى معاندة تحويل الصخور في جبل لبنان الى جنات زراعية. إذا خصوصية ضمن التنوع العثماني، وحيث تبرز جدلية الاقتصاد والسياسة. ففي هذه الخصوصية لا يقتصر التنوع على التركيبة السكانية في منطقة جبلية تؤمن الحرية، بل أيضا على أنماط الملكية العقارية التي تؤكد عقود شرائها وبيعها وشراكتها ومنازعاتها على سمة "الملكية الفردية". حتى أن الأوزان والمقاييس والقوانين والأعراف والقضاء تؤكد سمة الخصوصية، وحدها النقود استثنيت. إن العديد من القضايا المطروحة في مسائل الاستقلال الذاتي لا تنتمي الى الاندراج في "إيديولوجية لبنانية " كما يحلو لبعض الاتجاهات الاتهام، بل هي وقائع تاريخية طرحت في أزمنتها، حيث فشل تجربة عمر باشا النمساوي لحكم عثماني مباشر هي واقعة، محاولات المتصرف داود باشا توحيد الأوزان والمقاييس في جبل لبنان مع تلك التي في السلطنة هي واقعة، التمسك بالهوية اللبنانية ورفض المشاركة في مجلس المبعوثان هي وقائع، الاعتراض على ربط القضاء اللبناني بالنظام القضائي العثماني ... في تاريخية الأفكار إذا يندرج جوزف أبو نهرا في سلسلة المؤرخين الذين يؤكدون على مفهوم الحرية بربطه بالتكوين الجغرافي والجيولوجي للبنان وانفتاحه على الغرب الأوروبي، ومفهوم "الخصوصية" بالتأكيد على الاستقلال الذاتي والملكية العقارية الخاصة. إن هذا الإندراج هو نتيجة قناعة انبثقت من العمل على الأرشيف، فهي استقرائية أكثر منها استنتاجية، إيمان راسخ أكثر منه تماه سياسي وعقائدي.

في نظرية "المؤلَف" يأتي مفهوم "البصمة المحددة" التي دمغها أبو نهرا في كتابه، في الجماعة التاريخية العلمية وفي طلابه، من خلال المستوى العلمي الرفيع، والابتعاد عن التحيزات والإيديولوجيات. فالبصمة تعني وجود تأليف فردي ومتميز مغاير لمجموعة معروفة من الخطابات. فكيف يولد نص يثري الخطابية السائدة أو يتجاوزها؟ إنها الإمكانات الفردية التي يتميز بها أبو نهرا : إعداد صلب في كل المراحل التعليمية، يجمع الحقوق الى التاريخ والعلوم السياسية، وتجربة طويلة في التعليم، واتقان للغات، وصفات المؤرخ النموذجي في التنظيم والجَلَد . كل ذلك ساهم في الانتقال من الفردية الى النموذج، ومن الواحدية الى الخطابية، أي من مؤلف فرد الى مؤسس لخطابية، أي أن "مؤلَف" أبو نهرا سمح من خلال نواته الأولى – أطروحته المقدمة في ستراسبورغ – بظهور مجموعة من "التماثلات"، وربما أيضا وبعد نشر الكتاب بمجموعة من الاختلافات.

7-  نتناول "المؤلَف" ضمن نظرية النماذج، إذ يشكل أبو نهرا من جانب، استمرارا في تقوية فكرة الحرية والخصوصية والملكية العقارية المتميزة، والعلاقة مع روما ومع الغرب عامة.. وهو في هذه الاستمرارية يواجه اتجاهات وأفكار أخرى، وفي علاقات القوة هذه، فإن أبو نهرا فارس كبير في المعركة، يحسمها بقوة أفكاره وشخصيته، وتسلسل منطقه وقوة حججه، وابتعاده عن الإسقاط التاريخي والخطاب الإيديولوجي. ولكن أبو نهرا من جهة ثانية هو ثورة ضمن نماذج التفسير التاريخي اللبناني، في تركيزه على التاريخ الاجتماعي – الاقتصادي والثقافي (دون إهمال الأنواع الأخرى السياسية والدبلوماسية)، ثورة في كتابة تاريخ الناس بدل تاريخ الحكام، وثورة في اعتماد المنهجية التاريخية المبنية على تحليل الوثائق، ويتبين من خلال القسم الأول من كتابه كيف طبق مستلزمات مهنة المؤرخ كما حددتها المدرسة الوضعية، ولكنه بعد أن قام بعمل المؤرشف والخازن، انتقل الى تطبيقات "التاريخ الجديد". يسرد أبو نهرا في هذا السياق المسار الفينومينولوجي /الظاهراتي الذي اعتمده منهجيا في العمل على الأرشيف تصنيفا وتبويبا وكيفية استثماره، كما يلاحظ أيضا تحوله الى أنتروبولوجي في مناسبات عديدة، ففي حديثه عن شجرة الزيتون كشجرة متوسطية، "شجرة الأرملة" التي لها القدرة على العيش في تربة قاحلة، ينتقل الباحث الى وصف استخدامات الزيتون في المطبخ اللبناني التقليدي، غير غافل عن دور الزيت في الإنارة وفي صناعة الصابون، يتناول أبو نهرا في سردية عاطفية مشهد الزيتونات المعمرات قرب مدافن الدير، وكيف تمتد جذورها الى تربة تلك المدافن، مثبتا نص حديث أجراه مع أحد الطلاب الإكليريكيين في الدير: " نحن مسرورون بقطاف الزيتون المزروع من قبل الرهبان الذين سبقونا، ولكن فرحنا غير مكتمل لأننا لم نعمل على زراعة زيتونات جديدة للأجيال المستقبلية" (أبو نهرا، 2021: 299). كما تتبين هذه المنهجية الأنتروبولوجية في تأكده من المساحة المطلوبة لزراعة أشجار التوت المنتجة لحمل من الورق حيث يتحدث "عن الأبحاث المختلفة والدراسات الاستقصائية (les enquetes)التي أجراها مع الفلاحين القدامى مقدما فكر ة تقريبية عن مختلف المقاييس الزراعية المستخدمة في المجتمع الريفي، قبل تعميم النظام المتري في عهد الانتداب الفرنسي" (أبو نهرا، 2021: 414). والمنحى الأنتروبولوجي يبرز أيضا في التقصي عن مصير العائلات التي باعت أملاكها في الخنشاره بمقابلات مع كبار السن (أبو نهرا، 2021: 571).

8-  ولكن أين يُحدث البروفسور أبو نهرا "الثورة العلمية" وبخاصة على مستوى المنهجية التاريخية؟ وعلى مستوى التفسير التاريخي بإعطاء الأهمية للبنى الاجتماعية والاقتصادية حيث لا يبقى من التاريخ السياسي سوى الإطار التحقيبي اللازم. فهل انبثق في السبعينيات "نموذج النطاق المركزي" في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية؟ وهل هذا النموذج ابتداع محلي أم خضع لتأثير مدرسة الحوليات الفرنسية والتاريخ الجديد وتأثير بعض المستشرقين من أمثال دومينيك شفاليه وإيرينا سمليا نسكايا؟. لا يمكن لنا أن نغفل تأثير المناخات السائدة في أقسام التاريخ في الجامعات في لبنان المشجعة على استثمار الأرشيفات المحلية وبخاصة أرشيفات الأديار وأرشيفات المحاكم الشرعية.

9-  لم يتم حتى الآن مسح الدراسات التاريخية التي استندت الى أرشيفات الأديار، والحكم على منهجياتها وتفسيراتها ودورها في تقدم الكتابة التاريخية. الأكيد أن مساهمة أبو نهرا تشكل ثورة داخل "الباراديغم"، في تجاوز التاريخ السياسي، وفي التخلي عن النظريات الإيديولوجية (الدينية منها والصراعية) في مقاربة أرشيف الأديار، فلا أساطير حول كيفية التوسع العقاري أو محاولة للتستر باعطاء أهمية للبعد الروحاني من جهة، ولا خطابات عن الصراع الطبقي أو التهديد بالإصلاح العقاري والتشكيك بقرون من عمل الرهبان وتعبهم وعقلنتهم من جهة ثانية.

10-                 يعتمد الكتاب بالإضافة الى الأرشيف الأصلي، مبدأ "التاريخ الطويل" (1710-1960)" بما يسمح بمعاينة القوى العميقة في التاريخ التي لا يمكن ملاحظتها وتحديدها إلا من خلال الحقبة الطويلة" (أبو نهرا، 2021: 37). فالزمن الطويل محدد أساسي لفهم التطورات والتغيرات الاقتصادية – الاجتماعية للدير ومحيطه، ولفهم حركة التأسيس والانفصال بين الرهبان الحلبيين والبلديين، وانتقال الدير من الحماية والهيمنة في ظل الأمراء اللمعيين الى الاستقلالية والقوة، ولمعرفة تموجات التوسع العقاري وارتباط هذا التوسع بانتقال الدير من شريك ليصبح هو ملاكا يعمل في أراضيه سنة 1826 44 شريكا. والباحث يستخدم طريقة الزمن الطويل لمعالجة العديد من المفاهيم المفتاحية في التاريخ الاقتصادي مثل الضرائب والأوزان والمقاييس والنقود، بحيث يشكل الكتاب موسوعة باستطاعة الباحث أن يجد فيها التطور الاشتقاقي والدلالي لمصطلح معين.   

11-                 لي بعض الملاحظات المتعلقة بالتحقيب العقلي - المنهجي (بتقسيم الفترة الزمنية الى فترات كل منها 25 سنة) المفروض على واقع وثائق الدير، وعلى التحليل العام، بحيث يمكن لبعض الاستنتاجات (مثلا ما يتعلق  بتطور الأجور وأسعار الأراضي أو انهيار النقد العثماني) ألا تكون متطابقة تماما والتطورات الفعلية التي حدثت في الواقع الاقتصادي والمالي والنقدي. إن إعطاء الأولوية في استثمار الأرشيف الى المنهج الاستقرائي، ووضع أدوات منهجية منطقية عقليا ولكنها في أحيان كثيرة غير متناسبة مع التحقيبات العامة للأوضاع السياسية والاقتصادية والمالية والتي عليها إجماع فيما بين المؤرخين الاقتصاديين لتاريخ الدولة العثمانية الاقتصادي والمالي، قد يدفع بالنقد التاريخي الى التساؤل عن عدم إحداث التناسب بين الخاص والعام، بين المعطيات المحاسبية للدير والتحقيبات العامة. ولكن ربما تكون المقارنة -على سبيل المثال- بين الانهيار النقدي العثماني المعروف بين 1780 و1845 والمدروس من قبل المؤرخين الماليين وما تقدمه الوثائق المحلية هو المعيار للحكم على صحة الاستنتاجات وتطابقها، رغم أن التحقيبات المقترحة عقليا هي غير متناسبة مع التطورات الفعلية بدقة. واشتقاقا من هذه الملاحظة، يطرح القارئ وهو يتقدم في قراءته الكتاب، انغلاق التفسيرات والتحليلات على الدينامية الداخلية للدير، وكأنه التفسير الأكثر تأثيرا على حركة شراء الأرزاق وبيعها، حيث لا يظهر بقوة عاملان خارجيان مؤثران: الوضع الاقتصادي والمالي في محيط الدير وفي جبل لبنان وفي الإطار العثماني العام من جهة، والوضعية الاجتماعية – الاقتصادية للبائعين وهم من الأمراء اللمعيين ومن الفلاحين. والسؤال المطروح هو: هل مجرد قرار الدير بالشراء ( وقد حقق تراكما ماليا) يتحقق دون وجود ظروف خطيرة تدفع بالبائعين الى التخلي عن ملكيتهم العقارية؟ ثم ألا يؤثر الوضع الاقتصادي والمالي الضاغط على آليات البيع والشراء؟

يبدو التحليل والتفسير الإقتصاديين النابعين من أرشيف الدير، وبالرغم من أنهما يؤديان الى ابتداع بعض التعميمات الصحيحة – مثل أن حركة الشراء التي حققها الدير قد حدثت في القرنين الثامن والتاسع عشر، في حين أن حركة البيع تميز القرن العشرين، إلا أن ربط حركة التوسع العقاري بجهد الرهبان فقط يحتاج الى مزيد من التفسيرات تتعلق بالضغوط الضرائبية والإنهيار النقدي واختلال التوازن بين المدخول والمصروف عند البائعين، ما يسمح ببناء نماذج وأنماط اقتصادية . فمثلا لا تظهر في الدراسة عملية الانهيار الاقتصادي والمالي التي وصلت الى حد الدمار الشامل لاقتصاديات الشرق الأوسط العثماني سنة 1845، او بين  مسار انهيار المالية العامة وفقدان النقود العثمانية لقيمتها من جهة والسياسات الضرائبية من جهة ثانية، وانفتاح الأسواق المحلية أمام التجارة الأوروبية وتدمير الاقتصاد بما فيه من حرفيات وإنتاج زراعي – صناعي مرتبط بها، وقطع التواصل بين اقتصاديات المناطق العثمانية (أي باختصار تدمير براعم ومؤشرات الرأسمالية المتمحورة على ذاتها) او عملية تراجع التجارة بين 1830 -1914، وتأثير كل ذلك على الميكرو – إقتصادي بما فيه عمليات انتقال الملكيات العقارية.

إن المنهجية الاستقرائية المطبقة على أرشيف الدير (من الخاص الى العام) كان يمكن لها أن تؤدي الى استخلاصات متطابقة أو متناقضة مع الدراسات المونوغرافية في مناطق أخرى، أو مع الدراسات الكلاسيكية التي تناولت التاريخ الاقتصادي للشرق الوسط.

12-                 بالإضافة الى الأفكار النيرة المتعلقة بالاستفادة من عمل البروفسور أبو نهرا في الميدان البيداغوجي وفي البناء الوطني، والتي اقترحها البروفسور أنطوان مسره في مقدمته القيمة لهذا الكتاب، نضيف بعض الأفكار السريعة حول القيمة التربوية للكتاب :

أ‌-      تشكل المعرفة الأكاديمية المبنية في هذا المؤلف – وهي معرفة ستحوز تقييما علميا رفيعا من الجماعة التاريخية العلمية – مرجعية أكيدة للمعرفة المدرسية، إن على مستوى إعداد المعلمين (وبخاصة في المقررات التي تتناول تاريخ لبنان الحديث والمعاصر) أو لجهة مرجعية كتب التاريخ المدرسية بحيث يتم التحويل التعلمي (إعادة إنتاج المعرفة العالمة لتصبح متلائمة ومستويات المراحل التعليمية).

ب‌-تشكل الوثائق المنشورة في هذا الكتاب أو التي يشار الى أماكن تواجدها (بعد عمل الفهرسة والتصنيف) مادة هامة كمستندات، يضاف اليها بعض الجداول والرسوم البيانية الواضحة، في إطار إكساب التلاميذ مهارات طرائقية مثل تحليل الوثائق – النصوص والخرائط  والجداول والرسوم البيانية.

يتضمن الكتاب أمثلة عدة عن تطبيقات أنماط التفكير التاريخي المتنوعة : الطريقة النقدية، الطريقة الاستنتاجية والطريقة الاستقرائية.. بما يساعد على تحويل تدريس التاريخ من حالته الكمية التي تنقل المعرفة مقطوعة عن مسار إنتاجها، الى مسار نوعي في إطار التدريب على كيفية بناء الحقيقة كما يمارسها المؤرخون. 

________________________________________________________

ملخص تقديم الأستاذ الدكتور بطرس لبكي لكتاب العميد جوزيف أبو نهرا

"Les moines et l’histoire rurale du Liban"

"الرهبان والتاريخ الريفي في لبنان"

 

يعرض العميد الدكتور جوزيف أبو نهرا في كتابه الموسوعي العلاقات المتشعّبة والوثيقة بين الرهبان والتاريخ الريفي في لبنان وذلك انطلاقاً من أرشيف دير مار يوحنا الخنشارة واديرة أخرى في المتن وكسروان والشمال والشوف. وكذلك استعمل الارشيفات الحكومية بتنوعها والارشيفات الخاصة. وقد حلل الوقوعات العقارية التي ساهمت في تملّك الرهبان. كما وصف استراتيجية الرهبان العقارية التوسعية الهادفة الى تشكيل حيازات كبيرة. وحللّ بعد ذلك علاقة نشاط الرهبان بطبيعة الأرض وحاجات الأسواق: ولكل نوع من الأرض انتاجه وأسواق هذا الإنتاج. ووصف كيف ساعد الاستقلال المحلي النسبي لجبل لبنان في تمتين وتطوير الملكية الخاصة للأرض.

كما وصف مشاكل الأرض الأساسية في مجال تحديد حدود الحيازات وريّها. وانتقل بعد ذلك الى شروط النشاط الاقتصادي للرهبان من خلال وصف المقاييس المعتمدة في الاوزان والمكاييل وكذلك العملات المستعملة وتطور الأسعار. فانتقل بعد ذلك الى الاقتطاع الضريبي وتاثيره وثقلَهُ على الريفيين الذي ولّد العاميات والانتفاضات الأولى في القرنين الثامن والتاسع عشر وادت الى الغاء الاقطاع وإعادة تنظيم جبل لبنان الحديث في اطار متصرفية. كما تناول علاقة الرهبان بالضريبة التي كان يدفعون معظمها على الأملاك بما فيها عمليات "البلص".

وكذلك يصف الدكتور أبو نهرا كيف انتقل الرهبان من شركاء عند الامراء الى ملّاكي كبار يستغلّون ملكياتهم عبر شركاء.

واخيراً يتناول الدكتور أبو نهرا الجوانب الاجتماعية والثقافية لدور دير مار يوحنا الخنشارة فيصف الدور الاقتصادي كما الدور الديني والاجتماعي وعلاقاتهم بالسلطات الدينية والسياسية.

ثم ينتقل الى الاشعاع الثقافي للدير مار يوحنا الخنشارة من خلال اول مطبعة باللغة العربية في المشرق انشأها في هذا الدير الراهب عبدالله زاخر. كما الى دور الرهبان في خدمة الثقافة من خلال المدارس وحفظ التراث الثقافي وانشاء اول مكتبة عامة في المتن وبروز بوتقة من الرهبان العلماء والادباء انطلاقاً منه.

يكتنز هذا الكتاب سرداً بالأرشيف والكتب والمقالات المستعملة يغطي التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبنان في المنطقة المحيطة به، كما مصادر التاريخ الاقتصادي والاجتماعي فيه وهو عملٌ موسوعي يستحق التعريف به واستعماله على أوسع نطاق. وهو عمل عالم لبناني متنوّر ومتواضع. وهكذا يكون العلماء.

بطرس لبكي

انطلياس في 6/3/2023