ندوة حول كتاب د. مكرم رباح:  النزاع على جبل لبنان، الذاكرة الجماعية وحرب الجبل

كلمة الأستاذ نايل أبو شقرا 

كلمتي في مناقشة كتاب الدكتور مكرم رباح " النزاع على جبل لبنان الذاكرة الجماعية وحربالجبل .

المكان : الحركة الثقافية أنطلياس

الزمان : 9 آذار 2023

أيها الأخوات والإخوة

لا يستغربن أحد أن أنعت القوات اللبنانية بالعدو والجيش اللبناني بالجيش الفئوي، لقد كانت هذه المصطلحات هي لغة الحرب ... تبدلت الظروف اليوم، فأضحى صديقاً من كان عدواً ... هذا ما قاله شريف فياض الذي شارك بفاعلية في حرب الجبل، وخلال سنة 2016 ويوم تشييع فياض في مسقطه بشتفين الشوف، كانت المفاجأة، حضورعدوه بالأمس،فؤاد أبو ناضر رئيس أركان القوات اللبنانية سابقا، حيث خاطب فياض بقوله : " أنا في قريتك أخيراً، إنما لوداعك، أنت وأنا كنا عدوين ضاريين، إلا أنني أعتبر أنك أقرب إلي من نسيبي . أما وليد جنبلاط وبعيد نهاية حرب الجبل، كان واضحاً في الصاقه نزعة القتل  بالدروز  بقوله " لقد حاولت أن أجنب الدروز هذه النزعة إلى القتل بلا رحمة، وأنا أتحمل باسم الدروز مسؤولية المجازر التي حدثت بحق بقية الطوائف، المسيحيين خاصة، أما الشيخ سامي أبو المنى وفي تكريم المطران أبوجودة، فقد محى حرب الجبل بقوله :

     كأنما نجمة التوحيد تهتف كي تلقى الصليب المسيحي الذي هتف

  هل هي المجاملة، أم هي التقية المتمظهرة بالتناسي، أم هي سياسة الخاسرين في الاعتراف بالخطيئة .  

  الدكتور مكرم رباح يجيب في كتابه " النزاعات على جبل لبنان  الذاكرة الجماعية وحرب الجبل" بسلسلة من  سرديات المواقف والأحداث، معتمداً " المنهج الإستردادي " وهو المستخدم في العلوم التاريخية والأخلاقية، ولم يكتف بالتاريخ المكتوب بل عززه بالمصادر الشفوية ذاكرة الأفراد وذاكرة الجماعة، وهو كما يقول يطمح من هذه القراءة إلى تعزيز هذا التكافل والتكامل، إذ يمكن للتاريخ الشفوي في الحالة الدرزية المارونية أن يكون أداة للبحث والتحقق وأداة لبناء واقعة أو مناسبة تاريخية .

إن الوقت المتاح في هذه الندوة لا يسمح بتناول محاور الكتاب كافة، وعليه سنتوقف عند بعض الأساسيات التي شكلت بعض دعائم الكتاب وهي : إشكالية الرواية التاريخية ــ الأحداث التعبوية المؤسسة للصراع على جبل لبنان، وأخيراً حرب الجبل .

 

أولاً : إشكالية الرواية التاريخية

أ ــ تفاعلت الرواية الدرزية، التي تقول إن قبائل عربية وهم فرسان التخوم الأوائل اللخميون انضموا إلى جيوش خالد بن الوليد وبعدها جاء بهم الخليفة أبوجعفر المنصور، لصد هجمات البيزنطيين، موقف المؤلف منها اختصر بمصطلح دال وهو " الزعم " الذي يعبر عن تشكيكه بالحقائق الأساسية التي يسلم بها الدروز، ونحن كان لنا دراسة نقدية حول السجل الأرسلاني التي بنيت عليه هذه الرواية . أما الموارنة فهم بحسب شارل قرم، اللبنانيون الحقيققيون الأصفياء الأنقياء ...  وفي الأدبيات المارونية هم الفينيقيون وهم المردة أو الجراجمة الذين دافعوا عن الأمة المارونية ضد غزوات المسلمين، لكن لا يجب هنا تعميم طروحات القرم وآخرين على الثقافة المارونية، والدكتور رباح كان واعياً لهذه الإشكالية، فهو يقول : " على الرغم من حماسة الموارنة لخط قرم، إلا أن القيادة السياسية المارونية لم تشأ أن تقصي نفسها عن المحيط العربي، وكشهادة على هذه المقولة، فإن دراستي لبعض أعمال الفيلسوف كمال الحاج المعاصر لقرم، توضح أن القومية اللبنانية التي كان يقول بها تقوم على اللغة والأرض والتاريخ والدين، وهو أثبت هذه العناصر الأربعة انسجاما مع مبادئ الميثاق الوطني الذي جسد شراكة المسلمين والمسيحيين .

هوية فخر الدين :

 شكلت شخصية فخر الدين، أحد الأسباب النظرية الخلافية حول تاريخ جبل لبنان، فالدروز الذين استنكفوا عن كتابة تاريخهم أو تاريخ الجبل استيقظوا بعد ثلاثة قرون على أن التراث التاريخي والوحدة الوطنية كان يجسدهما فخر الدين، ولذلك لم يقبلوا كما يستنتج المؤلف، بأن يَختطِف الموارنة فخر الدين ودمجَه في الأسطورة التي حاكوها عن أصلهم وماضيهم، ولكن هل فعلاً كان فخر الدين  درزياً ؟ كمال الصليبي بعد أن اعتبر أصل فخر الدين غامضاً،عاد بعد ثلاث عشرة سنة، فاعتبرأنه درزي شوفي، وذلك بعد مواجهته من قبل الدروز،عبر مجلة الأماني الدرزية الهوى، علماً أن أحد معاصري فخر الدين، كان قد قال فيه أنه رأس الدروز ظاهره طائع وباطنه عاص، ليس له دين يتدين به، حتى أن وثيقة استند اليها الدكتور رباح، تزيد هوية فخر الدين غموضاً، إذ ورد فيها أنه من الطائفة الدرزية وهو عاص جمع من حوله كفرة فاسقين من المتحد الدرزي، وبين العاصي والكافر فارق كبير . وهكذا بنى الموارنة والدروز بعض تاريخهم الحديث، على أنقاض رواية مشكوك فيها، وهو توظيف استخدمه كل منهم في شد أزر متحده .

بين البشيرين

يتناول المؤلف، موقف كل من الموارنة والدروز من الأمير بشير الثاني، فهو يتوقف عند دعم الكنيسة  للأمير بشير، معتبراً أن هذا الأمر دفع بالدروز إلى شيطنة الكنيسة وتابعيها، وتحت عنوان تاريخ الدروز المفقود، يقول المؤلف : إن الموارنة هم الذين وثقوا تاريخ الدروز القديم، غير أن مصنفاتهم هذه بحسب ما يقوله الدروز فيها، حرفت الوقائع خدمة للمشروع الماروني السياسي، وهو يقدم شاهداً على ذلك، بكلام لأحد القادة العسكريين في الحزب التقدمي الاشتراكي مآلها : " كانت المدرسة تعلمنا أن الأمير بشير كان بطلاً لبنانياً في حين أنه كان في متحدنا يجاور الكلب منزلة ... " وهنا لا بد من التمييز بين مرحلتين في عهد الأمير بشير الثاني، فالمرحلة الأولى وهي التي انتهت بمقتل الشيخ بشير جنبلاط، وهو في هذه المرحلة كان الحاكم  الفعلي للجبل، ففي وثيقة غير منشورة للمطران بطرس البستاني 1819 ــ 1899 الذي كان معاصراً للأمير بشير والشيخ بشير، وفي سياق كلامه عن سعيد جنبلاط يقول "  إن أباه الشيخ بشير كان يضطهد الأمير بشير جهرة " ومن هنا نفهم عامية لحفد على حقيقتها والتي انتفض فيها موارنة جبيل وكسروان، بعد أن أنهكتهم الضرائب، التي أحدثها بشير جنبلاط على المسيحيين، وليس الأمير بشير، الذي انصاع إلى إرادة الشيخ بشير في تحميل الدروز ضرائب رمزية، أما المرحلة الثانية فهي التي تفرد فيها الأمير بشير في حكم الجبل فقضى على النفوذ الدرزي الجنبلاطي .

إن اتهام الدروز للمسيحيين بأنهم وثقوا تاريخهم محرفاً، هو اتهام مجاف للحقيقة، فلولا تاريخ الرهبانية اللبنانية والرهبانية المخلصية، وتاريخ حيدر الشهابي، ووثائق دير المخلص لم نكن نعرف شيئا عن الشيخ علي جنبلاط، ولولا تاريخ الرهبانية اللبنانية، لم نكن نعرف عن وقفة الإقطاع الدرزي المصلحية إلى جانب الموارنة، ولولا وثائق الكنيسة المارونية لما كنا على معرفة حقيقية بتاريخ نظيرة جنبلاط، وهذا غيض من فيض في موضوع، عدم نكران الموارنة لجميل الدروز، وأكثر من ذلك، فإن أحد قسس الكاثوليك هو الذي أعطى صفة شيخ العقل لمن كان يسمى شيخ العصر .

 نتجاوز مرحلة المتصرفية لندخل مرحلة الانتداب، حيث شكل القرار الانتدابي بتأسيس لبنان الكبير، انتصاراً، للموارنة بينما كان هزيمة مدوية للدروز بحسب المؤلف، الذي يبني نصه على كلام نسب إلى وليد جنبلاط، يضمر فيه الشعور بخيانة الموارنة للدروز، وفي رأينا يظهر أن جنبلاط غفل عن موقف الجنبلاطيين من قرار الانتداب فقبيل إعلان دولة لبنان الكبير استقبل أعيان منطقة الشوف الجنرال غورو وجمع من عامتهم بالهتاف والتعظيم، وأكثر من ذلك فان البطريرك الحويك لم يكتف بالغطاء الماروني بل بغطاء كل الطوائف، والمفارقة أن أحداً من الدروز لم يبدِ رأياً في قرار الإنتداب، وإن تكن الصحافة الدرزية، قد قاربت هذه المسألة بكلام للأمير أمين آل ناصر الدين سنة 1922 في جريدة الصفاء إذ كتب " كبر لبنان، صغر الدروز " ولكن الموارنة لم يكونوا أفضل حالاً فقد تقلص عددهم في إحصاء 1922 بالنسبة إلى إحصاء  1913   34 %

ثانياً : الإحداث التعبوية المؤسسة للصراع على جبل لبنان  

نزاع العام 1958 واكبه جيل من الشبان والشابات، خلصوا فيه إلى أن التعايش في ظل النظام السياسي القائم لم يعد ممكنا، هذا الحدث الذي وضعه المؤلف لاستحضار رأي بشير جميل في ميثاق 1943 حيث اعتبر أنه مات ودفن ... خارج مفهوم الكنيسة والجامع، في حين وصف وليد جنبلاط هذا الميثاق بالطائفي، لأنه لم يعامل الجميع سواسية أمام القانون، وإذا ما عطفنا هذين الموقفين،على المناخ السياسي الذي باتت منظمة التحرير الفلسطينية جزءاً منه، لتبين أن هذه المنظمة باتت في زمنها، تشكل خوفاً كبيراً على الموارنة، وعلى الجبهة الأخرى عاملاً مساعداً لكمال جنبلاط في قلب المعادلة السياسية في لبنان .   

             كان الموارنة، يعقدون الأمل على بشير الجميل، لاعتقادهم بأنه سيخلص البلاد من منظمة التحرير الفلسطينية، إن انتهى النزاع الأهلي إلى غلبة الفلسطينيين، وقد ترافق ذلك وفاقاً لما يقوله الدكتور رباح، مع شحنات أسلحة وصلت إلى مرفأ  جونية، من جهة أخرى كان كمال جنبلاط بحلول العام 1969 تاريخ توقيع اتفاق القاهرة، وبعد أن  اصبح داعماً للوحدة العربية، الحليف الأكثر وفاء لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي سردية الدكتور رباح  أن غالبية أعضاء الحزب التقدمي الإشتراكي، تلقوا تدريبهم من خلال انضمامهم إلى واحد من الاحزاب الفلسطينية وتسليحهم من قبل السوفيات، وهو يستنتج من مغامرة جنبلاط، ربط موقفه بالتاريخ القديم الذي انخرط خلاله المستوطنون الدروز بمهمة الدفاع عن الشوطئ اللبنانية  ، نضيف إلى كلام المؤلف ما يمكن توصيفه بجموح كمال جنبلاط إلى تدمير الصيغة اللبنانية فهو يقول في مذكراته صراحة : سيأتي يوم ليس ببعيد يكون على الفلسطينيين أن يعلنوا قيام حكومة مؤقتة، وأن يتنظموا بصورة مختلفة بحيث تصبح ميليشياتهم في لبنان جيشاً حليفاً يرابط في لبنان .  

ثالثاً : حرب الجبل

تكاد تكون حرب الجبل، ترجمة حقيقية لصراع بين رموز المارونية السياسية، وبين مشروع كمال جنبلاط، الذي كان يطمح إلى بناء وطن علماني على حد قوله، وبحسب إيغور تيموفييف، فإن كمال جنبلاط هو الذي نقل الحرب إلى الجبل، وكما هو معروف استكملها وليد جنبلاط لمواجهة القوات اللبنانية، بعد دخول القوات الإسرئيلية، وكل له تبريراته، لكن الوجود السوري في أعالي جبل لبنان، والتمدد الإسرائيلي إلى عمق الجبل، جعل من كل من القوتين الأقليميتين مرجعية ذات قرار في استخدام المتحدين الدرزي والماروني، كحصان طروادة، فإسرائيل التي دعمت الموارنة، حالت دون كسر الدروز كما سنوضحه لاحقاً، وقد نجح الدكتور رباح في توثيق أحداث الجبل، ومع أن هناك الكثير من المصادر التي تتحدث عن حرب الجبل، إلا أن المعلومات التي اعتمدها ربما كانت برأيه هي الأوثق للإعتماد عليها .

 حتى سنة 1976 كان الشوف بمنأى عن الأحداث الأمنية، باستثناء بعض الحوادث المخطط لها، لخلق بيئات عدائية، وعلى أثر مقتل كمال جنبلاط، وبحسب المؤلف أطلق العنان لسلسلة من الأعمال الانتقامية ذهب ضحيتها مسيحيون في كل من الشوف وعاليه كانوا لسخرية القدر يحملون بطاقات عضوية في حزب جنبلاط، ويعيد الدكتور رباح السبب إلى أن صفوف الدروز كانت مخترقة، ويعلق على هذه الأحداث بقوله " على الرغم من تجلي اليد السورية في مقتل كمال جنبلاط، إلا أن الموارنة أو المسيحيين هم الذين ذهبوا في طلب الجيش السوري في العام 1976 ولكن هناك ما يؤكد أن كمال جنبلاط  وفي زيارته إلى دمشق طلب التدخل الفعال من دمشق بقوله للرئيس الأسد " بكل عزيز نناشدك يا سيادة الرئيس التدخل لوقف هذه الحرب "

في رأي الدكتور رباح، أن العمليات الإحترابية خلال سنتي 75 و 76 انحصرت في معظمها بالقسم الشمالي من جبل لبنان متمثلة بحوادث عرضية متفرقة طالت منطقة المتن، لكن كمال جنبلاط في مذكراته يقول بأنه هو من نقل الحرب إلى الجبل، وبالتالي رفض أمام الرئيس الأسد، وقف القتال بعد أن وصلت قوات الحركة الوطنية إلى ضهور الشوير وبسكنتا، وكان طموحه أن يعلن ريفون مدينة مفتوحة.      

لم تكن القوات اللبنانية لتدخل إلى الشوف، لولا طلب ودعم القيادة الإسرائيلية، ومنذ الأيام الأولى للتواجد الإسرائيلي في الشوف وعاليه، بدأت ملامح السياسة الإسرائيلية تتكشف من خلال اللعب على المشاعر الطائفية وإن بحذر، وبناء على توثيقات المؤلف والسرديات التكميلية، اتخذ الجيش الإسرائيلي خطوات عملانية لإحداث فتنة تمثلت في ترك أحدى فرقه موقعها فجأة في إحدى قرى الشوف، الأمر الذي أدى إلى مقتل العديد من أهاليها المسيحيين، وتأكيداً على السياسة الفتنوية التي اعتمدتها إسرائيل، يستشهد المؤلف بكلام لرئيس أركان القوات اللبنانية مآله : كان الدروز يتسلحون تحت مراقبة الجيش الاسرائيلي، وعندما احتج على هذا التصرف كان رد الضابط  الاسرائيلي : نعرف من أين يأتي الدروز بأسلحتهم، أسلحتهم سوفياتية وعليهم الحصول عليها ... ولا بد لنا من ان نسمح لهم بالمرور، ولم يجد أحد قادة الحزب التقدمي الإشتراكي حرجاً في الكلام عن هذا التعاون مع الإسرائيليين  .

بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، بدأت الحكومة الاسرائيلية وقوات دفاعها بالتخلي الهادئ عن تحيزهم الظاهر للموارنة، ولا سيما وبحسب إضاءات المؤلف، بعد أن مارس دروز إسرائيل ضغوطاً سياسية على الحكومة الإسرائيلية، فسمحت للدروز بالسفر من جهتي الحدود، وقد شكلت في اسرائيل لجنة متابعة برئاسة أحد النواب الدروز في الكنيست الاسرائيلي، بعد مباركة شيخ عقل الدروز حيث بدأت اللجنة برحلات منتظمة إلى لبنان، حيث كانوا يلتقون سراً بأعضاء كبار في الجناح السياسي والعسكري للحزب التقدمي الاشتراكي، وكان هذا الدعم سرياً، ونتيجة الضغوط التي مورست على الحكومة الاسرائيلية صرح بيغن " بأنه لن يسمح بأن تسقط شعرة واحدة من رأس أي درزي في لبنان، وكان  الجنرال آرنز، قد أبلغ قيادة القوات اللبنانية، بأن من الأفضل أن تتوصل إلى تسوية مع الدروز، وعاد آرنز ليؤكد في مؤتمر صحافي في لبنان، أن إسرائيل لن تتخلى عن دروز لبنان،  وفي أحد حواراته مع القوات اللبنانية أبلغهم الجنرال لبراني، الذي كان الحزب التقدمي الإشتراكي ووفاقا لكلام إحد قيادييه قد وطد علاقته معه، بأن لديهم الخيار في الإنتقال إلى بيروت، كاشفاً عن مشاعره الموالية للدروز، وعشية الإنسحاب الإسرائيلي أمكن لعاطف سلوم الذي بقي خارج الضوء، وهو كان بحسب الدكتور رباح، قائماً مقام ما يشابه وزير جنبلاط للشؤون الخارجية، بالرغم من نفي سلوم لهذه المهمة، أن يضع يده على معلومات تشتمل على كل مخططات الإنسحاب المرفقة بالخرائط المفصلة التي شكلت عاملا حيويا في تحديد مسار المعركة . 

إن النماذج الحدثية التي اعتمدها الدكتور رباح في بناء أطروحته، قد تزعج البعض، لكشفها ما استتر، أما التقييم النقدي فهو محمول على ميزان التجرد، من خلال أكثر من شاهد في استشراف المؤلف حقيقة الأحداث قبل حرب الجبل وخلاله، دون التورط في موقفه منها، إلا أن هذه النماذج غابت عنها بعض الأحداث المؤسسة للحرب اللبنانية، كالمرحلة التي سبقت اتفاق القاهرة، إذ أن هذه الحرب كانت نتيجة لهزيمة العرب عام 1967 وكان على الموارنة أن يدفعوا ثمنها، ومعهم الدستور اللبناني والميثاق الوطني، ولبنان بحكم تربته الديموغرافية الخصبة، انشطر بين المسلمين والمسيحيين فتسليح الفلسطينيين جرى على المكشوف وعلى قدم وساق عام 1968 حيث كانت الإمدادات والأسلحة تتوارد من سوريا بانتظام على منطقة العرقوب، في وقت كان فيه عدد الفلسطينيين نهاية الستينات 235000 ألف فلسطيني، وهذا أرعب الموارنة، فكان من الطبيعي أن يعمل هؤلاء على تحصين مجتمعهم بكل ما من شأنه الدفاع عن وجودهم .         

ينهي الدكتور رباح الفصل المتعلق بحرب الجبل بكلمة يقول فيها : لا يزال الوفاق الحقيقي في لبنان ينتظر مستلزمات محددة من ضمنها النقاش العام المفضي إلى الإفصاح عن المكنون المكتوم في الذاكرة الخاصة بكل من المتحدات المختلفة، إذ من شأن هذه العملية الإفصاحية أن تحول دون استعمال الماضي كفواعل ناشطة من قبل بعض السلطات المركزية الطائفية في سبيل قولبة الذاكرة الجماعية للمتحد المؤتمر بها . أما نحن فنقول : إن الموارنة الذين جاؤوا إلى ما كان يعرف بجبل الدروز، فعمروه بعد أن كان جرداً، هؤلاء الذين كانت صلواتهم في بيوت الدروززمن المعنيين ، هؤلاء الذين في ذاكرتهم بعضاً من جراح القرن التاسع عشر، هؤلاء الذين تمادت قوى العروبة في قتل طموحاتهم، يواجهون اليوم سؤالاً دقيقاً، هل سيعودون والدروز إلى يوميات القرن السابع عشر ؟ شكراً لإصغائكم .

_______________________________________________

مداخلة في كتاب، النزاع على جبل لبنان، الذاكرة الجماعية وحرب الجبل، للدكتور مكرم رباح

أ‌.      د.الياس داود القطّار

استاذ جامعي ومؤرخ

أنطلياس الحركة الثقافية، 9 آذار 2023

النزاع على جبل لبنان، الذاكرة الجماعيَّة وحرب الجبل، هو في الواقع نزاعٌ محصور في جبل لبنان الجنوبيّ، حيث الأقضية المختلطة الدرزيّة - المارونيّة، لا في كلّ جبل لبنان.

الكتاب هو عمل مشرِّف، يطمح بواسطته المؤلِّفِ إلى هدم جدار برلين بين الدروز والموارنة، من خلال ثقب شرنقة الذاكرة الجماعيَّة لكلِّ منهما.

نزاع مزمن، متحجّر، يُنفض عنه الصَدأ مرّة كلّ جيل أو أقلّ أو أكثر قليلًا، منذ قرابة قرنَيْن أو أقلّ من الزمن، نافثًا روائحَ بركانٍ من الحقد والكراهية يعجز الوصف عن تخيُّلِهما.

هذا النزاع الذي سال فيه الحبر الغزير، وأظهر الإيديولوجيات المتفلسفة والمتناقضة، حتى داخل الدين الواحد عمومًا والطائفة الواحدة،  قُيّض له أن يكون موضوعَ بحث أكاديمي على يد الدكتور مكرم رباح في جامعة جورج تاون الأميركيّة، في محاولة رائدة تستقصي المراجع المتوافرة من جهة، وتركّز من جهة أخرى على التاريخ الشفويّ لاستنطاق  بعض وجوه الحقائق، بذهابه مباشرة إلى الينابيع، إلى مقابلة بعض الذين شاركوا في الحرب من الطرفَيْن،  وإسماع ما يَرْوونَه عنها، بخلفيّاتهم الوجدانيّة، وبسردهم بعض وقائعها، وعرض صورها وبعض وثائقها، واستنطاق ما جُمع عنها من برامج وثائقيّة، أو ما خُزّن في أشرطة أُتيح للباحث أن يستمع إليها.

هذه المحاولة السبّاقة،  تدخل في نطاق ما يُسمَّى بالفرنسية Histoire immédiate التي تُعنى بتغطية الحدث في تفاعلاته وارتجاجاته، و بمشاعر الناس التي لم تهدأ بعد، بانتظار أن تكشف الوثائق لاحقًا، بخاصّة الوثائق الاستخباراتيَّة منها، حقائق الظاهر والباطن من الأحداث؛ وما أكثر الظاهر والباطن عند القيادات اللبنانيّة، قيادات شعب يُحسن الكذب والازدواجيَّة إلى حدود مرض انفصام الشخصيّة.

كتاب الدكتور مكرم رباح بحث تقدّميّ، على مقياس خياراته المدنيّة، ونضاله من أجل مجتمعٍ أفضل، يسمو على الفكر الدينيّ ومندرجاته؛ مجتمع دفع فيه صديقه لقمان سليم ثمن قناعاته ونضاله من أجل عالم  منفتح على الحياة والأنسنة والحريّة، في زمن يهرول فيه المشرق نحو الأصوليّة بسبق لا مثيل له.

عمل جريء، لا يتوانى فيه الباحث عن نقل صور نزاع الذاكرة بين الدروز والموارنة، والجرأة أكبر، بما يرويه عن كيفيّة نظرة الدروز إلى الموارنة وما تحمله من تحقيرهم.

وبادىء ذي بدء أبدأ بمناقشة الكتاب على مشرحة بعض وجوه المعايير التاريخيّة أو المنهجيّة التاريخية.

فكلّ بحث تاريخيّ يبدأ بما يُسمّى التقميش، فإذا حسُن التقميش حسُنت النتائج التي يتوصّل إليها البحث. وفي مطالعة حواشي الكتاب  ولائحة المصادر والمراجع، يتبيّن أن المؤلِّف يركن بالدرجة الأولى إلى ما حُرِّر باللغة الإنكليزيِّة، أمّا ما يطاول الموضوع باللغة الفرنسيّة فلا يتجاوز عدد أصابع اليد، كذلك المراجع التي وردت باللغة العربيَّة، وبعضها على درجة سامية من العِلْم والمنهجيّة والموضوعيّة، أضف إلى ذلك بعض المراجع العربية التي ترصد حرب الجبل والحرب اللبنانية منذ 1975.

انتهت حروب 1840 و1845و 1860 على الأرض ولكنّها لم تنته في النفوس. فما إن أطلّت الثورة السوريّة برأسها في العام 1925، حتّى اشرأبّت النفوس، والحمد لله أنّ المناطق المختلطة خارج  حاصبيا ومرجعيون تمالك قاطنوها أنفسهم، بفضل حكمة الستّ نظيرة جنبلاط والمطران بستاني. أذكر هذا لأكرّر مقولة إنّ ّ الاحداث الدامية الماضيّة كانت معشّشة في وجدان الدروز و الموارنة.

بقيت العقد تحت رماد السنين لتشتعل مجدّدَا، عندما تأجّج الخلاف بين الرئيس كميل شمعون والأستاذ كمال بك جنبلاط، ولم يخفّف من وطأة جنوحه إلى صراع طائفيّ، قيام جماعة درزيّة وشيعيّة وقوميّة سوريّة إلى جانب الرئيس شمعون، ومثقّفين موارنة إلى جانب الوزير جنبلاط. هدأت الحال مع وصول اللواء فؤاد شهاب إلى سدّة الرئاسة، وسقطت ذرائع حلف بغداد والاستعمار والصهيونيّة والإمبرياليَّة، ولكن لم تسقط العقد النفسية عند الموارنة والدروز.

وما إنْ إندلعت الحرب  في سبعينيّات القرن العشرين، وطُرحت مسألة المشاركة المزروعة في حلم أرض الوطن الفلسطينيّ البديل، حتى طفت على السطح عقد الماضي، وما يُسمّى بالفرنسيّة Psychose. ويا ليتها بقيت عقدًا، ولم تتحول إلى شلّالات من الدم.

 أعود إلى البحث في بعض شَذرَات الكتاب، وأكتفي بذلك، إذ لسنا في مناقشةٍ أكاديميّة جامعيّة.

حسنًا فعل الكاتب باستيحائه في مطالعاته التاريخية لكلّ من كمال الصليبي وعبد الرحيم أبي حسين، اللذين كانت تربطني بهما صداقة علميّة منزّهة عن المصالح، وتقديرٌ متبادل. وأسمح لنفسي بالقول، بالرغم من تقديري كتاب الصليبي، "بيت بمنازل كثيرة"، إنَّه استوحى هذا العنوان من نصّ في الإنجيل يقول: "في بيت أبي منازل كثيرة"، ولكنّه لم يحسن فهم مضمونه، كما لم يحسن فهم السيّد المسيح في مؤلّفه عنه.

يُكثر الكاتب الكلام على مُتّحَدين درزي ومارونيّ،  قد ينطبق إلى حدّ ما على الدروز، بخاصّة إبّان الأخطار الكبيرة، مع أنّ قياداتهم عبر التاريخ، كانت تلعب لعبة المع والضد، وقد أظهر الكاتب ذلك بوضوح في بحثه، ولكن لا ينسحب هذا القول بالكامل على الموارنة. وأحد الدلائل على ذلك هذا المقام المجتمعون فيه. فالحركة الثقافيّة في أنطلياس، نشأت في عزّ أيّام الحرب، لتُسمِعَ صوتًا آخر غير صوت المليشيات المسيحيّة، صوت ثقافة الحريّة والعقلانيّة، وهي في نسيجها وريثة حركة اكتسحت شبيبة الجامعة اللبنانيّة قبل الحرب، عَنيتُ بذلك  "حركة الوعي". إلى جانب هذه الحالة كانت غالبيّة المثقّفين الموارنة ضدّ توجّهات أركان الأحزاب الميليشيويّة والجبهة اللبنانيّة، وكذلك الكتلة الوطنيّة برئاسة ريمون إدّه وبعض الرهبانيّات، كالرهبانيّة الأنطونيّة.

يعقد الكاتب فصلا بعنوان، "كيف ينظر كلّ من الدروز والموارنة إلى الآخر"، وهو فصل مهمّ جدًّا، وفي غالبيّته موضوعيّ، ولكن ثمّة العديد من الملاحظات عليه، بخاصة في ما يتعلق بتاريخ الموارنة، وأُحيل على ما كتبته عن لبنان في القرون الوسطى، إذ يجد قراءة للتاريخ أقرب إلى الموضوعيّة، قياسًا على ما ذكره على سبيل المثال بطرس ضو، وانطوان خوري حرب، وشارل قرم، وفؤاد أفرام البستانيّ، وكتيّبات الجبهة اللبنانيّة وغيرهم. وأعتقد أنّه من الضروري مقاربة ما جاء في مؤلّفات متي موسى وأبو صالح ومكارم، بحذر.

كنت أتمنى أّلّا يجزم الكاتب في مسألة حادثة عين الرمّانة.

وأجيز لنفسي ملاحظة تفصيليّة واحدة، إذ في الصفحة 83 يخبر بأنّه كان لوفاة سعيد جنبلاط في سجنه أن فاقم من الحقد الذي كان الدروز يُضمرونه حيال الموارنة. وأحيله على الكاتب الظريف د. شاكر الخوري في مجمع المسرّات المعاصر الأحداث وشاهد عيان عليها، وهو من بلدة بكاسين التي لم تُعفِها قوّات سعيد جنبلاط من حدّ السيف والحرق، فهو يروي أنّ والده زار سعيد جنبلاط في سجنه، فوجد أنّ كل ّ الناس قد انفكّت عنه وعلى رأسهم الدروز، فطلب إليه أن يأتيه ببعض التتن للتدخين فحملها إليه، وبعد بضعة أيّام توفّي فلم يجد من يدفنه، فتكفّل بذلك والد شاكر الخوري ومعه شيخ مسلم، ودفن في محلّة الاوزاعي.

وأنهي مداخلتي بنقل قصّتَيْن من أخبار طريفة عن الذاكرة الجماعية المرويّة عند الموارنة:

يخبر بولس سلامه في كتابه حكاية عمر:

كنّا صِبية نلعب بالحَصَى، فتسِمُ أظفارنا بنقاطٍ بيض. وبين أترابنا يومئذٍ صبيٌّ لبيب أوهمنا أنّالنقاط خطايا تستوجب العقاب، فإذا لقينا درزيّ أجبرنا على ابتلاع الحَصَى أو ما كان في صلابتها من الأجرام.

فروَّعنا هذا النبأ، لِما كنّا نسمع من أفواه الشيوخ عن قوّة الدروز في المجزرة الأهليّة سنة 1860، عدتُإلى البيت في تلك العشيَّة، وقد شبعتُمن اللّعب والخوف. وكان والدي يضجعني إلى جانبه في الفراش، فقرأ في وجهي انقباضاً، وأقلقه سهادي، فما برح ذكر الخطيئة والدروز أمام عينيّ، فاستوضحني السبب فأوضحتُ، فضحك وطمأنني، وأضاف أنّالدروز كرماء يُطعِمونكَالعنب الأسود، لِما يُعرَف من إيثاري لهذا الضرب من الأعناب. وكان بين والدي وبني معروف قرابة روحيّة هي قربى الرجولة... ولقد أورثني رحمهالله كثيراً من خلاله، وفي طليعتها التساهل والأُلفة، يوم كان رفاقي من الصبيان يُربَّون على الخوف والبغضاء.

وأنقل عن جدي وعن والدي قصة طريفة في مطلع خمسينيّات القرن العشرين، مشبعة بالمعاني عن العقدة النفسية  Psychose  المستفحلة عند الموارنة تجاه الدروز:

في أحد أيّام الصيف طُرح الصوت بين الأهالي بأنَّ المَدْرَزة، أي جماعة الدروز، هاجمة على منطقة جزين من وادي نهر بسري، وقد وصلت طلائعها إلى قرية الخربة في جوار النهر مقابل قرية مزرعة المطحنة، فدقّت الأجراس ودبّ الهلع بين الناس في القرى المُطلّة على مرج بسري،  وهاجت وماجت وهربت  في كلّ الاتّجاهات بحثًا عن المغاور والسواقي. وشاء القدر أنّه كان ثمّة بعض الحكماء في قريتنا بتدين اللقش، فركضوا إلى شير عال في أسفل القرية، يشرف مباشرة على السهل، و يسمح برؤية واضحة حتّى دير الراهبات المخلّصيّات. وعند تفحصهم أشكال الزاحفين، تبيّن لهم أنّهم مجموعة من الرجال لا تحمل سلاحًا، وقد نزعت عنها لباسها الأبيض اللون اتّقاءً لحرّ شهر آب وقت الظهيرة. فعادوا إلى القرية لتهدئة روع الناس، وكم كانت المفاجئة عندما تبيّن أنّ القادمين كانوا الإخوة مبتدئي رهبان دير المخلّص في جون،  وقد نزعوا قمصانهم ووضعوها على رؤوسهم اتقاءً لحرارة الشمس، وقد جاؤوا لزيارة إخوانهم في دير سيّدة مشموشة، لربح قسط أكبر من البرودة  وللتفسيح عن النفس.

هاتان القصّتان تفصحان عن ذهنية رؤية كلّ جماعة الجماعة الأخرى، وفي جعبتي أخبار أخرى كثيرة تضيء على هذا الموضوع.

إلى أين متّجهين ، ولوين رايحين؟

مكرم رباح والعديد من الذين تحمّسوا للحراك، أو الثورة، أو تسمية أخرى، كانوا يحلمون بمجتمعٍ جديد علمانيّ مدنيّ.

وحتى أضع الطروحات، في سياقهاالعلميّ والموضوعيّ  وفي ما ينتظرها، يُفترض أن نعرف أنّ أوروبّا حتى بلغت ما وصلت إليه، اقتضى الأمر صراعًا فكريًّا دام أربعة قرون بين الفكر الدينيّ وفكر الأنسنة، من النهضة الإيطالية فالنهضة الكبرى في القرن السادس عشر، إلى فكر الأنوار أي أنوار العقل، أو الفكر العقلانيّ، أي عقلنة المجتمع في القرن الثامن عشر. هذا المسار الفكريّ لم يوصل إلى المجتمع المدني، ولاحقا العلمنة وفكر الجمهورية إلّا بعد الثورة الفرنسية الدامية، ثم كوموّنة باريس Commune de Paris.

أربعة مئة سنة من المخاض العسير في أوروبّا، ولكن مع إيجابية مهمّة أنّ المجتمع كان ككرة الثلج يزداد ويَكبُر توجّهه باتّجاه فكر الأنسنة مع الايّام، حتى أصبح فكر المجتمع المدنيّ في  جينات الشعب. وللأسف، فالمفكّرون والمناضلون الطليعيّون في المشرق والشرق عامّة يلهثون وراء الأنوار، أنوار الحرّية والعدل والعقلانيّة، في حين غالبيّة الشعب، بقوّة مطّردة، تلهج بالفكر الدينيّ وتعتنق الأصوليّة.  

____________________________________________

كلمة المحامي جميل جبران

ندوة حول كتاب د. مكرم رباح

النزاع على جبل لبنان: الذاكرة الجماعية وحرب الجبل

الحركة الثقافية 9/3/2023

 

"الذاكرة الجماعية وحرب الجبل"!يشدك هذا العنوان، على الأخص، فيما إذا كنت وبطريقة ما تنتسب للجبل، والمقصود بالطبع هنا جبل الشوف، ورافقتك المرويات الشعبية حول      الأحداث أو  "الحركات" من الأهل والأجداد ابتداء من احداث  "الستين" (أي 1860) مروراً بأحداث متفرقة بعد الحرب العالمية الأولى وبداية الإنتداب الفرنسي، ثم 1958. وإذ بهذه المرويات تتجسد بالقرب منك نزاعاً دامياً في العام 1982، يتميز بالقتل والقساوة والتهجير، وتمزيق النسيج الإجتماعي بين المكونين الدرزي والماروني المؤسسين للبنان الحديث.

فور حيازتك على الكتاب تسارع الى التعرف الى المؤلف! مكرم رباح، محاضر في كلية التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت، تتلمذ على يد المؤرخ كمال صليبي، نال شهادة الدكتورة من جامعة "جورج تاون" وهو يفخر بإنتسابه الى "المدرسة التعديلية التنقيحية  في التاريخ اللبناني"

وللتعرف أكثر على المؤلف، فمن الصفحة الأولى من الكتاب أقتبس حرفياً المقطعين التاليين:

"عندما تعرضت خيمة الملتقى " The Hub" التي كنت أحد القيمين عليها، وسط العاصمة بيروت، للهجوم خلال ثورة 17 تشرين الأول / أوكتوبر من قبل "جنجاويد" محور الممانعة. إلتفت لإجد الى جانبي لقمان وكوكبة من ذوي  وذوات الشجاعة وقفوا بكل حزم للدفاع عن حقنا في التعبير عن الرأي وسط ثقافة التخوين والإتهام بالعمالة"

ويتابع في مقطع آخر:

"لم يكن لقمان سليم مجرد مثقف وكاتب، ومترجم وناشر وناشط من الطراز الأول وحسب، بل كان ولم يزل في وجداننا صورة عن لبنان المشرق الذي نصونه، وطن لا يخاف من العقل والتعددية والحرية ، ولا يقدس الأصنام والمجرمين..."

يوضح المؤلف في مقدمة كتابه، بأن مقاربته تختلف عن المقاربات المتنوعة المتعددة التي اعتمدها باحثون آخرون.  ويأخذ عيهم، على الأخص، إهمالهم الذاكرة الجماعية وتاريخها.     و كما يؤكد في مقدمته، فإن مقاربته قد أعتمدت على مصادر ومنهجيات جديدة وخصوصاً على التاريخ الشفوي، لتقديم فهم أفضل لحرب الجبل بين مكونين لبنانيين اساسين، آملاً في ذلك، ان يساهم في "تسوية النزاع الذي لا يزال معلقاً حتى بعد نهاية الحرب"

وقد اظهر المؤلف بشكل ساطع بسردية كل من المكونين الأساسيين والتي تبرر، في نظر كل منهما، سلوكه أثناء النزاع وأعمال العنف الفائق التي ترتقي الى مصاف الجرائم، التي إرتكبوها حتى تجاه مواطنيهم العزل الذين ينتسبون الى المتحد الآخر:

ووصف الدكتور شوقي عازوري، الإختصاصي في علم النفس (النهار 13/2/2023) الحالة التي ترد في هذه السرديات، والتي تشكل الذاكرة الجماعية، وإنعكاسها على الوضع الذي يعيشه الأفراد في حالة تأهبٍ وقلق بـــــ  " Psychoses collective"حيث لا مهرب منها، لافتاً الى ان الوقت هو الشيء الوحيد الذي يمكن ان يساعد. "لكن التفكير الزائد والتحدث عن الحادثة يجعلها مترسخة في عقولنا"

 

وهذه الذاكرة الجماعية المبنية على استحضار دائم لبعض وقائع وأحداث الماضي والذي يصفها أحد المؤرخين:

  Agencement sélectif d’épisodes du passé

تتناسى تماماً الفترات الزمنية التي ساد فيها السلام والوئام والتعاون بين الجماعات ذاتها. فمثلاً، لماذا تتناسى السرديات المومى إليها ما حصل في عامية انطلياس سنة 1848! والبيان الصادر عنها الموقع من ممثلي مختلف الطوائف والمذاهب؟ ولماذا "حكاية بطل اسمو شربل" من جهة و"فتى الجبل" والزجليات من جهة أخرى لا ترسخ في زهن الأجيال الجديدة سوى ذكريات العنف والقتل والدم وتأبيد حالة ال "Psychoses collective" المومى اليها؟

وهل من نهاية لهذه الدوامة القاتلة؟  هذه إنطباعات واسئلة لقارئ شاهد بعض مجريات حرب الجبل ونتائجها الكاريثية، ثم عاد وقرأها بتفاصيلها وشاهدها مجددا من خلال الصور الذي تضمنها هذا الكتاب، واترك للمؤرخين الإختصاصيّين مناقشة مضمون هذا الكتاب.

جميل جبران