ندوة حول كتاب د. مصطفى الحلوة :  مطارحات في أروقة المعرفة

 

كلمة د.مصطفى الحلوة في ندوة حول كتابه "مطارحات في أروقة المعرفة"

الحركة الثقافية - إنطلياس/الأحد 12 آذار 2023

هي المرّة الثانية، التي يتمُّ فيها الانتداء، حول كتابنا "مطارحات في أروقة المعرفة". فقد سبق أن تمّت مقاربته، في جامعة البلمند، برعاية وزير الثقافة وحضوره، القاضي محمد وسام المرتضى. بيدَ أنّ للانتداء في هذا الصرح الثقافي المكين بُعدًا ذا دلالات متميًزة.. فالحركة الثقافية - إنطلياس ليست منتدى فكريًّا فحسب، فهي، إلى ذلك، مشروع ثقافي ملتزم. راهنت على التغيير الثقافي، إذْ رأت إليه مدخلًا أساسيًّا إلى مُعافاة البلد. صحيحٌ أنها نشأت في العام 1978، في عزّ الحرب الأهلية العبثية المدمّرة، ولكنها كانت حربًا بلا هوادة على كلّ الحروب، التي شهدها لبنان، بمختلف أشكالها وأعراضها. من هنا، نتوجّه إلى رُعاة هذا الصرح، إلى رئيس الحركة قُدس الأباتي أنطوان راجح، إلى الأمينة العامة الزميلة د.نايلة أبي نادر، وإلى سائر أعضاء الهيئة الادارية، شاكرين لهم جميعًا إتاحة الفرصة للإطلال وكتابَنا من على منبرهم الزاهر.

أيها الأحبة،

لم يترك لي السادة المحاضرون ثُغرة، أنفذُ منها، كي أتكلّم على مؤلَّفي. فقد أشبعوه درسًا وتمحيصًا، بكفاءة عالية. وضعوه على مشرحة التحليل، وغدوا شركاء لي في تأليفه، ومنحوه حياةً جديدة، بعد أن أصابوا منه مقتلًا! .. فشكرًا لهم جهودهم، وشكرًا لهم محبّتهم، التي غمرتني، ورتّبت عليّ دينًا تُجاههم، إلى يوم الدين!

شكرًا لأستاذنا الكبير العميد د.محمد شيّا، فقد أفدتُ منه، في إحدى دراسات كتابي، إذْ استللتُ بعض شواهد من بحث له قيّم. والشكر لصديقي المزمن، منذ أيام الدراسة في المرحلة الثانوية، عنيتُ د.جورج طراد. فقد تزاملنا في ثانوية الملعب الرسمية، ثانوية د.حسن الحجّة، في طرابلس، لعدة سنوات. والشكر موصولٌ لضابط إيقاع الندوة الصديق د.ناصيف قزّي، الذي واكبنا، في محطات بحثيّة، في "الاتحاد الفلسفي العربي"، ولطالما غمرنا بسخائه، في منتجعه البحري في الجيّة !

والشكر للحضور الأكارم، جُلُّهم أصدقاء أعزاء، ولطلبتنا الجامعيين، لا سيما الآتين من طرابلس وعكار، وسائر مناطق الشمال.

أما الشكر الأكبر، وعددُ كلماته ما يحوي كتابنا من كلمات، فأخصُّ به الصديقة المهندسة والأديبة الشاعرة ميراي شحادة حداد، رئيسة "منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة الثقافي". فبهمّتها وبدعم من منتداها، بل منتدى والدها شاعر الكوخ، أبصر كتابنا النور. وقد كان لها أن تواكبه، منذ دفعه إلى المطبعة، وحتى صدوره بحلّته الرائعة القشيبة.

أيها الأحبة،

إذْ أُعرض عن الكلام على مؤلَّفي، ذلك أنّ الزملاء المحاضرين، كما أسلفنا، لم يتركوا زيادة لمستزيد. بيد أننا سنتوقّف لِمامًا عند مسألة، تتمثّل في العبارة، التي ذيّلتُ بها مُفتتح الكتاب، فجاءت على الوجه الآتي:"مصطفى الحلوة/ذات يوم من الزمن الكوفيدي، شباط 2021". لم أبتغِ، من خلال هذه العبارة، لفت النظر إلى أن الكتاب تمّ إنجازه في زمن كورونا فحسب، بل الذهاب أبعد، مشدّدًا على أنّ عملًا بحثيّـا، بهذه الضخامة، يمكن إنجازه، في أشدّ الظروف صعوبةً. ففي تلك المرحلة، وبخلاف كثيرين، لم يعرف الهلع إليّ سبيلًا! بل أحَلتُ فترة الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي فرصة لتوثيق مادة الكتاب، كنا أعددتُ،

 في عين تلك الفترة كتابًا آخر، بعنوان "أوراق تموز" ضمّ إثنتين وعشرين دراسة مرجِعيّة، لاثنتين وعشرين ورشة تفكير ونقاش، عُقدت غالبيّتها في مدينة جبيل. وهي ورش تمتاز براهنيّتها، لمواكبتها قضايا وإشكاليّات، من معيشنا اليومي، السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والتربوي، والصحي، والثقافي.

هي صفحاتٌ، من مؤلّفاتنا، طويناها، وهناك صفحاتٌ نشرّعها اليوم على عدة مؤلّفات لدينا، قيد الإنجاز. وهي ستصدر تباعًا، وأوّلها سيرى النور، بداية الأسبوع المقبل، وسيتمّ إطلاقه، في 18 آذار الجاري، في "مركز الصفدي الثقافي" في طرابلس، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لرحيل المرحومة الصديقة الباحثة د.غادة السمروط، وهو يدور حول مشروعها الفكري.

نقولها، أعزائي، بالفم الملآن؛ نحن أهلَ القلم والكلمة الحرّة، ليس لنا إلّا الكلمة سلاحًا، نُشهره، في هذه الظروف المصيرية الوجوديّة، التي نُعاني ويلاتها. إنّه الالتزام بقضايا شعبنا ومجتمعنا ووطننا، فنصنع من الخوف شجاعة، ومن الهلع سَكِينَة نَفْس، ومن الضعف قوة. إنّه دورنا، الذي نُدبنا لأجله، فهلّا قبلنا التحدي، إذْ لا خِيار لنا آخر، فإمّا أن نكون أو لا نكون!

ختامًا، وعلى جاري عادتنا، لدى إنجاز كلّ مؤلّف، نذهب إلى القول:" في مأثورنا الديني، للمجتهد أجرٌ إذا أخطأ وأجران إذا أصاب"! .. عسانا، عبر هذا السِفر "الكشكولي"، نحظى بنعمة الأجرين، فنكون من الفائزين الغانمين.

_____________________________________

كلمة د.ناصيف قزّي

ضمن الندوة التي انعقدت في الحركة الثقافيّة انطلياس خلال فعاليات المهرجان اللبناني للكتاب،

حول كتاب مطارحات في أروقة المعرفة/ مراجعات نقديّة وبحوث في الفكر العربي المعاصر،

للدكتور مصطفى الحلوة، والتي شارك فيها، إلى قزي، كل من د. محمد شيا ود. جورج طراد والمهندسة الشاعرة ميراي شحادة.

أنطلياس في 12 آذار/ مارس 2023.  

*

 

أثَقافَةٌ… والزمنُ فراغ…!؟

 

الحركة الثقافيّة - انطلياس على عِنادِها… والزمنُ فراغ…!؟

كيف لا، وهي التي وُلِدَت من رَحِم المعاناة، في سبعينات القرن الماضي، يوم كان "لبنان في اللهب"… واتّخَذَت من انطلياس مقراً، ومن عاميّتها قدوةً(1)… لتَقِفَ، جيلذاك، في وجه الحرب/ الفتنة ونظامِها… وتَعْقِدَ العَزْم على ضرورة إعادة بناء الإنسان في لبنان، بل المواطن، إسهاماً منها في الحفاظ على مجتمعٍ مُعافى من أدران شتى العصبيّات ورهاناتِها القاتلة، ودولةٍ مُصانةٌ فيها قِيَمُ الديمقراطيّة، وفي مقدّمها الحرية والعدالة والمساواة…

وها هي اليوم، في أزمنةِ التصحّر واليباس... أزمنةِ الأنين الطالع من مضاجِع المعوزين والمتألمين... أزمنةِ الصراخ المتسرّب من شقوق الجدران، تلك التي تَرْصدُ حركة الأرض على مقاس دقّات القلوب ليْلَ نهار... أزمنةِ الجثث العائمة فوق المياه، لأطفالٍ ما كانوا ليركبوا البحر في زوارق التيه والموت، لو أُعْطِيَتْ لهم كَسْرةَ خبزٍ وابتسامةَ رِفْقٍ...!؟

ها هي الحركة اليوم، ورغم كل الضجيج والعجيجوالموت البطيء... ها هي على التزامها: جُذْوَةٌ مُتّقِدَةٌ في ليل العبثيّة الذي أعْطَبَ أبصارنا وبصائرنا، لنصبحَ ما لم نُدْرِكْهُ يوماً في تاريخنا: حالةً رماديّةً تشْمِئِزّ منها حتى عناصرُ الطبيعة وكائناتُها… تلك التي تَلَوّنَتْ بنا عبر العصور…

ها هي اليوم… رَغم كلّ الإنهيارات التي أعْطَبَتْ لبنان ودمّرَتْ شعبَه… وأفرَغَتْه من مضامينه كافة، ليُصْبِحَ ما ليس هو: حضارةً مُجَوّفةً، وكياناً سياسياً مصدّعاً، وحالةً قِيَميّةً مُتَلاشِيَةً…

ها هي حركتُنا اليوم، وبعد أربعة عقودٍ على انطلاقها، وفي الذكرى المئويّة الثالثة لولادة هذا الصرح الأنطوني التاريخي والديني… ها هي تُطْلِق، من جديد، مقاومتَها الثقافيّة، مُسْتَلْهِمَةً المسارَ التنويريّ كلّه الذي عَرَفَهُ لبنان الحديث والمعاصر، من "المدرسة المارونيّة في روما" وعلمائِها(2) إلى "الندوة اللبنانيّة" وفلسفتِها السياسيَّة(3)،مروراً ﺑ"النهضة العربيّة" وروادِها ومآلاتها… لعلّ الزمنَ اللبنانيّ المتعثّر، يستحيلُ، بعد حين، زمنَ خصوبةٍ وامتلاءٍ وبهاء… فننتقلُ من الثقافة الإفتراضيَّة المسطّحة إلى الثقافة الواقعيّة الملتزمة، أو إذا شئتم، الثقافة "الشاقوليّة"(4).

ولْتَصْمُتُ، عندئذٍ، كلُّ السياسات الجاحدة، والمسارات الظالمة، والمواقف المدمِّرة… ولْتُطْفأ الشاشات المنْتَفِعَة والمتلوّنة… ولْنُصْغِ إلى حناجر الحكماء منّا، تلك التي تفيض بإنسانيّةٍ عارمة، ووطنيّةٍ ثابتة، وقِيَميّةٍ سامية…!؟

*

أيها الأصدقاء،

نلتقي اليوم حول مُصَنّفٍ نقديّ للدكتور مصطفى الحلوة بعنوان: مطارحاتٌ في أروقة المعرفة/ مراجعاتٌ نقديّةٌ وبحوثٌ في الفكر العربي المعاصر... كتاب من 700 صفحة من الحجم الكبير صادر عن منشورات "منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافي" عام 2021.

 

أولاً، المؤلف/ الدكتور مصطفى الحلوة، هو أستاذ الفلسفة وعلم الإجتماع وعلم السياسة في الجامعة اللبنانيَّة/ الفرع الثالث؛ رئيس "الإتحاد الفلسفي العربي" وأحد مديري مجلة "منارات ثقافيّة"؛ حائز على إجازة في الحقوق وإجازة في الأدب العربي، بالإضافة إلى دكتوراه في الفلسفة من جامعة ليون في فرنسا؛ له العديد من المؤلفات... نذكر من بينها ثمانون كتاباً في كتاب/ مراجعات في الحراك الفكري العربي المعاصر، وعبد المجيد الرافعي : قضيّتُه الإنسان – رسالتُه العروبة – وجهتُه فلسطين.

مصطفى الحلوة، بالإضافة إلى كونه دينامو الحراك الثقافي في طرابلس، التزاماً منه، على ما يقول، "بقضايا مجتمعه وشجونه، كما بهموم الإنسان"، هو وجدانٌ مستحرٌّ وقلبٌ نابضٌ وقلم سخيّ... وقد بقي هذا الطرابلسيّ العاشق للإبداع والمبدعين، رغم كلّ ما جرى ويجري في بلادنا، بقي على تفاؤله وعشقه المقرون بالمحبة، والذي يعني، بحسب "نبي" جبران"، أن تضع في كلّ عمل من أعمالك نسمةً من روحك"(5)... وهكذا فعل...!؟          

دكتور مصطفى... يا أيها "الدرويش السالك طريق المعرفة، والحامل مصباح ديوجين، في رابعة النهار". تجوب به من مكان إلى مكان، تتقصى الحقيقة ولا ترتجي جزاءًا(6). أهلاً بك بيننا... هنا في انطلياس... في الحركة الثقافيَّة... فلطالما استضفتنا في فيحائك وغمرتنا بلطفك ومحبتك...

 

ثانياً، الكتاب/ مطارحات في أروقة المعرفة...هو كتاب فكريّ نقديّ وبحثيّ توثيقيّ شامل…إتخذ له منطقاً جدلياً عقلانياً… مستلهماً أرسطو وكبار فلاسفة العرب، من الكندي إلى ابن رشد… ليستوي تحت شعار : "العقل هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقّة"(7).

الكتاب، وكما يقدمه الدكتور مصطفى، هو "مراجعات نقديّة"(8) وأوراق عمل ومداخلات خلال ندوات ومؤتمرات.ينقسم إلى قسمين:

  1. الباب الأول: مراجعات نقديَّة، ويتضمَّن عناوين عدّة، من بينها: في رحاب الشعر، في الخواطر والكتابة الإبداعيَّة، في القصَّة والرواية، في السيرة الذاتية، فلسفة وأديان، سوسيولوجيا/ تربية وعلم التاريخ إلخ... بإمكاننا أن نطلق على هذا القسم تسمية: قراءة في كتاب.
  2. الباب الثاني: ويتضمن بحوثاً ودراساتٍ، من عناوينها: الأخلاق والسلطة، العَلمانيّة، اللغة، الإعلام، العولمة، العمل الثقافي المأزوم وأخيراً من كشكول الذاكرة الشعبيَّة الخ... قد نطلق على هذا القسم تسمية: مساهمات بحثيَّة في ندوات ومؤتمرات متنوعة.  

 

باختصار، هذا هو الكاتب، وهذا هو الكتاب موضوع حلقتنا التي سيتحدث خلالها كل من الزميلين الأستاذ محمد شيّا والأستاذ جورج طراد، بالإضافة إلى المهندسة الشاعرة ميراي شحادة.

______

هوامش

 

  1. عاميّة ١٨٤٠ : ثورة العامة من مختلف الطوائف ضد سياسة الأمير بشير الثاني وتعسفه.
  2. المدرسة المارونيّة في روما: أنشئت في روما سنة 1584 على عهد البابا غريغوريوس الثالث عشر إبان تولي سركيس الرزي السدّة البطريركيّة المارونيّة. وكانت غايتها توفير الدراسات العليا للطلبة الموارنة القادمين من لبنان.
  3. الندوة اللبنانيَّة : هي حركة فكرية ثقافية أسسها ميشال أسمر، بعيد جلاء الجيوش الأجنبيَّة عام 1946، بهدف إرساء "فلسفة سياسيَّة للبنان"، على حد تعبيره، أو بالأحرى "تعمير البيت اللبناني"، عبر المحاضرة – المشروع (راجع كناب عهد الندوة اللبنانيَّة/ خمسون سنة من المحاضرة، تحقيق فارس ساسين، دار النهار للنشر، بيروت ).
  4. الشاقوليَّة:من شقَلَ أي رَفَعَ؛ كلمة من استحداثات كمال يوسف الحاج تفيد معنى الاتجاه من الخاص إلى العام، من الكثرة إلى الوحدة.
  5. مطارحات في أروقة المعرفة، ص. 11.
  6. المرجع نفسه، ص. 15.  
  7. المرجع نفسه، ص.9.
    8.المرجع نفسه، ص. 11.

    _____________________________________________________________

               إنه واحد من آخر " ديناصورات " الكتابة الفكريّة المتحرّكة

    د. مصطفى الحلوة و" مطارحات في أروقة المعرفة": فيلسوف لا يتفلسف!

     

        د.جورج طراد

     

      لم يفاجئْني د. مصطفى الحلوة أبدا عندما تسلّمتُ مؤلفه الجديد " مطارحات في أروقة المعرفة". فأنا ، من خلال متابعتي لكتاباته السابقة وللندوات المكْتنزة التي يشارك فيها، وكذلك من خلال مداخلاته على صفحات التواصل الإجتماعي بالموضوعات كافّة، أعرفُ أنه من المفكرين الناشطين القلائل الذين يصدرون عن علم عميم ومتنوِّع ويشعّون حولهم فيضيئون العتمات الكثيفة التي باتتْ تلفّنا من كل الجوانب.

      أقول إنه من طراز نادر لأن ثمّة كتابات كثيرة تحاصرنا من دون أن يكون لها ايّ مفعول على المتلقّي، وأكاد أقول إن معظمها يولد ميْتًا. أما الدكتور مصطفى فثقافتُه المتنوّعة مترامية الأطراف وشاملة بحيثُتولد كتاباتُه لتعيش  ولتفعل وتتفاعل وتتناسل فتُعطي حياة نابضة أو تَحِثُّ على الرغبة في الحياة.

      يكفي أن تقرأ عنوان الكتاب لتُدركَ انه آتٍ من أرض الفلسفة البالغة الثراء والقادرة دومًا على المزيد من العطاء... وما أن تبدأ في التصفّح والقراءة المتأنيّة حتى تلمِس لمس اليد أن باعه في الأدب طويل، شعرًا ونثرًا، رواية وقصصا وجدانياتٍ وخواطرَ. كذلك فإنّ ملَكة النقد عنده تنساب تلقائيّة . أمّا حين تصل إلى الفكر العربي المعاصر في الجزء الثاني من الكتاب، فإنك تتأكد أن الرجل يتحرّك برشاقة في ملعبه وأنّ القوس أُعطيّتْ باريها. فمهاراته في هذا الميدان واضحة أيضا. فهو باحثٌ متمرّسٌ لا يُشَقُّ له غبار.

      وميزة مصطفى الحلوة أنه ناقدٌ محبٌّ . وحسْبه هذه الصفة ليدخلَ القلوب ويستأثر بها. فالنقّاد ( بين مزدوجيْن طبعًا) الذين يُمطروننا بقراءاتهم الكتبَ والدواوين إنما يستعرضون عضلاتهم أكثر ممّا يستنطقون النصوص التي بين أيديهم. د. مصطفى يعمل على النصّ عمل الصائغ الماهر على الجوهرة الثمينة فيُبْرزُ ما فيها من لمعان ويقوِّم ما فيها من إشعاع، أيّا كان مستواه. والأهمّ من كلّ هذا أنه يلفِتُ إلى مكامن يمكنُ تطويرها والعملُ عليها أكثر فيكون قد أخذ بيد المبدع على طريق التجويد والإرتقاء. وقلبه الكبير يجعله دائما يغِضّ الطرْف عن النواقص وربما السقطات . فهو لا يتطلّع إلى تأديب الكاتب وفضح نواقصه، إنما يريد إبراز النجاحات علّ العدوى الإيجابيّة تنتقل إلى كلّ جنبات النص. وهو هنا ،يذكّرني بجبران خليل جبران الذي أكّد أنه إذا جاءه أحدُهم بقصيدة من مائة بيت ليس فيها سوى التماعة أو التماعتيْن فإنه يتوقّف مطوّلا عند نقاط التفوّق ويثني عليها، فيتشجّع الشاعر لينسجَ على غرارها، ويدركَ في الوقت عينه أن ما تبقّى هو دون المستوى الإبداعي المطلوب.

       قلتُ إن د. مصطفى ناقدٌ محبّ. وأنا أعني ما أقول. فمَنْ يرَ تدبّره للنصوص التي يقرأ يكتشفْ ذلك بسهولة. بطبيعة الحال هو لا يختار من النصوص سوى الواعدة منها والتي تنضح بالإمكانات الإبداعيّة فيساعد على تحويلها من إبداع بالقوّة إلى إبداع بالفعل، كي نستخدمَ اللغة الفلسفيّة الأثيرة لديه.

      ومن دلائل هذه المحبّة في تدبّر النصوص أنه يقيم إلفةً ومودّةً بينه وبين أصحابها. فهو مثلاً يتكلّم على الحبّ الحيدري عند الشاعر عادل حيدر، ويصل في رفْع الكلفة معه  حدودا لطيفة فيسمّيه بالحيدر عادل. كذلك في كلامه على المشروع الرياض عوَضي نسبة إلى الشاعر رياض عوض. هل في هذا تركيبة مأخوذة من الفلسفة؟ ربما. ويزيد د. مصطفى في المنحى النحْتي الإشتقاقي نفسه فيقول: " يستعيش ( وليس يعيش)إفتراضا ما يعجز عن إتيانه اليوم" . لغةٌ من نبع الفلسفة؟ نعم. كما في قوله " النقيض لا يُسْتبان إلا في النقيض" وغيرها.

      إضافة إلى المحبّة في المقاربة، ثمّة تهذيب واضح في كتابات د. مصطفى النقْديّة. فهو لا يقول مثلا إن كتابات فلان لا تنتمي إلى الشعر، إنما يقول " هو يقرِب من الشعر"، فيكون قد أشار بلباقة أنيقة إلى النصف الملآن من الكوب بدلا من التوقّف عند عيوب النصف الخاوي! وهو دائما يجد أسبابًا تخفيفيّة لنواقص الكتّاب فيعتبرها حينا " فجوات لا يُبنى عليها" ، أو يرى أن الشاعر" يُستدْرَج إلى مواقف خطابيّة، كي لا يقول عنه إنه سقط إلى السرديّة الإنشائيّة. لا بل ، تراه يصلُ ، وعن قناعة، إلى مستوى تجاوز التصنيف بين شعر ونثر، والاستعاضة عنه باستخدام " مرتبة عليّة في عالم الكتابة ". كذلك الأمر، وبلباقته المعهودة ولكن المنْصفة وغير المُحابية، يقول : " وحبذا لو استعاض الشاعر عن( القصيدة) بكلمة نثريّة، فهو ذو باع طويل في أدب الترسّل، ولكنه أبى إلا أن يغرف من مَعين بضاعته، وذنبُه على جنبه "!

      ومن الواضح أيضا أن ثقافة د. مصطفى الواسعة والمتنوّعة تنضح جليّة من خلال صفحات هذا الكتاب. فهو فيلسوف لا يتفلسف على الآخرين إنما عنده القدرة على التبسيط، فتصل كتاباته إلى الجميع، حيث تفعل فعلها دونما انفعال أو افتعال. ثقافته الشعرية ممتدة من جميل معمر إلى محمود درويش مع ما بينهما من قمم والتماعات، لا فارق عنده بين شعر حر أو شعر عمدي أو قصيدة نثر. فالمهم هو ماء النص. وهو الذي يقول حرفيّا : " في مقاربتنا هذا الديوان أو المجموعة النثريّة". وثقافته الفلسفيّة طالعة من أرض أرسطو لتضرِب في تربة ابن سينا والفارابي وابن رشد والغزالي وآخرين، ويصل مداها إلى الزمن الحديث، عربيّا وغربيّا، وقد شرب د. مصطفى من تلك الينابيع وما ارتوى حتى الآن. وآثارها ظاهرة في كل هذا الكتاب.

      حتى عندما يقرأ شعرا بالفرنسية ( ديوان اميلي فيعاني)، فإن قدراته الثقافية تتجلى من خلال المقاربة النقدية ولكن كذلك من خلال مقدرته على ترجمة الشعر من دون أن يُفقدَه شيئا من ماويته.

      وثمة مقاربات مطوّلة مكتنزة استثمر فيها د. مصطفى ثقافته الواسعة، كما في تناوله لكتاب د. جان توما " والعمر شراع مسافر". في هذه المقاربة النقديّة يوظف د. مصطفى ثقافته الأدبية والفلسفيّة معا لأن النص يتطلّب ذلك، فتوقّف عند البعد الفلسفي للدكتور توما ليصل إلى خطاب الهجرة بتجليات وجعه الوجودي، حتى يتبدّى لنا المؤلِّف كاملا في عدسة القارئ، فنكاد نلمس طيف د. توما يتحرّك بين كلمات د. الحلوة.

      كذلك يعود بنا د.مصطفى في كتاباته المميّزة هذه إلى مرحلة المخاضات اللبنانية الحادة من خلال مقاربته لمسرحيّة " ليالي القاووش" لعبدالله شحادة التي وضعها في العام 1962 ، وإذا بها سبْق رؤيوي لشاعر الكورة الخضراء وكأنه يصف ما نتخبّط فيه اليوم من دوامة المسرحيّة/ المأساة التي تكاد تبتلع وطنا بكامله، ما جعل د. مصطفى يختم مقاربته ل" ليالي القاووش" بصرخة موجعة حيث قال : تصبحون على وطن، قد يشيَّع عاجلا إلى مثواه الأخير إذا لم تحصل معجزة في عصر لم يعد فيه للمعجزات كبير حضور ".

      أما في الباب الثاني للكتاب، والمخصّص للبحوث والدراسات، فهو بحق يختصر شخصية د. مصطفى الفلسفيّة والفكريّة، إذ يتحرّكهنا على أرضه وفوق ملعبه الفلسفي الأثير، كما قلنا. فهو،من خلال تطرقه لموضوعات متحركة تتعلق بالمجتمع وبقناعات أبنائه وتاريخهم ومعتقداتهم ، إنما يضع الإصبع على الجرح، فيتبدّى قامة باسقة في المجال الفكري يمكن أن تعود إليها أجيال آتية فتنهل من  معين معرفي أصبح ، مع الأسف الشديد، نادر الوجود في زمننا الثقافي الراهن. وربما يكون د.الحلوة على هذا الصعيد، واحدا من آخر الديناصورات الناشطين، قبل الإنقراض، في الكتابة الفكريّة المتحرّكة. بمعنى أنه تجاوز جفاف الكتابات التنظيريّة الفلسفيّة وانخرط في حركيّة الحياة اليوميّة ليتناول ما فيها من نبْضٍ حيّ يقرّبه إلى الناس، فيخفّف من حدّة التسطيح التسليعي الذي يحاصرنا من كلّ الجهات.

      فشكرا لك د. مصطفى على هذه العطاءات المميّزة.

     وشكرا لكِ الشاعرة السيّدة ميراي شحادة على أحتضانك الكتابات الرصينة وعلى إتاحة المجال لإيصالها، من خلال منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء، إلى أوسع عدد ممكن من الناس، فيصار إلى تعميم الفائدة.

      وشكرا لكم أيها الحضور الكريم على صبركم وتحمّلكم الإستماع إلينا كل هذا الوقت.