الثلاثاء 10 آذار

ندوة حول كتاب الشاعر هنري زغيب

"في رحاب الأخوين رحباني"

 

كلمة أنطوان سيف

        العبور إلى عالم الأخوين رحباني يؤول إلى رحابٍ "وسْع المدى"، لا تخوم لها. عانى هنري زغيب عنوان كتابه. جال من أجله في سراديب المعاجم والذكريات والابداعات الشعرية المعبّرة. حامَ وحارَ واستوضح واستشار، وعاد بعد التطواف الأولِ: وهو "في رحاب الأخوين رحباني". أزعم أنّه ما ساح إلاّ ليرسّخ الرحاب على كل ما عداها، وقد بلورتها رحلتُه البحثية أكثر ممّا كان لها من حظوةٍ في البدء، وذلك لقرابة لغوية موسيقية خفية بين عبارتَي الرحاب والرحبانية، يشفعها المدى الذي يربأ بالحدود والمواصفات المسبقة، بألف حجة حضور.

        إلاّ أنه، وهو اللصيق بهذا العالم الرحباني والمتفرّد بالكثير من مخبوءاته التي تدفع مرادفاتها، لا كينونتها العارية، إلى الظهور في ثنايا القصائد والأشخاص المسرحية والحوارات والمصطلحات التي يعرف، كعلماء الجبر، كيف وأين يضع على كل همسةٍ قيمتَها، لم يتخلّص، مع ذلك، من قلقه في أن يكون لولوجه وقعُ الاقتحام الذي يصاحب في ثناياه الكثير من التعامي عمّا لا يجوز طمسه، وما لا يمكن الاّ أن ينزلق خارج مستطاعة: ظل وعيُه مسنوناً في التبصُّر بفكرة "الرحاب" اللامحدودة وغير القابلة للمصادرة. عرف حجم المساحات التي لا يعرفها من عوالم الرحابنة، عاصي ومنصور. العوالم التي تجسدت وتماهت مرةً واحدة والى الأبد في صوت فيروز كينونة واحدة دخلت بثلاثيّتها التاريخ، أي وجودها المبتَدع، وبات تخيُّل تجزئتها اعتداءً على جوهرها.

        انسحب هنري، في هذه المفارقة التي لم تبارح وجدانه، وطلباً للتمامية والنزاهة المنهجية الاكاديمية، إلى إعلان منطق قياس "السلب"، قياس "ليس و"لا"، الذي استخدمه قبله الفلاسفة وأهل الميتافيزيق لمقاربة المطلق، الذي ليس هو كذا ولا كذا، ولا سبيل إلى ذكر ما ينفي لاستغلاقِ الكلام على قول ما هو، فكانت فاتحة كتابه: "هذا ليس كتاباً عن سيرة الأخوين رحباني بالمعنى البيوغرافي التقليدي. وليس نشراً لشعرهما كاملاً ولتراثهما، ولا تحليلاً لأعمالهما، ولا دراسة لفنهما الكتابي او اللحني، ولا إسقاطاً دقيقاً لمنعطفات سيرتهما على نتاجهما الفنّي... وليس فيه منهج توثيقي يجعله أكاديمياً إلخ إلخ...

        هذه المنطق كان في القديم يشي، من غير أن يُعلن، محدودية اللغة وأرضيتها (أو حتى خطيئتها الأصلية، كما هو وصفها برغسون، في معاشرة الأشياء المحسوسة قبل أن تدّعي وتزعم معاقرة ما لا مادة فيه!). إلاّ أن الشعراء، وهنري منهم كما موضوعه، كانوا أعرف بهذه الحقيقة، فجرّدوا الأشياء باللغة وألغوا معجمية حدودها... فكيف بك والحال هذه، وانتَ في حضرةٍ كبيرة ضاعفت هذا البارادوكس باللحن والأغنية والمسرح؟ لذا يعترف المؤلف بمكان "رحب" لغيره كثيرين من المؤلفين في الرحابنة (وهم ليسوا تحت عنوان كتابه)، بل سيظهرون "ذات يوم نأمل الاّ يطول"، كما يقول. ويسارع الى الاكمال قائلاً: "ومتى سيأتي هذا اليوم يكون هذا الكتاب خميرةً.

        ولكن ماذا يكون هذا الكتاب فعلاً عن الأخوين رحباني، من رحبانيّ بامتياز، لا ما لا يكون فحسب.

        انه "خميرة وثقى"، مضافة الى الدراسات الرحبانية، و"خميرة خيّرة" لمن سيأتي يوماً. كتابٌ هو، بعرفه، "دعوة الى رحاب العالم الرحباني، مفتاح للدخول إليه، ضوء على الطريق اليه..."

        لهذا العمل الجميل والدقيق عنوانان كبيران: انه سيرة الأخوين رحباني كما رواها منصور لهنري على حلقات عدّة (وهنا يكون الكاتب في موقع فريد من هذا الموضوع غير قابل للاستبدال)، وفيه عرض لقصائد وحوارات الأخوين كما هي (in extenso) تصلح كوثيقة تامة، وهذا عمل رائد بموثوقيته، للبحوث والدراسات.

        وعانى المؤلف خصوصاً، لا من الشعر، بل من الموسيقى، وهو ليس من خبرائها: قدّم تقطيعاً صعباً ورائداً لقصيدة الأغنية. وهذا عمل بارع وغير مسبوق، وقابل للجدل أيضاً.

        إلاّ أنّ في الموسيقى ميزاناً آخر لا يحسن الكلام فيه إلاّ أهلها الكبار، ومن أمتهن منهم النقد.

        في "رحاب الأخوين" في هذا الكتاب بالذات، كم كنتُ أحبّ مطالعة بعض من مواقف هؤلاء. أكتفي باثنين منهما:

        محمد عبد الوهاب في برقية التعزية التي أرسلها بعاصي، والتي سنحت لي الفرصة أن أقرأها عياناً وبنصها المرسل من القاهرة الى انطلياس، التي قال فيها، مختصراً كما العادة "الأخوين رحباني":

        "جبال لبنان الشامخة تنحني إجلالاً وحداداً وأسفاً على الفنان عاصي الرحباني. فقد كان أول من فتح أبواب المدينة والنور على الموسيقى والغناء العربيين".

        وأشير إلى أني لم أرَ بعد ذاك أي أثر لمضمون هذه البرقية في الإعلام!

وتصريح الملحّن الكبير رياض السنباطي، غداة وفاة أم كلثوم: "إن الموسيقى العربية لم تعرف أيّ تجديد في طابعها الشرقي منذ سيّد درويس، باستثناء ما قام به الرحابنة عاصي ومنصور: فهو جديد وجميل ولم يفقد صلته بتراثه المشرقي".

        هذه بعض من "الخميرة" السابقة، الخميرة ذاتها التي دعتنا للكشف عنه، ومؤشر ربّما لما سيأتي يوماً؟

        "في رحاب الأخوين رحباني" سِفر رحباني بامتياز، ذاتاً وموضوعاً، وفيه من "الخميرة" الذاتية ما يجعله، بفرادته الطيبة، غير قابل للنسيان.

                                                                        د. أنطوان سيف

 

 

كلمة الأستاذ رفيق خوري

أعرب الأستاذ رفيق الخوري عن استمتاعه بقراءة كتاب الشاعر هنري زغيب الّذي كتبه وفاءً للأخوين الرحباني، مشيرًا إلى أنّ هذا الكتاب يعلّم أمورًا كثيرة، إذ أنّ الشعر الّذي كتبه منصور وعاصي هو مستوحى من الحياة اليوميّة وينبض بالحياة في حين أنّ مواضيع الشّعر اليوم هي خارجة عن الزمان والمكان وأضاف أنّ الأخوين قاما بتحولّ هائل في الأغنية اللّبنانيّة وقطع مع المرحلة السابقة. وأسف أنّ مدرسة الرحباني لم تشهد تطورًّا عند آخرين من بعدها.

 

 

 

كلمة الأستاذ جورج سكاف

 

شبّه الأستاذ جورج سكاف في بداية كلمته الشاعر هنري بالنحلة الدؤوبة على المثابرة لـ"يقطف" من كلمات منصور الرحباني ما عمله الأخوين "في بناء وطن الأحلام" لأن المؤلّف هو نفسه شبّه عما الرحابنة بعمل النحلة كما وصفوها في إحدى أغانيهما. ثمّ وصف مسيرة الأخوين الرحباني بـالنهضة الفنية في لبنان والمشرق. وأشار الى أنّ الشاعر زغيب تابع مسيرة الأخوين إنّما "بمهمّة أكبر وعزيمة أشدّ" في مجال البحث وذكر بعض الأقوال والكتابات الّتي كتبها منصور منهيًا بأنّ بنظرالشاعر "وحده الزمان الطويل يظهر حجم وقيمة الإنسان الخيّر". وفي نهاية كلمته، هنّأ الشاعر هنري زغيب ووصفه بـ"رفيق الألق الرحباني".