الحركة الثقافية أنطلياس

المهرجان اللبناني للكتاب 2015/3/11

مقدمة الندوة حول كتاب السيّد هاني فحص

"الشيعة بين الاجتماع والدولة"

 

كلمة  المهندس ميشال عقل

في اللقاء حول هاني فحص، تتدفق الكلمات والأفكار والأحلام، من دون أن يصدَّها الفراق أو يلفَّها التراب أو تحجُبَها الأحداث السوداء والإحباطات التي تطوِّقنا من كلّ صوب. فالسيّد الذي غادرنا بالجسد، لايزال حيّاً فينا، بل ويزداد حُضوراً مع مرور الزمن وقساوته، ويزداد كثافةً وإشعاعاً، وبعثاً للرجاء والأمل، عِبرَ السّيرة والقامة والكلمة والقيم والإنجازات. هو باقٍ معنا، فينا، في عائلته الصغيرة، وفي عوائله الكبيرة على امتداد جبل عامل وكلّ لبنان والأمّة الحزينة… . صوته لايزال يهدر ليُعلِّي قيم الحق والمحبّة والتسامح والبناء والوحدة والحوار والعقل… تلك القيم الموحَّدة والموحِّدة الإسلاميّة-المسيحيّة-الإنسانيّة-الجامعة، التي لا يُشوِّشها تناقض أو تمييز كما كان يُردد. يا نصير الحكمة والعقل، أيّها المجتهد،  من دون أن تجرح أو تُسيء أو تخاصم. لسانك دائماً من ذهب كما قلبك وعقلك والأفكار. أيّها الناقد بدءاً من الأنا والعشيرة والبيئة، أيّها الرائد في المراجعة حتى التوبة العلنيّة، من دون شعور بالنقص أو الدونيّة.

أنت مستمرٌّ في كلّ حرف من إرثك المكتوب، وفي وجه كلِّ حبيب من مقلّديك وأصدقائك الذين لا يُحصون. أيّتها الموسوعة الدينيّة-المدنيّة-الإجتماعيّة-السياسيّة-الأدبية التي أَغنت المكتبة العربية والإسلاميّة، بما رَفْدتَها به قبل الرحيل، وبما ينشرُه أحبّاؤك من كنوزكَ بَعْدهُ… وكلُّها في سياقٍ سويّ تتقاطع وتتكامل وتتسامى في أطروحةٍ جوهرها، التفتيش الدائم عن "الله في الإنسان وعن الإنسان في الله وعن كليهما في لبنان ودنيا العرب".

 

أنطلياس، التي تعرفك وتحبّك تفخر بالإنتساب الى خطّك، تماماً كما كنت أنت تبادلها، ديراً ورُهباناً وعاميّةً وحركةً ثقافيّةً، مُقيماً وثابتاً بالشراكة الكاملة معها، قيِّماً على الكلمة الهادفة والحريّة والحداثة وحقوق الإنسان والمواطن والمساواة… . ولم يكن مستغرباً هذا التلاقي حتى التماهي، بين أنطلياس بكل تراثها ونهضتها وآفاقها، وبين هذا الإمام العاملي الكبير وتراثه وإرثه النهضويّ. هذا التلاقي روحي إنساني لبناني بإمتياز، قبل وفوق أيّ نعتٍ آخر، وقد عبَّرتْ عنه،  وعبَّرتَ أنت، في سائر المناسبات والفرص، في أعياد مار مارون المتتالية، وذكرى العاميّة، ولقاءات إنتظارات الشباب، وجولات معاً نعيد البناء، وندوات ثقافيّة أنطلياس،…  وصولاً الى مذبح الكنيسة، حيث أمسيت فيه إماماً وواعظاً. فبادَرتْ الى الوفاء لك، بإقامة الصلاة على روحك الطاهرة في ذكرى الأربعين، حيث أقمنا "عاميّة جديدة".

 

أيّها الأحبّاء،

 لو كنت ممن يُفسّرون الأحداث بالمؤامرة لقلت أنّ غيابك من صنعها بل تقصُّدها، خصوصاً في لحظات الإنحطاط العربي وتشظّي المجتمعات العربيّة واندثارها. أنظر من عليائك كيف تُستباح الأرواح والقيم وتُزهق الأنفس وتُدمّر الحضارات باسم الدين والله. أُنظر الى تهافت العربية والرابطة القوميّة في بلادنا، أنظر الى جاهليّتنا المستعادة، أنظر كيف ندفن بأيدينا مئات السنوات من النهضة والبناء. لو كنت بيننا بالجسد ماذا كنت تقول لمستثمري الدين الذين إتّخذوه عبّارة للقتل، بماذا كنتَ تنعتهم وأسيادهم وحاضنيهم ومموّليهم، وبماذا كنتَ تُسمّي المتخاذلين والمتواطئين معهم بالصمت… والحياد . بماذا وكيف كنت تردّ ؟

 

وقبل أن أعطي الكلمة للأستاذ محمّد حسين شمس الدين ليقدم الكتاب، وللمُحاضرَين الباحثين، الدكتورين سعود المولى وملحم خلف ليُبحروا فيه ، أريد أن أتوقّف أمام ما أعتبره خلاصة الخلاصات في تجربة السيّد، وهي على ما أزعم، تشكّل الردّ المسبق أو الإستباقي، على فظاعات تلك الوحوش الثائرة بإسم الدين والله والكتاب. هذا الردّ الحاسم يتمثّل بنُصرتك الواضحة وتأييدك المطلق للدولة المدنيّة، ورفضك القاطع للدولة الدينيّة، أيّة دولة دينيّة.

هذا الموقف-الرد تجلّى في كلّ مؤلّفاتك لاسيّما في محاضرتك 31 آذار 2012 المنشورة في كتاب "الدولة المدنية بين الخيار والبناء"، وفيها أعتبرت أنّ ما تبقى من دول دينيّة (حتى إيران) سوف تتحوّل في إتّجاهٍ مدنيّ. وعبّرت في النصّ ذاته أنّ لا خوف على لبنان "وإن بقي فيه سجال الدولة والطائفة قائماً إلى أن نتمدّن مضموناً وشكلاً". كما دعيت الى مزيد من الديمقراطية على حساب الطائفية ريثما تزول وتبقى الطوائف كمتحدّات إجتماعيّة تحت سقف القانون… كما قلت في النص ذاته "أن القرآن لا يصفُ دولةً، بل وصف مجتمعاً… والدولة كضرورة إجتماع، مفهومٌ متحرّك تُقدَّر بظروفها المتغيّرة قطعاً، والنص الديني في هذا الإتّجاه…" . أبعد من ذلك ذهبت، عندما ناقشت وثيقة الأزهر الشريف حول مستقبل مصر، الصادرة بعد ثورة 25 كانون الثاني 2011، والمنشورة في كتابك "المسلمون بين التعريب والوحدة والفتنة 2014"  لتقول: " أنّ مفتاحنا على العصر… دَعْمُ تأسيس الدولة الوطنيّة الدستوريّة الحديثة… وهي دولة وطنيّة لا دولة الأمّة".  وتضيف "هكذا يمكن إعتبار الدولة الحديثة دولة الأفراد ودولة الإنتخاب والمراقبة والمحاسبة وفصل السلطات… وهي ضرورة إسلاميّة وطنيّة مفتوحة على التطوّر…".  كما دعوت إلى "ورشة دائمة إسلاميّة تعددّية، وعربية تعددّية، ودينيّة تعددّية، لتأخذ دورها في حداثة وحماية التعدّد في البلاد العربيّة… تحت سقف القانون وحقوق الإنسان والمواطن والإعتراف المتبادل".

 

 

أما الكتاب الصادر حديثاً "الشيعة بين الاجتماع والدولة" ( وهو لن يكون الآخير بحسب ما روى لي ناشر الكتاب الصديق أنطوان سعد) فهو مدماكٌ في تعلّي العمارة المدنيّة اللبنانيّة، وإحياء للذاكرة التوحيديّة المدنيّة للإجتماع الشيعي، وتوقِهِ الدائم الى الدولة المستقلّة. وعندما ستقرأون هذا المؤلّف ستكتشفون آفاقاً أخرى للسيّد تتصل بعلم الإجتماع-السياسي، حيث يعرّفنا،  وبمنهجيّة عالِم الإجتماع الموضوعي (التي لا نألفها عادةً لدى رجال الدين) عبر الوقائع والأحداث التاريخيّة والأرقام والمواثيق والأسماء، على الشيعة ودورهم في نشأة الكيان اللبناني منذ بدايات القرن الماضي، ومدى وعمق ارتباطهم بالإستقلال والدولة الوطنيّة في داخل الهوية العربية الاسلامية، وعلى رفضهم للدولة الأمة، الدولة الدينية، وتمسُّكهم  بالتحرّر والتعدد والدولة المدنية.

 

أيّها السادة،

كلّما قرأت للسيّد وعنه وتأمّلت في إرثه شعرت بالأمل والرجاء، وازددت تصميماً على المواجهة، مواجهةِ أعداء الله والإنسان والحياة والعلم، الذين يشوّهون الأديان والمذاهب والأوطان والتاريخ والخليقة، وتمسكت أكثر بلبنان السيّد الحرّ المستقل التعددي المدني الحديث… . تعالوا معاً، وفاءً للسيّد ومسيرته وإرثه وروحه، لنقاوم التطرّف والعنف والإستبداد والأصوليّة، بدأً من ذواتنا ومحيطنا، كما في تراثنا وتاريخنا وكتبنا حتى المقدّسة منها، ولنتسلّح دائماً بالحوار والعقل والإعتدال والحريّة والتنمية والدولة المدنيّة. رحم الله هاني فحص: أيقونةَ الحوار والدولة المدنيّة.

 

 

في 2015/3/11                                                               المهندس ميشال عقل

 

كلمة الدكتور سعود المولى

هاني فحص:الذاكرة هي شرط الحلم

 

ظل ولداً عاملياً مشاغباً ومقاوماً حتى آخر لحظة من حياته...

في قريته جبشيت "ذاق عذاب شتلة التبغ وصباحات الكادحين، قبل تذوقه عذابا لمعرفة في أسئلتها الكبرى".

عشقه للغة العربية كان الدافع الأول لرحلته النجفية (1963- 1972): "عشقت اللغة وعشقتني هي أيضاً..فاللغة هي أيضاً بشر: لحم ودم وقلب وعقل"... وكان ميالاً للاندماج بأسئلة الحداثة... وكان ذلك غريباً في النجف...

كانت ثقافته الإسلامية العميقة والواسعة يوازيها ثقافة أخرى من خلال إطلالاته المختلفة على كل الفكر الانساني، خصوصاً الفكر اليساري. كان من النادر أن تجد معمماً يقرأ ماركس ولينين وماو تسي تونغ وسارتر وميشال فوكو وبيار بورديو إلى جانب القرآن ونهج البلاغة والأجرومية.

عاد من النجف عام 1972 وشارك بتأسيس منتدى أدباء جبل عامل.مع مجموعة مميزة من الشباب (أبرزهم على ما أذكر محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وحمزة عبود وجهاد الزين، وغيرهم طبعاً) .

وبلحظة ما قال لنفسه"يجب الذهاب إلى مطرح آخر"...وفعلاً ذهب إلى عند مزارعي التبغ... "تبغ! ما أنا عشت التبغ!ما أنا مكوّن من مرارات.. مكوّن من فرح مر، وحزن مر، ونوم مر، وسهر مر، وكتاب مر، وشاي مر، وسكر مر،وعرس مر، وموت مر...كله بسبب الدخان.".

خلال السنوات 1973-1977 كان السيد هاني ضيفنا الدائم (الجبهة الوطنية الطلابية) في محاضرات ومهرجانات شملت كل الكليات والجامعات... كان أول معمم شيعي يدخل قاعات المحاضرات في الجامعة اللبنانية. وكان أيضاً أول رجل دين مسلم يشترك في نضالات العمال والفلاحين والطلاب والأساتذة... ولكن دور السيد هاني الطليعي في نصرة الكادحين سطع وتبلور مع انطلاق حركة مزارعي التبغ... في 22 كانون الثاني/يناير 1973 انطلقت حركة مزارعي التبغ في النبطية وكان السيد هاني على رأسها...

في تلك السنة العاصفة بالتحركات النضالية (1972-1973) والتي حصل فيها أيضاً أول صدام واسع بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين (أيار/مايو 1973) نشأت علاقة مميزة بين كمال جنبلاط وهاني فحص، وكان محسن ابراهيم ثالثهما....

كانت حركة فتح هي أيضاً خيار السيد هاني مثلنا نحن الشباب، ولكن من منطلقات وطنية ودينية وعروبية ويسارية عامة التقت مع تطلعاتنا اليسارية الماوية يومذاك. كنا نريد الذهاب الى حيث توجد الجماهير لنتعلم منها ونقودها على طريق الثورة.وكان السيد هاني يقول لنا تعالوا إذن إلى المسجد (حين كان إماماً لمسجد جبشيت 1972- 1975) وشتلة التبغ وعرق العمال وإلى معسكرات الفدائيين في الجنوب.

"صرت أبحث عن الشرط السياسي للمجال الاجتماعي ورأيت أن فلسطين هي شرطنا جميعاً... فذهبت إلى فتح... لأنني كنت أبحث عن مطرحي سمح لاعتدالي ولتديني أن يمارس دور هبد ونقمع وبدون مصادرات... لأن هذا التدين والاعتدال ليس لهم طرح باليسار بشكل عام... ذهبت إلى حركة فتح، وفعلاً كانت مساحة الحرية بحركة فتح واسعة...".

عاصر السيد هاني مرحلة صعود واتساع حركة الإمام موسى الصدر فأيدها دون أن ينخرط فيها. وجد أن موقعه الحقيقي هو من خارج حركة المحرومين وبالتمايز عنها وليس بالضرورة ضدها، وإنما إلى يسارها: ناقداً محباً ومتضامناً يذلل أمامها الصعاب وينزع من طريقها الأشواك، وما كان أكثرها خصوصاً في صفوف اليسار اللبناني والثورة الفلسطينية. فكان له الفضل في تلك الأيام في تحقيق الوصل والتعاون بين الإمام الصدر من جهة وأبو جهاد وأبو عمار وكمال جنبلاط ومحسن ابراهيم وجورج حاوي من جهة أخرى.

في العام 1974 رشحه كمال جنبلاط ومحسن ابراهيم للانتخابات الفرعية في النبطية ، ولكن سرعان ما انسحب من المعركة بسبب اعتراض السيد موسى الصدر آنذاك ، وبسبب صراعات أهل اليسار وتهاونهم عن دعمه. حاول السيد الترشح مرتين بعد اتفاق الطائف (1992 و1996) ولكنه سرعان ما كان ينسحب تدليلاً على أن ترشحه إنما هو لهدف سياسي وطني ونضالي وليس لموقع أو لمكسب شخصي.

كانت علاقته بحركة فتح علاقة الثائر الأممي الإنساني بقضية الثوار أجمعين (فلسطين) وهو تعامل مع كل قادتها (خصوصاً أبو عمار وأبو جهاد) ومن اليمين واليسار، وكسب محبتهم واحترامهم جميعاً ولم يتخلّ -رغم قربه منهم- عن انتقاداته لدورهم وأدائهم في الحرب الأهلية اللبنانية.

وعندما بدأت الثورة الإيرانية خريف عام1977 عمل السيد هاني على إنشاء التواصل بين ياسر عرفات والإمام الخميني. زار السيد هاني الخميني مراراً في النجف ثم في منفاه الباريسي(نوفل لوشاتو). الموقع الفلسطيني المميز جعله أكثر انفتاحاً (على حد قوله)... هو كان بالأصل منفتحاً منذ أيام النجف... وقد تعامل مع الثورة الايرانية مثلنا جميعاً تعامل الفرح بانتصار ثورة شعبية ديمقراطية سلمية على أعتى

الامبراطوريات الاستبدادية... ورأى فيها فاتحة عصر جديد وبوابة أمل لفلسطين والعرب... فكتب لنا شعار المرحلة : اليوم إيران وغداً فلسطين، وكنا كتبنا في 30 نيسان 1975 اليوم فيتنام وغداً فلسطين...

بعض الذين ينتقدون اليوم تلك المواقف يتناسون أن كل ثوار العالم وكل اليساريين تعاطفوا وتضامنوا مع ثورة إيران، وأن ميشال فوكو كتب يمدحها ويمدح ما تمثله بالنسبة للشعوب المستضعفة ...وأن الذين أيدوا الثورة البلشفية أو الصينية أو الفيتنامية أو الكمبودية أو الكوبية، لم يؤيدوا مآلاتها ولم يحملوا وزر أخطائها وخطاياها ومصائرها الاستبدادية، بقدر ما أنهم حلموا بانتظاراتها الموعودة وحملوا شوق شعوبهم وجراح نضالاتهم وكفاح الفقراء المتعبين... والسيد هاني كان مثلنا جميعاً حالماً بوعود العاصفة وبأقواس قزح..

كان راغب حرب صديق السيد هاني الحميم والوفي ورفيق طفولته في القرية ودراسته في النجف؛ وكانت علاقتهما مضرب الأمثال في جبل عامل. كان السيد هاني والشيخ راغب لا يتفارقان وقد واجها معاً كل الخيارات السياسية الحاسمة في حياتهما منذ جاء الشيخ راغب إلى الجنوب عائداً من النجف وحتى تأسيس المقاومة المدنية الشاملة بعد الغزو الصهيوني للجنوب عام 1982 ثم استشهاد الشيخ راغب في 16 شباط 1984... وبعد الاحتلال (1982) سافر السيد هاني إلى إيران مع عائلته وأقام فيها ثلاث سنوات،وعاد من إيران عام 1985 (بعد سنة على استشهاد راغب حرب)، وقد تخلّى (مثلنا جميعاً بعد تجربة مرة) عن الكثير من الأفكار والمسلمات والمطلقات... أدرك السيد هاني أن الثورة الإيرانية التي أعطاها من روحه وحياته ومن عقله وفكره قد سارت على طريق الثورات التي سبقتها في التحول إلى دولة مستبدة ولكن باسم الدين هذه المرة، وهذا أعقد وأسوأ أنواع الاستبداد.

صار السيد هاني مثلنا جميعاً أكثر استعداداً لسماع الرأي الآخر المختلف، ولقراءة التجارب الثورية التاريخية قراءة جديدة تبحث فيها عن الحرية والعدالة والديمقراطية قبل كل شيء، وتضع الإنسان في المقام الأول: حياته وحريته وحقوقه. أعاد السيد وأعدنا معه قراءة النص الديني والنصوص الوضعية العلمانية، اليسارية والليبرالية... فكانت ورشة (كما كان يحب أن يسميها) لم تترك شيئاً لم تقاربه أو تنتقده أو تعيد قراءته...

وهنا التقى السيد هاني (كما التقينا نحن) بالشيخ محمد مهدي شمس الدين (1988)... اكتشفنا معاً أن هناك أفقاً ديمقراطياً مدنياً لكل الثورات ولو أنها تضيعه وتفقد بوصلته.. واكتشفنا معاً أن هنا كأسساً قائمة لدولة مدنية في لبنان، من الميثاق والدستور الأول إلى الميثاق الأخير في الطائف (الذي جمع بين الميثاقية والدستورية)... واكتشفنا مع السيد هاني قيمة التعددية اللبنانية وأنها"شيء رائع"،وأن فيها"مشروع عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع"،وأن علينا نحن صياغة نوعية الدولة المدنية الناتجة عن هذا العقد...

إنطلاقاً من هذه المراجعات تفرّغ السيد هاني بعد العام 1992 للحوار والكتابة والعمل الفكري والثقافي، فأسسنا أولاً الهيئة الإسلامية للحوار، بطلب من الشيخ شمس الدين، ومنها انطلقنا لتأسيس "المؤتمر الدائم للحوار اللبناني" (1993) مع سمير فرنجيه ورفاقه في لقاء سيدة الجبل.

بعد وفاة الشيخ شمس الدين (كانون الثاني 2001) صار السيد هاني (مع عدد صغير من العلماء والمثقفين) هو المؤتمن على هذا الخط التاريخي للشيعة العرب واللبنانيين، خط "ولاية الأمة على نفسها" وبناء "دولة مدنية ديمقراطية عادلة" و"مواطنة سليمة متساوية للجميع وبين الجميع ومن أجل الجميع".

ومن هنا فقد عمل على تأصيل فكرة الشيخ شمس الدين وفكرته عن علاقة الشيعة بالدولة عمومًا وبالدولة اللبنانية خصوصًا، وضرورة الاندماج الوطني للشيعة العرب في أوطانهم. فكان هذا الكتاب.

كان السيد مجدداً في كل شيء لا يخشى القول بالعلمانية من منطلق إسلامي ولا يخشى انتقاد الشيعية السياسية من منطلق وحدوي، كما انتقد من قبل المارونية السياسية والسنية السياسية والثورة الفلسطينية والقيادة الإيرانية الخ... ودائماً من منطلق الحرص على العروبة ولبنان وفلسطين والإسلام والتشيع.

كان حاضراً في كل ما هو إيجابي ومشرق... كان يستولد المبادرات حين كنا جميعنا نعجز عن مواكبة التطورات المتسارعة والمقلقة. فكان يسبقنا ويذهب إلى حيث توجد مبادرات شبابية جريئة: 

امتشق السيد هاني قلمه وجعل قلبه دليله وعقله شراعه، فحيث كان القلب كان الحلم وكان الحب وكان الفرح وكانت الطفولة وكانت الذاكرة، وكانت الثورة وكان النضال وكان التغيير...

وبعد ذلك وفوق ذلك فقد كان السيد هاني  صديقاً حبيباً مخلصاً وفياً صادقاً صدوقاً...

وكان عالماً متفقهاً متبصراً منفتحاً أصيلاً حراً لا يخشى في الحق لومة لائم...

كان نسمة ناعمة داعبت خيالنا وأيقظت أحلامنا...

 

كلمة الدكتور ملحم خلف

أشار الدكتور ملحم خلف في بداية كلمته إلى أنّ قراءة هذا الكتاب جعلته يشعر بحضور صديقه الأستاذ هاني فحص الّذي تميّز بتحرّر عقله وإنسانيّته وأفكاره وتحليله، مشدّدًا على أنّ الكتاب "بعثه حيًّا من جديد ليناضل لأجل وطنٍ واحد متنّوع". ووصفه بالشعلة الّتى تنير "شرقنا الحزين". ثمّ تحدّث عن آخر حديثٍ دار بينهما حول جنوح الفكر التكفيري. وأضاف أنّه استطاع من خلال كتاباته وضع الشيعة في مكانتهم الوطنيّة وترسيخ حريّة الخيار والديمقراطية والتعددية. وذكر أنّ السيّد فحص شدّد على ضرورة الفصل بين الدين والوطن وترسيخ الإنتماء الوطني المهمّ بقدر الإنتماء الديني. وفي الختام، لخصّ حديثه قائلًا إنّ السيّد فحص سلّط الضوء على مستقبلٍ يعمل فيه الشيعة على ترسيخ قيم العدالة وذلك عبر قبول الآخر وأنهى بأنّ الإنسان هو أساس قراءاته الدينيّة والتاريخيّة والسياسيّة.