أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي

تكريم الأب سهيل قاشا (العراق) 

يقدِّمه: الدكتور ناجي نعمان

تكريم الدكتور فالح عبد الجبّار (العراق)

يقدِّمه: الدكتور بول طبر  

       إدارة: الدكتور أنطوان سيف

في تكريم الأب سهيل قاشا والدكتور فالح عبد الجبّار

كلمة د. أنطوان سيف

          الحركة الثقافية – انطلياس، تحتفي هذه العشية، ضمن إطار "المهرجان اللبناني للكتاب" في دورته الخامسة والثلاثين، دورة غريغوار حدّاد، بعلَمين ثقافييَّن من العراق: ولادةً ونشأةً وتعلُّماً مدرسياً وجامعياً.... وهجرةً منه، فاستقراراً في لبنان. هما من جيل واحد، يتميّزان بغزارة الإنتاج الفكري، كل منهما في مجاله المعرفي، ولا يزالان مستمرَّين في العطاء الثرة، هما:

الأب سهيل قاشا مؤرخ لكنيسة الشرقية في العراق، ولجماعتها في علاقتهم بمحيطهم المحلي الإسلامي، وللعلاقات الدينية عموماً في بلاد المشرق، وبخاصة تاريخ الإسلام، وعلاقة اليهودية بالمسيحية...

والدكتور فالح عبد الجبّار عالم الاجتماع السياسي للجماعات في الرقعة العربية عموماً، والعراقية خصوصاً، كقوى تتوزع بين القبيلة والدولة، باللغتين العربية والإنكليزية عموماً والألمانية نادراً.

          وما يجمع العلَمين الثقافة العربية بشكل شامل وأداتها اللغة العربية، والهوية العراقية رسمياً، وبالفعل ايضاً إذا قبلنا بنظرية كاردينر ولينتون في ما سمّياه "بالشخصية القاعدية"، أو بأحد وجوهها على الأقل.

          يقدّمهما علَمان ثقافيّان لبنانيان هما الدكتور ناجي نعمان للأب قاشا، والدكتور بول طبر للدكتور فالح.

          هذا التكريم المشترك الثنائي المظهر، يحمل دلالات عدّة ليس المجال ههنا لتعدادها والتوسّع في تفاصيلها. محاولة القيام بهذه المهمة الصعبة والممتعة ستبدو اكثر يُسراً بعد سماعنا التقديمين.

 فلهما شكرنا، وللأربعة تقديرنا البالغ، ولكم جميعاً، اصدقاءً وقادرين، ترحيبنا.

 

                                                                                                انطلياس في 2016/3/6


 

في تكريم الأب سهيل قاشا

كلمة د. أنطوان سيف

          الأب الدكتور سهيل قاشا مؤرخ الكنيسة الشرقية، بالمعنى الواسع لكلمة كنيسة في الزمان والمكان اللذين يستدرجان الماضي والحاضر، والرقعة الجغرافية الواسعة المتبدّلة الحدود واحياناً كثيرة الأسماء والمعالم، من العراق بشماله خصوصاً الى أرجائه المؤمنة وعلاقة هذه وهؤلاء، عبر التاريخ والامكنة، بالديانات الأخرى بمسؤوليها (مؤسساتها) وأهلها: الإسلام والازيدية والصابئة واليهودية ورؤى منظماتها لنصوص كنيسته وسيرتها. ترجمة كل ذلك، وفرةٌ من البحوث والمقالات تجاوز تعدادها الثلاثماية ابانت عن معرفة دقيقة ومعمقة بموضوعاتها، يرسلها معلوماتٍ ميسّرة للذين فاتهم معرفتها او فرضت عليهم الظروف جهلها، وعلى آخرين تجاهلها.

          إلاّ أن التأريخ له ايضاً تاريخه الذي يمارس التأويل على كنوزه واسراره غير المعلنة، لأنها غير مندرجة في الموضوع ولكنّها "موضعة" سرده. حاولتُ أن أقرأ سيرة الأب قاشا المؤرخ من خلال تواريخ عناوين بحوثه، وان أُعيد ترتيبها الكرونولوجي، (مهمة لم يقم بها بدقةٍ وتركها لجهد القارئ المهتم) كي اعرف مسيرة العلاقات الدينية (وهي موضوعه المفضّل) مع الوقائع السياسية والعامة؛ مهمة تؤول ايضاً، ولكن بصعوبة أعلى، الى وعيه بتاريخ لبنان، البلد الذي شهد فيه كتابة أكثر هذه البحوث منذ أكثر من ربع قرن...

          المؤرخ قاشا الذي فلش الكثير من المخبوء والمهمل من تاريخ جماعته (المحلية والاوسع منها قليلاً او كثيراً)، ليس واثقاً من وصول الكثير من رسالته الى قارئيه الكثير باللغة العربية. بعض ابحاثه يحفل بنبوءات في الاهتمام، كبحثه عن الازيدية (بعدة طبعات متفاوتة عدد الصفحات، اكبرها 480 صفحة، عام 2004) هذه الجماعة الصغيرة والمسالمة التي تعرّضت بسبب دينها، وهو الأقدم من بين كل الأديان، الى إبادة غير مسبوقة في موطنها (القريب من موطنه) في العراق، وصلت الى حد القتل والسبي والبيع لنسائها بالمزاد العلني... تحت ادعاءات دينية مخالفة! كل ذلك حصل في الأشهر الماضية! ونبوءة أخرى من العام 2012 في بحثه بعنوان: المسيحيون المشرقيون بين التجذّر والتهجير... 

          والمستغرب ان يكون الأب قاشا مؤرخاً ثقةً أيضاً للدين الإسلامي، ولأحداثه الكبرى، وتطوّرات مذاهبه، وفي مطالعته لقراءات توراتية تحريفية، برأيه، لشؤون كنيسته... وهو فوق كل ذلك شاعر بالعربية ومهتمٌ بالشعر العربي (دراسته عن بدر شاكرالسيّاب، ومقابلته لزوجة السيّاب، والردود على هذه المقابلة، والردود منه على هذه الردود...). وكان الى جانب مهماته الكنيسة الإدارية، معلماً وطالباً معاً، وتلمذته وتأليفاته تساوقت معاً سنوات عدة...

          هذا قليلٌ من الكثير الذي يستحقّ له تكريمنا جميعاً كعلم من اعلام الثقافة في لبنان، نعم في لبنان، وفي العالم العربي، عموماً، والعراق الشقيق تحديداً.

                                                                                                          أنطوان سيف


 

الدكتور فالح عبد الجبّار

بقلم د. أنطوان سيف

          الحدّ الفاصل بين النضال السياسي والكتابة لم يكن عنده بديهياً. وربما نموذجه الأقدم منذ بدء الربع الأخير من القرن العشرين تلك الإجابةُ عن سؤالٍ عن الهوية الفكرية: نحن ثوار، اتُفق أننا نكتب! الأسبقية واضحة عرفها الفلاسفة الأقدمون في قالب بات راسخاً في علم الفلسفة وهو انضواء النوع تحت الجنس: الجنس النضالي والنوع الكتابي. إلاّ أنّ إحدى ثوابت فكره وهي الزمانية (أو التاريخانية الهيغلية الماركسية) تؤول، وينبغي عنده ان تؤول، إلى مراجعةٍ لهذه الأسبقية. عانى فالح استخلاص السيرة من المسيرة، أي استلال تاريخ الكتابة من التجوال والهرب واللاإستقرار الذي مارسه سعياً لاستقرار يشبه صورته الهادئة. كتابة السيرة الذاتية، بمهماتها بالمسيرة غير القارة، أضاعت الكثير من نقاط الارتكاز التي عجزت الذاكرة، ذاكرته، ليس عن "استنباشها" بل عن إقامة القبل والبعد فيها في الأمكنة المتعاقبة والمتباعدة والمكرّرة،؛ هذان القبل والبعد اللذان لا تاريخ بدونهما. الذاكرة الارادوية، التذكّر المضني، تمارس مغامرةً جديدة ضرورية لصون هوّيته، أو إحداها في السيرة الذاتية المروية، والمدونة هذه المرة في كتاب "أعلام الثقافة" الذي تنشره الحركة الثقافية – انطلياس، سيرة له غير مسبوقة بترتيبها وبكونها مدونة (وربّما مؤقتة، لمزيد من الضبط الذي لم يتوفر كفايةً؟). ولكن ترتيب التاريخ الشخصي، على وتيرة القبل والبعد الصارمة، هو خصوصاً عبثٌ بالتاريخ، عبث بوعي المسيرة. من العراق الى لبنان وبالعكس، أكثر من مرةً، والى وسط أوروبا المجر (وألمانيا: وهذه لم تذكر في السيرة!) فإلى أقصى الغرب الأوروبي لندن للتعليم العالي، والعودة اخيراً الى لبنان للاستقرار هنيئاً في واحة صغيرة فيه اسمها معهد دراسات عراقيةً يوفر له، كما يقول باعتزاز وراحة، حرية القول! منذ 2006 للساعة. 

          انّها إذاً مسيرة مطاردة حرية القول (والكتابة ايضاً وخصوصاً)، مسيرة طويلة، حاول أن "يموضع" هذا الاستقرار في اطار ثقافة عربية، ثقافة الرقعة العربية، كما قال، عرفت انقلابات متلاحقة كبرى ثلاثة في منهجية معارفها ونظم ثقافتها خلال قرن واحد، هو القرن الماضي (الذي ينتمي هو اليه، الى اواخره): وهي: على التوالي، والتسميات له: النظام المعرفي الميثولوجي الشفاهي، او الديني المعرفي، فإلى نظام معرفي حديث من مطلع هذا القرن حتى انصرامه يسمّيه "معرفة وضعية وكلمة مطبوعة"، فإلى، أخيراً وراهناً، عالم معرفي ما بعد الابجدية المطبوعة. فمن التعاقب الزمني لهذه الأنظمة المعرفية، وصَلنا الى تجاور مكاني في ما بينها ومعارك إلغاء ثقافي متبادل (لم يقل حدود أدوات الإلغاء فيه). اوغست كونت نفسه انخدع بنهاية تاريخ الميثولوجيا والميتافيزيقا والفلسفة. وفالح عبد الجبار يعرف ذلك.

          نضاله الراهن، السابح في حرية القول في الرحاب اللبنانية، والذي يشده فيه القلق المستدام والمتعاظم على العراق، وكيف تضطرب فيه مكونات القبائل والأحزاب والجيش والدولة، وفي العالم العربي قياساً وتالياً. تلكم "مهمة" مكرمنا لسبر الثقافة العربية المعاصرة المخفي منها والظاهر في سوسيولوجيا المعرفة والتحليل السياسي والتاريخي والميتودولوجيا والابستمولوجيا العلمية، ذات المصادر المتنوعة والرفيعة، التي يستحق عليها كل تقدير، كعلمٍ من اعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي.

          د. أنطوان سيف

 

الدكتور ناجي نعمان:

-         كاتب – ناشر ثقافي – وناشط ثقافي

-         رئيس مؤسسة الثقافة بالمجان

-         صاحب دار نعمان للثقافة

-         له 75 كتاباً: مجلداً وبحثاً

 

الدكتور بول طبر:

-         عالم اجتماع وانثروبولوجي

-         أستاذ في الجامعة اللبنانية الأميركية LAUفي بيروت

-         رئيس معهد دراسات

-         رئيس قسم علم الاجتماع في الجامعة

-         اختصاصُه الأساس: الوضع اللبناني، وموضوعات الهجرة والمهاجرين.

 


______________________________________________

 

كلمة ناجي نعمان في تكريم الأب سهيل قاشا، من ضمن أعلام الثقافة  في لبنان والعالم العربي

المهرجان اللبناني للكتاب - 2016، الأحد 6 آذار 2016

 

سُهَيل قاشا

المؤرِّخُ والكاهنُ والإنسان

 

أيُّها الكِرام،

أيًّا يَكُ حُكمُ التَّاريخِ على الإنسان، أيِّ إنسان، فإنَّه يأتي ناقِصًا أو زائِدًا، ولاسيَّما إلَّم يَقتَرِنْ بشهاداتٍ من أُناسٍ مُتَّزِنينَ مُنصِفينَ عَرفوه حقَّ المعرفة، وعايَشوه رَدْحًا غيرَ قصيرٍ من الزَّمن.

***

سُهَيل قاشا - المؤرِّخُ والكاهنُ والإنسان - كما عَرَفتُه وعايَشتُه، مَشغولٌ بالأصوليَّة بمَعناها الصَّحيح وبتَعريفها الإيجابيّ، لا بالمعنى المَغلوطِ وبالتَّعريف السَّلبيِّ الَّذي وَصَلَنا، رَديئًا رَديئًا، في هَذي السَّنوات العِجاف.

إنَّه قارئٌ نَهِمٌ، شَغوفٌ، حافِظٌ؛ خَزَّنَ مَعرفتَه في كُتُبٍ أكثر من كثيرة، تُسَهِّلُ على الباحِث والمُطَّلِع هَمَّ التَّقميش، وتُعطيه ما يُريدُ من معلومات، وكَذا ما يَطمَحُ إليه من تحليلاتٍ قد تَبلُغُ أحيانًا حَدَّ "السَّعيدْعَقلِيَّة"، لِجِهة إلصاق أبرز أحداث هذا الكَون ببلاد ما بين النَّهرَين، بلادِ قاشا، وبحضاراتِها الضَّاربةِ في التَّاريخ، ولاسيَّما منها الحضارةُ الآراميَّةُ-السُّريانيَّة.

والرَّجلُ مَوسوعةٌ مُتنقِّلَةٌ، لا حاجةَ له لأوراقٍ في مجلَّداتٍ أو لأقراصٍ مُدمَجَةٍ في مُبَرمَجات، كَيما يُجيبَ عن أيِّ سؤالٍ يَحْضُرُك. وعلى مَثَل فؤاد إفرام البستانيّ، نَجِدُهُمُحِقًّا، وعلى صَواب، في مُعظم ما يَذهبُ إليه - لجهة البحث التَّاريخيّ - أللَّهُمَّ طالَما نَعُدُّ ما نَقرأُ من تأريخٍ، أو ما يَصلُنا منه، حقيقيًّا. وهَيهاتِ أنْ يَصدُقَ التَّأريخُ يومًا، ولاسيَّما قديمُه!

***

وثمَّةَ النَّاحيةُ المسيحيَّةُ الكَهنوتيَّةُ في الأب قاشا:

أُسارِعُ وأقولُ إنَّه مسيحيٌّ "حتَّى العَظم"، ولَو على قَبَسٍ مِن انفِتاح. يُدافعُ عن كنيسة النَّاصِريِّ، وقَلَّما تُعجبُه تصرَّفاتُ القائِمينَ عليها؛ وإنْ تَسألْ لِمَ، يأتِكَ الجوابُ، أو قُلْ تأتِكَ الأجوبةُ على الفَور، وتَكونُ شِبهَ مُقنِعَةٍ حينًا، ودامِغَةً أحيانًا.

وكَذا هو كاهنٌ مُلتَزِمٌ، بالمَلبَس أوَّلاً، فلا يَخلَعُ الجُبَّةَ أبدًا؛ وفي إقامة الذَّبيحة الإلهيَّة ثانيًا، فلا يَتخلَّفُ عنها قَطُّ؛ وإنْ حدَثَ وكانَ على المَذبَح وَحيدًا، فلأنَّه، والمسيحَ، على مَوعِد!

ولَئِن كانَت حقوقُ قاشا المادِّيَّةُ مَهدورةً مِن قِبَل إخوانه الكَهَنة، فهو لا يَسألُ عنها؛ يَعيشُ وَحدَه، ويُلبِّي حاجاتِه من دون أنْ يَحتاجَ أحدًا. تسألُه أَيَرغبُ في مساعدةٍ، فلا يَسألُكَ، و"الحَمدُ للهِ" دائمًا على لِسانه، وكَذا الشُّكرُ، فهو، كما لَطالَما كَرَّرَ، ويُكَرِّر، "تحتَ رَحمَتِه". ونَسأل: أَوَلَسنا، جميعًا، كذلك؟!

ويُذَكِّرُني الأبُ قاشا، في كثيرٍ من الأحيان، بكَبير آل نَعمان، عمِّيَ المَغفورِ له المِتروﭙوليت نِقولاَّوُس نَعمان، الَّذي باعَ تاجَ المَطرَنَة خاصَّتَه، والسَّيَّارةَ المُهداةَ إليه، وسِوى هذا وذاكَ من أشيائه، لِيَصرِفَ أثمانَها على رَعيَّته، ولِيَرحَلَ، كما أتى، خَفيفًا عَفيفًا، شِعارُه "أَعطِ ما في الجَيب، يأْتِكَ ما في الغَيب"، ودَيدَنُه أن "اُُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟(متَّى، 26:6).

-2-

 

أجَل، نَعمانُ الَّذي أَفتَقِدُ، وقاشا، أَمَدَّ اللهُ في سِنيه، على حَقّ. فَإنَّ لِما يَظهَرُ المُكَرَّسُ عليه، أمامَ المُجتَمَع، كما لَطالَما ردَّدتُ، أعمقَ الأثَر في أبناء هذا المُجتَمَع، وفي نَظرتِهم إلى رُعاتِهم في شتَّى المَيادين.

وقد "لَفَتَني، في الشَّريط السِّينمائيِّ الأقدَم لسِيرة القدِّيس شربل، أنَّ أحدَ الأُخوَة في الدَّير تَجَرَّأَ وامتَطى فَرَسًا، فيما كانَ القانونُ الدَّيريُّ، عَهدَذاك، يُلزِمُه رُكوبَ الحمار في أفضل الأحوال؛ وقد جاءَ قَصاصُه سبعةَ أيَّامٍ من الاكتِفاء بالخُبز اليابِس والمِلح غِذاءً، على أن يَتناولَ ما سَبَقَ، رُكوعًا.

"لن أُشَبِّهَ اليومَ بالأمسِ، فَدُونَ ذلك غَبْنٌ لأبناء اليوم. بَيدَ أنَّ خَيرَ الأمور ما في الوَسَط! ولا بأسَ، اليومَ، بسيَّارةٍ عاديَّةٍ تُقِلُّ الكاهنَ؛ وإنْ هي "قَطَعَتْه"، من الرَّائع أنْ نَرى أبناءَ رعيَّته يُعاونونَه على "جَرِّها"؛ ففي ذلك، لهم، عِبرةٌ تُساعِدُهم على تَحَمُّل ظُروفهم الصَّعبَة.

"ولا بُدَّ لِمُكَرَّس هذا العَصر أن يَكونَ لائِقَ المَلبَس، مُتَمَتِّعًا بقَدْرٍ كافٍ من المَصروف الشَّهريّ، مُقيمًا تحت سَقفٍ يُؤَمِّنُ له ضَروريَّاتِ العَيش الكريم. بَيدَ أنَّ ما نَراه اليومَ في بعض الأديِرَة، أو لدى بعض المُكَرَّسين، يَخرُجُ كثيرًا على المَألوف: وَكالاتُ أديرةٍ تَشتَري التُّفَّاحَ الفاخِرَ من الأسواق، وتَبيعُ تُفَّاحَ بساتينها لأنَّه أقلُّ جُودَة! غُرَفُ إكليريكيِّينَ وكَهَنَةٍ تَتَخطَّى، في فَخامَتها، الفنادقَ من ذات النُّجوم الخَمس؛ سيَّاراتٌ يَستَقِلُّها بعضُ المُكَرَّسين يَتَجاوزُ سعرُ الواحدة منها مئةَ ألف دولار؛ كاهنٌ بلِباسٍ مَدَنيٍّ تَلتَقيه في نادٍ ليليٍّ فيَرجوكَ أنْ "لا تُنادِني أبونا"!...

"إنَّ في كلِّ ذلك، وفي غَيرِه، لَتَحَدٍّ ليس لأبناء المُجتَمَع فقط، وللقوانين الَّتي تَخضَعُ لها الرّهبانيَّات بالذَّات، بل، أيضًا، للهِ تَعالى، ولابنه الَّذي ما جاءَ الأرضَ إلاَّ لِيُعَلِّمَنا التَّواضُعَ، وعطاءَ المُحتاج، ليس ممَّا يَفيضُ عنَّا فحَسْب، وإنَّما، أيضًا، وبخاصَّةٍ، بِما هو لَنا؛ إلى مَحبَّة الغَير حتَّى بَذْل النَّفس في هذا السَّبيل.

ويا أبَتِ الكريم، خَوفي كَما خوفُكَ، أنْ يَتحوَّلَ المُكَرَّسونَ مُجَرَّدَ رِجالِ أعمالٍ يَتَسلَّطون و/أو يُسَلِّطون المَحسوبين عليهم على أوقاف أجدادنا وتَعَب قدِّيسينا، وعَرَقهم؛ وهَمِّي، وهَمُّكَ، مصلحةُ الكنيسة، وتَعاضُدُ أبنائها، وهَناؤُهم، وعدمُ انعِكاس بعض الأعمال والتَّصَرُّفات ضَرَرًا عَميمًا على الرَّاعي والرَّعيَّة، وانعِدامَ ثقةٍ بين المُكَرَّس والعَلمانيّ، ممَّا قد يَستَتبِعُ زَعزعةً في الإيمان نحن في غِنًى عنها، ولاسيَّما في هَذي الأزمِنَة الصَّعبَة.

***

وبَعدُ، ثمَّةَ، أخيرًا، وإنَّما قَبلَ كلِّ شيء، قاشا الإنسان:

وقاشا الإنسانُ، متى تكلَّمَ، نادرًا ما يُخطئ، وإنْ قُصِدَ في أمرٍ يَقدِرُ عليه، قَلَّما يَخلِفُ الوُعودَ.

لا يَحمِلُ هاتفًا جَوَّالاً، ويَجولُ من دون أنْ يملِكَ وسيلةَ نقلٍ في بلدٍ كلُبنانَ، لا نقلَ مُشتَرَكًا فيه؛ لكنَّه يَبقى دَقيقًا في مَواعيده، فلا يتأخَّرُ عن لقاءٍ ثقافيٍّ، أو آخرَ دَوريٍّ، بحيث إنَّني، شخصيًّا، إلَّم أرَهُ في صالوني الأدبيّ، أستَغرِب، وإلَّم يُطِلَّ عليَّ صباحَ كلِّ يوم اثنَين، يكونُ أسبوعيَ الطَّالِعُ غَيرَ سَوِيّ.

ولا يأتيني، بعامَّةٍ، من دون أن يَحمِلَ إليَّ في جَعبته كتابًا جديدًا من نِتاجه، أو آخَرَ من نِتاج غيره، يَفيدُ قرَّاءَ مكتبة المجموعات والأعمال الكاملة الَّتي سبقَ وأنشأت، ومن ضِمنها مُعظمُ الكتُب الَّتي وَضعَها، هو، واستطاعَ جَلبَها إليَّ. ولَعلَّ المكتبةَ الآنفَةَ الذِّكر تَضُمُّ حاليًّا أكبرَ مَجموعةٍ مَحفوظةٍ من مؤلَّفاتِ الرَّجل بعدَ ضَياع مكتبتَيْه في الموصِل وقَرَقوش، بفِعل حَضارةٍ "عَصريَّةٍ" تَسعى، على ما يَبدو، لِتُوصِلَنا - بعدَ زمن فَجْر الإسلام، وصَدرِه - إلى زمن نَحْر الإسلام.

-3-

 

وقاشا أستاذٌ ومُرَبٍّ، ومُستَمِعٌ صَبور، يُدَرِّسُ المسيحيِّينَ الإسـلامَ، والمُسلِمينَ المسيحيَّةَ. قد يَنفِرُ منه الطَّلبَةُ الكَسالى والغائِصونَ في دُنيويَّات اليوم، فيما المُجتهدون والمُتَبَحِّرون منهم يَفيدون من عِلمه ومِلفانيَّته، وأيُّما إفادة!

وأمَّا إطلالاتُه في النَّدَوات العامَّة ومن على الشَّاشة الصَّغيرة، فكَثيرًا ما تأتي لِتَصويب ما يَجبُ تصويبُه، ولَو على حساب صداقاتِه مع البَعض؛ فالرَّجلُ قلَّما يُمالِقُ أو يُهادِن، ولا يُحَبِّذُ الكلامَ لِمُجرَّد الكلام؛ وأمَّا مَرَضُ السَّعي للشُّهرة فما أصابَه يومًا، فالشُّهرةُ، في عُرْفي، وَهْمٌ آفِلٌ لا مُحال، ولا بُدَّ أنَّه يُشاطِرُني الرَّأي. 

وهو شديدُ التَّهذيب، الجميعُ لديه "أخوةٌ وأخوات"، لا يَعلو صوتُه أبدًا، وإنْ كانت له مواقِفُ قاسِيَةٌ فلأنَّ الحقَّ، في رأيه، يكونُ إلى اغتِصاب. لهُ قِلَّةٌ من أصدقاء، وإنَّما من المُحِبِّينَ هُمُ، ومن جِنسيَّاتٍ وأديانٍ متنوِّعةٍ، وبِبَركة السَّيِّد المسيح، يَكفونَه.

***

سُهَيل قاشا، أنتَ عَلَمٌ عَليمٌ، وعالِمٌ عَلاَّمَةٌ، وعلى خُطى المُعَلِّمِ، مُعَلِّمِنا، تَسيرُ، وتُعَلِّم. إنْ تَتَعَصَّب، فلِحَقِّ تَتَعَصَّب، وإنْ تُفَتِّش، فعَن حقيقةٍ تُفَتِّش، وإنْ تَتَصَدَّى، فلِلشَّواذِ، كلِّ شَواذٍ، تَتَصَدَّى، وإنْ تُدافِع، فَلِنُصرة الظَّليم تُدافِع!        

سُهَيل قاشا، أنا أُغبِطُكَ لأنَّكَ مُتَفَرِّغٌ للكِتابة. فلا تَمنَعْ إِشراقاتِك عن قارئيكَ ومُريديك، واستَمِرَّ في العَطاء، فقد أوصانا المسيحُ قائلاً: "ما مِن حُبٍّ أعظم مِن أنْ يَبذِلَ الإنسانُ نفسَه في سَبيل أحبَّائه" (إنجيل يوحنَّا، 13:15)، ونحن، مَعشَرَ أصحابِ القَلَم، على خُطى السَّيِّد، نَبذِلُ الذَّاتَ، نَرمي الفِكرَ بِذارًا، نَخُطُّهُ بيَراعاتِنا حِبرًا عَطِرًا على وَرَق الحياة، ونقِفُ، في زاويَتِنا، نَرقُبُ، فَرِحينَ، نُمُوَّ قَمحٍ يَحصِدُه جائِعٌ، وتَفَتُّحَ زَهرٍ يَقطِفُه عاشِق! 

ويا خَدينَ الكلمة، إنْ سُلِخْتَ، نَخلَةً، مِن عراقِكَ وأهلِكَ، فأنتَ، هنا، في لبنانِكَ، وبين مُحِبِّيكَ، أرزةٌ شامِخَة. 

ويا عَزيزًا بين أصدقاء، لَئِن دَأبْتُ على بُكاء قِلَّةٍ من العُظماء العُظماء لدى رَحيلهم، فإنِّي لا أَبكي فِراقَهم بِقَدْر ما أَبكي غِيابَ المعرفة الَّتي اكتَنَزوا. ألا أطالَ اللهُ في عُمرك كَيما تَبقى ذُخرًا لِمُحبِّيك ولكلِّ طالِِبِ مَعرفة.

            سُهيل قاشا، صباحَ الغَد، الاثنَين، عندَ العاشرة صباحًا، نحن على مَوعد، وأعرِفُ أنَّك لن تُخلِفَ الوَعدَ!

ودُمتُم،

 

جونية، في 26/2/2016                                                                                                     ناجي نعمان