أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي

تكريم الدكتور سمير العيطة (سورية) 

يقدِّمه: الدكتور كريم بيطار

تكريم الدكتور عبد الحسين شعبان (العراق)

يقدِّمه: الدكتور عمران القيسي

       إدارة: الدكتور أنطوان سيف

 

في تقديم علمَي الثقافة: سمير العيطة وعبد الحسين شعبان

كلمة د. أنطوان سيف

انطلياس في 5 آذار 2017

 

            المناسبات الدوريّة تحمل دائماً سمة تاريخيّتها التي ترتقي الى انطلاقتها الأولى البعيدة والباقية مضمرةً دوماً، وظاهرةً في الوعي أحياناً، على مدى أزمنتها الطويلة وصولاً إلى الحاضر.

            في هذه العشية نلتقي في مناسبة مميّزة لإلقاء تحية تقدير خاصة على علمَين كبيريّن في ثقافتنا العربية المعاصرة هما في سجلّ حركتنا الثقافية من الذين أغنوا حياتنا الوطنية معرفة وحكمةً وقدوة، على مدى عقود، ولا يزالون مستمرين في العطاء. هما من الرعيل الثاني والثلاثين في سلسلة هؤلاء المكرمَّين الذين كان ثمة منهم، الرعيل الأوّل، مَن كانت ولادتهم في نهاية القرن التاسع عشرّ

            علَمان هما د. سمير العيطة من سورية، ود. عبد الحسين شعبان من العراق. يقدمهما لنا في هذا الاحتفال، ويعمّق معرفتنا بهما، علمان ثقافيان هما، على التوالي: د. كريم البيطار ود. عمران القيسي.

            والمناسبات التكريمية المفتعلة بدوافع عميقة وإرادات طيبة لا تخلو أبداً من التحديات، تشي بانخراط أصحابها في زمانهم وتفاعلهم مع مستجدّاته، وفعلهم فيها، وتنطوي على تواطؤ خفيّ ملازمٍ لخروج الثقافة، بتظاهرة مغتبطة بوعودها وثقتها بمقوّماتها، إلى الملء الأرحب حيث الجانب الأوسع في حقيقتها.

            هذا الخروج، في واقعنا العربي السياسي والاجتماعي، هو أيضاً وخصوصاً خروجٌ على، خروجٌ أبى التسلُّل والتخفّي مؤثراً العلانية الشفافة الأكثر وهجاً ووقعاً، خروجٌ ثلاثي الأبعاد وصفه عبد الحسين شعبان باستعارة الشاعر الصوفي محيي الدين بن عربي "بالأسفار الثلاثة: سفر من عنده، وسفر إليه (وهو، السفر فيه، سفر التيه والحيرة، الذي غالباً من تكون بوصلته في مكان يغشوه الضباب. هذا التيه هو ضيّق واقتلاع من بين الأهل وكنف الأحبّة والتطويح، و"الشطح" خارج الحدود، الذي مارسه عبد الحسين وسمير سنواتٍ في المنافي التي، رغم رونقها وحنوّ العديد من أهلها، لم تشكل بديلاً يثني عزيمتهما الصلبة والأنيقة في جعل الوطن الواقع أقرب الشبه بالوطن الذي في البال، في بالهما كما في بال الملايين من أهلهما. انهما ينتميان الى ثقافة التغيير الأكبر الذي لا معنى للثقافة خارجه الطموحات إليه. لقد وصف عبد الحسين نفسه بأنه مفكّر من الجيل الثاني للمجددين العراقيين، يساري النشأة والتوجّه ولكن، كما قال، "له مساهمات متميزة في نقد التيار الاشتراكي واليساري وتجديده". خرج من الأطر التقليدية الأيديولوجية والحزبية لممارسة السياسة بوسائل ثقافية رحبة، تقوم على أساساً على حقوق الانسان، وسيلةً وغايةً، هذا كله بعد الاعتقال وتعرُّضه للتعذيب... أثناء مواجهته نظام الاستبداد وتحوّله إلى المعارضة الثقافية في الاعلام واللقاءات الفكرية الموسعة في العالم العربي وخارجه، كما يفعل المفكرون الذين لا يرون في فكرهم استراحةً وانكفاءً عن نضالهم الفاعل. هذا المسلك الذي يمارسه سمير العيطة بنموذجية مواقفه الفكرية وكتاباته التي يراها الأكثر قابلية للتأثير والتقدير والاقتداء. فمقالته في جريدة "لوموند ديبلوماتيك" النشرة العربية (التي قام هو يجعلها عربيّة) بعنوان "الدين لله والوطن للجميع" هو تجديد لشعار النهضة العربية (الأولى)؛ ومقالته "إني أرى حلماً" منذ أشهر قليلة، وبالتوازي مع القتل والتدمير والتهجير غير المسبوقة في سورية، هو استيحاء لخطاب مارتن لوثر كينغ الشهير (والشهيد) الذي آل إلى الحرية والمساواة بين الأميركيين سوداً وبيضاً ومن كل الأعراق. هذه المعارضة الراقية هي صنو الديمقراطية وشاهدة على صدقها عند مَن يدعو إليها. فلا بد برأيه من "هزم السلطة المتسلطة لتحرير الدولة" علَمان من أعلام الديمقراطية العربية، داحرة الاستبداد، ديمقراطية لا معنى لها من دون معارضة علنية حرّة ومحميّة فعلياً من الدستور والقوانين، في الدولة كما في المجتمع المدني.

            والاثنان جعلا من لبنان محط رحالهم وموضوعاً لأسمى مشاعرهم، ونقطة الدائرة في "سفرهم" الاضطراري الذي نتمنى له، معهما، عدم الإطالة المصحوب بتقطّع الابتعاد عن الاصحاب والخلاّن.

            في كتاب له بعنوان "فقه التسامح في الفكر العربي – الإسلامي"، وقدّم له المطران جورج خضر، يحمل عبد الحسين شعبان مسألة اضطهاد المسيحيين من مواطنيه في وطنهم ويقول "المسيحيون ملح العرب" (العام 2013)، من منظور انساني شامل نادر في الثقافة العربية الواسعة، قديمها وحديثها، ويدين إدانةً علنية ما تعرض له الايزيديون والصائبة المندايئون وغيرهم... ويرفض مصطلح "الأقليات" الذي يحمل في طيّه إساءةً وبوادر عدوان مستمر مفضلاً عليه مصطلح "التنوّع الثقافي" (التنوّع الديني ولا التنوع المذهبي)!

            الموقف الذي سلكه سمير العيطة بأسلوبه الخاص مثمناً دور عامية انطلياس 1840 التي لا تني حركتنا تذكّر بها بوصفها من أوائل نسخ ميثاقنا الوطني، قائلاً: "بكم ترتبط ذكرى انتفاضة "عامية" شعبية ضد الظلم أضفى عمرها اليوم مئتي سنة. انتفاضة اعترتها تدخلات خارجية "ولعبة أمم" واستعادة للاستبداد، كما يبدو الآن بعد انتفاضات "الربيع العربي". إلاّ أن انتفاضة أجدادكم الأولى قد بقيت في الأذهان والضمائر، لأنها كانت رمزاً "لعقد اجتماعي" جديد تخطى الطائفية ومنطق الطوائف، ورفع الصوت مؤكداً من أجدادكم إلى أبنائكم إنه قول وطني واحد... هذا العقد هو الذي حقيقةً للانتفاضة بعدها الثوري... فالارهاب الذي دعي "ثوريا" [ليس من الثورة]... وها انتم قد حافظتم على جوهر "الثورة"... سيأتي يوم يتحقق فيه الأمل بأن تضحى بلادنا جميعها بلاد مساواة تامة في المواطنة وموطن حريّات. سمير العيطة، 13 شباط 2017.

            أطلق المفكر الإنمائي حسن صعب تسمية "ثقافية انطلياس" وهي، برأيه، "عامية انطلياس" الجديدة في القرن العشرين. عبد الحسين شعبان وسمير العيطة، تحية من لبنان، عبركما، إلى العراق وسوريّة إلى وطن يليق بتطلعات شعبه الى الحرية والعدالة والسلم الدائم.

_________________________________________________________

كريم إميل بيطار

 

سيّداتي سادتي، أيّها الحفل الكريم، أيّها الأصدقاء...

يُسعدُني ويُشَرّفُني أن أكونَ بينَكُم اليومَ في حفلة تكريمِ صديقي العزيز سمير العيطة، صاحبِ اللفحةَ الحمراء. كانت مفاجأةٌ سارّةٌ لي عندما عرفتُ أنّكم أرَدتُم تكريمَ شخصيّةً مميّزةً بين أقرانها ومعروفةً باستقلاليةِ أفكارِها ومسافتها عن جميعِ السلطاتٍ القائمة، إن كانت سلطاتٌ سياسيّةٌ أو ماليّةٌ، محليّةٌ أو دوليّة. شخصيّةٌ نادرةٌ في العالم العربي الحالي أبقت اتزّانَها في عصرٍ ينتصِرُ فيه التطرّفُ والهويّاتُ المدمّرةُ والتقوقعُ الطائفيُّ الضيّقُ. وهو من العربِ القلائل الذينَ أصبَحوا شخصياتً عامّة في فرنسا وأوروبا، محترمةً من الأوساط الثقافية والسياسية، رغم مزاجهِ الصلبِ المملوءِ بالفخر بأصولهِ العربية ورغمً رفضِهِ أن يتملّق لخدمة أجنداتٍ سياسيةٍ لأيّةِ دولةٍ كانت...

حقّاً أسرّني قرارَكُم هذا كثيراً. ولكنّ مُفاجأتي لم تكُن كاملةً لأنّني أعرفُ تاريخَ الحركة الثقافية في انطلياس. وأذكرُ عندما كنتُ ما زلتُ مراهقاً في الثمانينات، وعندما كان لبنانُ من جنوبِه إلى شمالِه تحت سيطرةِ الاحتلالاتٍ الأجنبيّةِ والشراذمِ والعصاباتٍ الميليشياويّة. وكانت الحركة الثقافيّة في انطلياس إحدى الواحات النادرة التي حملت ثقافةَ الحوار ورفض العنف وجميع الأفكار التقسيميّة، وحملت لواءَ مفهومِ المواطنةِ والمساواةِ، ورفضَ جميع الغيتوهات الطائفيّة. كما ناضلت من أجل تحريرٍ المواطنٍ اللبناني من هيمنةٍ الاحتكارات والاقطاعيات والشبكات الزبائنيّة. وأنا جدّ مسرور أن أكونَ أمامَكم اليوم كي أقدّم سمير العيطة، الشخصيّة الغنيّة بمستويات معرفتها وتجربتها، على صعيدي القطاعين الخاصّ والعام، بحيث لا يُمكن تقديمُها ببضعٍ دقائقَ.

لن أتحدّث إذاً عن تاريخه العلميّ وشغله في هيئة الطاقة الذريّة الفرنسيّة أو عن إدارِته لشركات في القطاع الخاصّ. بل سأتحدث عن بعض جوانب شخصيّتِهِ ونشاطاتِه الفكريّة والمهنيّةِ في فرنسا والعالم العربي.

بدايةً لا بدَّ لي من الإشارة أنّه في وقتٍ يتحدث فيه الجميع عن صراع هويّات، نجح سمير بخلق توفيقٍ بين هويّاتِه الفرنسيّة والعربيّة والسوريّة. فهو من الناحيّة الفرنسيّة منتجٌ صرفٌ للمدارس النخبويّة الفرنسيّة، التي تشكّل أساس نموذج الجمهوريّة الفرنسيّة. فهو كان من بين السوريين الذين لا يتعدوّن العشرة الذين تخرّجوا من معهد بوليتكنيك الشهير. وهو أيضاً خريج Ecole Nationale des Ponts et ChausséesوEcole des Hautes Etudes en Sciences SocialesوInstitut National des Sciences et Techniques Nucléairesوالإدارة في HEC. والمضحك أنّ السوريّ سمير العيطة وجدَ نفسه محشوراً في بوليتكنيك بين شخصيّتين لبنانيّتين لا يجمعُ بينهُما شيءٌ لا بالفكرِ ولا بالتوجّه. إحذروا منهما. الأوّل هو رجل الأعمال العالميّ النيولبرالي مدير شركة نيسان رينو، كارلوس غصن. والثاني هو المناضل الصارم من أجل المساواة والعدالة الاجتماعيّة وزير الاتصالات والعمل السابق، شربل نحاس. فتمكّن سمير أن يوازنِ بين جناحين لبنانيين متناقضين. وفي الوقت نفسه لم يَنكُر سمير يوماً سوريّتَهُ وعروبَتَه، وناضلَ من أجلِ عروبةٍ حديثةٍ منفتحة مدنيّة علمانيّة ديموقراطيّة، لبراليّة بالمعنى السياسيّ وتقدميّة في الاقتصاد.

المرّة الأولى التي التقيتُ فيها سميرَ كانت في برنامجٍ على محطّة فرنسا الثقافيّة France-Culture، المحطّة التي تتوجّه إلى النخب الثقافية هناك. والبرنامجُ كان اسمه "جمعيّة الأمم Société des Nations"، الذي كان يتناول الأوضاع الجيوسياسية العالميّة. وكان موضوعُ الحلقة التي شاركنا فيها حساساً جداً، لأنّه كانَ بالتحديد عن العلاقات السوريةِ-اللبنانية بعد سنتين أو ثلاثة من خروجٍ القوّات السورية من لبنان. وقد لَفَتَ انتباهي أثناء الحلقة كيف استطاعَ سمير أن ينوّعَ مستويات التحليل، بين ما هو اقتصاديّ وما هو اجتماعيّ وما هو سياسي، كي يصلَ إلى صورةٍ متكاملة. كما لفتني كم هو يحبّ المشاغبة والحسّ النقديّ، لا للاستفزازات الرخيصة التي نشهَدُها يوماً بعد يومٍ على الشاشات اللبنانيّة. ولكن مشاغباتٍ لبقة هدفُها دفعُ النقاشِ الفكريّ وتحفيزُ الحوار وتقديمُ أفكارٍ غير نمطيّة. وهنا تكمُنُ ناحيةٌ جوهريةٌ من طبعِهِ: هذا المزاجُ المشاغبُ الذي قلّص عدد أصدقائه، حيث غالباً ما أزعجَ بعض الساسة والمثقفين السوريين والفرنسيين.

ومنذ حينَها بدأتُ بتتبّعِ مقالاتِهِ وكتاباتِهِ. وعدتُ لأجد طبعَهُ المشاغبَ المثمرَ في مقالاته في لوموند ديبلوماتيك والنهار والسفير. كما اكتشفتُ ثقافَتَه المتعددّة المستويات وفِكرَه النقديَّ الذي أثارَ حفيظةَ بعض السلطاتِ القائمة، سواءً في البلدان العربيّة أو في فرنسا وغيرَها. ما يأخُذُني إلى تعبيرٍ استخدمه ذلك الذي شارك في الثورتان الأمريكيّة والفرنسيّة، توماس باين، والذي كان يقول "He who daresnot offend, cannot be honestأي أنَّ ذاكَ الذي لا يتجرّأ على الصدم بمواقفه لا يمكنُ لهُ أن يكونَ نزيهاً"، كما يأخُذُني إلى الجملةِ التي يقولٌ لي سمير أنّها تنسبُ تارةً لعليٍّ ابن أبي طالب وتارةً لعمر ابن الخطاب وأخرى لأبي ذرّ الغفاري "يا حقُّ لم تبقِ لي صاحباً".

وبعد فترةٍ قليلةٍ من لقائِنا الأوّل، أخذَ سمير المبادرة لجمعِ مجموعةٍ من الاقتصاديينَ والمثقفينَ من مختلف الجنسيات العربيّة والاتجاهات الفكريّة. وأسّسنا سويّةً، ثلاثُ سنينٍ قبل "الثورات العربيّة"، منتدى الاقتصاديينَ العرب. وما يلفتني هو أنّه اليوم وبعد عشر سنواتٍ من المحصّلة، أجدُ أن المواضيع والأولويّات التي حددناها في 2008 والتي أصرّ عليها سمير، كانت بالتحديد هي التي خلقت موجةَ غضبِ الشباب العربيّ التي سمّاها سمير "التسونامي الشبابيّ". وهذه المواضيع والأولويّات كانت بالتحديد التنمية المتوازنة بين المناطق، وتشغيل الشباب، والعمل غير المهيكل le travail informelوالآثار المدمرّة للاقتصادات الريعيّة. وقد ركّز صديقنا الأستاذ جورج قرم منذ سنوات طويلةٍ على ريعيّة الاقتصادات العربيّة، وقدّم محاضرةً لافتة نظّمها المنتدى في مقرّ صحيفة لوموند في باريس. كما نظّم منتدى الاقتصاديين العرب في السنوات التي سبقت الثورات سلسلةً طويلة من الندوات والحلقات النقاشية حول جميع هذه المواضيع.

وكنّا في المنتدى جدّ مسرورين أن بعض الأعضاء المؤسسين أخذوا مناصب مسؤوليّة في بلادهم خلال موجة التفاؤل التي عمّت بعد سقوط الأنظمة الاستبداديّة في مصر وتونس. مثل حكيم بن حمودة، وزير المالية في تونس، ومنصف الشيخ روحه عضو المجلس التأسيسي. وغيرهم أصبحوا اقتصاديين ذوي شهرة عالميّة أمثال محمد علي مرواني وهالة يوسفي، أو صحافيين شجعان مثل الصديق الجزائري أكرم بلقائد الذي يكتب أيضاً في لوموند ديبلوماتيك. وفي هذا السياق كان سمير يسخر دوماً ممّن كان يسمّيهم "شباب دبي Dubai Boys" استعارةً لتعبيرِ "شباب شيكاغو" عن أتباع ميلتون فريدمان. هؤلاء الذين كانوا يحاولون فرض سياسات لا ترعى المصالح الحيوية للسكّان في العالم العربي. ومن سخرية القدر أنّ المجلة الرسميّة لصندوق النقد الدولي قد كتبت في آخر أعدادها نقداً ذاتياً معترفةً أن بعض طروحاتها كانت غير منتجٍة بشكلٍ كبير، ممتدحةً الاقتصادي التركي داني رودريك الذي كان منذ سنوات ينتقد نهج الصندوق بشدّة.

وكان سمير يساهم من وقتٍ لآخر للمجّلة ENA hors les Mursالتي أتراس تحريرها في باريس. وفي كلّ المرّات كان يصلني من القراء وهم من النخب الاقتصاديّة والسياسيّة في فرنسا، مديحٌ لوضوح الرؤية ولنظرته الثاقبة. وكذلك كنت أدعوه ليتحدث لطلابي في جامعة القديس يوسف، والمديح كان ذاته من طلاّب شباب متمرّدين.

عندما جاءت الثورة السوريّة وشهدنا عودة شياطين الماضي، القمع والتعذيب والتكفير والطائفيّة ورفض الآخر والشرذمة والتبعيّة للخارج وطموحات التقسيم وفرض مناطق نفوذ لقوى إقليميّة ودوليّة. وفي حين كان الجميع يتحدّث عن الأغلبيّة والأقليّة، ونسي قيم المواطنة والعدالة والأخوّة في الوطن، كان سمير يسخَرُ أنّه ينتمي إلى أقدَم أقليّة في سوريا، وهم الشوام الأصليين، أو الشاميين كما نقول في لبنان. وفي خضمِّ العاصفة والرياحِ النتنة، بقيَ سمير وفيّاً بصلابة للقيم الشاميّة الموروثة والتي تقوم على البساطة ورفض الاستكبار والأخوّة والتعامل باحترام مع الجميع حتّى في قلب المأساة. وفي الوقت ذاته، يبقى سمير، الشاميّ بامتياز، هو الأكثر لبنانيّةً بين السوريين ويعرف زواريب الأشرفيّة أحسن من كثيرٍ من أبنائِها.

أما مواقف سمير فيما يتعلّق بالثورة السوريّة، فلم ترضِ أيِّ من القوى النافذة وخلقت له رَيبةً أو عدائيّةً من طرفي النزاع. فهو انتقد بوضوحٍ وقوّةٍ القمعَ العنيفَ الذي قامت به السلطةُ والاستخدام المنهجيّ للتعذيب ومسؤوليّة هذه السلطة من الأساس عن أسباب الأزمة، لِما أدّت إليه السياسات في السنين العشر السابقة إلى تفقيرِ طبقاتٍ واسعة من الشعب السوري ولما أُقيمَ من "رأسماليّة الأقرباء والأصدقاء" Crony capitalism, Capitalisme des copains et des coquinsأضاعت الحقّ العام وعمّقت عدم المساواة الاجتماعيّة. ولكن في الوقت ذاتِه، ودون أيّ تساهلٍ مع السلطة القمعيّة، لم يخضَع سمير لرومانسيّة الثورة المسلّحة وخاصّة من قبل أصحاب الفكر الطائفيّ المذهبيّ المتطرِّف الذي لا يعترف بتنوّع المجتمع السوريّ. وهكذا حمل سمير العيطة خلال السنوات الستّ التي خلت صوتَ كثيرٍ من السوريين العاديين الذين شهدوا مرعوبين الهبوط نحو الهاوية لدى جميع الأطراف، وانحراف السلطة كما أطياف من المعارضة المسلحة خاصّة نحو حرب إلغاء الأخر والذات في سوريا.

وفي مواجهة القوى الإقليميّة والدوليّة، بقي سمير مستقلاً حرّ الكلمة يقولُ الشيءَ ذاتَه لجميع الأطراف رافضاً أن يكون تابعاً لإيران كما لدول الخليج، لروسيا كما لفرنسا أو الغرب. ورغم ذلك، بل ربّما لأنّ سمير كذلك، يبقى شخصيّةً يحترمُها حتى أولئك الذين لا يشاطرونَهُ أفكارَهُ. وكنت شاهداً في السنوات العشر الماضية كم تحترم النخب الفرنسيّة السياسية أو الفكرية مواقفَهُ.

سمير صحفيّ، اقتصاديّ، سياسيّ، رجل علوم، ولكنّ سمير هو أوّلا وأخراً مثقّفٌ إنسانيٌّ يتخطّى الحدود ولا يخشى يوماً أن يقول الحقيقة للسلطةٍ مهما كان الثمن، غالباً على حساب مصالحه الشخصيّة. وهذا التعريفُ الأساسيّ واجب المثقّف حسب إدوارد سعيد.

من الصعب أن استكمل الصورة بالدقائق العشر المطلوبة. لذلك أدعوكم لقراءة كتابِهِ الذي جمّع فيه مقالات مختارة، خاصّة من لوموند ديبلوماتيك، تحت عنوان "المشاغبة واجب..." قدّم له جورج قرم. وكذلك كتاباتِهِ السابقة عن العمل غير المهيكل travail informel, « les travailleurs arabes hors la Loi.  

شكراً مرّة أخرى للحركة الثقافيّة في انطلياس وللقائمين على هذا التكريم.

كريم إميل بيطار، أستاذ العلاقات الدوليّة في جامعة القديس يوسف.

 

كلمة الدكتورة سمير العيطة

شكراً كريم

شكراً الحركة الفكرية في انطلياس

أنا حقّاً افتخر واعتزّ كثيراً بتكريمكم، أكثر من أيّ شيء آخر.

أنتم رمزٌ لعهدٍ وطنيّ أوّل في منطقتنا، تمّ توقيعه وحفظه في كنيسة مار الياس هنا، لثورة ضدّ الظلم تخطّت الطائفيّة والطوائف... وهذا الرمز مهمٌّ بالنسبة لي لأنّه صلب ما حاولت أن أعمل عليه خلال الأزمة-الصراع في سوريا.

ففي أيلول 2011، ذهبت إلى دمشق لحضور مؤتمرٍ للمعارضة في خضمّ ما كان يسمّى "الحلّ الأمنيّ". وكنت قد عملت مع عبد العزيز الخيّر على "عهد كرامة وحقوق" كأساسٍ لبناء عقدٍ وطنيٍّ جامع أيّام كانت الثورة... ثورة، أي انتفاضة أصولها اجتماعيّة واقتصاديّة كما في تونس ومصر تسعى لترسيخ قيمٍ جديدة وليس فقط لإسقاط رئيس واستبداد. حدثت خلافات كثيرة حوله ضمن وبين القوى السياسيّة، في حين كان بعض هذه القوى يسعى على مستوى آخر أن يتمّ الاعتراف بأنّه هو الذي يُمثّل الشعب السوريّ، بل أنّه ممثله الوحيد!

فكرة العهد الوطنيّ الجوهريّة هي أنّه بالتحديد لا يُمكن لأحٍد أن يمثّل شعباً، لا سلطة ظالمة مرتبطة بشخص أو عائلة، ولا تنظيمات سياسيّة بعينها، إذا لم يُبنى هذا التمثيل على توافق على أُسس ومبادئ، وإذا لم يكن مشروطاً ومضبوطاً ضمنها. خاصّة عندما يكون لهذا الشعب تنوّعٌ في مستويات الهويّة، رغم الهويّة الجامعة، ليس فقط على الصعيد المذهبيّ فقط وإنّما أيضاً على الصعيد المناطقي أو القوميّ. طائفيّة في سورية دون طوائف كما أحبّ وصف الأمور.

ثمّ جرى بمبادرة من المبعوث الدولي كوفي عنان دفعٌ لوضع حدٍّ للخلافات وتوحيد صفّ المعارضة. فقضيت 25 يوماً من النقاش والتفاعل في آيّار وحزيران 2012 مع سوريين يمثلون أطيافاً من المجتمع السوري وقواه السياسيّة، شديدة الاختلاف في نظرتها إلى هويّاتها ومستقبلها. هذا الجهد أفضى إلى إقرار وثيقة "عهدٍ وطنيّ" وقّع عليها الجميع دون استثناء، الإخوان المسلمون كما العلمانيّون، العرب كما الكرد والتركمان، أبناء المدن كما أبناء الريف.

وللتوصّل إلى وثيقة العهد هذه، بالطبع دارت أبرز الخلافات حول أسئلةٍ مثل:

هل أساس التشريع هو المساواة التامّة في المواطنة أم الشريعة؟

وهل تتضمّن الحريّات حريّة الضمير أم لا؟

وهل المساواة تامّة بين الرجال والنساء أم هناك مرجعيّة للأعرف والأسس المذهبيّة والدينيّة تجاه المرأة؟

وهل يتمّ احترام حقوق الجماعات القوميّة وعلى وجه الخصوص الكرد وكيف؟

وهل يجب أن تبقى سوريا على مسافة واحدة من تركيا وإيران أم تعتبر أحدهما عدوّاً؟

واللافت أنّ مواضيعاً أخرى تمّ إقرارها حينها دون نقاشات طويلة، خاصّة منها تلك التي تتعلّق، ضمن عهدٍ وطنيّ بين سوريين، بالالتزام "بدعم الشعب الفلسطيني وحقّه في إنشاء دولته الحرّة السيّدة المستقلّة وعاصمتها القدس".

سأترك نسخة التوافق الوحيدة الموقّعة بين جميع الأطراف في عهدتكم... للتاريخ. رغم أنّ الكثيرين تنصّلوا منها بعيد توقيعهم، خاصّة خلال فوضى مؤتمر المعارضة الذي عقد في القاهرة في 2-3 تموز 2012، أي بعد ثلاثة أيّام من صدور وثيقة جنيف 1 بين أغلب الدول المعنيّة بالصراع السوريّ.

لقد أرّخ نصّ هذا العهد لنهاية فترة... الثورة، وبداية زمن الحرب. خاصّة أنّ دولاً عظمى تدّعي نشر الديموقراطيّة ألغت مجمل فكرة الوصول إلى توافقٍ وطنيّ سوريّ، وأعادت الأمور إلى فرض طرفٍ من المعارضة على أنّه هو الممثّل الشرعي والوحيد، واستقبلت في قصور رئاستها ممثّلين عن تنظيمات مذهبيّة مسلّحة معارضة. وبعد أيّام، انطلقت ألويةٌ مسلّحة في معركة "تحرير"... في حلب، حوّلت الثورة إلى حرب. ثمّ جاءت الحرب بداعش والنصرة وغيرها...

بعد سنواتٍ من الحرب القاتلة والمشرذِمة والمدمّرة، والتي سيكون الخروج منهما صعباً للغاية، بقيت ذكرى هذا العهد لدى الكثيرين أنّه أفضل ما صنعته المعارضة... وهذه الذكرى لم تعد لمقدّمة الأحداث إلاّ في لحظتين:

اللحظة الأولى كانت فيما سمي "حواري موسكو" في كانون الثاني ونيسان 2015. والذي لم تحضره أطياف واسعة من المعارضة، إلاّ أنّه كان على خلاف جنيف 2 و3 تفاوضاً مباشراً بين السلطة ومعارضة. أعلنت روسيا حينها عن ورقةٍ قالت أنّها نتجت عن توافقٍ. توافقٌ لم يحدث في الحقيقة... ولكنّ ورقة موسكو كانت جزءاً من مبادئ العهد الوطنيّ، جزءٌ صغيرٌ ولكن رئيسيّ... إلاّ أنّه حينها لم تكن الظروف ناضجة لكي يكون لأيّ "عقدٍ اجتماعيّ" وقعٌ حقيقيّ.

أمّا اللحظة الثانية فقد أتت بعد سنتين، أي قبل يومين من اليوم... فما وضعه المبعوث الأمميّ ستافان ديميستورا في يد السلطة والمعارضة وأطياف المجتمع المدني المتواجدين في جنيف 4 هو مشروع عهدٍ وطنيّ من 12 نقطة... كي يتمّ التفاوض عليه وربمّا توقيعه في الجولة القادمة...

هناك في ورقتي موسكو وجنيف كثيرٌ من عناصر عهد القاهرة الوطنيّ... رغم أنّ بعض مفرداتهما أقلّ وضوحاً مما كان قد وقّع عليه الجميع. فعدم مذهبيّة الدولة أكثر عموميّةً برأيي من العودة إلى الشعار المؤسّس لسوريا: "الدين لله والوطن للجميع"، ومن الإقرار جهارةً بحريّة الضمير، حيث "لا يجوز لأحدٍ فرض دينٍ أو اعتقادٍ على أحد، أو أن يمنع أحداً من حريّة اختيار عقيدته وممارستها". لكن الأهمّ من ذلك أنّ نقاطاً جوهريّة تغيب عن النصوص المتأخّرة. نقاطٌ أهمّها أولويّة المصلحة العامّة والحقّ العام، وثانيها الإقرار بخصوصيّة الهويّة الكرديّة ضمن عروبةٍ سوريّة ناضجة ومتحرّرة من الشوفينيّة.

فالمصلحة العامّة تقوم على الاعتراف بالتساوي بالحريّات الفرديّة والعامّة والجماعية، حيث تضع الدولة "قواعداً لصون هذه الحريّات من هيمنة عالم المال أو السلطة السياسيّة". وكذلك تقوم على مبادئ مؤسسة لدولة، تتضمّن فصل واضح بين السلطات، ويتمّ فيها بناء النظام الديموقراطي التعدّدي المدني ضمن "قواعد تضمن أوسع تمثيل للشعب واستقرار النظام السياسي، وتضبط بشكلٍ دقيق الموارد المالية وإنفاق الأحزاب والجماعات السياسية". وحيث "تصون الدولة المال العام والملكيّة العامّة لمنفعة الشعب، وتضمن الحريّة الاقتصاديّة وتكافؤ الفرص لكن ضمن ضوابط تكافح الاحتكار والمضاربات وتحمي حقوق العاملين والمستهلكين". وحيث تُعتبر الدولة مسؤولة عن تأمين الخدمات العامّة الأساسيّة لكلّ مواطنٍ: السكن والتنظيم العمراني، ومياه الشرب النظيفة، والصرف الصحي، والكهرباء، والهاتف والانترنيت، والطرق والنقل العام، والتعليم والتأهيل النوعيين، والتأمين الصحيّ الشامل ومعاشات التقاعد وتعويضات البطالة، بأسعارٍ تتناسب مع مستويات المعيشة. هكذا بالتفصيل المملّ.

لا بدّ من التركيز على هذه النقطة كي لا يكون "الحلّ" في سوريا هو توزيع نفوذٍ بين أمراء الحرب على الطرفين، وبين القوى التي تتحارب بالوكالة عبر السوريين، بما فيها بحجّة حريّة الاقتصاد. وذلك في بلدٍ مدمّرٍ إلى أقصى الحدود، عمرانيّاً وفي النفسيّات. وفي ظلّ حديثٍ اليوم أنّ إعادة الإعمار ستقوم به مؤسسات دوليّة دون رفع العقوبات كما حدث في العراق وأدّى إلى ما أدّى إليه

لكن لا بدّ هنا من القول أنّ العهود الوطنيّة تشكّل طموحاً ولا توقف الحروب وليست هي التي تصنع الواقع بل قوى الاقتصاد والمجتمع والدول. العهود هي فقط جزءٌ من الوعي الذي يُبنى، أمّا الواقع فيتطلّب نضالات ومشاغبات.

ولهذا سأنهي كلمتي هنا ببعض الأسئلة المشاغبة، أضعها بعهدة المفكرين كما جميع من يطمح للمواطنة والتنمية، ليس فقط في سوريا بل أيضاً في لبنان والعالم العربيّ:

هل يُمكن للديموقراطيّة وللحريّات أن تسود دون دولة ومؤسسات وفصل سلطات ومحاسبة وإطار ناظم للقوى السياسيّة والاجتماعية العاملة، بما فيها الصحافة والإعلام؟ تصوّروا لو أنّ الإعلام في لبنان له ذات الأطر الضابطة الموجودة في ألمانيا.

وكيف يمكن للسوريين أن يطووا صفحة الحرب؟ ومن يجب محاسبته وكيف؟ فمن سيتحمّل المسؤولية التاريخيّ’ والإنسانيّة عمّا حصل ومن سيدفع الثمن المعنويّ؟ وكيف ستتم إعادة الإعمار؟ أسيعاد الناس إلى قرى وأحياء كانت أصلاً عشوائيّة لكي يعيشوا فيها الفقر الذي كانوا يعيشونه سابقاً؟ ومن سيقوم على الحقوق التي اغتصبت أثناء الحرب؟ إذ أنّ الحرب اقتصادياً ليست سوى إعادة توزيع للثروة. إقرؤوا توماس بيكاتي.

وهل الإسلام السياسيّ هو حقّاً مستقبل البلدان العربيّة؟ انطلاقاً من الصعود الحاليّ لدور دول الخليج العربيّ وإيران، واعتماداً على النظريّات التي يحاول أن يقنعنا بها بعض المفكرين في أوروبا والولايات المتحدة. أم أنّنا نشهد اليوم إرهاصات لتحوّلات كبرى في أسس الفكر في العالم العربيّ، تأتي بقطيعة جديدة بحجم قطيعة نهضة القرن التاسع عشر؟ قطيعة لا تقوم هذه المرّة على الانبهار بتقدّم الغرب بقدر ما تقوم على العودة لأبو العلاء المعريّ أساساً وليس لابن تيميّة. وربّما من فوائد الحرب القائمة أنّها عرفتنا على بلادنا وعلى تنوّعها... مناطقٌ ومدن وقرى لم يكن كثيرون يعرفون أسماءها، وأديان ومذاهب لم يكن أحد يعرف حقّاً أنّ هناك مواطنون يصونوها، تراثاً لهم ولنا.

 

حقّاً شكراً لتكريمكم. على أمل أن نبقى جميعاً أوفياء لهذه البلاد ذات التراث العظيم... وكما أحبّ أن أقول: فليقدرنا الله أن نخدم بلدنا بالطريقة الصح.

 

______________________________________________________

 

عبد الحسين شعبان في ثقافته الاستثنائية

د. عمران القيسي

ناقد وأديب، فنان تشكيلي - العراق

          سوف أحاول جهدي ركن عواطف الصّداقـة التي تمتدّ ما يزيد عن الخمسين عاماً جانباً، وأتحدّث عن كائن عراقي مـفكّر اعتاد أن يقف دوماً على الطرف المضاد من المعادلة السائدة، سيّما وأنه يعيش كأي عراقي آخر، إشكالية العلاقة الوثنية بين النظام والمواطن، وبين السّلطة والمثقّف بشكل خاصّ.

          ليس بفعل انتمائه المـبكّر للحركة اليسارية في العراق، وليس بفعل موقفه النقدي مما يجري على مستوى العلاقة المغشوشة بين الدولة والفرد وبين السياسة والثقافة، صار عبد الحسين شعبان مراقباً "شرساً" لكل ما يجري أو يتكوّم من سلبيات في الحياة اليومية للفرد العراقي والثقافة العراقية، بل لأنه نتاج بيئةٍ مثقفة في مدينة تآخت مع التمرّد، حيث لا يخلو بيت فيها من مكتبة عامرة. فالنجف التي تنهض على رفوف من الكتب والمخطوطات، لم تكن أحادية الثقافة، بل دفعتها الضرورة لأن تكون متنوّعة، ومنها انطلقت حركات فكريّة متجدّدة، كما انطلقت حركات شعرية متنوّرة، وحركات سياسية بالغة الأثر والتأثير.

          فبعض القادة من اليساريين الشيوعيين الذين يتحدّرون من أصول نجفية، كان أهلهم من العوائل الدينية، سواء في الحوزة العلمية أو في حضرة الإمام علي مثلما هو مكرّمنا حيث احـتلّت عائلته رئاسة الخدمة في الروضة الحيدرية منذ قرون، أو مـمّن يقرأون في عاشوراء سيرة مقتل الحسين، وخير مثال لنا هو "الشهيد" حسين الشبيبي الذي أعدم مع يوسف سلمان يوسف (فهد) مؤسّس الحزب الشيوعي العراقي، أو "الشهيد" حسين أحمد الرضي (سلام عادل) أمين عام الحزب الشيوعي العراقي الذي قتل تحت التعذيب عام 1963.

          من هذه المدينة طلع محمد سعيد الحبوبي الشاعر والفقيه وعلي الشرقي الشاعر والوزير، والشاعر الجواهري والشاعر محمد صالح بحر العلوم والشاعر أحمد الصافي النجفي، والشاعر والحقوقي والوزير سعد صالح، كما خرّجت نخبة من رجال الدّين المتميّزين والمجدّدين بينهم من لبنان الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله، ولا ننسى هنا القراءات المتميّزة التي قدّمها السيّد محمد باقر الصدر للفكر الإسلامي ومحاولة تلقيحه برؤية عصرية.

          نعم من النجف طلع عبد الحسين شعبان الذي سرعان ما اندمج ورعيل جيل الستينات الشعري والأدبي والثقافي في بغداد، خصوصاً وكان يحمل معه إضافة إلى هموم الثقافة، قضايا النضال، فجمع بين الثقافة والسياسة وبين العلم والقلم. هو القادم من عمق الثقافة النقدية المعمّقة ومن بيوتات الأدب والعلم والمعرفة والجدل، حيث تلتقي الكثير من الروافد الروحية والثقافية والفكرية بعمق التاريخ.

          حقاً كانت النجف منبع الفكر وفي الوقت نفسه منبع التمرّد، فقد استلهمت قيم البطولة لتتحدّى الإنكليز في ثورتها العام 1918 وفيما بعد في قيادة الثورة العراقية الشاملة العام 1920، وبقدر ما هي مدينة دينية فإنها مدينة تتقبل الآخر وتتفاعل معه، وهو ما يُطـلِق عليه المحتفى بفكره "جوار الأضداد"، ففيها المتديّنون وغير المتديّنين، وفيها المؤمنون وغير المؤمنين وفيها اليساريون واليمينيون والتقدّميون والمحافظون، وتتعايش فيها سلالات ولغات وأقوام، وإنْ كانت العروبة واللغة العربية هي الفضاء الجامع، فتلك سمات المدن المثقفة، حيث تختلط السياحة الدينية والتجارة مع الثقافة في هارموني منفتح.

          لذلك لا أستطيع أن أتحدّث عن هذا (الحواري) إلاّ من زاوية فكرية، لأن العلاقة معه قامت على أساس فكري وثقافي ونضالي، قوامه وحدة الانتماء إلى اليسار العراقي المعاند وإلى قيم الحداثة والجمال والعدل.

          فإذا كانت صورة عبد الحسين شعبان قد فُهمت بالنسبة لنا نحن الذين جايلناه، من ضمن صورة الوضع الإنساني والشرط التأريخي الذي يعانيه كل مثقف عربي اليوم، فإن هذه الصورة "الشعبانية" هي الصدى لصورة المثقف العراقي الذي لـخّص شعبان نفسه بصفة "الجدلي الماركسي"، الباحث عن "الفهم والتخالق بين الأحداث والأفكار والوقائع". من هنا يجب أن نفهم خصوصية الثقافة عند شعبان وربما العديد من العراقيين، التي كانت زاداً فكرياً ومعرفياً في خضم صراعه من أجل التغيير، خصوصاً وقد خيّمت آنذاك نزعات أخرى في ظل انهيارات وهزائم.

          لقد طرح عبد الحسين شعبان عبر وعيه الثقافي معادلة هـامّة، قوامها الاجتهاد بكافة الثوابت الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية والفردية، فأسقط بذلك مقولة "لا اجتهاد في معرض النص". فالنص أي نص، ديني أو فلسفي أو سياسي أو قانوني، لا بدّ وأن يخضع للاجتهاد والتفسير والتأويل، فهو بذلك اقترب كثيراً من اثنين أوّلهما المتصوّف الحلاج بن محيي الدّين الذي قال:

"ألا أبلغ أحبائي بأني / ركبت البحر وانكسر السفينة

على دين الصليب يكون موتي / ولا البطحا أريدُ ولا المدينة"

          كما اقترب كثيراً من المعرّي القائل:

"في اللاّذقية ضجة ما بين أحمد والــــمسيحُ
هذا بناقوس يدّقُ وذا بمئذنة يــــــــــــصيحُ
كلٌ يعظِّم دينه يا ليت شعري ما الصحيحُ؟"

          تساؤلات شعبان تتوالد ولا ينسى حتى نفسه فيسائلها بكل أريحية ويتـوقّف عند أخطائه وأخطاء جيلنا ليعبّر عنها بصميميّة مثلما هي صميمية أيضاً، تتـعلّــق باجتهادات أو مواقف لم تثبت الحياة صحّتها أو تجاوزها الزمن.

          قرأ ماركس وأنجلز بمنظار نقدّي مفتوح على خليج من الأسئلة ومن دون مسلّمات إيمانية تبشيرية جاهزة، بل كان العقل النقدي التساؤلي وراء الكثير من أطروحاته، وبهذا المعنى يتحدّث عن الماركسية باعتبارها حضوراً وليس غياباً، حتى وإن تم إهمال الكثير من أحكام ماركس وتعليماته، بل ونقدها ماركسياً، ويقصد بذلك "جدلياً"، لا سيّما باستخدام منهج ماركس ذاته منتقداً تحنيط الماركسية التي أفقدتها روحها وسلبتها لبّها وجـمّدتها على نحو فقدت فيه حيويتها.

          ومن أبرز الإشكاليات التي شغلته هي تلك العلاقة المشوبة بالقصور، بين الماركسية والدين، وقد أوضح ذلك في كتابه الحواري (تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف)، إذْ كتب مجيباً على السؤال: "بكل أسف لم تستوعب الحركة الشيوعية والتيارات الماركسية هذه الحقائق، فـظلّت تدور في إطار النظرة المتعالية والفوقية للتعامل مع العالم الروحي للإنسان، ومع الدين بشكل خاص، وقد تم إخضاع الكنيسة للدولة بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 بزعم العلمانية وإكراه المؤمنين على السير في ركابها، وجرت عملية انتقاص وإساءة للأديان وصودرت أراضي وأملاك الكنائس والأديرة، وأكثر من ذلك اعتبر الإلحاد شرطاً لعضوية الحزب، وفيما بعد لعضوية الكومسمول (منظمة الشبيبة الشيوعية)".

          إنّ إشكالية الدين في مجتمعاتنا وحساسيتها دفعت شعبان لتقديم قراءات منفتحة بخصوص الدين الذي يعتبره ظاهرة اجتماعية لا ينبغي معارضتها أو تأييدها بقدر ما يـتطلّب الأمر دراستها وتوظيفها بما ينسجم ومصالح النضال ضد الاستغلال وبهدف تحقيق العدالة الاجتماعية، وقد تـوقّف عند قراءة ماركس وخصوصاً في "المسألة اليهودية" مشيراً إلى أنه لم يقدّم أطروحة كاملة حول المسألة الدينية أو السسيولوجيا الدينية. وقد استكمل شعبان بحثه حول الماركسية والدين بكتابه الموسوم "الحبر الأسود والحبر الأحمر - من ماركس إلى الماركسية".

          بالطبع ما كتبه عبد الحسين شعبان هنا عن المثال الروسي، عشنا ارتدادته السلبية في العراق بعد ثورة 14 تموز (يوليو) عام 1958، حيث حدث شرخ كبير بين الحركة الشيوعية العراقية والجماعات الدينية، وقد وصلت إلى حد إصدار الفتاوى بتحريم الانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي - مثل فتوى السيد محسن الحكيم التي صدرت في شهر شباط (فبراير) من عام 1960، وقد شجّع ذلك على حصول المذبحة الكبرى بحقّ الشيوعيين إثر انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963، ومقتل الزعيم عبد الكريم قاسم وطاقمه الحاكم، إضافة إلى أبرز قيادات الحزب الشيوعي العراقي، وبالطبع فإن مراجعة شعبان شملت أيضاً نقده لمواقف "الشيوعية اليسارية الطفولية" إزاء الدين والتديّن والإيمان، تلك استغلّتها القوى الرجعية والمحافظة المعادية للماركسية.

          أدرك عبد الحسين شعبان بنظرته الموسوعية الثاقبة أن النكبة والانكسار هي في الفكر أكثر مما هي في حقل السياسة، لذلك ذهب إلى معالجة هذه المسألة وأخذت أسئلته تكبر منذ هزيمة 5 حزيران (يونيو) العام 1967 والتدخّل السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا 21 آب (أغسطس) العام 1968، وحين واصل مشواره للدراسة في الدول الاشتراكية بدأت أسئلته ومراجعاته النقدية تغتني بتجارب عملية، والأكثر من ذلك فإن الأخطاء المتكرّرة التي عاشتها قيادات الحركة الشيوعية العربية بشكل عام والعراقية بشكل خاص، دفعته للتفكير في مجالات وحقول أخرى غير الحقول السياسية المباشرة لخدمة بلده وأمته.

          وكان قد اضطرّ إلى مغادرة العراق أكثر من مرّة، مثلما اعتقل أكثر من مرّة، واقترب الموت منه عدّة مرّات، ولعلّ واحدة منها كنت قريباً منها في ساحة السباع ببغداد العام 1968 حين سقط 3 شهداء وعدد من الجرحى في تظاهرة سلمية، وبعد ذلك غامر في العيش بالجبال الوعرة مع نخبة من رفاقه ليقود إعلاماً مضاداً للإعلام الرسمي في حركة أنصارية في المناطق النائية، خصوصاً المثلث العراقي - الإيراني - التركي، ثم في منطقة بشتاشان، وكان هؤلاء بين مطرقة وسندان 3 دول هي العراق وتركيا وإيران، ولم يكن لديهم سوى بضعة كتب وأحلام وإصرار على اختيار نمط حياة غير سائد وغير مألوف.

          وهناك أيضاً اقترب الذئب الذي ظلّ يتـرصّده إثر هجوم مسلّح تواطأت فيه قوى عديدة، فاضطرّ ومن معه إلى عبور جبل قنديل الشهير، فعاد إلى المنفى بعد تعرّضه لأمراض وإشكالات صحيّة عديدة ليتفرغ هذه المرّة للعمل الحقوقي والفكري، خصوصاً في ظل الخيبات المتكرّرة.

          كان شعبان يدرك أنّ دوراً استثنائياً ينتظره في عواصم الغرب، هناك حيث بدأ العمل في قضايا حقوق الإنسان والتربية على ثقافة المجتمع المدني، وكان قد توصّل إلى قناعة أن أوضاعنا العربية لا يمكن معالجتها بالانقلابات أو بالحركات المسلّحة والعنفية ولا بتبديل فوقي لنظام الحكم، كما أن المعارضات كانت وجهاً آخر للسلطة، وقد آمن أنه آن الأوان لبناء المجتمع المدني لوضع الأسس الحضارية للبناء الاجتماعي والاقتصادي والثقافي من خلال نشر ثقافة قبول الآخر والإقرار بالتعدّدية والتنوّع ونبذ كلّ ما له علاقة بالعنف، وليس غريباً عليه أن يؤسس مع ثـلّة متميّزة من اللبنانيات واللبنانيين وشخصيات عربية وعالمية "جامعة اللاّعنف" وأن يدعو إلى "التسامح" والمصالحات ونبذ الكراهية وحل المشاكل والإشكالات عبر الحوار السلمي والتفاهم والوسطية والاعتدال ليس على الصعيد النظري فحسب، بل في حياته الشخصية والعملية أيضاً.

          كان شعبان بفعل دراساته القانونية مطّلعاً على مساوىء قانون الجنسية العراقي، وهو القانون الذي ترك بصماته على الواقع الذي يميّز بين المواطنين العراقيين، الذين تم تصنيفهم بين الفئة (أ) والفئة (ب)، إضافة إلى هدر حقوق "الأقليّات" ولذلك كان من أكثر الحقوقيين العراقيّين صوتاً وتنويراً ودعوة لإصدار "قانون جديد للجنسية" على أساس المساواة في الحقوق وعدم التمييز، كما كان أول المدافعين عن المهجّرين العراقيّين على المستوى الدّولي، وهي الدعوة المتواصلة في دفاعه عن اللاجئين العراقيين في جميع المحافل الدولية. ولا توجد عاصمة أوروبية لم تشهد له مساعدة لهذا اللاّجىء أو ذاك أو لإطلاق سراح هذا المعتقل أو ذاك أو لهذا المختفي قسرياً أو ذاك.

          وحين وقع العراق تحت الاحتلال الأمريكي، وعمد هذا إلى تفكيك الدولة ولم يبق فيها العراق ما يمكن أن تنهض عليه أعمدة بناء جديدة، خصوصاً بعد حلّ الجيش العراقي وبعض أجهزة الدولة، فكلّما ازدادت المشكلات تعقيداً في العراق، ذهب الباحث والمفـكّر عبد الحسين شعبان أعمق في البحث والتحرّي، فكان أن شرّح وفـنّد مزاعم الاحتلال بالشرعية وحاجج بسلاح القانون ليثبت أن ما يسمى "تحريراً" إنما هو احتلال ممنهج بعد حصار دولي جائر، كما وقف بصلابة ضد نظام المحاصصة الطائفي الإثني الذي أسماه "نظام الغنائم والزبائنية" كاشفاً عن الألغام العديدة التي احتواها الدستور وذلك في كتابه العراق "الدستور والدولة من الاحتلال إلى الاحتلال".

          إنه (ديوجين) حامل المصباح الأزلي، لذلك نراه يكتب ويحاور ويجادل ويحاضر ويقدّم اللوائح ومشاريع القوانين، خصوصاً تلك التي تـتعلّق بإلغاء الطائفية وتحريمها، ويطرح بدائل عنها لتعزيز المواطنة، وهو الأمر الذي يتابعه على المستوى العربي.

          كتبتُ عنه يوماً بأنه "مفـكّر يمارس عملية إعادة تكوين الذاكرة بشكلها الصحيح"، وربّما وضعه هذا الأمر في موضع بالغ الخطورة، قد يكون موقفاً "إرهابياً" يرعبنا لأنه ينكأ جراحنا التي لم تندمل، فنقد التجربة وخصوصاً الشخصية، إنّما استهدف تجاوز ما تجاوزه الزمن وعدم تكرار الأخطاء، وإعادة النظر بالكثير من المسلّمات و"الكليشيهات"، في رؤيوية استشرافية جريئة.

          لم يكتفِ شعبان بنقد التّجربة الماركسية العربية، وبعض مفاصلها الأساسية، بل أيضاً ناقش بجرأة مواقف المرجعيات الدينية الشيعية من قضية الاحتلال الأمريكي للعراق بما فيها من جوانب المهادنة، أو من قضية ولاية الفقيه التي لم تستسيغها النجف ممثّلة بـ"السيد السيستاني"، لكن "الشيعية السياسية" حاولت تقديمها لمرجعية النجف على "طبق من ذهب" لأسباب سياسية مصلحيّة بين الطرفين.

          ومن موقعه المعرفي والاجتهادي دعا إلى التمسّك بمرجعية الدولة التي ينبغي أن تكون فوق جميع المرجعيات، وإنه إذ يفعل ذلك انطلاقاً من خلفيته القانونية بتأكيد "مبدأ حكم القانون"، لأنه يدرك أن تعدّد المرجعيات الدينية والمذهبية والطائفية والإثنية والعشائرية والحزبية، إنما يؤدّي إلى إضعاف الدولة والحطّ من هيبتها، فليس هناك من جهة جامعة وقادرة على حماية حقوق الإنسان "كمرجعية عليا" غير الدولة، وهو يرى بكلّ صراحة بأنّ ثقافة حقوق الإنسان لا تزال متدنية في عالمنا العربي إلى حدود مريعة، ومن هذا المنطلق بقدر دعوته للتغيير في العالم العربي إلاّ أنه ظلّ يدعو للتمسّك بالدولة الوطنية التي لا يمكن الحديث عن أي تغيير وديمقراطية دونها.

          عبد الحسين شعبان المُحتفى بمنجزه الفكري والثقافي والحقوقي والحائز على جائزة "أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي" (القاهرة 2003)، وأوسمة وجوائز ثقافية وفكرية كان آخرها من تونس العام 2016، هو من الجيل الثاني للروّاد الحداثيين المجدّدين "عراقيّون وعرب".

          وكنتُ دوماً أسائلُ نفسي: ألا يهدأ المحارب، المشاكس، المشاغب، المتمرّد حتّى على نفسه بعد هذه التّجربة المديدة؟  لكنّني أتفاجأ كلّما زرته في بيته فأراه منكّباً على طاولته يكتب، والأوراق والكتب متناثرة حوله، لذلك أسميته (كادح الكتابة) "الشغيل الأبدي" الذي يستمرّ عشقه المعـتّق للحروف كأنه وُلِــدَ ومعه حزمة أقلام وأوراق وكُتُب.

 

عاشقٌ تسكنه بيروت

عبد الحسين شعبان

أكاديمي ومفكّر عربي

            لا أستطيعُ استعادةَ ذاكرتي الطّفليةِ المكتظّة بصور مختلفةٍ ومتنوّعةٍ دون أن تشعَّ في إحدى زواياها بيروت بكل رمزيّتها وصباها، تلك التي شكّلت بين تقاسيمِها أغاريدَ شرودي الملّونة وروح تمرّدي الأول، خصوصاً وأنّني ترعرعت في بيئة معاندةٍ كانت جاهزةً ومتفاعلةً ومنفعلة باستشراف الجديد واستقبالِ الحداثةِ والتّطلّعِ للتغيير.

            هكذا بدأتْ ترتسمُ ملامحُ بيروت الجمال والمدى والتنوّع الثقافي والاجتماعي وكأنّني في فسيفسائيّة تختلطُ وصورة "النجف السعيد" أو ما يكنّى "خدُّ العذراء"، حيث يستلقي الشّعرُ متنفِّساً المدينةَ المحافظةَ التي تآخت مع التمّرد، حتّى تفّجر "الفكرُ المنفتحُ في المجتمع المنغلق" على حدّ تعبير السيد مصطفى جمال الدّين.

            لم يكن يفلتُ صيفٌ أو زيارة ، إلاّ ويختارُ جدّي "حمود شعبان" مستقرّاً له بيروت يعانقُها ذهاباً وإياباً، يراسلُها الحلم قَصَدها أو لم يقْصِدْها، هكذا استحضرتُ وجهَهُ المشرق يتراءى من بين غيومٍ تتركُها لفائفُ سجائرهِ المتّـقدة، حين كنّا نتحلّقُ حولَه وهو قادمٌ يحمل إلينا الهدايا والعطايا التي كنّا نشمُّ فيها رائحة مدينةٍ مجنونة. وعلى قدر لغتهِ الصامتةِ المُهابة كانت تتجلّى في أراجيحَ خيالاتِنا قصصٌ ونوادرٌ عن تلك المدينةِ الأليفةِ و"زواريبها" الحميمة، وعن البحرِ السمائيّ الممانع و"مقهى الحاج داوود"، وصخرةِ الروشة التي كنّا نشاهدُ بصماتها العشقيةِ على بطاقاتِ البريدِ التي كانت تصلُنا أحياناً.

            سنةً بعد أخرى كانت اللّوحة تزدان بألوان صاخبةٍ بالحنين كلّما ساح خالٌ أو عمٌّ أو قريب، ولكلٍّ منهم طريقتهُ في القصّ والإيحاء، فخالي "ناصر شعبان" كان إذا استرسلَ في الحديث عن لبنان لا يتوقّف، فيأتي بعلبك وزحلة والباروك وبيت الدّين وصيدا وصور، إضافةً إلى برمّانا وعاليه، وبحمدون المرتكز الرئيسي، وعمّي الدكتور "عبد الأمير شعبان" يختار كلَّ عام مسكناً له في صوفر أو في حمّانا أو فالوغا ويردّدُ البيتَ الأوّل من قصيدة الجواهري عن "شاغور حمّانا":

 

عـاودتُ بعــد تغـيـُّـــبٍ لُبـنانـا / ونــزلتُ رَحْـــبَ فِـنائـه جَـذلانـــا

            إلى أن يقول:

"شاغـور حـمّانا" ولم ير جنّةً / مــن لــم يشاهــــد مـرةً حــمّانا

مـرْجٌ أرادتْــه الطبــيعة صـورةً / مـنها عـلى إبـداعـها عُـــــنوانا

لامستِ بالشّك اليقينَ وزعزعت / مــرآكِ نــفساً تــــنشدُ الإيــمانا

أمِـنَ الجِنان وخمرها لكِ صورةٌ / صـورَّت عــــنكِ الجــنانُ جـنانا

يا أخت "لا مرتين" ارهفَ جُوك / الإحساسَ منه ولطَّفَ الوجدانا

هــذي الينابــيعُ الحسانُ تفـــجَّرتْ / منــها يــنابيـعُ البـــيان حِسانا

            وخالي "جليل شعبان" بدا وكأنّه يتسلّق شجرة الأرز وهو يلتقط تذكاراً له، لم ينسَ أن يكْتُبه صورةً فوتوغرافية في مجموعة شعرية نشرَها مؤخّراً وأطلق عليها "بين الأرز والنّخيل"، مقدّماً تراتيلَ لبنانَ المنحوتة في السماء على نخيل أناجيل سومر حضارةِ "الأوّل من كل شيء"، ولا زالت جدران منزلي تحتضنُ صورتَه النابضة الفتيّة يترافق و جدّي وهما يرتديان البدلاتِ الأنيقة في بيروت العام 1953.

أمّا خالي "رؤوف شعبان" فكان يبتسم وهو يعلّق أثناء الحديث عن بيروت لما لها من وقع خاصٍّ جداً عنده، و"معين شعبان" الّذي كان يُطرب كلّما سمعَ "الصّبوحة"، وظلّت بيروت مثل دمشق قبلةَ والدي "عزيز شعبان" كلّما اختار السفر، ولا أزال أعيش الحسرة التي كان يطلقُها الدكتور "ناهض شعبان" كلّما جاء على "اسم بيروت" (بلد العيد) حيث قالت لهم فيروز بشذا صوتها الأيقوني:

(عندك بدّي إبقى.../ بلدي عم يخلق جديد/ لبنان الكرامة والشّعب العنيد)

            هكذا كانت بيروتُ حاضرةً بيننا في بغداد، بل ولبنانُ كلُّه من شماله إلى جنوبه، وما فيه من مطبوعاتٍ وقراءات وكثيرٍ من جدل، وكأنّنا كنّا ندرس أو نعمل أو نعيش، لكي تأتي الفرصةُ ونراودَ حلمنا المشاكس - وأعني بذلك - قضاء عطلة الصيف في لبنان وفي فندق الكارلتون في بحمدون للخواجه "توفيق أبو رجيله".

            أمّا بيروت فكنّا نجد فيها كلَّ شيء: المقاهي والكُتُب والملابس والصديقات الجميلات وأغاني الحب والسينمات والمسارح والموسيقا... وكلّ ما له علاقة بالتمدّن والتعايش، حيث شارع الحمرا وساحة الشهداء "البرج" وساحة رياض الصلح وبناية العازارية والروشة وسوق الطويلة وسوق سُرسق وفندق اليلدزلار وفندق نابليون ومقاهي الدولشفيتا والويمبي والمودكا والهورس شو والإكسبرس وستراند والألدورادو والروضة ودبيبو ومسرح قصر البيكاديللي والتياترو الكبير وتياتر بيروت والمسرح الوطني "مسرح شوشو" وسينما روكسي ومتروبول والأمبير والراديو سيتي والأوديون وغيرها...

 

            وإذا كان الإبحارُ في ما نصبو إليه ومضةً بارقةً سرعان ما تنتهي وقد يبقى شيءٌ من كلّها في ذهنِك أو لا يبقى، حيث تكونُ اليقظةُ قد بدّدت طيفها الخاطف بعد أن تلاشى، لكنّك في حضرة بيروت تصحو مبتدئاً مع مخيّلةٍ جديدة ممتدّة وأنتَ في انخطافٍ موجودٌ، لكأنَّ أنوثة "المدينةِ الإلهة"عادت حلماً يستمرُّ، لطالما عاشَ معي وتغلغلَ في كياني وتنامى مع توجّدي، فقد سكنتني يقظةُ بيروتُ الهاربةُ إلى ليلي حتى قبلَ أن أسكنها، رغم أنّ صدمة الحرب الأهلية (1975-1989) كانت عميقة التأثيرِ وموجعة في نفسي لكنّني بقيتُ على تواصل و بيروت المتّشحة بغيابات كأنّي أشاجيها وأنا: "أرحل عن شوارعها/ وأقولُ مع محمود درويش: ناري لا تموت/ شكراً لبيروت الضّباب/ شكراً لبيروت الخراب". وقد امتدّت روحي عبوراً إليها حتّى تدفّقت أسوار الدم جاهزةً بيننا حينما قتلوا "امرأة كانت تدعى الحرّية"عشيةَ الحرب الأهلية.

            وأستطيع القول إنّني عشتُ المدينة بكلِّ جوارحي لستةِ عقودٍ من الزمان، أي مذ عرفتُها في مطلعِ الستينات من القرن الماضي، وكنتُ أتردّدُ إليها باستمرار بما فيها فترة دراستي في أوروبا في مطلع السبعينات وحتى خلال الحرب الأهلية.

            كنتُ أبحثُ في المدينةِ عن المختلفِ واللاّمألوفِ من الكتب و الصحفِ إلى المغايرِ واللّاتقليدي من الأفلام، فأجد متعتي في هذا التنوّعِ المتجانسِ والاتّساقِ المتمايز، وفي التعدّدِ والوحدةِ وفي طريقة الحياة اللبنانية، وكان شغفي الصّيفي في ستينات القرن الماضي وأنا أزورُ لبنان أن أجلس في مقهى "الشامات" في بحمدون لأبدأ قراءة الصحفِ اللبنانيةِ الرائدة مثل: "النهار" و"النداء" و"الحياة" و"المحرّر" وغيرها، إضافة إلى عددٍ من المجلاتِ ومن بينها تلك المثيرة للجدل والاستفهام مثل مجلة "حوار" ومجلة "شعر" وغيرها.

            وكلّما كنتُ أستعيدُ أجواءَ النقاش والسجال والحوار بخصوص النوافذ الثقافية والأدبية والفكرية والتوجهاتِ اليمينية واليسارية، والماركسية والناصرية، والغربية والشرقية يحضرُني ذاك الحوارُ الذي أثيرَ في أواسط العام 1954 من القرن الماضي حول "مؤتمر بحمدون" الذي دعت إليه "جمعيةُ أصدقاء الشرق الأوسط" (الأمريكية) وكانت الدعوة قد وصلت الشيخ "كاشف الغطاء" في العراق "النجف" من قبل كارلند إيفانز هوبنكز "نائب رئيس الجمعية" والهدف منه - كما تحدِّد بطاقة الدعوة - دراسة القيم الروحية للديانتين الإسلامية والمسيحية وتحديد موقفهما من الأفكار المادّية الإلحادية، ولكن كاشف الغطاء كان قد اعتذر عن حضور المؤتمر، بل شكّك بنواياه حيثُ أرسلَ جواباً مطوَّلاً بعنوان "المُثل العليا في الإسلام لا في بحمدون"، وكان اليسار العراقي هو من قام بترويج ذلك الخطاب الذي طُبعَ على شكل كرّاس لفضحِ أهداف المؤتمر الذي قيل إنَّ جهاتٍ مخابراتية أمريكية تقف وراءه.

 

            في أواخر السّتينات توثّقتْ علاقتي مع العديد من الأوساط الثقافية والأدبية والفكرية في لبنان، خصوصاً مع حركة المقاومة الفلسطينية وكنتُ قد بدأتها في بغداد، وقد رويتُ في مطالعتي عن الراحل تيسير قبعة عن جوانب من هذه العلاقة ومنها ما قمتُ به بعد اضطّراري لمغادرة العراق في العام 1970، حيث وصلتُ بيروت بعد رحلةٍ مضنيةٍ عبرَ الكويت بما فيها من مجازفاتٍ ومخاطراتٍ عديدة، فاتّصلتُ بالرفيق نديم عبد الصمد، وطلبَ منّي التنسيق مع خليل الدبس وخليل نعّوس لحين عودته. كما زرتُ صحيفة الأخبار الأسبوعية (خلف سينما ريفولي في ساحة الشهداء)، وكان الحزب الشيوعي اللبناني يصدر إضافة إليها صحيفة النداء اليومية (4 صفحات)، علماً أنّ الرفيق الدبس كان من قياديّ حزب الشباب آنذاك، أمّا الرفيق نعّوس، فهو من قيادة منظمة بيروت، وعمل في جمعية الصداقة اللبنانية ـ البلغارية، واغتيل في 20 شباط (فبراير) العام 1986، وقد اغتيلَ بعده بأربعة أيام المفكر والصحافي الشيوعي القيادي سهيل الطويلة، وكان حينها عضواً في المكتب السياسي ورئيساً لتحرير جريدة النداء.

وقام "الخليلان" بمرافقتي وتأمين اتّصالاتي، واستمعا مني إلى تفاصيل الوضع في العراق وتدهورِ العلاقة مع حزب البعث، ودوّن أحـد الصحفيـين، - ولا أتذكّر اسمه - المعلوماتِ والأخبار التي نقلتُها، وفي اليوم التالي ولبضعة أيام، كانت "النداء" اليومية و"الأخبار" الأسبوعية قد ضخّت حزمة أخبارٍ جديدةً عن الوضع في العراق، وبشكلٍ خاص عن ملاحقاتِ الشيوعيين ونسبت الأمر إلى مصادر خاصةٍ من داخل العراق.

ثم أجرتْ معي صحيفةُ الرايةِ الّتي كانت تمثّلُ الاتّجاه القريب من تنظيم حزب البعث السوري، وفيما بعد مجموعة (صلاح جديد)، مقابلةً مطوّلةً نشرَتْها على عددين ليومين متتاليين، ووضعَتْ العنوان على الصفحة الأولى: "هاربٌ من العراقِ يروي قصصاً رهيبةً عن قصرِ النّهاية".

وفي بيروت تعرّفتُ على الروائي غسّان كنفاني رئيس تحرير مجلة الهدف، وذلك ما قامت بتأمينه لي قيادةُ الحزب الشيوعي اللبناني، وكنتُ قد قرأتُ له بعضَ كتبهِ ودراساتٍ له في الستينات، أتذكرُ منها: تعريفُه بشعراء المقاومة، وخصوصاً محمود درويش، وسميح القاسم، وعن الأدب الصهيوني، إضافةً إلى روايتهِ الشّهيرة "رجالٌ في الشمس"، وبادرَ بإهدائي روايتَه "أم سعد"، وهي من الكُتبِ التي أعتزُّ بها، وبقيَ معي في براغ، وحين عودتي حملتهُ في حقيبتي اليدوية، ولم أضَعْه في حقائبي مع حاجياتي وكتبي التي شحنتُها إلى بغداد، وقد تمّت مصادرتُها لاحقاً مع مكتبتي وثلاث مخطوطات، كنتُ قد أعددْتُها للطبع، من قبل الأجهزة الأمنية العراقية.

استقبلني غسّان كنفاني بابتسامةٍ عريضةٍ في مقرّ المجلة في كورنيش المزرعة على ما أتذكّر، وطلبَ من المصوّر تصويري لأرشيف المجلة، وخلال حديثي معه كان أحد الصحفيين يدوّنُ بعضَ ما أقوله. لا أتذكّرُ إنْ كان قد نشر شيئاً بعد مقابلتي أو لم ينشر، لكنّه - على ما أذكر جيداً - كان يتمنّى أن تنصبَّ جهودُ الوطنيّين واليساريين لمواجهةِ العدوان الصهيوني والمخطّطات الإمبريالية.

ذكّرني الصّديق صلاح صلاح، حيث تستمرُّ صداقتُنا منذُ عقودٍ من الزمان، أنّه سمع لأوّل مرّة عنّي من غسّان كنفاني، وحتى قبلَ أن نلتقي، إضافة إلى قياداتٍ فلسطينية لاحقاً، حيث جاء اللّقاءُ الأوّل بيننا بعد ذلك بسنوات، لكننا كنّا نعرفُ بعضَنا قبل هذا التاريخ، وهو ما تناوله بشيء من التفصيل في كلمته عند تكريمي في بيروت العام 2006.

كمْ حزنتُ لفقدان ذاك المبدعِ اللاّمع وهو في ريعان شبابه وأوجِ عطائه، حيث كان قد استكمل أدواتِه الفنية ونضجت تجرِبتُه، حتّى ترصّد له جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) وقامت يدُ الغدر بتفجير سيارته في منطقة الحازمية في 8 تموز (يوليو) العام 1972. رحل ولم يتجاوز السادسة والثلاثين من العمر، وكانت تلك واحدةً من الصّدماتِ التي صُعقتُ بها، وما عاظَمَ ألمي هو محاولة اغتيال العقلِ الفلسطيني والمثقفِ الفلسطيني والإبداعِ الفلسطيني. والفلسطينيون لم يقدّموا مناضلين ومقاومين كبار فحسب، بل "مبدعين كبار" مثل غسّان كنفاني ومحمود درويش وإدوارد سعيد وإميل حبيبي وناجي العلي، وغيرهم.

وقد أعقبَ كنفاني في مهمّة رئاسة تحرير مجلة الهدف بسّام أبو شريف، الذي كنتُ قد تعرّفتُ إليه في مؤتمر اتحاد الطلاب العالمي الذي انعقد في مدينة براتسلافا (سلوفاكيا)، ثم التقيتهُ كثيراً، وإذا بطردٍ ملغومٍ يُرسل إليه لينفجرَ بوجهه بتاريخ 25 تموز (يوليو) 1972، فيأخذ إحدى عينيه وأربعة من أصابعه، ويفقد جزءًا من سمعه، وبقيت بعض شظاياه "تطرّز" صدره ولا يزال يحملها إلى الآن. وكانت براغ محطة أساسية لعلاجه، إضافة إلى تردّده إليها بصفته نائباً لرئيس اتّحاد الصحفيين العالمي. وقد وقع حادثُ التفجير بعد أسبوعين من اغتيال غسان كنفاني.

وكانت أجهزة المخابرات الإسرائيلية تنشط في بيروت لملاحقة القيادات الفلسطينية لاغتيالها، ففي 28 كانون الأول (ديسمبر) العام 1968 قام الطيران الإسرائيلي بقصف مطار بيروت وتدمير 13 طائرة مدنية، بزعم الردّ على المقاومة. وفي 10 نيسان (أبريل) 1973 استهدف الكوموندوس الإسرائيلي في عملية قرصنية "كمال عدوان" عضو المجلس الوطني الفلسطيني ومسؤول الإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية، مع زميليه الشاعر "كمال ناصر" وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية "محمد يوسف النجار" (أبو يوسف).

 

لم أكن في ذلك الحين قد اطّلعت على فكر شارل مالك ودوره الرّيادي، خصوصاً في وضع "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" عام 1948 بالتّعاون مع البروفيسور الفرنسي "رينيه كاسان" والسيدة "إليانور روزفلت"، ولكنّني حين قرأت مقدّمته "العبقرية" في وقت لاحق تأكدت أنّ فلسفته كانت وراء الصياغة المُحْكمة لتلك "المصكوكة" الدولية، وبعدها كتبتُ عنه مقالةً بعنوان "شارل مالك الكبير ولبنان الصّغير" وحين حضرتُ الاحتفال الخمسيني لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1998) وتجوّلت في قصر"شايو" في ساحة تروكاديرو (باريس)، شعرت أنّ روحَه تخيّمُ على أروقةِ المكانِ النابضِ بتفاصيله. وكنتُ قد خصّصتُ خلال العقود الثلاثة الأخيرة أكثرَ من مبحث لي وأكثر من محاضرة وإضاءة عنه.

وكما يقول جبران:

"لبنان يا أسمى المعالي لم يزلْ / لأُولي القرائحِ مصدرَ الإيحاءِ"

وطن الكفاءات الّذي أنجب كباراً في الفكر والعلم والأدب والفنّ، من صاحب "النبي" وعواصفِ روحهِ الملتحفّةِ بالتمرّدِ والنهوض، إلى رحلات أمين الريحاني المتدفّقة في حبْرهِ الحي،  و"سبعون" ميخائيل نعيمة "الفيلسوف البليغ إلى أدب "مي زيادة" ورسائلها الشغوف، و"معضلة اللّغة" التي وضعت "الفيلسوف كمال يوسف الحاج" أمام معضلة القومية، وميشال شيحا المفكّر اللّبناني المتقدّم على عصره، وموسوعية البستاني وبلاغة اليازجي ومورد البعلبكي الأكبر... وكيف ننسى "حسن كامل الصبّاح" الذي حلم بحياكة ليلنا من خيوط الشمس ومايكل دبغي الذي نسج جروحات قلوبنا؟.. أمّا "سيّدة الجلالة" فكانت أنثى لبنان الغنوج حيث برز غسان تويني وكامل مروة وسليم الّلوزي وميشال أبو جودة وطلال سلمان...

ألا تكفي هذه الكوكبةُ التي أسّستْ مع الفكر الفلسفي التنويري المعاصر من موسى وهبة وناصيف نصار وغيرهم، وأسراباً محلّقة من الشعراء المُحدثين أمثال إلياس أبو شبكة والأخطل الصغير وخليل مطران وسعيد عقل وإلياس خوري وأنسي الحاج وجوزيف حرب وطلال حيدر وغيرهم، وعديد من الفقهاء القانونيين وعلماء اجتماع واقتصاد؟

إنّها بيروت تخاطرني وأتماهاها بصوت فيروز الملائكي وتلاحين فكر الأخوين الرحباني الانسيابي الإصلاحي و"ثورة الفلاحين" وأغاريد "نصري شمس الدّين" لأن لبنان "راجع يتعمّر" كما خلّده زكي ناصيف، وتُسائل حنيني مواويل وديع الصافي:

"لبنان يا قطعة سما / اسمك على شفافي صلا"

 

حين انتهت الحرب الأهلية وأُبرمَ اتّفاق الطائف تكرّرت زياراتي لبيروت وعندما قرّرتُ أن أترك لندن لم أفكّرْ أن أستقرَّ في أي مدينة عربية غير بيروت، مع أن علاقتي بدمشق فيها الكثير من الحميمية مثلما هي علاقتي الودّية مع القاهرة. وبغداد التي تسكنني لا زالت بعين العاصفة... إذاً هي بيروت ذاتُ الأوتار الخاصة، وحيثما يشعر المرء بالحريّة فذلك وطنه. وكما يقول الكاتب المسرحي اليوناني أريستوفان "الوطن هو حيث يكون المرء بخير" وبيروت دائماً تجعلني بخير. إنها مكتوبةٌ بالماء، وياسمينُ كلِّ حبٍّ، هي التي أنجبت "عشتار" الآلهة التي تعمّدت بأحشاء الموج، أمُّ الشرائع هي، وتوأم الزمن ما كتبه ننّوس اليوناني في القرن الخامس الميلادي.

قالت كلمتها بيروتُ، فكان الله فعل كمال... سمائيةُ البحار هاتيك معاصرةُ الأبد، امرأةٌ "كانت تدعى الحرّية"، حتّى "دفعت الجزية عن كلّ الكلمات"، يا ستّ الدّنيا يا بيروت/ يا حيث كتبنا الشِّعر...

            بيروت التي جُبلت بالمحن والمعاناة احتضنت اللاجئين والنازحين والطامحين وعشّاق الجمال، هاتِه أشكلَةُ مدينة بفعل أبجدية الخلود تُحاكي ما بعد الوجود وتُحيي الزّمان، تُعمِّد الآلهةَ بتراتيل الحرّية

            بيروت "إنّ الدّنيا بعدك ليست تكفينا...".

            الآن عرفنا... أنّ جذورك ضاربة فينا...".

            قال فيها الشاعر أحمد شوقي:

"لبنان والخلـد اختــــراع الله لـم / يـزدن بـأحـسن مــنهمــا ملكـوتـُه

هو ذروة في الحسن غيرُ مرومة / وذرى البراعة والحجى بيروتُه"

            "لن أنسى هذا الدفءَ مثل هذه الدقائق تتداخل في وجودنا كاللّحظات الأخيرة بانتظار أول موعد غرامي" حيث أنفاس الشاعر "موريس باريس" الشجية تحيكُ وشيَ الثقافة الفوّاح. وتقاسيم روح "الجواهري" تردّد:

لبنان يا خمري وطيبي / هلاّ لَممْتِ حُطامَ كوبي

هــلاّ عطفتِ لي الصبا / نشـوانَ يرفلُ بالذّنـوبِ

إلى أن يقول:

نــزقُ الشّبابِ عبدتـهُ / وبرئـتُ من حلم المشيـب

يا من يقايضني ربيـ  / ـع العمر ذا المرج العشيب

 بـــالعبقـــريـــة كلِّها / بخـرافــة الذهــن الخصـيب

            أحمل إليكم من العراق سلاماً لبيروت الحبيبة وأشاطركم الآلام والأحلام والآمال.

            "بللٌ منك، كماءِ اللّيلِ على الأشجار

            اسمكِ لي بيتٌ في اللّيل

            ونسيتُ، لسرعةِ قلبي،

            كلّ نوافذه مشرّعةً للّيل

            نسيتُ... نسيتُ... وأيقظني

            ريح الشّباك على وطني

            يا وطني، وكأنّك غربة

            وكأنّك تبحث في قلبي عن وطن أنت

            ليؤويك

            نحن اثنان بلا وطن... يا وطني

            في الطرقات المشبوهة بالإنسان...".

            ذاك هو مظفّر النّواب في حضوره الأبدي.

            شكراً لأنّكم إذْ تكرّمونني، أتحتُم الفرصة لي لأكرّم بيروت التي تستحقّ كل الإجلال.

 

كلمة الدكتور عبد الحسين شعبان في حفل تكريمه

5/3/2017

في إطار المهرجان اللبناني للكتاب السنة السادسة والثلاثون 2017 (دورة منير أبو دبس)

الحركة الثقافية - انطلياس

برعاية فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون