ندوة حول "النظام الإقليمي، تحوّلات وتحدّيات"

النظام الإقليمي: تحولات وتحديات

الأستاذ سام منسّى

المشكلة اليوم ليست أزمة النظام الإقليمي، هذا إن وجد، بقدر ما هي أزمة النظام العالمي الذي بات من المرجح أنه في طورالإنهيار. بداية، نعلم جميعاً أن المنطقة تعاني من أزمة مزمنة، وكلما بدا أنها استقرت نسبياً بصورة يمكن معها تصور ملامح نظام ما يتضمن فاعلين وقواعد وملامح بيئة استراتيجية قابلة للاستقرار، يقع انفجار ما بأشكال غير متوقعة، لتبدأ العملية من جديد. وجاء الانفجار هذه المرة من الداخل، وما نشهده حاليا هو حالة من الانفلات الإقليمي بحيث باتت كل دولة أو ما تبقى منها تتصرف بمفردها في محاولة للمحافظة على وجودها دون وجود لأي ضابط إيقاع. والأخطر من عدم وجود ضابط إقليمي، هو عدم وجود ضابط دولي يمكن أن يحدد إيقاع الإقليم في تحالفاته وصراعاته، فتجربة الدولة المحورية في الستينيات غير قابلة للتكرار. وبالتالي التحولات والتحديات التي تطال النظام الإقليمي قد تكون جراء ما يجريعلى مستوى العالم.

وفي حال افترضنا أن هناك نظام إقليمي عربي أو شرق أوسطي أرى وجود تحديات عدة رئيسة تواجه هذا النظام:

التحدي الأولهو كون المجتمعات أصبحت أقوى من الدوللدرجة كادت معها تفتك بالدولة، فأصبحت هذه الأخيرة تواجه صعوبات في القيام بمهامها الأساسية، ما قد يؤدي إلى حالة من عدم استقرار سياسي طويلة المدى تنحصر معها سياسات الدول بالسياسة الداخلية.

التحدي الثانييمكن فيتصاعد دور العامل الديني حتى باتت معادلة تنظيم العلاقة بين الدين والدولة تميل بشدة لصالح دولة الأمر الواقع "الدينية" على حساب الدولة المدنية، وما قد يؤدي ذلك من احتمال لتديين السياسات الخارجية الذي بدأت ملامحه تظهر مع أسلمة النزاع العربي الإسرائيلي. قد نشهد ظهور تحالفات إقليمية على أسس تتعلق بالدين، أو يظهر مشروع إقليمي إسلامي علي حساب المشروع القومي العربي مع كل تداعيات هكذا سيناريو على الأقليات في المنطقة.

التحدي الثالثيكمن في التجاذب الطائفي والمذهبي الذي أسفر عن نشأة تنظيمات عابرة للحدود أو تنظيمات من خارج الدولة the non-state organizationsوالتي هددت حدودتوهددت معها وجود الكيانات الراهنة دون أن تكون هناك رؤية لكيانات مستقبلية.

التحدي الرابعالذي يهدد النظام الإقليمي هو الرعب أو الهلع أو ما يسمى رهاب الإسلام السياسي العنيف أو التشدد العنيف، بحيثأصبح الهم الرئيس للشعوب العربية إلى حدٍ ما أو النخب العربية والدول، هي مكافحة هذا الرهاب الإسلامي. وغالباً ما يأتي ذلك على حساب الديمقراطية، بمعنى أننا نعود إلى أساس المشكلة: لطالما رددنا أن استبداد الأنظمة الديكتاتورية هو الذي خلق  هذا التشدد الإسلامي، ونعمل اليوم على تجديد هذا الاستبداد خشية من التطرف الغسلامي وتحت راية مكافحته.

التحدي الخامسوالأخطر هو دون أدنى شك إعادة إعمار المنطقة بعد هذه الزلازل: من سيقوم بإعادة الإعمار وعلى أي أسس لاسيما إذا استمر الإنسحاب الغربي المتجسد بانكفاء الولايات المتحدة وتردد وعجز الدول الأوروبية. من هي القوّة التي ستساهم بإعادة إعمار المنطقة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً؟

لا بد أن نذكر أخيراً التحديات الأمنية. لم يكن النظام العربي المنهار فعالا علي الإطلاق في التعامل مع مشكلاته الأمنية، بما فيها مشكلات الأمن الداخلي ومشكلات الأمن الإقليمي. نشهد اليوم توازنات عسكرية مختلة، وتدخلات في شؤون الدول، وموازين نووية مقلقة، وليس لدي أحد أي أفكار محددة حول الشكل المحتمل لترتيبات الأمن الإقليمي، إذا قدر لنظام ما أن يتشكل

لطرح هذه الاشكاليات معنا سعادة السفير ناصيف حتي والجنرال نزار عبد القادر.

نزار عبد القادر

عميد ركن متقاعد من الجيش اللبناني ، خريج كلية الحرب العليا وكلية القيادة والأركان في الولايات المتحدة.

 كاتب ومحلل سياسي ، عمل كمدير عام ورئيس تحرير لجريدة الديار وككاتب لزاوية تحليل الديار منذ عام 1996.

عضو في اللجنة الإستشارية المشرفة على مجلة الدفاع الوطني .

استاذ محاضر في كلية إدارة الأعمال والعلوم الإقتصادية في الجامعة اللبنانية .

كتب ونشر العديد من الأبحاث الموثقة في مجلات متخصصة في لبنان والخارج وصدر له ستة كتب منها: ايران والقنبلة النووية – الطموحات الإمبراطورية  - وطن بلا سياج – الإستراتيجية الدفاعية  – هلال الأزمات والحروب.

 

دكتوراه في الإدارة العامة.

الدكتور ناصيف حتي

 سفير والمتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربية وعمل رئيس بعثة جامعة الدول العربية في فرنسا والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو منذ مطلع عام 2000. وكان قبل ذلك منذ مطلع عام 1991 المستشار السياسي والدبلوماسي الخاص لأمين عام جامعة الدول العربية، وكان أيضاً أستاذاً في العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بين عامي 1992–1999، وعضواَ في هيئة تحرير مجلة شؤون عربية الصادرة عن جامعة الدول العربية.
يحاضر في عدة جامعات غربية ومراكز أبحاث، وصدر له كتابان هما نظرية العلاقات الدولية (1985)، والعالم العربي والقوى الخمس الكبرى: دراسة مستقبلية (1987)، وله أيضاً عدد من الدراسات والأبحاث في الشؤون الدولية والعربية نشرت في دوريات متخصصة. كما أنه يساهم بمقالات سياسية في عدد من الصحف العربية

 نال الدكتور حتي الإجازة في العلوم السياسية من الجامعة الأمريكية في بيروت (1975)، والماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة ذاتها (1977). ونال الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا، بالولايات المتحدة الأمريكية (1980)

 

_______________________________________________________

منطقة الشرق الأوسط: تحدّيات وفرص

العميد نزار عبد القادر

 

إن الميزة البارزة لمختلف دول منطقة الشرق الأوسط اليوم تكمن في تفكك السلطة منذ الأيام الأولى لاندلاع الانتفاضات العربية التي قلبت القادة الذين حكموا بلدانهم لعقود عديدة. لكن، فشلت هذه الانتفاضات في إقامة حكم بديل، قادر على تحقيق الاستقرار. وهكذا ضاعت ثورة الجماهير وانحرفت عن مسارها، لتقع ضحية الانقسامات الطائفية والإثنية، والتجاذب السياسي بين القوى الدينية والليبرالية. هذا بالإضافة إلى نمو الحركات الإسلامية المتطرفة، والتي شكلت كيانات إرهابية، تحوّلت خلال السنوات اللاحقة إلى خطر إرهابي شامل وكان أبرزها الدولة الإسلامية التي أنشئت على أجزاء واسعة من سوريا والعراق.

فشلت الانتفاضات والحركات الشعبية في إقامة سلطات بديلة وظهر ذلك من خلال التفكك السريع وشبه الكامل لمختلف مؤسسات الحكم والسلطة. وكان اللافت فشل حركة الإخوان المسلمين في الحفاظ على المكاسب السياسية الأولية التي حققتها للصعود إلى سدة الحكم في مصر، وتونس.

لا بد من الإشارة إلى فشل الولايات المتحدة في دعم ومساندة الأنظمة التي كانت راعية لها لمنع انهيارها. ونسجل أيضاً في هذه الفترة تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها في حفظ أمن و استقرار أصدقائها في المنطقة، وترافق ذلك مع تراجع حجم انتشارها العسكري. وهذا ما ولّد أزمة ثقة في العلاقات العربية – الأميركية، وهي ما زالت مستمرة بعد انتهاء ولاية أوباما، وذلك بانتظار بلورة سياسة خارجية جديدة من قبل إدارة دونالد ترامب. في فترة الانتظار هذه هناك تساؤلات حول ما سيكون عليه موقف إدارة ترامب من مختلف الأزمات والحروب المندلعة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وأيضاً من إيران التي استغلت الغياب الأميركي منذ عام 2011 لتتدخل في كل أزمات المنطقة من أجل فرض هيمنتها.

إن المنطقة هي عبارة عن بركان متفجّر، تزداد ثورته كنتيجة للتطورات والتدخلات الإقليمية والدولية، ونحن بانتظار حدوث «معجزة» مع الإدارة الأميركية الجديدة.

دعونا في ظل أجواء الشك وانعدام اليقين المسيطرة الآن، نستعرض مختلف التحديات والفرص الممكنة.

 

التحديات

إن التحديات تشكل لائحة طويلة، بينما الفرص هي معدودة وتفتقر إلى الضمانة واليقين – أما التوصيات فهي لا تخرج غالباً، عن إطار الأمنيات.

لو ألقينا نظرة شاملة عن المنطقة يمكن أن نجد ستة تحديات أساسية:

أولها:الأرهاب والثورات المسلحة.

ثانيها:الصراع القائم بين دول المنطقة والذي يأخذ أشكالاً مختلفة.

الثالثة:انتشار الحركات الدينية المتطرفة – وهي ترتبط في المسألتين الأولى والثانية – ولكن هناك أهمية خاصة للنظر إليها منفردة، وعدم اعتبارها ناتجة أو مرافقة حكماً لظاهرة أخرى – لدينا هذه الانقسامات الدينية، وعدم التسامح، والصراعات المذهبية، حيث لا يمكن لأحد تجاهل أهمية الدين في أيٍّ منها.

العنصر الرابع:هشاشة الدولة، والكيانات المصطنعة التي قامت واستمرت عبر العقود – هذه الدول والكيانات التي فشلت أن تتجذر أو أن تتحول نحو دولة عميقة، قوية بمؤسساتها. هناك غياب كلي لكل البنيان السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يحقق الاستقرار للدولة والعدالة والازدهار للمجتمع.

العنصر الخامس:شعوب تطمح لإقامة دولة أو كيان سياسي خاص بها، ودول مصطنعة لا حاجة أو لزوم لوجودها. هناك بعض الأمثلة على ذلك: الأكراد الذين يشكلون الحالة الأبرز، وهناك التركمان وغيرهم، وغيرهم، من الذين يرفضون أن يكونوا جزءاً من الدول التي تحكمهم، وهم يتوقون للاستقلال في دولتهم أو كيانهم المستقل.

ولا بدّ من التوقف سادساً عند قضية الشعب الفلسطيني وما لحق به من ظلم تاريخي، وما زال يواجهه من ويلات الاحتلال والحرب الإسرائيلية المستمرة ضده في الداخل الإسرائيلي وفي الأرضي المحتلة منذ عام 1967.

هذه التحديات بكامل تعقيداتها وارتداداتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تدفعنا إلى التعرف على ستة نماذج من الدول:

المجموعة الأولى:والتي يمكن تصنيفها بالدول الفاشلة، وهي: سوريا والعراق واليمن، وليبيا ولبنان.

والتحديات التي تواجهها تدفع نحو تصنيفها كدول فاشلة تتمثل بعناصر النزاع الداخلي، الحرب الأهلية، عدم أهليتها لتكون دولة حقيقية، وفشل سياسي واجتماعي واقتصادي مستمر.

المجموعة الثانية:هي مصر، والتي تنعم بالاستقرار السياسي والاجتماعي، ووجود مؤسسات قوية تؤمن للدولة السلام والاستقرار.

المجموعة الثالثة:الأردن والمغرب والجزائر وتونس، والتحديات التي تواجهها هي ذات طابع اقتصادي، ومجموعة من التحديات الداخلية والخارجية التي تؤثّر على الاستقرار العام، وتشكل تونس نموذجاً صالحاً للتطور والتحول نحو نظام ديموقراطي.

المجموعة الرابعة:دول الخليج، والتي تواجه تحديات تتمثل بضرورة حصول الإصلاح الداخلي سياسياً واقتصادياً، بالإضافة إلى تأمين الضمانات الأمنية، وإجراء إصلاح اقتصادي، يؤمن حالة من التنوع والشمولية الاقتصادية، بدل الاتكال على مورد العائدات النفطية، وضرورة تربية ثقافة الإنتاج عند المواطن بدل انتظار العطاءات والضمانات التي تقدمها له الدولة من عائداتها النفطية؛ والتي بدأت السعودية تؤمن بعدم القدرة على استمراريتها في المدى القريب والمتوسط.

المجموعة الخامسة:هي إيران، والتي هي بحاجة لوقف تحدياتها للنظامين الدولي والإقليمي. وهي تواجه حالة من الضغوط من خلال فرض عقوبات غربية ودولية ضدها.

المجموعة السادسة:هي إسرائيل والضفة الغربية، إسرائيل التي تحتل أراضي الغير وتضطهد السكان في الضفة، وتعزل غزة عن العالم منذ سنوات.

هذه الصورة العامة تظهر لنا بوضوح بأننا أمام حالة من الموجات الزلزالية المترددة التي تجتاح المنطقة.

إن أحداث الربيع العربي ما هي سوى مثال حي عن ذلك، ويبدو بأن التدخلات الخارجية والإقليمية في مسارها قد أفشلتها وحرفتها عن أهدافها الإصلاحية، الربيع العربي كان مزيجاً من اليقظة الديموقراطية والهبّة الدينية.

إن تعقيدات الأوضاع التي تواجهها هذه المجموعات تجعل من جميع القوى الإقليمية والدولية كالولايات المتحدة وروسيا قاصرة، منفردة أو مجتمعة، عن إيجاد حلول لحالات عدم الاستقرار ووقف حالة التشظّي الحاصلة داخل المجتمعات.

 

صعوبات ومخاطر

تستدعي تعقيدات الأوضاع التي تواجهها الدول في الشرق الأوسط إبداء مجموعة من الملاحظات والتي تسهّل التعرّف إلى مسالك الأزمات المتفاقمة وأبرزها:

أولاً:تشهد المنطقة حالة من التفكك والتشظّي، لقد تفجرت المنطقة كما يتفجر البركان، وأن التدخلات الدولية والإقليمية تزيد من قوة الانفجار، وتبدّد كل الآمال في أن تؤدي هذه الصحوة الشعبية إلى قيام أنظمة ديموقراطية تحل مكان الحكام الاستبداديين والفاسدين. وبالفعل لم يبق من حلم الربيع العربي سوى الآمال المعلقة على المخاض السياسي الذي تشهده تونس/.

ثانياً:لا يمكن توقع أية حلول خارجة عن إرادة اللاعبين المحليين، ومع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية والثقافية والإثنية السائدة في المجتمعات المحلية. من هنا لا تبدو المراهنة على البحث عن حلول تصنعها القوى الدولية أو الإقليمية عملية أو قادرة على تغيير مسار الأحداث الجارية، وذلك بغض النظر عن إمكانية زيادة التنسيق بين هذه القوى سياسياً أو على الأرض. لا يمكن تصوّر أن يؤدي أي توافق أميركي – إيراني أو روسي – أميركي أو تركي – إيراني أو التوصل إلى أي مشروع مشترك لهذه القوى مجتمعة، فإنها لن تكون قادرة على وضع حد للانقسامات والحروب الجارية.

ثالثاً:في معظم الأحوال لا يمكن للدول الكبرى التعرّف بعمق على جذور وديناميات الأزمات المتفجرة، وهذا ما يجعلها مترددة أو رافضة للتدخل لاحتوائها. وتخشى هذه الدول في حال تدخلها أن يتحول ذلك إلى ورطة مكلفة جداً بالأرواح وبالأموال.

رابعاً:الدول الكبرى والقوى الإقليمية لا تتدخل إلا من أجل حماية مصالحها، ومن هنا فإن عليها أن تكون انتقائية في تدخلها استناداً لمصالحها وأولوياتها، ووفق حسابات وموازين محددة للمكاسب والأثمان اللازمة لتحقيقها، لها ولحلفائها والخسائر المترتبة على خصومها.

وتدل تجارب الماضي بأن الدولة الأعظم (أميركا) والتي شكّل الشرق الأوسط نقطة المركز في اهتماماتها، فقد أساءت تقدير الوضع، ودفعها ذلك إلى اعتماد خيارات أثبتت أنها سيئة أو كارثية لها وللمنطقة، وتشكل الحرب على العراق عام 2003 أسوأ هذه التجارب.

في بداية دراسة الاستراتيجية التي يمكن اعتمادها، لا بد من طرح السؤال ماذا سيحدث في اليوم التالي لانتهاء الحرب. هذا السؤال الذي اعتاد أن يطرحه الرئيس أوباما على مستشاريه في أي نقاش حول ما يمكن أن تقوم به أميركا تجاه مختلف أزمات المنطقة. ولم يتلق في أية مرة جواباً مقنعاً، بل التزم الجميع الصمت ولم يتبرع أي منهم بإجابة واضحة.

وكان أوباما يفضل دائماً العمل مع مستشاريه المدنيين، متجنباً الأخذ بالسيناريوات التي يضعها العسكريون أو دوائر المخابرات، بالنسبة لهؤلاء هناك دائماً فريق أحمر أو عدو مفترض، ولديهم سيناريوات محضرة سلفاً لمواجهته.

خامساً:هل من واجب القوى الدولية التدخل للحفاظ على وحدة دول أنشئت بصورة اصطناعية، أم العمل على دفعها إلى القبول بصورة كونفدرالية أو فدرالية. وهذا يطرح جدياً مستقبل العديد من الدول الموحدة، وفقاً لحدود سايكس – بيكو.

سادساً:هل يجب هدر الطاقات العسكرية والمادية لإعادة تجميع أو الحفاظ على وحدة الدول التي تشهد حروباً عبثية، أم يمكن صرف وتوزيع الطاقات لمساعدة الدول المستقرة، كالأردن، والجزائر والمغرب؟

سابعاً:من الخطأ الفادح أن تبني الدول استقرارها ومستقبلها السياسي من خلال الاتكال على وعود الدول الكبرى أو القوى الإقليمية. أين هو الخط الأحمر الذي رسمه أوباما لنظام بشار الأسد، في حال استعماله للأسلحة الكيماوية؟

لم تقتصر أخطاء أوباما على عدم الوفاء بالاقتصاص من النظام السوري أو بمسايرة إيران ومكافأتها على توقيع الاتفاق النووي بإلغاء العقوبات الاقتصادية وتحرير ما يتراوح بين 125 و150 مليار دولار من اموالها المجتمدة، مع التعاون معها في العراق، وتوسيع إطار العمل العسكري لها في اليمن وسوريا، بل تجاوزت ذلك للإضرار بالمصالح العربية العليا من خلال إعطاء إسرائيل 38 مليار دولار من المساعدات في السنوات العشر المقبلة، وفي نفس الوقت اعتماد قانون Jasta، والذي يمثل سيفاً مسلطاً على رقاب السعودية ودول عربية أخرى شارك مواطنونها في هجمات 11 أيلول.

والسؤال المطروح الآن: هل يمكن أن يقوم دونالد ترامت بتصحيح هذه الأخطاء التي ارتكبها أوباما؟ وهل يستطيع ترامب أن يحمي إسرائيل من نفسها، وليس من أعدائها العرب؟

إن أمام ترامب فرصة لاعتماد سياسية صارمة مع الحكومة الإسرائيلية لوقف سرقة أراضي الفلسطينيين، ووقف الاستيطان، مستمداً إرادته من قرار وموقف جيمي كارتر القائل بعدم قانونية المستعمرات. إن على ترامب أن لا يكتفي بالقول بأن المستعمرات هي حاجز أمام السلام، بل أن يصفها بأنها غير قانونية. ولا بدّ أن يعمل الرئيس الأميركي للحؤول دون إصدار الكونغرس قراراً يدعم ضم المستعمرات إلى دولة إسرائيل. لا بدّ أيضاً من أن تسمح إدارة ترامب للفلسطينيين للذهاب إلى مؤسسات الأمم المتحدة لاستصدار قرار يؤكد على عدم قانونية جميع المستعمرات في الضفة ضمن حدود 1967، وأن يفرض عقوبات ضد هذه المستعمرات، والمطلوب من الرئيس الأميركي شخصياً أن يدعم معسكر السلام داخل إسرائيل، من أجل زيادة ضغوطه المباشرة على الحكومة لإجبارها على تغيير سلوكياتها الراهنة.

 

ماذا عن العراق وسوريا؟

تتجه أنظار الجميع دولياً وإقليمياً إلى ما يجري الآن في الجزء الغربي لمدينة الموصل، وإلى الخيارات والخطط لتحرير مدينة الرقة من فلول الدولة الإسلامية. لا بدّ من إلقاء نظرة موضوعية في قراءتنا للأوضع المستقبلية في العراق وسوريا، بعد طرد «داعش» من الموصل والرقة. لقد قتلت إدارة أوباما أسامة بن لادن في باكستان، ولكن ذلك لم يغيّر شيئاً في حجم الخطر الإرهابي المتمثل بالقاعدة ومتفرعاتها، لقد تمدّد السرطان ليصل إلى كل مكان.

من هنا فإني أتوقّع أن لا يؤدي تحرير الموصل من «داعش» إلى نهاية التنظيم والإرهاب، فالأمر سيتوقف على قدرة الحكومة العراقية على معالجة الأزمة العميقة التي يواجهها لعراق منذ الاحتلال الأميركي، بأبعادها الإنسانية، والعمرانية، والسياسية والأمنية: فهناك ما خلفته الحرب من أعمال تهجير، يضاف إليها عملية إعمار المدن المدمرة، والبنى التحتية الأساسية، وهناك مشكلة إعادة توحيد الشعب العراقي بكامل مكوناته حول مشروع الدولة ومحاربة الفساد، وهناك المشكلة الأمنية التي لا تواجهها الأقليات المسيحية والأيزيدية، بل تمتد لتشمل السنّة في المناطق الشيعية، والشيعة في المناطق السنيّة، بالإضافة إلى مشكلة التمدّد الكردي ليشمل مناطق ذات أكثرية عربية.

وإني لا أغالي إذا أبديت مخاوفي من الارتكابات التي يمكن أن تحصل جراء مشاركة ميليشيات الحشد الشعبي في تحرير نينوى، وخصوصاً بعد تحرير الموصل. وماذا عن «البشمركة» وتمسكها بأراض استعادتها من «داعش»، ولم تكن معتبرة كجزء من إقليم كردستان في الأساس.

ويبقى السؤال المحرج: ما هي قدرات الحكومة العراقية لمواجهة كل الأخطار التي سيواجهها العراق بعد تحرير الموصل، وما هي خططها لملاحقة فلول «داعش» والسيطرة على الأرض، وفرض الأمن والاستقرار؟ وماذا عن استعادة السيادة، والحد من النفوذ الإيراني المباشر وغير المباشر؟

ماذا عن سوريا، بعد التطورات العسكرية الدراماتيكية، التي شهدتها حلب، والتي يحاول النظام تعميمها إلى مختلف المناطق من الشمال إلى العاصمة، وإلى درعا وحوض اليرموك جنوباً. يبدو بأن اجتماعات أستانة ومفاوضات جنيف 4 ما زالت بعيدة عن تثبيت وقف النار، والبحث جدياً عن أطر حل سياسي للأزمة.

لو نظرنا إلى الخريطة العسكرية في سوريا، فإنه سرعان ما سيتبيّن لنا خطورة وتعقيدات الوضع داخلياً وإقليمياً ودولياً، والذي يؤشر إلى أن الأزمة ما زالت مرشحة للاستمرار لسنوات عديدة مقبل.

تشهد سوريا الآن ما يقارب إثنا عشر حرباً مختلفة، ولكنها متشابكة فيما بينها: النظام ضد فصائل الثورة المسلحة، والفصائل المعتدلة ضد «داعش» والجماعات المتطرفة والإرهابية الأخرى، إيران والميليشيات العاملة معها ضد السعودية والفصائل التي تدعمها، تركيا ضد الأكراد وضد «داعش»، جبهة فتح الشام أو النصرة سابقاً ضد «داعش»، حزب الله والميليشيات العراقية والأفغانية ضد فصائل الثورة المعتدلة، الإسلاميون ضد الفصائل التي تنادي بحكم مدني – ديموقراطي، شيعة وعلويون ضد القوى السنيّة، أكراد ضد العرب، أكراد ضد أكراد، روسيا ضد فصائل الثورة والمنظمات الإرهابية، الولايات المتحدة ضد الدولة الإسلامية.

ما يزيد من مخاطر الوضع للتناقضات التي تتسم بها مواقف القوى الدولية والإقليمية، وأعني بها مواقف أميركا وروسيا وتركيا وإيران. فالولايات المتحدة على سبيل المثال تتدخل بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تصنيف هذه الحروب على الأقل، فهي ضد الأسد من خلال دعم فصائل معارضة، وهي لا تستعجل ذهاب الأسد وتدعم بقاءه خوفاً من البديل، وهي مع تركيا طوراً وضدها طوراً آخر، وهي مع الأكراد، ولكنها ضد روسيا وإيران. في نفس الوقت يواجه الموقف الروسي تعقيدات وتناقضات عديدة وأبرزها المشاركة بضراوة في الحرب، والسعي لوقف إطلاق النار، واستضافة فصائل المعارضة، ورعاية مؤتمر أستانة. ولا يمكن أن نتجاهل الروزنامة الانتقائية الإسرائيلية للتدخل في الحرب على أكثر من جبهة ولأكثر من سبب.

 

وماذا عن اليمن؟

يبدو بوضوح بأن الحرب قد بدأت كمحاولة إيرانية جديدة من أجل فرض هيمنة إيران على الجزيرة العربية، وبالتالي بدء مغامرة جديدة من خلال الدخول من الحديقة الخلفية «لبيت آل سعود»، وذلك من خلال استعمال الحوثيين المتحالفين مع علي عبدالله صالح. لم يكتف الحوثيون باحتلال صنعاء والمحافظات الشمالية بل تحركوا جنوباً من أجل احتلال تعز وبعدها عدن، وصولاً إلى مضيق باب المندب من أجل طرد أو اعتقال الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي. كما هو معروف فالحوثيون هم من «الشيعة»، تدعمهم إيران بالسلاح والمال للاستمرار في الحرب الجارية مع السعودية ودول الخليج الأخرى. شكلت اليمن، والأحداث التي تشهدها سوريا والعراق اختباراً للمملكة العربية السعودية، والتي ثبت ضلوع إيران فيها جميعاً، بالإضافة إلى تدخلاتها المكشوفة في البحرين ولبنان. وجاء هذا الاختبار القاسي للمملكة في وقت تراجعت فيه إدارة أوباما عن التزاماتها كقوة ضامنة لأمن الخليج. وظهرت واشنطن في دول مريب، وكأنها تجري مصالحة مع إيران على حساب علاقاتها مع الدول الخليجية. ويبدو الآن بأن من واجب إدارة ترامب أن تمارس كل الضغوط الممكنة لوقف الحرب في اليمن، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالضغط على إيران لإجبارها على تغيير سلوكيتها تجاه جيرانها وإجبارها على تنفيذ القرار الدولي 2216، والذي يدعو لوقف للنار في اليمن وإلى عودة الشرعية.

 

البحث عن مخارج لأزمات المنطقة

لا يمكن في ظل الحروب المتشابكة والمعقدة الجارية في المنطقة البحث عن حل للنزاعات في ظل استمرار غياب الولايات المتحدة، ومتابعة سياسة «غسل اليدين» التي اعتمدها الرئيس أوباما.

إن أسهل الخيارات التي يمكن أن تعتمدها واشنطن من أجل معالجة الأوضاع المتدهورة، وفق رأي معظم المراقبين في واشنطن أو في الشرق الأوسط هو باللجوء إلى استعمال قواتها المسلحة، القادرة على فرض سيطرتها على كل القوى الموجودة على الأرض... وهذا الخيار في رأينا هو أسوأ الخيارات، خصوصاً وأنه سيتركز على عملية قصف الدولة الإسلامية في الرقة وفي المواقع الأخرى في سوريا والعراق، ومواقع القاعدة في اليمن. إن اعتماد مثل هذه الاستراتيجية العسكرية لن يحمي أميركا والعالم من التهديدات الإرهابية. وماذا أيضاً عن وقف بقية الحروب الجارية والتي تتشارك فيها كل القوى المحلية والإقليمية وبعض القوى الدولية مثل روسيا وأميركا نفسها؟

لا بد من اعتماد مقاربة استراتيجية مختلفة. والسؤال من أين تبدأ؟

في رأينا يجب أن تبدأ الخطة من سوريا.

1-     الخطوة الأولى:دعوة كل الدول والأطراف الممولة والداعمة لكل القوى المتقاتلة داخل سوريا إلى وقف إمداد هذه القوى بالاسلحة والذخائر، واستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع بهذا الموضوع.

2-     إن الحرب في سوريا هي حرب بالوكالة بامتياز، وأن العمل على وقف تدخلات القوى الإقليمية والدولية في هذه الحرب سيزيل العقبة الأساسية أمام إمكانية التوصل إلى وقف دائم للنار. ويمكن تحقيق ذلك من خلال التوصل إلى توافق أميركي – روسي، وأن يضغط الطرفان على القوى الإقليمية وغير النظامية المشاركة في الحرب للانسحاب من سوريا. يمكن تدعيم هذا التوافق بقرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع يدعو كل هذه القوى لمغادرة سوريا. يمكن من خلال تنفيذ هذا البند خفض مستوى التوتر والانقسام الحاصل بين للاعبين الإقليميين الرئيسيين وأعني إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل.

3-     لا بدّ من حصول اتفاق أميركي – روسي، بشأن التوصل إلى حل سياسي في سوريا، مع اعتراف أميركي بالمصالح الروسية في سوريا وخصوصاً بقاعدتي طرطوس وحميميم. ويمكن الدعوة إلى مؤتمر سلام استناداً لمرجعيات جنيف واحد وقرارات مجلس الأمن، على غرار مؤتمر «دايتون» لحل المسألة في البوسنة.

4-     تبذل الولايات المتحدة قصارى جهدها لإقناع السعودية بوقف الحرب في اليمن، ويمكن للسعودية ودول الخليج قلب الوضع لصالحها في اليمن من خلال استعمال عامل المساعدات والمال، والذي سيعطي حتماً اليد العليا للسعودية على حساب طهران. ويمكن تشجيع السعودية على بدء حوار مع إيران، والذي في حال تقدمه سيساعد حكماً على تصحيح موازين القوى في العراق ويؤدي حتماً إلى إصلاحات تعيد للعراق توازنه السياسي والاجتماعي، ويمكن استثمار أي انفراج سعودي – إيراني في تحقيق الاستقرار في أفغانستان.

5-     هناك ضرورة قصوى أن تبذل الإدارة الأميركية جهودها لمعاودة مفاوضات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ضمن فكرة الحل الشامل المستند على مبادرة السلام العربية.

أعتقد بأن المنطقة جاهزة لاستقبال مقاربة سياسية شاملة، تحقق السلام كما تحمي المصالح الأميركية في المنطقة، وتفتح للمرة الأولى الباب لمحاربة الإرهاب والتطرف الذي بات يشكل تهديداً شاملاً، وتعمل على وقف المجازر والتهجير المستمرين في سوريا، وتفتح الباب لعودة الاستقرار إلى العراق، وتحوّل مسار التنافس بين إيران والسعودية بعيداً عن ميادين الحروب بالوكالة. إن المقاربة لتحقيق هذه «المعجزات»، هي بانتظار بروز قيادات دولية وإقليمية شجاعة وقادرة على المبادرة، مع التأكيد على أولوية دور الإدارة الأميركية الجديدة لقيادة المسيرة من أجل تحقيق مصالحها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.