كلمة أمين عام الحركة الثقافيّة - انطلياس جورج أبي صالح

 في افتتاح المهرجان اللبناني للكتاب السنة الخامسة والعشرون 2 آذار 2006   

       باسم الحركة الثقافية - انطلياس، نرحّب بكم في هذا الصرح التاريخي، دير مار الياس - انطلياس، حيث تلاقى منذ أكثر من قرن ونصف القرن، أسلافٌ لنا من كل العائلات الروحيّة وأقسموا على مذبح كنيسته بأن يكونوا يداً واحدة ضد المظالم وأعداء الوطن، وأن يجافوا كلّ أسباب الفتنة الداخلية، فكان أن تركوا لنا عاميّة 1840 شهادةً بالوحدة الوطنية، وميثاقاً لشراكة العيش، تستلهم به الأجيال اللبنانية اللاحقة.

      ومن عاميّة 1840 الى ثقافية 1978، تاريخِ تأسيس حركتنا، ما زال هذا الصرح ركناً من أركان البنيان الوطني اللبناني. فالرهبنة الانطونية المارونية، ممثَّلة برئاسة دير مار الياس، احتضنت مشكورةً حركتنا الثقافية التي شاءت أن تـكون منبر حوار وطني حرّ بين كلّ اللبنانيين، بمختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم الدينية والسياسية والفكرية.

      أيها السيّدات والسادة،

      تحتفل الحركة الثقافية - انطلياس هذا العام باليوبيل الفضّي للمهرجان اللبناني للكتاب. ومنذ البداية، سُميّت هذه التظاهرة مهرجاناً، لأنها ليست في جوهرها  سوقاً لبيع الكتب بقدر ما هي احتفال بالكتاب والكتّاب، وعيد للكلمة والفكر والإبداع.

      مهرجاننا إذاً ليس مساحة تجارية فحسب، بل فسحة ثقافيّة تتخلّلها مجموعة من الأنشطة التي تُضفي على عملية تسويق الكتاب أهميةً أكبر وتمنحها بُعداً أشمل.

      ففي مهرجاننا، نؤكّد لناشئتنا وللرأي العام أن الكتاب، على الرغم من تطور تكنولوجيات التواصل الحديثة، يبقى من أجدى الوسائل التعليمية والتثقيفية وأعمقها تأثيراً.

      وفي مهرجاننا، نذكّر ونؤكّد بأن بيروت كانت وستبقى عاصمة الطباعة والنشر في العالم العربي، وأن ثمَّة مسؤولية وطنية، ملقاةً على القطاعين العام والخاص، بدعم صناعة الكتاب وتوفير المقوّمات والمحفّزات اللازمة ليظلّ لبنان مطبعة الشرق الأوسط.

      وفي مهرجاننا اهتمام خاص بتلامذة المدارس الذين نحرص على تعويدهم، بالتعاون مع إدارات المؤسسات التعليمية، على ارتياد معارض الكتب، وقد أعددنا لهم في الفترات الصباحيّة أنشطة تجمع بين التوجيه والترفيه، وتتنوّع بين عروض مسرحية وعروض سينمائية ونشاطات بيئية هادفة، تعاونت حركتنا في تنظيمها مع عدد من الكتّاب والناشرين.

      وفي مهرجاننا، احتفال بيوم المعلّم حيث ستوجّه حركتنا تحيّة تقدير الى اثنين من  رموز العطاء التربوي ومن المتكرّسين الأوفياء لرسالة التعليم، ولتأليف الكتب المدرسية التي رافقت أجيالاً عدة من اللبنانييّن على مقاعد الدراسة: إنهما أستاذ التاريخ الدكتور وهيب أبي فاضل وأستاذ الفيزياء الدكتور جيلبير عاقل.

      وفي مهرجاننا خمس نَدوات متمحورة حول أربعة كتب حديثة لكل من الصحافي بيار عطالله، والوزير السابق غسان سلامة، والقاضي بيتر جرمانوس والباحث الاقتصادي الدكتور شربل نحاس، إضافةً إلى مجموعة مقالات الصحافي الكبير الراحل ميشال أبو جودة.

      والى مَن نرجو أن يكون "خاتمةَ الشهداء" في سبيل وحدة لبنان وسيادته واستقلاله الناجز، الى النائب والصحافي والمناضل الراحل جبران تويني، تحيّة خاصة في نَدوة عنه، يليها توقيع ابنتيه نايلة وميشيل تويني على مجموعة مقالاته الصادرة عن دار "النهار".

      وسوف تكون خاتمة المهرجان لحفل موسيقي بإشراف الدكتور نداء أبو مراد، وبالتعاون مع الجامعة الانطونية. كما سيتخلّل المهرجان على مدى أيامه العشرة توقيع نحو خمسين مؤلِّفاً على كتبهم الصادرة حديثاً لدى مختلف دور النشر اللبنانية.

      وفي مهرجاننا، تكريسٌ لتقليدٍ عمرُه واحد عشرون عاماً، هو تكريم رعيل جديد من أعلام الثقافة في لبنان، ممّن أسهموا، بنتاجهم الفكري والإبداعي، في مراكمة تراث الوطن وإثراء قيمته الحضارية. وفي هذا الإطار، سيشهد مهرجاننا هذا العام تكريم المؤلّف المسرحي والموسيقي الأستاذ روميو لحود، والأكاديمي الجامعي الاختصاصي في علم الرياضيات الدكتور خليل نور الدين، والعلاّمة المطران انطون حميد موراني، والموسيقي الأستاذ شفيق أبو شقرا، والباحثة الأكاديمية الناشطة في هيئات المجتمع المدني الدكتورة إلهام كلاّب البساط، ورجل القانون الدكتور عبد السلام شعيب.

      ومعلوم أن حركتنا آثرت منذ مدّة غير بعيدة أن تضمّ الى الأعلام اللبنانييّن المكرَّمين، عدداً من كبار المثقفين العرب. وهكذا سيكون أولُ أيام المهرجان مخصّصاً لتكريم المؤرّخ الأردني الدكتور محمد عدنان البخيت، والروائي المصري الدكتور ادوار الخرّاط، اللذين نرحّب بوجودهما الآن بيننا.

      وإن حركتنا، بهذه الالتفاتة الرمزية المتواضعة تجاه اثنين من أبرز المثقفين العرب، إنما تعبّر عن مفهومها الحقيقي للانتماء العربي الأصيل. فالعروبة هي قبل كل شيء انتماء ثقافي غنيّ بتنوّع مناهله، لا تبعيّة لأنظمة سياسية معيّنة، او دوراناً في فلك أنظمة أخرى. والعروبة لا تعني احتراف التسلّط تجاه الشعوب والمجتمعات وممارسة القهر والقمع والاعتقال السياسي، وتأبيد الفقر والتخلّف والظلم والظلاميّة ورفض كل مظاهر الرقيّ والتقدّم. وعروبة لبنان الحضارية كانت وستبقى متجسّدة في مساهمة عقوله النيّرة، من مختلف الطوائف، في تعزيز مقوّمات النهضة العربية، وفي ترسيخ القيم الوطنية والإنسانية، وفي خدمة القضايا العربية الكبرى.

      أيها الحفل الكريم

      إننا نعرب عن شكرنا العميق لفخامة رئيس الجمهورية العماد اميل لحود الذي تكرّم برعاية مهرجاننا اللبناني للكتاب، في إشارة تشجيع لحركتنا وبإيفاد معالي وزير العدل الصديق الدكتور شارل رزق لتمثيله، كما نتوجّه بالشكر إلى دولة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري والى دولة رئيس مجلس الوزراء الأستاذ فؤاد السنيورة اللذين حرصا على أن يتمثّلا في حفل الافتتاح هذا خير تمثيل بسعادة النائب انطوان خوري ، وبمعالي الوزير خالد قباني. ونجدّد في هذه المناسبة التعبير عن بالغ احترامنا وتقديرنا ومحبّتنا البنوية لصاحب النيافة غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، الممثَّل بيننا بسيادة المطران العزيز، رئيسنا السابق، سمعان عطالله، كما نعرب عن خالص امتناننا للرهبنة الانطونية بشخص رئيسها العام قدس الأباتي بولس تنوري، ولسائر الفعاليّات والمقامات والشخصيات السياسية والدبلوماسية والدينية والعسكرية والنقابية والأكاديمية والإعلامية التي لبّت دعوتنا إلى افتتاح هذا المهرجان.

      وإننا ننتهزها فرصةً لمشاطرة جميع اللبنانييّن الشرفاء الرجاء بأن تتغلّب، في هذه الظروف الصعبة والمعقَّدة، لغة العقل والحكمة للخروج من المأزِق الوطني الراهن، باستلهام العبَر من تجارب الماضي. ذاك أن لبنان واجه منذ العام 1943 مخاطر هدَّدت وجوده ووحدته، إن بسبب سياسة المحاور العربية والدولية أو بسبب تحميله عبئاً يفوق طاقته في الصراع العربي - الإسرائيلي او بسبب الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم الهيمنة السورية الكاملة على قراره ومقدّراته.

      والحقيقة أن المطامع الخارجيَّة ما كانت لتوقع لبنان في أزمات بمثل هذه الخطورة، لو لم تكن الطبقة السياسية المتنفّذة مهيّأةً لتمكين الخارج من تحقيق أطماعه. ففي كل مرحلة من المراحل النزاعيّة المفصلية السابقة، في 1958 و 1969 ، و1982 و 1990، كان التدخل الخارجي ينجح في استقطاب فئة من السياسيّين وفي زعزعة وحدة اللبنانييّن على حساب لبنان، كياناً، ووطناً ودولة. وفي رأينا أنَّ تفرُّق اللبنانيّين هذا تمحور حول ثلاثة أمور، من المفروض والمفترض أن تكون بمثابة مسلَّمات وثوابت في حياتهم العامة، وهي:

أولاً - نهائية لبنان، كوطن لجميع أبنائه بدون استثناء.

ثانياً - وحدة لبنان ككيان سياسي جامع لمكوّناته المتنوعة وكدولة عربية، سيّدة، حرّة مستقلّة.

ثالثاً - حلّ الخلافات على القضايا المصيرية بالحوار والتوافق، لا باللجوء إلى العنف.

      إن التزام حركتنا بهذه الثوابت هو الذي حداها على أن تنظّم، للمرة الثانية في خمس سنوات، مؤتمراً حول العلاقات اللبنانية - السورية، مساهمةً منها في نقل الطرح حول هذه العلاقات من حيّز الكلام الإنشائي أو الانفعالي إلى حيّز البحث المعمَّق والموضوعي في كيفية بلورة علاقة ندّية سليمة، ومجدية، بين دولتين عربيّتين تجمع بينهما روابط التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة.

      أيها السيدات والسادة،

      إن اللبنانيّين اليوم، بعد تحرير أرضهم وتحرّر إرادتهم، باتوا يُدركون أن استحقاقهم لوطنهم كلّفهم الكثير من الشهداء والتضحيات، وان استقلال لبنان الحقيقي وسط المُعطى الجيو - ستراتيجي المحيط به هو فعلُ نضالٍ تراكميّ، وحصيلةُ جهادٍ جماعي ينبغي عدم الاستهانة به إلى حدّ تبديده.

      فاللبنانيون اليوم، ورغم كل الغيوم الملبّدة في سماء وطنهم، أمام فرصة تاريخية نادرة وقيّمة، يتعيّن عليهم انتهازها لاستعادة استقلال لبنان، كدولة موحّدة ذات بنية مجتمعية تعددية، ونظام جمهوري ديمقراطي توافقي بين أقليّات متآلفة في خصوصيّاتها المتنوّعة. ففي مثل هذا النظام الديمقراطي التوافقي، لا يُضير أيّة أقليّة أن تكون أقليّة، بل يضيرها ألاّ تكون أقليّةً حرّة.

      من هذا المنطلق، نشاطر سائر الطيّبين والمخلصين الصابرين من أبناء هذا الوطن الأمل بأن تنجح طاولة الحوار الوطني، الذي انطلق اليوم تحت قبّة البرلمان، في إيجاد قواسم مشتركة بين مختلف القوى السياسية اللبنانية من أجل تحقيق العدالة في كشف وملاحقة ومعاقبة مرتكبي جرائم الاغتيال الأخيرة، ومن أجل إقامة الدولة المنيعة، القادرة وحدها على حماية حدودها وأمن مواطنيها، والمجنّدة للتخفيف من حدّة وخطورة المشاكل المالية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، كما لتوفير الظروف المؤاتية للنمو المتوازن والتنمية المستدامة.

      تلك هي الشروط الواجبة لئلاّ يشعر شبابُ لبنان وأجيالُه الصاعدة بالغربة في وطنهم، فينشدون الاغترابَ عنه! وتوفير هذه الشروط حقّ علينا وواجب.

      تلك هي رسالتنا، ذاك هو قدرنا وخيارنا. وهوذا في النهاية لبنانُنا... عشتم وعاش لبنان.

 

الأمين العـام

انطلياس في 2 آذار 2006

جورج أبـي  صالـح