تكريم اعلام الثقافية في لبنان والعالم العربي

تكريم محمد دكروب

 تكريم محمد دكروب

 

 

 كلمة انطوان سَيف

 كلمة طلال سلمان

 كلمة محمد دكروب

 

كلمة انطوان سَيف  

محمد دكروب : السمكري والأديب

        يُبحر الوعي في الذاكرة المثقلة، يشجذِّبها، يستدرج النافر في منعطفاتها، يُسقط بعضها، ويعصاه كثيرها، ليضع سيرةً ذاتية يحتمي بها من عاتيات سوء الفهم والاساءة وغارات الآخرين. فالسيرة التي نجهد النفس لكتابتها هي التي تكتبنا باستمرار. فالولد الجنوبي الذي كانه يوماً في مدينة صور لا يزال يُستدعى الى الشهادة عن واقع حاله في "عائلة أقل بكثير من المتوسِّطة"، كما يصفها بمصطلحات السوسيولوجيا المؤدلجة اللاحقة، وعن الأب "الفوَّال" صاحب المطعم الصغير لبيع الفول الذي على أميّته كان يصحبه معه الى سهرات ثقافية عامليَّة؛ وانتسابه الخاطف الى المدرسة الجعفرية الناشئة حديثاً في المدينة. ومع وفاة الوالد تبدأ مسيرة الصبي المهنيَّة التي طلَّقت المدرسة وصناعة صحن الفول، وانحازت إلى مزاولة مهن موسمية لا قرار فيها: مزارع، فبائع خبز، فبائع ترمس، وياسمين في المقاهي، أي كل ما مردوده قروش وفرنكات لا ترقى إلى سقف الليرة الواحدة، فإلى حامل حجارة باطون الى معلم العمار. إلى أن برع أخيراً في تصليح بوابير الكاز التي ستلتهمها لاحقاً حضارة البوتاغاز. إلا ان نجاحه التقني في معالجة بوابير الطبخ هذه لم يوقف انحرافه بعدها نحو مهنة بيع الورق وأكياس الورق، وهذه المرة في بيروت الخمسينات التي استقر فيها.

        بموازاة ذلك الصخب العملي خارج المدرسة وخارج التلمذة، كان التعلم العشوائي والتثقف بالعشرة. وكانت معها الكتابات الأدبية الأولى للقصة والنقد التي كانت تعلو معه شيئاً فشيئاً بموازاة صفوف مدرسية وهمية لتؤسس للشخصية الراشدة. يعتز محمد دكروب بسيرته القديمة لكأنه بها حاز أفضل شروط الانتساب إلى حزب الطبقة العاملة الذي ينتمي إليه أترابه المدرِّسون الذين كانوا له، مشفوعين بقراءاته النهمة للأدب العربي الطليعي الذي تحمله إليه المجلاَّت والكتب، بديلاً عن الثقافة الأكاديمية التي أخطأ باكراً الالتقاء المطوَّل بها. إلاَّ أنه يعترف ان نهمه للمعرفة لم يكن ممكناً إرواؤه خارج تلك الرفاقية التي غدت له بدائل مثالية عن العائلة الأميّة وعن المدرسة التي لم يظفر بملازمتها طويلاً،  فظلّ حرمانه منها جرحاً أبدياً لاسعاً، استعاض عنها بالانتماء إلى مركبة ذاخرة بعديد من الذين يشاطرونه أحلاماً زهرية كبرى في الوحدة العربية وتغيير وجه العالم. الانتماء إلى الحزب الشيوعي الممنوع حينذاك والنضال فيه من خلال مجلته الناشئة "الطريق" التي التصق بتحريرها ونشرها عقوداً متعاقبة، كان البوصلة الناظمة التي ضبطت ثقافته المتشعبة، جعلته يتأثر باتجاهات فكرية متنافرة ومتناقضة ويعجب بها جميعاً، بصرف النظر عن قواعدها الفكرية وخلفيَّاتها. "فالطريق" أضحت مدرسته الجديدة للمعارف والمواقف في ميادين العلوم الإنسانية المتطورة والآداب المتنوعة، العربية والمعرّبة، الوافدة. فيها استبدل ياقته الزرقاء بياقة بيضاء تشبه سريرته. أثر صداقته وصحبته لحسين مروة كان حاسماً في بناء شخصيته. إلاَّ أن الشاب فتح نوافذ حياته الأدبية الملتزمة على عشرات الأسماء الأدبية والفكرية، غالبيَّتها عرفها معرفة شخصية زادته رفاهةً وعمقاً في مقاربته النقدية لأعمالها، كان بهذه المقاربة يعبِّر عن فرادة أدبية خارجة عن مألوف المواقف الرسمية الشائعة عن الأحزاب العقائدية. فها هو يفصح على سبيل المثال عن إعجاب فائق بطه حسين الذي كان ينظر إليه اليساريون، بخاصةٍ من خلال كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" نظرة عدائية لانتمائه برأيهم الى جبهة الغرب الليبرالي، كما يكنُّ بالمقابل إعجاباً فائقاً، كما ستالين، برواية الأم لماكسيم غوركي! كان في قرارة نفسه قومياً عربياً وشيوعياً ماركسياً، بينما كانت الجبهتان الشيوعية والقومية خارجاً في حالات اصطدام سياسي وعنفي.

        السيرة الذاتية التي طلبتها منه الحركة الثقافية - انطلياس، لنشرها في هذه المناسبة، عكف على كتابتها كقصَّة شهراً كاملاً داعماً لها بمختلف عناوين كتاباته في القصة والرواية والمسرح والسينما والنقد الأدبي والسجال الفكري ومقدمات لكتب وأبحاث وأحاديث إذاعية، مثبتة جميعها مع تواريخ نشرها. إلاَّ أنه أوقف فجأة رواية سيرته عند توقُّف مجلة "الطريق" (ربما "مؤقتا"ً كما قال) عام 1993، أي منذ خمس عشرة سنةً! بعد هذا التاريخ ثمة سيرة ذاتية أخرى لم يكتبها بعد، ولكنَّه أشار الى بعض عناوينها في اعادة النظر في آراء نقدية سابقة لم تفسح حينذاك عن كامل مكنوناتها الثورية المكبوتة. منها تأكيده بالمعاينة والمعايشة وجود طبقة حادَّة وأزمات فقر ونظام قمعي في الاتحاد السوفياتي السابق، وهذا برأيه ما كان سبباً في سقوطه؛ ومنها قوله لا بل صرخته: لماذا سكتنا؟ رغم اننا كنَّا نلمس الأخطاء والتجاوزات؟ ومنها تأكيده انه لا يزال ينظر الى طه حسين على أنَّه يساري أكثر من يساريين عديدين... إلا أنه لم يذكر أياً من هؤلاء اليساريين العديدين، كما لم يذكر أياً من تلك الطبقة وممثليها داخل الأحزاب الشيوعية غير السوفياتية، القريبة منها على وجه التحديد!

        يعترف محمد دكروب، وكأنه يعتذر من تاريخ لم يعد يكترث للعديد ممن أساؤوا إليه، بأنه كان "ناقداً بهدوء"، ومن أنَّه لم يكسر الصمت عن الانحرافات، فهو بروحه المحببة لم يكن من طينة أصحاب تلك المواقف العدائية الثورية في الأدب والسياسة. فهو بمحيَّاه المحبب كأحد حكماء الصين ما قبل الماوتسي تونغيَّة لم يضع مخالب في قلمه ولسانه، لا ضد الأبعدين ولا إزاء الأقربين. فهو لطيبته - وبعض أصحاب النفوس الأمارة بالسوء يقولون لبساطته او لسذاجته- لم يجد في الثقافة والأدب، وهو الآن على عتبة الثمانين، مالاً أوفر من ذاك الذي كانت توفِّره له السمكرة وبيع أكياس الورق لكأن الحياة الفعلية تتجسَّر بين الفاقة والفاقة. نقطة ضعفه هنا هي على الحقيقة ميزة من مزاياه التي تشبهه بامتياز: لقد ظل كياناً اميناً لأنه لم يعرف ولم يسع إلى ان يفرِّق بين الوفاء والولاء. وحيداً يقف اليوم مع صداقاته الوفيَّة، منطوياً على خيباته، كبيراً بجراحه عمن فقدهم أو أفقدوه عمداً إياهم! ومع ذلك، بل على الرغم من ذلك، فإن آمال المبدعين تفضحها مشاريعهم التي يخبئونها "تحت الطبع" إلى زمن آتٍ.

        سيدي،

        ان الحركة الثقافية - انطلياس اذ تتشرف بتكريمك، وتجعل هذا اليوم من ايام المهرجان اللبناني للكتاب باسمك، هنا في المكان التاريخي لعامية 1840، وفي هذا المسرح مسرح الاخوين رحباني، تتقدم منك باسم الثقافة العربية الطليعية المتحررة المنفتحة على كل مصادر الابداع في العالم أجمع، بآيات التقدير والمحبة. وأعلم، وانت الشيخ العليم، ان ذكرى الشقاء ليست بالضرورة شقية والوعي بالشقاء ليس بالضرورة وعياً شقياً فعطاؤك لن تطمسه غيوم ظلاميَّة سوداء. ودمت في صومعتك، كما كنت في "طريقك"، علماً في الثقافة الوطنية الطليعية العربية.

 

 تكريم محمد دكروب

كلمة طلال سلمان  

 

                           نتلاقى اليوم، هنا، لنحتفي برجل خطير، في لحظة نقترب فيها، بلاداً وشعوباً، من ذروة الخطر على المصير.

                وإذا كان اللقاء مع "دائرة المعارف الدكروبية" يمتّع القارئ والسامع والشاهد والعابر، فان مقاربة إنتاجه الغزير تمنحك فرصة استثنائية لتثقيف الذات والتعرف الى جيلين او ثلاثة من الكتّاب والمفكرين والأدباء، بينهم رواد نفتقد حضورهم في زمن التجهيل والتعمية وإطلاق النار على المصابيح حتى تسود الظلمة فتكون الفتنة بقيادة أعداء الفكرة البكر والكلمة المشعة والثقافة الحقيقية التي تأخذ الى الغد الأفضل.

                ومن هنا خطورة محمد دكروب الذي عرف كثيراً وكتب كثيراً وما زال لديه الكثير ليقوله فيغني وجداننا ومكتبتنا بما يعرفنا الى أنفسنا والى الذين من حقهم ان يسكنوا ذاكرتنا فنهتدي بنتاجهم الذي كتبوه ليرسموا لنا طريق التقدم بالمعرفة، وطريق الفرح بالحياة التي علينا أن نصوغها لنستحقها ولا نترك الآخرين يتحكمون بصياغتها ونقبع في مقاعد شهود الزور نتحسر على أنها ضاعت منا او ضعنا عنها، لأننا ضعفاء في " الداخل" و"الخارج" أقوى،

                وها هو " الخارج" يكاد يحتل " الداخل": يحاصرنا بمخاطر الحروب الأهلية، وبنيران" المحرقة" التي يهددنا بها الآن الإسرائيلي الذي طالما ابتز بها العالم من موقع الضحية، وبالخلافات العربية - العربية، وهي التي تستدعي المدمرات بالادعاء أنها "عابرة" وان الأرض الباقية لأهلها... وها هي دماء أطفال فلسطين ورجالها والنساء تفيض عن غزة وبحرها حتى نكاد نراها بالعين المجردة، من هذا الصرح الكنسي الذي فتح أبوابه للثقافة وعشاقها والقضايا المحقة أيضاً وفرسانها رجالاً ونساءً.

                آسف لهذا الاستدارك الذي فرضته التطورات السياسية والعسكرية عندنا ومن حولنا، والتي تكاد تفسد علينا حياتنا جميعاً..

                لكنني ،والمحتفى به محمد دكروب خشيت من أن يحسب عليّ أنني غفلت عن وقائع خطيرة فيحاسبني حساباً عسيراً، فاستبقته ونجوت من عقابه..    

 

أيها الأصدقاء،

                أن تتحدث عن محمد دكروب يعني أن تستحضر جمهوراً عريضاً من النخب الثقافية في لبنان وسائر أنحاء الوطن العربي، وبعض العالم..

                فهذا الذي لم تعرف له مهنة إلا القراءة والكتابة قد عرف وناقش وساهر وسامر وقرأ وحفظ ونقد فأنصف عدداً لا يحصى من المبدعين سواء من كتب نثراً او شعراً، رواية او قصة قصيرة، سيرة ذاتية او كشفاً لنتاج كاتب مجهول استحق العقاب لأنه كفر ففكر وخرج على النص الذي كان اجتهاداً فصار تميمة مقدسة يقفل على العقول ، مع انه في البدء كان الكلمة او انه من امرنا فحرضنا " اقرأ" حتى أقسم بالقلم.

                لقد بدأ مراهقته قصاصاً في " الشارع الطويل" وها هو يصحح في كهولته تاريخ الحزب الشيوعي في لبنان بكشف" جذور السنديانة الحمراء"، ولكنه في مسافة عمره الحافل بالعطاء عرّفنا - وبمنطق نقدي- على شخصيات وادوار، وحاور العصر بلسان خمسة رواد، هم أمين الريحاني وجبران خليل جبران وعمر فاخوري ومارون عبود ورئيف خوري، ثم قرأه في ذاكرة المبدعين وأوراقهم ووجوههم ، واستذكر بعض المحاولات الخبيثة لطمس بعض المجلين أصحاب الأقلام المضيئة والوجوه التي لا تموت، كمحمد عيتاني.

                ولأنه ماكر، هذا الذي يتنكر في ثوب البريء، فانه أعاد قراءة فكر النهضة والتقدم والعدالة الاجتماعية لاستنباط رؤى مستقبلية، وطرح تساؤلات شتى أمام الحداثة والواقعية، ثم اقتحم أفق التعبير الأدبي، عبر النظرية والممارسة في فكر مهدي عامل وعبر الحوار الذي ظل مفتوحاً مع حسين مروه حتى أغلقته الجريمة المنظمة.

                ولأنه موسوعي فقد مد قلمه الى المسرح اللبناني مستكشفاً مشاكله والآفاق،

                ثم انه اقتحم الثقافة المصرية عبر حوار مع كبيرين يمثلان منعطفاً فيها:  محمود أمين العالم وعبد العظيم انيس، بعدما كان قد سجل الحضور المتجدد لتوفيق الحكيم، وأدلى برؤية موضوعية نقدية في الأدب الجديد والثورة، من رفاعة رافع الطهطاوي الى سلامه موسى ولطفي السيد، طه حسين وعبدالله العلايلي، قسطنطين زريق وامين الريحاني، لويس عوض وحسين مروه، مهدي عامل وصادق سعد، عبدالله العروي وصادق جلال العظم، محمد عابد الجابري والطيب تيزيني، توفيق الحكيم والياس ابو شبكة، جبران خليل جبران وتوفيق يوسف عواد ولطيفة الزيات، نجيب سرور وإميل حبيبي وصولاً الى سعدالله ونوس وجمال الغيطاني ، وعبد الرحمن منيف وسهيل ادريس ومحمد مندور.

                أيها الأصدقاء،

                ان هذا الخاطىء الماثل بين أيديكم قد تجرأ، وهو الشيوعي ولادة وسلوكاً في طفولته وشبابه وكهولته، على أن يرى- حين أقام في موسكو لست سنوات - ما خلف سرايات الحكم ومكاتب المسؤولين الحزبيين المحنطين، وسجل التناقضات التي رآها بعينيه في المجتمع السوفياتي الذي عرفه جيداً:

                " كنت أرى ناساً فوق وناساً تحت.. والطبقة الوسطى والتي لديها السلطة هي الأشرس".

                 ... النظرية هي عين ترى فيها الواقع بحركته العميقة وصراعات القوى فيه.

                ... والفكر الماركسي الذي أنتج في السنوات العشرين او الثلاثين الأخيرة تكلس.. واسأل نفسي لماذا سكتنا برغم أننا رأينا الأخطاء. كنا محاطين بالتركيبة السوفياتية أو مرتبطين كأحزاب عربية بهذا الكيان.."

                واسمحوا لي هنا ان استشهد بواقعة عشتها شخصياً ثم كتبت عنها مجموعة من التحقيقات تناولت الخلاف في قلب الحزب الشيوعي السوري، أوائل السبعينات، والتي انتهت الى انشقاقه حزبين( رسميين) فضلاً عن مجموعات صغيرة ترى كل منها في ذاتها الحزب الأصيل.

                شجر الخلاف نظرياً في البداية وتحت سؤال طريف: هل العرب هم امة عربية قائمة فعلاً أم أنها امة قيد التكوين؟

                احتدم النقاش النظري وتحول الى تيارات، ووجد كل تيار ما يسند منطقه في تراث الماركسية او في كنوز التجربة السوفياتية، في روسيا ذاتها، او في منظومة المعسكر الاشتراكي بدوله المختلفة..

                عاد شيوعيو سوريا الى المركز يستفتونه، فقرر أن يوفد إليهم مجموعة من الخبراء البلغار الذين جاءوا فكشفوا على "الحالة المستعصية على الفهم"، وناقشوا الرفاق المختلفين، وعادوا الى المراجع الفكرية والى التجارب العملية، فانتهوا الى حكم قاطع ومبرم: لا وجود لأمة عربية، أنها أمة قيد التكوين!

                أراح القرار - الحكم الأمين العام الأبدي المرحوم خالد بكداش، في حين رفضه العديد من أعضاء المكتب السياسي وبعض اللجنة المركزية والكثير من الرفاق البلا رتب في الحزب التاريخي الذي كان يضم ذات يوم السوريين واللبنانيين معاً، ثم تم الطلاق بالتراضي وصار لكل قطر حزبه... وكان على رأس التيار القائل بالأمة العربية المناضل المعروف رياض الترك، وأظن أن الجميع يعرف ان الذين يقولون بالأمة العربية الواحدة قد أنكروا عليه هذه الصحوة الشجاعة، بكل ما كلفته حزبياً.

                صار للشيوعيين في سوريا حزبان رسميان، والى جانبهما بعض التجمعات ذات الأصول الشيوعية التي أضاعت العيد في دمشق ولم تلحق بالعيد في دمر.

                ومحزن ان يكون قد أصابت الحزب الشيوعي في لبنان لعنة الانقسام والتشطر ولكن لأسباب لا صلة لها بالفكر ولا بالأمة.

                أيها الأصدقاء،

                هذا الخاطىء الماثل أمام عدالتكم هنا " هو خالص القلب كأيقونة، مترف التواضع كإجاصة برية، منخل الطيبة كرهبان الطحين، أبيض الرأي كحكماء البجع.. انه العنب الذي لا خل فيه، ونهار القمح المنقى من كل حصاة غروب، أو زوانة عتم، لا يشكو ولا يحتج ولا يتساقط".

                  الكلمات لرجل ينطقه الشعر، جوزف حرب، في توصيف هذا الذي أتعب التعب واستفاق نشيطاً، وبسط العمر حتى جعله دهراً، ليمكنه ان يتقلب بين المهن الخطيرة التي تدرج فيها حتى صار ما نعرفه باسم محمد دكروب: من صبي الفوال، الى صبي السمكري، الى بائع الياسمين والترمس في الخمارت، الى بائع الفلافل والحمص المشوي.. الى الكاتب، الناقد، القصاص، الباحث والمؤرخ بالاضطرار.

                انه محمد شقيق العبد أبو إبراهيم، والد الأسير المقاوم في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بلال دكروب، الذي حررته المقاومة المجاهدة الباسلة في إحدى عمليات التبادل، وبائع الصحف والمجلات المعروف في شارع الحمراء والذي يقرأ بالنيابة عن المشترين لعلهم يعرفون فينتبهون..

                وهو محمد ابن الفوال صاحب الصوت الرخيم، والسكير المطرب ابراهيم دكروب، الذي استدعي على عجل ذات يوم الى مسجد أهل السنة، في صور، ليرفع الآذان، فرفعه شيعياً خالصاً، لكن المصلين الذين هزهم الطرب غفروا له خروجه لجمال صوته وقد أنعشته بنت الكرمة..

                انه صديقك رغم انفك، يغرقك في وده فلا تملك إلا أن تبادله عاطفته الصافية،

وهو مؤرخ للحركة الأدبية والفنية والفكرية والسياسية العربية، وبخاصة في توجهاتها القومية واليسارية ورؤاها المستقبلية.

                ولأنه ممن ينكرون ذواتهم لشدة استغراقه في إنصاف غيره، فانه - وهو الذي كتب سير الكثيرين- لم يكتب سيرته الذاتية.

                لقد مشى "الطريق" منذ لحظة إطلاقها وحتى اليوم. كتبها وكتبته، مشى مع كلماتها الى المطبعة والى السوق والى المشتركين، وعبرها ومعها، بل قبلها ومعها، كتب سيرة حركة النهضة العربية في تجلياتها، فأعاد قراءة التراث الديني مع المجتهد العظيم حسين مروه، ثم قرأ مع الشيخ عبدالله العلايلي الإصلاح الديني واللغوي.

                رأى في سعدالله ونوس، الذي تحمل " السفير" بعض أنفاسه، المثال على القدرة والتحمل وتقدير الاولويات وإعطاء أفضل ما لدى الإنسان والفنان من دون الوقوع في الوهم،

               

وأعاد الاعتبار الى صديق العمر محمد عيتاني الذي لن ينسى، اعتزازا به وبصداقته وبمجموعته " وجوه لا تموت" التي سمح لنفسه بأخذ جزء من عنوانها لكتابه" في الثقافة العربية الحديثة"، بتقديم من الأديب العظيم الذي غادرنا قبل حين عبد الرحمن منيف،وترك لنا " مدن الملح"وقد صارت مدناً للذهب الذي لا يرد له طلب..

                انه " عتال" الصحافة الشيوعية، الأخبار والنداء ثم الطريق، وكاتب أوراق المؤتمرات الحزبية،..

                وهو الذي لم يكتب سيرته يقول في بعض مقابلاته:

                "دعاني حسين مروه، ذات يوم لأمر عاجل. ذهبت ففوجئت بفرج الله الحلو ونقولا شاوي. طرحا أمامي مشروع إصدار مجلة سياسية ثقافية، وعرضا علي أن اعمل كمساعد لحسين مروه. وأصدرنا " الثقافة الوطنية". كان الشيوعيون يتولون توزيع منشورات الحزب. وعندما انتهينا من أول عدد سهرنا طوال الليل، انا والعمال، نطوي الأعداد ثم خرجنا لنبيعها. وكانت أسبوعية ثم صارت شهرية".

                يضيف في اعترافاته فيقول: لم أصبح ماركسيا لأنني فقير وكادح، بل لان تشوقي الى المعرفة والثقافة كان عظيماً.

                " وكتاباتي كانت تميل الى الشيوعية، لكنني كنت أميل الى الفكر القومي. وقد حسم المسألة، بخلاف علاقتي بحسين مروه، قراءتي رواية الأم لمكسيم غوركي.. لقد دفعتني نحو اليسار. ثم قرأت ثورة الزنج فاندفعت أكثر الى اليسار".

                والخطأ الكبير للأحزاب الشيوعية هو اختراع التعارض بين القومية وبين الاشتراكية. أعتقد أن جمال عبد الناصر قد صنع شيئاً هائلاً. ولست أرى تعارضاً بين التوحد القومي وبين النظام الاشتراكي.

                انه رجل صلب عنيد، ولكنه لا يتردد في تغيير موقفه إذا تبين له الخطأ فيه. وهكذا فانه غيّر رأيه في طه حسين وفي نجيب محفوظ بعدما كان ينظر اليهما بضيق كبرجوازيين.. ووصل الى حد وصف محفوظ بأنه مناضل.. اما إعجابه بطه حسين فقد جعله ينجز عنه كتاباً تحت عنوان" على هامش سيرة طه حسين".

                وهو لا ينسى انه قد عرف المدرسة، لفترة وجيزة، ثم أخرج منها بقهر الفقر، وان ظل يحفظ للعلامة عبد الحسين شرف الدين الفضل في تأسيس ذلك الصرح التربوي الذي كاد يصبح جامعة لطلاب العلم من الجنوب حاملاً اسم " الجعفرية".

                أيها الأصدقاء،

                خلص الكلام عن هذا الصعلوك الذي عرف كثيراً وقرأ كثيراً وكتب كثيراً ولم يقل بعد كل ما عنده.

                أما الحديث عنه كانسان، كرفيق، كصديق، فلا يتسع له المجال، خصوصاً وقد ازدحم بالمدمرات الاميركية التي جاءتنا على عجل كوننا تأخرنا عن إشعال الحريق في بيتنا ونتردد، بعد، في التهام بعضنا بعضاً.

                لذا سوف استعجل في اختتام كلامي بتحية الحركة الثقافية في انطلياس التي تعطينا في مثل هذه الأيام من كل عام عيداً إضافيا للنور، كي نتلاقى مع النتاج الجديد ومع أهله من المبدعين، شعراءً وكتاباً وروائيين وبحاثة ومؤرخين، فنطمئن الى ان لبنان المهدد بخيار خطر بين الفتنة والحرب الأهلية ما زال يقاوم التورط في الغلط والجنوح الى التطرف.

                ما زال للشعر مساحة.

                ما زال الحب هو السيد وسيبقى، لان الإنسان بالحب يحيا.

                ولسوف نحيا.

                والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

كلمة محمد دكروب  

كلمات قليلة عن مسيرة طويلة

        النشاط المتعدِّد الجوانب، الذي تقوم به الحركة الثقافية في انطلياس، يستدعي أكثر بكثير من الشكر والتقدير والإمتنان: فمن المعرض السنوي الكبير للكتاب، إلى سلسلة الندوات حول الكتب الجديدة، إلى ندواتٍ ومؤتمرات حول موضوعات ثقافية فكرية متنوِّعة، إلى إصدارات كتب تتضمَّن المواد الدسمة للندوات والمؤتمرات.. فإلى احتفالات تكريم "أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي"...

        فالشكر الكبير يتجه، إذن، إلى أوسع بكثير من شكرٍ على مبادرة لتكريم كاتب اسمه محمد دكروب، يرجو لنفسه أن يبلغ فعلاً مرتبةَ واحدٍ من "أعلام الثقافة في لبنان" في إطار النشاط الواسع والمتنوِّع لهذا المهرجان الكبير للكتاب.

        على أنَّ شكري للهيئة المنظِّمة للمهرجان، يتجه إلى جانب آخر له خصوصيَّته، فإلى صديق عزيز هو الدكتور عصام خليفة، الذي نبَّهني إلى جانبٍ عملاني في الأرشفة الخاصة أهملته طوال حياتي الثقافية، أي: منذ بدأت في نشر ما أكتب، وعلى مدى سنوات العمر العديدة، حتى يومنا هذا!..

        فعندما بشَّرني هذا الصديق الكريم بأنَّ الهيئة المسؤولة عن الحركة الثقافية قررت إدراج اسمي بين الأعلام المكرَّمين، غمرني فرح عميق وشعور حقيقي بالإمتنان. ولكن الصديق العزيز طلب منِّي القيام بعددٍ من التدابير الضرورية ليتخذ التكريم صفته الثقافية والعملية معاً.. ومن جملة ما طلبه: تزويد الحركة بثبتٍ كامل شامل يتضمَّن عناوين المقالات والدراسات وحتى القصص التي نشرتها طوال حياتي الثقافية!!

        ـ ولكن هذا الطلب مستحيل التنفيذ أيها الصديق!

        قال، بما يشبه الكلام الجدِّي الحاسم: إنت قدّها وقدود!

        قلت: وماذا أفعل حيال استحالة أن أتذكَّر المئات والمئات من عناوين الكتابات التي نشرتها، وعشرات المجلات التي ضاعت وفيها بعض تلك الكتابات والمقالات التي نُشرت لي، وتلك التي نسيتُ أنني كتبتها أصلاً؟

        قال: ولو؟.. أنت بالذات فيك تدبِّر حالك.. استعن بالرفاق الشباب، وبالأساليب والتقنيات الحديثة... مفهوم؟

        ـ مفهوم، ولكن... إذا حدث أن توفَّقتُ قليلاً بالعثور على بعض تلك العناوين، فهذا قد يملأ عشرات الصفحات!

        قال بلطفٍ يتضمَّن بعض التنازل: دبِّر حالك بأوسع ما يمكن من الشمول، ولك عدد غير محدود من الصفحات.

        وقذفني الصديق العزيز في بحرٍ متلاطم الأمواج، وفي حيرة لا حدود لها!

        وبدا أنَّ الصديق عصام يحدثني من قلب القرن الواحد والعشرين،  قرن تواتر الوسائل التقنية الحديثة للتخزين الثقافي والإحصاء والأرشفة والتعداد، وجلب المعلومة ولو من شدق الأسد!

        أما أنا فلم يكن بوسعي سوى أن أعود بالذاكرة إلى السنوات الأولى لبدئي في الكتابة والنشر قبل أكثر من ستين عاماً، إذ بدأت بنشر بعض ما أكتب عندما كنت أشتغل سمكرياً، وأفكر بأشياء تشبه القصص وتشبه المقالات، على إيقاع طرطقة التنك وتصليح بوابير الكاز، وصنع النوَّاصات التنكية... لقهر الظلام!

        ففي دكان السمكرية هذا، كان يلتقي عصراً بعض الأصدقاء من الطلاب، فننسج معاً أحلاماً أكبر بكثير من "أنتيرنيتٍ" ما صغير الحجم، وأوسع بكثير من دكان السنكري نفسه، ومن البلد كله... أحلام تذهب بنا بعيداً، فتشمل مساحات بلدان وبلدان.. كنَّا نفكِّر (وهذا سرّ سياسي يُذاع لأول مرَّة!!) بأن نشكِّل جمعيات سرِّية عربية متشابكة، تعدُّ نفسها لتحرِّر ـ في القريب العاجل ـ البلدان العربية جميعها، من الاستعمار ومن التجزئة ومن التخلُّف، تحرِّرها كلّها، دفعة واحدة، وليس بالتقسيط، من أقصاها إلى أقصاها، أي: "من الشام لبغدانِ/ ومن نجدٍ إلى يمنٍ/ إلى مصرَ فتطوان"... وبالطبع: إلى لبنانِ!... ولا مساومة!.. وكنَّا نسجِّل هذه الأحلام في مقالات حماسية جداً نرسلها إلى الصحف، ولكن لم تُنشر لنا منها ـ في حينه ـ ولو فقرة من مقالة واحدة!.. فلم نيأس!!

        ... في ذلك الزمان، إذن، أواسط الأربعينيات من القرن الماضي، لم يكن قد ظهر "الإنترنيت"، لا في لبنان ولا في سائر بلدان العالم... فلم يكن باستطاعة هذا السنكري الفتى تخزين فتوحاته الكتابية وعناوين أقاصيصه في جوف هذه الآلة السحرية المدهشة... ولكن الذاكرة البشرية تحتفظ بملامح وأحداث وعناوين تتزايد غموضاً وتباعداً وضبابية مع الأيام، فيتلاشى بعضها وتبقى ملامح تأثيرات لا يدرك المرء سرّ احتفاظ الذاكرة بخيالات منها وبعض التفاصيل!

        ومما أتذكَّره، أنني منذ أواخر الأربعينيات تلك، بدأت أكتب ما يشبه القصص أو سرديات لأحداث من بلدتي (صور) الجنوبية، أصوِّر فيها خصوصاً معاناة الفقراء ومشاكلهم الحياتية... وغامرتُ بإرسال بعض هذه الكتابات إلى جريدة "التلغراف" باسم صاحبها المقدام نسيب المتني، وكانت الجريدة تخصص في كل يوم اثنين أربع صفحات كبيرة لقضايا الثقافة والأدب، يُشرف عليها الكاتب الكبير رئيف خوري... فاختار رئيف من هذه الكتابات قصة كنتُ كتبتها عن حياتي ومهنتي وآمالي، وغيَّر لها عنوانها ـ الذي لا أتذكَّر الآن ماذا كان ـ وجعله هكذا:" أديب وسنكري"... فرحتُ كثيراً بنشر القصة، ولفتني هذا العنوان الجديد لها، فصرتُ أفكِّر بمعنى هذا الدمج الرئيفيّ بين الصفتين، وأن يصير السمكري كاتباً أو أديباً... ولماذا لا؟ .. وواصلتُ الطريق...

        وكنت، في ذلك الزمان، مهووساً بقراءة روايات الخيال العلمي، مغرماً بالابتكارات العلمية المستقبلية، وبالتنقُّل السهل بين النجوم والكواكب والسماوات العلى... ولكن لم يصادفني في تلك الروايات شي يشبه الأنترنيت، مثلاً!.. على أنني جرَّبت، بنفسي، كتابة قصة في الخيال العلمي، واخترعت ـ داخل القصة طبعاً ـ جهازاً يتنبَّأ بما بعد بعد الأنترنيت: تخيَّلت جهازاً فيه شيء يشبه شاشة سينمائية صغيرة، وفيه أنبوب يوجّه شعاعه الخفي إلى رأس شخص ما، فينقل الشعاع إلى الشاشة صوراً لما يدور في دماغ هذا الشخص ـ فتاة غالباً وشاب أحياناً ـ ولكم أن تتخيَّلوا ماذا يحتوي هذا الدماغ من أسرار وأمنيات وأحلام ورغبات تنعكس كلها على الشاشة الصغيرة في صورٍ ليست أبداً أقل من فضائح فضَّاحة!..

        هذه القصة أرسلتها في حينه إلى مجلة كانت تصدر في القاهرة باسم "قصص للجميع"... ويبدو أن هذا الاختراع العجيب قد أعجب رئيس تحرير المجلة فنشر القصة في مكانٍ بارز... ولكن نسخة المجلة التي نشرت القصة ضاعت، وضاع معها عنوان القصة، وكذلك فإنَّ المجلة نفسها لم تعمِّر طويلاً، فضاعت إمكانية العثور على نسخة من تلك القصة العجيبة، وضاع ـ طبعاً ـ ذلك الاختراع الرهيب!

        فلو كان الأنترنيت موجوداً في ذلك الزمان، لما ضاع شيء من هذا كلّه!..

        وأُتيح لي، في ذلك الزمان أيضاً، نشر أشياء في مجلة "العرفان" لصاحبها الشيخ المتنوِّر أحمد عارف الزين، فكان يختار من خمسة أو عشرة مقالات، واحداً يرضى عليه وينشره، فيزغرد قلبي فرحاً... ولكن الشيخ الظريف أحبَّ أن يزركش واحداً من مقالاتي بتعليقات يضعها بين هلالين كبيرين في متن المقال نفسه، والمقال هذا فيه نقد لأوضاع الشباب وسلوكاتهم التي يبدو أنَّها لم تنل رضاي الكريم!.. وأتذكَّر أنني أوردت في المقال استنتاجاً سلبياً ما بحق الشباب، فعلَّق الشيخ بقوله: (هذا غير صحيح يا أستاذ!)... وفي مقطع آخر اتهمتُ الشباب جميعاً بالتخاذل، فعلَّق الشيخ بقوله: (إذا كان ذلك كذلك، فكاتب المقال نفسه يُحسب في المتخاذلين!)... وإذْ حكمتُ على الشباب بأنهم جيل ضائع، علَّق الشيخ بالقول الفصل: (الضائع هو الكاتب وحده!)...

        والحق الحق أقول: إنَّ هذه التعليقات أسعدتني جداً، لأنَّ المقالة هذه بالذات، صارت حديث الناس في جنوب لبنان، وصرتُ رأساً في المشهورين، ليس بسبب قيمة فكرية ما للمقال، بل بسبب تعليقات الشيخ عارف الذي أحببته فعلاً ولا أزال أقدِّر الدور التنويري لمجلته التي تجاور في صفحاتها ما هو تقليدي في الكتابة والمفاهيم، وما هو جديد وتجديدي وجريء أيضاً.

        وفي أواخر الأربعينيات صدرت في بيروت مجلة ذات نزوع تقدمي وديني ويساري معاً، هي مجلة "الألواح" للسيد صدر الدين شرف الدين، الذي سبق أن أصدر في العراق جريدة يومية شهيرة باسم "الساعة" حملت أوائل كتابات حسين مروة السياسية عندما كان في العراق.. وقد أُتيح لي أن أنشر مقالات قصصية قصيرة في مجلة "الألواح" هذه، ضاعت أيضاً بين جملة ما أضعته من مقالات نُشرت لي... ولكنني أتذكَّر جيداً أن جريدة مصرية نشرت خبر صدور مجلة "الألواح" على الشكل التالي: " صدرت في بيروت مجلة أدبية جديدة باسم الألواح.. وعلَّقت: والله العظيم اسمها كده!"!

        ولعلِّي لم أشعر أنني صرت، بالفعل، واحداً من الكتَّاب إلاَّ عندما بدأت مجلة "الأديب"، ذات الشهرة العربية الواسعة تنشر لي أشياء من كتاباتي: مقطوعات من النثر الفنّي، ومقالات حول بعض الكتب الجديدة، وأقاصيص منها ما هو واقعي جداً، يصوِّر حياة أناس الطبقة الدنيا في المجتمع، ومنها ما هو أسطوري جداً، أتخيَّل في واحدة منها عملية شعبية تنقل الناس من حياة الفقر والبؤس إلى حياة يزدهر فيها كل شيء، الطبيعة وحياة الناس، فتتلوَّن الدنيا بالسعادة والصفاء وكل أنواع الزهور!.. وكانت مجلة "الأديب"، في ذلك الزمان، مجلة للأدب الجديد والبحث التجديدي في العالم العربي، برعاية صاحبها ألبير أديب، الطليعي في الشعر المنثور الذي أسماه "الشعر الطلق".. وكان أنيساً سمح النفس والذوق، يفتح صفحات مجلته لكل من يتوسَّم فيه جديداً ما، حتى ولو لم يكن في المشهورين.. وقد فاجأني ذات يوم بأن جعل واحداً من مقالاتي بمثابة افتتاحية للعدد... ولا تزال هذه المبادرة تفعل فعلها السحري في نفسي حتى يومنا هذا..

        ولا زلت أحتفظ بصور من بعض ما نُشر لي في "الأديب"، التي أعتزُّ دائماً بأنني صرت ـ باكراً ـ واحداً من كتَّابها.

        كانت مجلة "الأديب" محطة انطلاق فعلية لي، ومجاز عبور إلى النشر في عدد من المجلات الأخرى، وكذلك إلى بدايات العمل في الصحافة الأدبية الفكرية.

        فمع بداية الخمسينيات، تناولني شيوعيو هذا البلد، وقذفوا بي إلى خضم العمل الصحفي، قبل أن أكون قد مارست مهنياً هذا العمل، فكلَّفوني بتحرير مجلة ثقافية سياسية جديدة، باسم "الثقافة الوطنية" وحتى قبل سيامتي عضواً رسمياً في الحزب الشيوعي اللبناني... وإذْ انتسبت إلى هذا الحزب، علقت فيه، ثم تعلَّقت به، منذ ذلك الزمان، حتى يومنا هذا، وإلى ما يشاء الزمان...

        صدرت المجلة بين الأعوام 1952 و1959، أسبوعية أولاً، ثم شهرية فكرية أدبية، وانتشرت بصورة لا بأس بها في أنحاء العالم العربي عندما يسمح بهذا حراس الحدود وواضعو السدود، وكانت المجلة منبراً للفكر التقدمي التنويري اليساري وللأدب الواقعي الجديد.

        على أن الانعطافة الأساسية لعملي في الصحافة الثقافية كانت في مجلة "الطريق" الفكرية، التي تولَّيت مسؤولية تحريرها ما يقارب الأربعين عاماً، منذ العام 1965 حتى العام 2003، تاريخ التوقُّف المؤقت للمجلة.

        فلا بدَّ، هنا، من بضع كلمات حول علاقتي بهذه المجلة الفكرية اللبنانية القيمة. ذلك أن مسيرتي مع "الطريق"، طوال هذه المدة، أسهمت، بشكل أساسي في إغناء وتطوير تكوُّني الثقافي والمعرفي، وذلك، أولاً، عبر إتاحة الفرصة أمامي لإقامة علاقات خصبة مع الكثيرين من الكتَّاب والمفكِّرين والمبدعين العرب، الكبار منهم والشباب... وكذلك بإلزام نفسي ـ ثانياً ـ بقراءة كل الدراسات والمقالات والأعمال الإبداعية التي كانت ترد للنشر في المجلة من مختلف أنحاء العالم العربي والعالم الأوسع: فقد أتاحت لي هذه القراءات الإلزامية والمشوِّقة معاً، أن أتزوَّد، قيمياً ونقدياً، بالمادة المعرفية والإبداعية التي تحملها تلك الكتابات... ثم ـ ثالثاً ـ عبر دخولي، بدافع الرغبة أو لضرورات التحرير، إلى مناخات الكتابة في مجالات لم أكن قد دخلت فيها قبلاً، واضطراري إلى كتابة ما تتطلَّبه أعداد المجلة في هذا الباب أو ذاك.

        استطاعت مجلة "الطريق" أن تستقطب عدداً كبيراً من الكتَّاب والمفكِّرين العرب الذين دأبوا على تزويدها بنتاجات قيِّمة لهم دون أي مقابل مادي، بل دعماً منهم لمشروع "الطريق" الفكري والتغييري التقدمي... ولكن، رغم أن هذه المجلة العريقة وصلت في انتشارها إلى رقم كبير بالنسبة لتوزيع مجلة فكرية عربية، بحيث صارت توزّع ما بين خمسة إلى ستة آلاف نسخة من كل عدد، فإنَّها توقَّفت عن الصدور مع نهاية العام 2003... أما سبب هذا التوقُّف فهو ـ فقط ـ أنَّ كل عدد كان يُباع بأقلّ من كلفته، وأنَّ المجلة لم تكن تتلقَّى أية مساعدة أو دعم مالي من أية جهة من الجهات "الداعمة"، فتراكمت عليها الديون، ولم تعد قادرة على متابعة مسيرتها التي نرجو لها ـ ونعمل ـ لتعود هذه "الطريق" إلى متابعة الطريق... فالحاجة إليها تتزايد مع تزايد الضرورات الفكرية لتواجدها.

        في مجلة "الطريق"، تحديداً، أُتيح لي أن أدخل جدياً في مجالات البحث والدراسة والنقد الأدبي وبعض الرؤى والآفاق في النظرية الماركسية التي ما زلتُ أستفيد جداً من أفقها الفكري والعملي، وبلا أي حدود تحد من هذا المسار، إن شاء الله!

        وعبر الفهرس العام لأعداد مجلة "الطريق"، استطعت أن ألبِّي بعض ما طلبه الصديق العزيز عصام خليفة، فسجَّلت عناوين مئات المقالات والدراسات دون استعانة بما خزَّناه ـ هذه المرَّة ـ في جوف تلك الآلة السحرية التي اسمها "الأنترنيت".

        وأحب أن أهمس في أذن الصديق عصام: أنني فكرياً أجهد أن أعيش في القرن الواحد والعشرين، أما تقنياً فلا أزال في أوائل القرن العشرين... وقد أظلُّ تقنياً هناك إلى أبد الآبدين!

        كل ما قرَّرت أن أفعله ـ جدِّياً وعملياً ـ هو" شراء دفتر كبير أسجِّل فيه عناوين كتاباتي، بكل دقَّة وأمانة، حتى لا يفاجئني صديق آخر بمثل ما طلبه مني صديقي الذي أحبُّه وأقدِّره جداً... وبهذا تكون الليستة جاهزة وإن غير شاملة وغير كاملة، بالتأكيد!

        ... وبعد، بماذا وعلى ماذا يشتغل محمد دكروب الآن بعد أن توقَّفت مجلة "الطريق"؟

        وأنتم ترون أنني قد بلغتُ من العمر عتيّاً، وأكثر: فإذا كنتُ قد وُلدتُ في العام 1929 تكون سنوات العمر قد وصلت الآن (في العام 2008) إلى الـ79 سنة (والله كريم كما يُقال، وأنا استأهل، كما أظن)..

        لقد اكتشفت أنه قد تراكم لديَّ عدد لا بأس به من الدراسات والمقالات التي تؤلف عدداً لا بأس به أيضاً من الكتب يحتاج كل منها إلى  بعض التنسيق والتدقيق والتقديم والاستكمال، يصل تعدادها إلى الـ15 كتاباً، سيضاف إليها ما في خاطري من مشاريع أرى ضرورة أن أنجزها. أي: عندي ما يكفي من عمل يملأ سنوات لي قادمة أرجو أن تطول كثيراً، بإذن الله!... والهمَّة  للكتابة لا تزال موجودة وكذلك المزاج، إضافة إلى تشجيع الرفاق والأصدقاء والمحبِّين، آمين!