ندوة حول كتاب محمد شيّا

كمال جنبلاط ... لزمن آخر

 

 كلمة د. انطوان سيف

 كلمة أدونيس العكره

 كلمة رضوان السيد

كلمة شكر: محمد شيا

 

 

 

ندوة حول كتاب محمد شيّا

 

 

كلمة د. انطوان سيف  

       

ترخي مقاربة الأعلام وهمَ الإحاطة وإمكان ضبط تخومها وتقليص حوافيها؛ إلاَّ أن الموضوعيَّة المنشودة لا تقي طالبيها الأوفياء من زلل الانحياز الذي لا ينفصم عن الشغف المعرفي الذي يقدِّم لموضوعيته إماراتِ غنىً لا تراودها العقولُ الباردة. مثل هذه المفارقة واجهها الدكتور محمَّد شيَّا عندما حسم قراره بإخراج مكنونات وثائقه الشخصيَّة الحميمة المخبوءة على مدى عقود، الى البيدر العمومي الذي جعله كتابه كمال جنبلاط... لزمن آخر"، ليس هتكاً للمستور عن شخصية فكرية فريدة لطالما نُصَّبت هدفاً لمواجهات شتَّى، أكثر مما هو مجازفة في أصقاع كابدت الكلمات الكليَّة للفلسفة والدين والسياسة والشعر كي تصدَّ تقاطُعَها وتداخُلَها بل تماهيها. يزيد من وعورة المغامرة وتهيُّبها أن "البناء الفكري لكمال جنبلاط الذي تشكَّل من غير انقطاع في سيرورة متدفقة متعددة الطوارئ الذاتية والموضوعية، هي توليفة واسعة من مناهل متباينة في الظاهر، أعاد صوغها وصالحَها ووحَّدها في رؤية شمولية عقلية، وما وراء عقلية، صوفية موصودة الأبواب بإحكام على غير أهلها، وأغناها باستمرار بتجربة شخصيَّة نادرة باح بها دوماً بالحرف المنطوق والمكتوب، "وبما يتعدَّى الحرف". أضف إلى ذلك أنَّه حوصر في الأذهان ضمن إطار ضيِّق أحادي الحقل هو صورة الزعيم السياسي اللبناني، هذه الصورة التي استغرقت مشهديته الكبرى، والتي لم يرضَ الاَّ بتأويلها في ابعادها الحقيقية التي لا معنى لها من دونها، في ذلك النص الأخَّاذ الذي أصدره توضيحاً ضرورياً بعنوان: "رسالتي كنائب".

        مع محاذرة المؤلف تجزئة وحدة الأنا، إلاَّ لدواعي منهجية العرض، فإن الكتاب يتمحور على الخصوص حول شخصية كمال جنبلاط المفكر الشاعر الفيلسوف الذي تطرَّق الى كل المسائل التي شغلت معاصريه في بيئته الثقافية الاجتماعية وفي العالم. وان العمق الذي قاربها به، ومناقشتها بالتحليل والمقارنة والمقابلة مع الأفكار القاعدية التي التزمها وطوَّرها وأغناها باستمرار، يسبغ عليها طابعاً فلسفياً فريداً. فالاهتمام الكبير بالكشوفات الفكرية والعلمية ومحاولة جمعها، على تناقضها الظاهر، ضمن السياق منسجمة ظلت دأبهُ. ولئن كانت هذه المحاولات الفكرية مشرذمةً في اكثر من ميدان، فإن ثمة ابحاثاً عدة حول شخصه غامرت بايضاح الضمني منها في وحدته المتماسكة التي تغيب غالباً عن كثير من الأذهان. لقد استوعب جنبلاط بغبطةٍ الحدث الدارويني المفصل حول التطوُّر الأحيائي، ولازمه بالتطوُّر الروحي او التطور الابداعي كما سمَّاه برغسون، حيث الأحياء ميدان الحدس والغريزة التي هي المعرفة العميقة الداخلية بموزازاة الذكاء الذي هو المعرفة الخارجية الكمية القائمة على القياس المكاني، أو الامتداد الديكارتي. فتيَّار دو شاردان الراهب المسيحي رأى في هذا التطور سنَّةً إلهية يجعل المادة الجامدة تسير في التاريخ، بنحو من الجدل الصاعد الأفلاطوني، نحو الحياة والروح، أي الارتقاء الروحي العقول الجامدة الكسولة لم ترَ فيها سوى تناقض وانحراف. إلاَّ أن الفكر الجدلي من هيراقليطس الى هيغل وماركس يرى إليه حقيقةَ الوجود المادي؛ هذا الوجود صالحه جنبلاط ليس مع العقل والروح فحسب، بل مع الحياة المجتمعية التي جعل التقدُّم (أي التطوُّر) غايتها الانسانية، واداتها  الاشتراكية التي وضعت كل الثورات، وعلى رأسها الثورة الفرنسية وشعاراتها، في حركة انسانية واسعة لا يعيق سيرورتها المتقدمة إلاَّ الذين انحرفوا عن أبعادها الانسانية الروحية الراقية. في عالم جنبلاط التوحيدي، تتلاقى التطلعات الدينية التي هي مواقف مختلفة من الحق الأوحد، والذي رأي في انتمائه الديني الى معتقد الموحدين الدروز مثالاً لجمع الأديان، كما جمعَ في الصيرورة التاريخية الصاعدة الحياة بأبعادها الروحية الصوفية المتحررة دوماً من كثافة المادة الجسمية، وبأبعادها الاحيائية التي تترقى دوما من الجماد (كما قال دو شادران) وبأبعادها الاخلاقية والدينية والاجتماعية في نظام الاشتراكية التي ماهاها بالانسانية الراقية وجعلَ عمل الانسان الفكري والجسدي أداة تحقيقها ضمن اطار الاخوة البشرية.

هذه التوليفة synthèse  الكبرى يمكن ان نقرأها على خلفية مسلكه السياسي، لا بالعكس. هذا ما حاول ان يضمّه  محمد شيا في كتابه الذي نتحلَّق هذا المساء حوله لمناقشته ومعايشة قبس قاعدي من وجود كمال جنبلاط المستمر في تاريخنا. ولننسَ في هذا المقام الخلافات السياسية، ليس لعدم اهميتها، بل لأنها لا تدخل في نطاق هذه المقاربة.

        أود أن أختم كلمتي بهذا النص له، وعمره أكثر من نصف قرن: "كان لبنان ولا يزال، بالرغم من التناقضات والمفارقات والتعاكسات والتنوعات التي يتضمنها ويحتضنها، يشكّل وحدة للعيش واحدة، وحده للحياة المشتركة. وقد يكون في ذلك الحدّ والسبب الذي يجعل للتناقضات والمفارقات والتنوعات والاختلافات والأزمات كافة في النهاية حلاّ واقعياً منسجماً، وتسوية معقولة، وتأليفاً يحافظ فيه على طرفَي النقيض وقطبَي التعاكس في عملية تطوُّر الحياة الحقيقية التي تجمع على الدوام بين التناقضات، ثم تهدمها لتبني تناقضاً آخر أكثر انسجاماً... فوحدة العيش، وحدة الاقتصاد، وحدة الحياة، وحدة الاختلاط والاشتراك هي على الدوام الغالبة المنتصرة... ان الكيان اللبناني، رغم العواصف التي تمرُّ به، يتأكد ويتثبّت في ازدياد مطّرد، وعلى الدوام، في بصيرة جميع اللبنانيين... وقد يدركون يوماً، أكثر مما يدركون الآن، أنهم أوَّلاً أبناء هذه الوحدة الحياتية، وحدة الاقتصاد والاجتماع وتشابك البيئة، قبل أن يكونوا نصارى وسنَّة ودروزاً وشيعة وسواها من المذاهب... وقد يبزغ يوم يترك اللبنانيون فيه للآخرة خلافاتها واختلافاتها، ويجتمعون على ما اتفقوا عليه من شؤون هذا الوطن الذي أنشأه لهم وحقَّقه واقع الزمان والمكان، قبل ان أرتضوه هم لهم خيمة أرضية يفيئون اليها في هذه الحياة الفانية القصيرة.."

        ويضيف: "لبنان وجد لكي يكون بلد العقل، بلد العقلانية، أثينا هذه البقعة من الشرق... لولا العقلانية لما قام هذا الوطن ونما وتطوَّر".

        ويقول كمال جنبلاط أخيراً: "فوظيفة لبنان في الشرق العربي ان يكون كذلك بلد التقدم والحرية".

 

 

  كلمة أدونيس العكره  

 

في هذا اللونِ الرماديِّ الغامقِ الملتفِّ به الواقعُ التاريخيُّ في لبنانَ والمنطقةِ بأسرها، أصبحت صورةُ الحياة هـَرِمة ، وسيرورتُها صارت على نهايتِها . قرارُ موتِها ينتظرُ في جوفِها التنفيذ، وحفّارُ قبرها قابعٌ في أحشائها . صفحةٌ أخرى من تجلّيات العقل في تاريخنا أكملت غربتـَها وصارت للنفي. الغسقُ يهبط علينا كلـِّنا، وحيويّةُ الحكمةِ الدافعةِ التاريخَ الجديدَ ، طال انتظارُها وصار مريرا . إن لم نشهد لضرورةِ موتِ واقعِنا يشهدْ موتـَنا الآخرون ، وتصمتْ ثرثراتـُنا أمام رَصانةِ التاريخ .

 

"كمال جنبلاط... لزمنٍ آخر"!! وماذا بالامكان الانتظارُ بَعدُ، يا صديقي محمد شيّا ؟ لأيّ زمنٍ من الأزمانِ آخرَ، كمال جنبلاط ، إن لم يكن لهذا الزمن بالذات ؟.. إلا إذا كان كتابُك موجَّها الى من كنتَ وكنا  نعتقد أنهم سيتجرّؤون على استئنافِ نضالِ الرجل إثباتا لصدقيّته وللحقيقةِ التي ناضل واستشهدَ من أجلها، فلم يدركوا الى ذلك سبيلا. أما أنتَ القائلُ إنّ كمال جنبلاط " قد استشهد دفاعا عن الحقيقةِ كي يبقى هناك حقيقةٌ، وكي يبقى هناك من يدافع عنها "؟

 

في بدايةِ الكتاب، حسِبتُكَ حزمتَ أمرَك في شَيل كمال جنبلاط من زمنِنا هذا دون معرفتي الى متى. قرأتك في بعض لحظات السطور كأن كمال جنبلاط ماضٍ مضى وصار الغيابَ والحنينَ ، واشتياقُكَ اليه وضّاح. تصفه بالمعلـّم، وتخاطبه كأنه منتصبٌ أمام دفترِك والقلمِ المهتزِّ بين يديك يكتب:"... الناسُ الذين أحبوك {صادقون}". ففي ما كتبتَ ، يا صديقي، كنتَ الناسَ هؤلاء في صدقِهم ، ولهيبِ شوقِهم الى حبيبٍ يصبح العالمُ في غيابه قَفرا مقفرا :

Un seul être vous manque, et tout est dépeuplé                                                    

       

وجدتُكَ مترجِما هذا البيتَ / القصيدةَ عندما تقول:" ليس لبنانُ فقط، ولا المنطقةُ العربيةُ فقط، هما اللذان تغيّرا ... بل العالمُ بأسره قد تغيّر مع استشهادِ كمال جنبلاط (...) العالم بعد استشهاد جنبلاط... عالمٌ بات خاليا من الحقيقة، بات خاليا من المعنى (...) لذلك تحوّل جنبلاط بمُثـُلِه وقيمه... رمزا مستمرّا لعصرٍ جميلٍ مضى مع قيمه الى النهاية". غير أن هذه القصيدةَ لم تُشِح عن بالي لحظةً أن شيئا عظيما من تلك الحقيقةِ لم يمضِ ، وهو لا يزال راسخا في وفائك للصديق والقائد والمعلـّم . يكفيك هذا نُبلا يحفّزكَ على استئنافِ غُمرٍ من النضالاتِ وفاءً للرجل.

 

يا صديقي، إذا كان زمنٌ ماضٍ قد مضى مع كمال جنبلاط، فالحاضر هو زمنٌ آخر. وكمال جنبلاط هو حقا لهذا الزمنِ الآخرِ الحاضر، لأنك إذا التفتّّ الى ما ينتابنا اليوم ، والى ما يحيط بنا في هذه المنطقة، وفي غير مناطق، تجدْ أنّ العالمَ لم يتغيّر، ولا أيَّ شيءٍ من أولوياتِ جنبلاط تغيّرت قضيّتُه. ألم تقل إن الحريةَ واحدةٌ من أولويّات المعلـّم؟ في ما مضى، وقبل جنبلاط بأدهرٍ دهارير، كانت الحريةُ في شريعةِ الغابِ مطلقة : الذئبُ حرّ وحرّيتُه مطلقة، والحملُ حرٌّ وحرّيتُه مطلقة. ولكن المطلقَ يفترس من لا يستطيع الإفتراس. أفهل تغيّر شيءٌ فعليّ في هذا المعطى؟ في زمن جنبلاط ، وفي زمننا الحاضرِ الذي جعله التاريخُ الزمانيُّ آخر، نتجت باسم الديمقراطيةِ منظومةٌ دوليةٌ تحكمُها شريعةُ الغاب من جديد ، ولكن بوسائلَ أخرى أشدّ عتوّا. وها نحن في معترك نظامٍ عالميّ جديدٍ فيه الحقُّ للأقوى : فالأقوياءُ في هذا النظامِ أحرارٌ بحرّيةٍ مطلقة ، وفلسطينُ ولبنانُ والعراقُ أحرارٌ
بحرّية مطلقة. ولكن المطلقَ يفترسُ من لا يستطيعُ الافتراس.

 

لقد ناضل المعلـّم في مضمار النضالات التنويرية التي جعلت الحريةَ المطلقةَ لاغيةً من الفضاء البشري ، وانحبسَت داخل القانون الفارضِ نفسَه معيارا لها بموجب الإرادة العامة: أن تكون حرّا ، يعني أن تفعلَ ما تريد. هكذا كان في شريعةِ الغاب . أما استمرارُه في شريعةِ البشر ، فكان بصيغةِ أنوار العقل : انت أردتَ القانون ، فأنت حرّ عندما تخضعُ له ، لأنك تكونُ فاعلا ما أردت . عند ذاك، أصبح الـ" أنا " صاحبَ حق ، وأصبح الـ "غيرُ" صاحبَ حق. والحقُ لا يضادّ الحقَ الواحد المشترك.

 

ألم تقل إن النضالَ من أجل هذه الحرية البشرية بالذات هو أولويةٌ من أولويات جنبلاط ؟ "إن الحريةَ تلك - تقول - لا تُكتسبُ من غيرِ مُجاهدَة ... والنضالُ (من أجلها) أولويةٌ لا بدّ منها". كلنا يعرف أن هذا الموقفَ الفلسفيّ التنويريّ الذي انضمّ اليه القائدُ المعلـّم ، أنتجَ نسبيّةَ الحقيقةِ البشرية المتعدّدةِ الجوانبِ والمُمكنات ، وصار الحقّ بالاختلاف حقّا بالاختيار بين الممكنات المطروحة أمام الحرية ، وأمام نقد العقل المحاور في البحث عن المشترك ، وصار واجبُ الاعتراف بالآخر هو الأمثلُ البشريّ النسبيُّ الرامزُ للمطلقِ الإلهي . كما أنتجَ أيضا مفهومَ الشعب مصدرا لسيادة الأمة ، ومفهومَ الحاكمِ المستمدِّ قرارَه من سيادةِ الشعب وإرادتِه الحرة ، ومفهومَ المواطن طرفا في العقد المرجعيّ للمجتمع والدولة ، ومفهومَ الدولةِ المدنية العادلةِ بغيرِ استبدادٍ في مساواة الناس بمعزلٍ عن جميع اختلافاتِهم الطبيعيةِ والثقافية ، بما فيها الدينُ والجَندَر ، ومفهومَ الحق للانسان بحرّيةِ المعتقدِ والتفكيرِ والرأي والتعبير . إن هذه الحقيقةَ تحتاجُ في زمنِنا الحاضرِ الى متابعةِ نضالِ كمال جنبلاط لكي يشهدَ الواقعُ التاريخيّ على أحقّيتِها، وعلى جدوى الشهادةِ من أجلها .

 

إن العقلَ الفلسفيّ العربي لم يستطع الانتصارَ بالأنوارِ، فهزمَته قوى الاستبدادِ والتسلـّط. والأفكارُ التغييريةُ الكبرى التي حققها الفكرُ الفلسفيُّ في تاريخِنا العربي ، لم تتمكّن من تثبيت مواقعِها في حياتنا العامةِ داخلَ مجتمعاتنا الراهنة ، ولم يزل العقلُ عندنا عاجزا عن انتشالِ الانسانِ العربيّ من الذهنيةِ الغيبيةِ الى ذهنيةٍ تنويريةٍ قادرةٍ على تأسيسِ مجتمعٍ مدنيّ وسياسيٍّ حديث ، قائمٍ على مبدأ التعاقد بالارادةِ الحرة ، ومبدأِ الحقِ بالاختلاف . إن ذهنيتَنا اليوم لا تزال جاهزةً للقبول بسلطةٍ آمرةٍ من خارج إطار المعرفةِ العقلية ، وبمعزلٍ عن حرية الرأي والتعبير، ومن خارجِ سلطةِ الإرادةِ العامةِ وحريتِها ، فيمتنعُ العقلُ النقديُّ عن ممارسةِ وظيفتِه المعرفيةِ والتغييرية إزاءَ استبدادِ المطلقِ وحرّاسِه على الأرض ، فيحصلُ أن الحقَ بالاختلافِ يرادف جرمَ المخالفة .

شهداءُ كثيرون سقطوا من أجل ذلك في ساحة الإصلاح والتغيير - كما يحدّد الدكتور شيّا ساحةَ نضالِ كمال جنبلاط، وساحةَ استشهادِه. هذه الساحةُ التي تحتشد عناصرُها في متنِ هذا الكتاب، كانت بالنسبةِ اليّ لافتة . فبين الإصلاحِ والتغيير من جانب المؤلف، والتغيير والإصلاح من جانبي، واقعٌ تاريخيٌّ هَرِمٌ صار للنفي ، وأقدارٌ تاريخيةٌ محتومةٌ تمتدّ صوبَ آفاقها مشتركاتٌ يعصو حصرُها. أفليس من الضرورة الحتمية النضالُ معا لكي ندفعَ بحركة التاريخ الى حيث يجب ؟ إن عجلةَ التاريخِ عندنا تجري ببطءٍ سقيم، فهي تحتاج الى "دَفشَةِ" إصبع. هل أن بين أقدارِنا المشتركةِ قدَرًا مدسوسًا يُبعِدُ بين المثقف والسياسي الكامنيَن في كلّ منا؟ لقد ذكر المؤلفُ شذَرةً من خطابٍ لكمال جنبلاط ، المناضلِ السياسي والمثقف، ألقاه عام 1950 جاء فيه:" ثقوا ايها الرفاق أن علينا أن نربحَ الأرضَ لكي نستطيعَ أن نربحَ السماء". إن ربحَ الأرضِ في ثقافةِ "المعلـّم" يعني تنظيمَ المشتركات في مجتمعٍ متآلفِ العناصر المتنوّعة بحرّيةٍ تضمنها سلطةٌ غيرُ مستبدّةٍ في دولةٍ مدنيّةٍ ديمقراطية. نصفُ قرنٍ مضى على هذا الخطاب، ولا زالت أولوياتُ النضالِ هي نفسُها . فأين أصبحنا من ربحِ الأرض؟ إن بعضا من الاختلاف القائم بين الثقافة والفعل السياسي يكمن في المعايير : فبينما تستندُ الثقافةُ الى معايير الصواب والخطأ، الخير والشر، الجمال والقبح... يستندُ الفعلُ السياسي الى معيارَي النجاح والفشل، بحيث إذا نجح الفاعلُ السياسيُّ في مشروعِه لأصبح بطلا، ولو كان قد استخدم من الوسائلِ الأسوأَ شرّا ، وإذا فشلَ التصقت به كلُ شرورِ الأرض، ولو كان قد استخدمَ من الوسائلِ الأمثلَ نبلا وخيرا . لو أراد كمال جنبلاط المثقف ممارسةَ الكذبِ في سياسته ، فهلاّ كان استشهد ؟ إذا كان الجوابُ نفيا، فهلاّ كان بقي منه "المعلـّم" ؟

يا صديقي الدكتور محمد شيّا ،

ليتنا نستطيعُ على هذه الأسئلةِ الجواب. يبقى أن خلفَ كتابِك تلوحُ مساءلاتٌ تستلزم من الأجوبةِ ما يُقرُّ  لـ "المعلّمِ " ربحَه قيمَ السماءِ في الانسان على الأرض، ومن الأجوبةِ ما يُبقيه شهيدا لوطنٍ تمنعُ قيمُنا المشتركةُ تركـَه على طريقِ الشهادة .

كلمة رضوان السيد  

 

كتاب الزميل والصديق محمد شفيق شيّا: "كمال جنبلاط... لزمن آخر" في السياسة والدين والفلسفة والشعر، هو كتاب معرفة ومفتاح لهذه الشخصية النادرة والساحرة شخصية كمال حنبلاط السياسي والمفكر والشاعر وقبل ذلك وبعده: كمال جنبلاط الانسان. وعلى رغم شمولية الكتاب وعمقه فإني اعتبر فصلي المناضل والسياسي بين افضل فصول الكتاب. ويرجع ذلك الى "المفتاح" الذي اختاره الدكتور شيا ليكون مدخلاً لفهم رسالة كمال جنبلاط وعمله في الشأن العام المحلي والعربي والدولي. فقد اعتبر الدكتور شيا الاخلاق بالمعنى الكبير معياراً لعمل جنبلاط الكبير في شتى النواحي ونجاحه في السياسة والعمل السياسي. وانا ارى انه وُفِّق كثيراً في هذا الامر. فمن الاخلاق التي تشكل جوهر او تبلور انسانية الانسان ينبثق المناضل من اجل التغيير للاقتراب من تلك القيم الانسانية الكبرى ويتحول المناضل الى رجل سياسة ودولة او لا يتحول وتكون الدوافع الاخلاقية او النوازع الاخلاقية هي السبب سلباً وايجاباً.

 

والواقع ان هذا التوتر في فكره وعمله بين المناضل والسياسي لا يفسره غير الدوافع الاخلاقية التي حدته ورافقته وحكمت غالبية كتاباته وتصرفاته. فالدرس الاخلاقي عنده حالة صفاء مع النفس، ولبلوغها يحتاج المرء الى جهود جبارة لتتحول حالة الصفاء تلك الى "خلُق" او "سِمة" من سمات الشخصية. غير ان شخصية كمال جنبلاط - كما اوضح الدكتور شيا - ليست شخصية مكتفية او منطوية بل انها كلما اقتربت الى حالة الكمال، كلما فاض منها على ما حولها شيء من كمالاتها. ولان الدوافع اخلاقية أي متصلة بتحقيق انسانية الانسان الاسمى، فإن الذي غلب على كمال جنبلاط الطابع النضالي من اجل تحقيق ذاك الهدف لنفسه وللبنانيين وللعرب وللناس اجمعين. والمناضل تغييري، وكمال جنبلاط تغييري ايضاً كما يتجلى في سيرته وعلى مدى ثلاثين عاماً. لكنه لا يقول بالتناقض بين الواقع والمثال، ويؤمن بالتسوية لثلاثة اسباب: احدها فلسفي، والآخر اخلاقي، والثالث سياسي.

 

في الفلسفة يقول كمال جنبلاط التعارض وليس بالتناقض. واعادة الوحدة بين الانسان باعتباره قيمة مطلقة. والانسان باعتباره واقعاً ملموساً، هو سر استمرار الحياة الانسانية. وفي الاخلاق فإن النضال اذا كان هدفه كسر الآخر فإنه انكسار وليس انتصاراً. اذ كيف تكسر ثم تريد ان تجبر ومن يكسر يستعصي عليه الجبر. وفي السياسة فإن عمل السياسي في ادارة الشأن العام هو جعل الدولة والمؤسسات تعمل من اجل خدمة الانسان ولذا فهي تعتمد على التسويات وعلى التنازلات المتبادلة والمرحلية.

 

ولستُ ازعم ولا الزميل المؤلف يزعم ان ذلك مضى عند كمال جنبلاط، أي الاتصال بين المناضل ورجل الدولة، بدون توتر. فهو ذو نزعة اخلاقية حادة في سعيها نحو المثال بيد ان الرؤية الفلسفية والضرورات السياسية التقت عنده في الغالب لتجعل منه السياسي الكبير الذي عرفه لبنان وعرفه العرب وعرفه اشتراكيو العالم ومناضلوه. انما المهم ان لا تحيد عن الهدف في خدمة قضايا الانسان. وعلى هذا الاساس والمقياس ترتبط السياسة كما سبق بالاخلاق، وتنجو في نهايتها العملية من ان تصبح انانية او انتهازية. فلدى ميكافيللي السياسة تبرر الغاية فيها الوسيلة. وعند غاندي السياسة وسيلة لغاية. وبين الامرين تقع نجاة السياسي ورجل الدولة او هلاكه.

 

هكذا كان كمال جنبلاط مناضلاً من اجل قضايا الانسان والمواطن، لانه اخلاقي. وكان سياسياً كبيراً لانه اخلاقي ايضاً. فالاخلاق بالمعنى الكبير هي مفتاح فهم شخصيته الانسانية والسياسية. وهذا لا يقلل من غنى تلك الشخصية بل يزيدها ثراءً. اذ إنه حاول الوصول الى الانسجامين الداخلي والخارجي كل الوقت وبالتفكير والكتابة والشعر والعمل مع الناس والرحلة في طلب الحق بالمعنيين الروحي والمادي.

 

كتاب الصديق الدكتور محمد شيا كتاب عذب. ومع انه لا يعرض لكمال جنبلاط نصوصاً لا نعرفها، لكن هذا الزمن الآخر الذي نعيشه يجعل من كتاب الدكتور شيا شيئاً جديداً تماماً، كما يجعلنا نحس ازاءه احساس البدايات الطازجة.

 

كلمة شكر: محمد شيا  

 

اود ان اشكر الحركة الثقافية انطلياس الجهة المنظمة لهذا الحدث الثقافي المميز على استضافة الندوة والتوقيع واشكر حضرة العماد سليمان لإرساله ممثلاً له في المناسبة، كما اود شكر الدكتور ادونيس العكرة والدكتور رضوان السيد والدكتور انطوان سيف لمراجعتهم الكتاب وكلامهم المهم فيه. واشكر السادة الحضور الذين شاركوا في الندوة والتوقيع. لن اضيف الى ما سمعتموه وما تضمنه الكتاب الا قولي ان تفاضيل كثيرة من برنامج كمال جنبلاط الفكري والسياسي ربما لم تعد في رأي البعض من الاولويات في هذه اللحظة من حياة الوطن. الا ان الاكثر اهمية من التفاصيل التي يصح فيها الاجتهاد باستمرار، الاكثر اهمية هو روح مشروع كمال جنبلاط والمبادئ العامة فيه. روح المشروع الجنبلاطي هو تحويل لبنان الى وطن حقيقي للانسان لا للطوائف والعشائر والمآرب النفعية الفئوية والخاصة، ولا للمصالح الاقليمية والدولية. ومبادئ المشروع العملي التي ارساها المفكر والمناضل والشهيد لا زالت هي البوصلة.

اذ لا يزال الاصلاح الشامل هو الحل،

ولا تزال العلمنة هي الحل،

والاشتراكية الديمقراطية الانسانية لا زالت هي الحل.

وكذلك العروبة الحضارية المتنوعة المنفتحة لا المستبدة او المتزمتة لا تزال هي الحل.

هوذا برنامج كمال جنبلاط الوطني الاصلاحي والتحديثي: الديمقراطي من دون فوضى، واللبناني من دون شوفينية، والعروبي من دون استبداد وطمس للخصوصيات، والاشتراكي من دون تدمير للاقتصاد، والعلماني من دون معاداة للدين.

وتقدم الاحداث المتلاحقة ادلة يومية على مدى استشراف الروح الجنبلاطي للسنوات التي تلت، وصحة المبادئ التي استند اليها مشروعه الفكري والسياسي.

 

لذلك تبدو العودة الى ذلك التراث الغني امراً مطلوباً وهو يعني جميع الوطنيين والاصلاحيين والديمقراطيين من دون استثناء.

 

وشكراً للجميع