تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي

تكريم الأب يوحنا الحبيب صادر

تكريم الأب يوحنا الحبيب صادر

 

الراهب الأيقونة

كلمة الأب جوزف عبد الساتر

عنــدما اقتُرِح:

        تُكرِّمُ، الأبَ العلامة، يوحنا الحبيب صادر الأنطوني، الحركةُ الثقافية أنطلياس، منارةُ الثقافةِ والفكر والإبداع، قلت:

"لِنمدح الرجال النجباء، آباءنا، الذين سَبَقوناوالذينَ مَجَّدَهُمُ الرّبُّ كثيرًا وَعَظَّمَهُم مُنذُ البَدءِفأورثونا ثِمار جهودِهم وعظمةَ إبداعهم". (يشوع بن سيراخ 44/1...)

شادوا، ففي كلِّ صخرٍ مِنهـمُ أثــرُ      نأَوا، ففي كـلِّ أرضٍ عنهُــمُ خبـرُ

                وعنــدما تأكَّد : يُكرَّم الأبُ: قلت:

        هذا هو، منذ نصف قرن، على أدراج الهيكل، أمام رُخامةِ المذبح، وبين يديَهِ القربانةُ الأعجوبة، مرفوعةً فوقَ الكأسِ العُلويّة، يُسلْسِلُ عشاءَهُ السرّي، على الجياع إلى جَسَدِ الفادي، وعلى الظِّماء إلى دَمِه، فتعبُرُ الأسرارُ السماويّةُ بأنوارِها، إلى عيونِ المؤمنين، وبعبيرها، إلى شميمِ المصلّين، وبألحانها، إلى آذان المرنمين، وبخمرتها، إلى حنايا المنْتَشين بعناقيدِ الجنّة ...

        هذا هو، منذ نصف قرن، على مِنْبَرِ التبشير، يسلّطُ الأضواءَ على مباهجِ السماء، ويَهْدي خرافَهُ إلى حظيرةِ المعلّم، ويغوص معها على الدُّرِّ، في أعماقِ محيطات الكتب المقدسة ووجدانِ القديسين، موزِّعاً عليها كلماتِ الإنجيل، قوتاً يوميّاً، وزُلالاً سرمديّاً، فتتبعُهُ، سُمّارَ ليال، وغُداةَ أصابيح. ولكم هزَّ مِنبَرَهُ بِرَخامةِ صوتِه، ودفءِ مَشاعرِه، ونفاذِ أفكاره، تنطلقُ من أعماق الضمير، مُجَلجِلةً في القلوب، منيرةً الدروبَ إلى المرئيات، إلى اللاهوت، إلى الماورائيات، إلى عظمةِ الفداء، إلى مهرجانات القيامة...

حملَ كلمَته إلى كلّ مُعْتَرَكٍ وساحة ... كأنَّهُ يحمل صليبَهُ على جلجلة وطنه !

أبونا يوحنّا الحبيب

        سَتَحسِدُنا الأجيالُ المقبلة ... لأنّنا عاصَرْناك !. فمنذ نصف قرن وأنت صوبَ الله توجّهُنَا وتعلّمنا كيف نغنّي آن يصرخ الوجعُ في داخلنا وكيف نصلّي ونحلُم ونُضمِّدُ الجراح، آن نصغي إلى موسيقى الخلاص ...

        فيا أيقونةً تسمو بنا آن نتأمل قَسماتِها، كم تمنيتُ أن أقدِّمك لمن يتوهمون أنهم يعرفونك ولكنني ما أسفت. فلأن تقديمَك كان لِيحولَ  دون غوصي في ماورائيةِ إنسانيةٍ قُسِمت لك، أسمح لذاتي أن أخوضَها مديرًا لجلسةِ تكريمٍ لا مُقدِّمًا لِمُكَرَّم.

        حدِّقوا به ألا ترونَ في وجهه سِماتِ الراهب الكاهن تمتزج بإرثٍ أركيولوجي، تُوَشِّحها جمالياتُ فنٍّ مقدسٍ جَمَعَ بين الأيقونة الكلاسيكية والفنِّ الحديث، وتنعكس على لوحاته؟

 يا لَوَجهِك البيبلي يتجوهرُ على مشارف يوبيلِ كهنوته الذهبي. ويا لك من إناء يَنضَحُ بما فيه؟

        حدِّثوه! فتُصغون إليه بنهم! الطِرفةُ عنده تُبهج، والنقدُ يُدغدغ ولا يَخدُش. هو ابنُ الحدتِ البار، إبنُ الضيعةِ التي فيها ربينا ومن مائها رَشَفنا فارتوينا. ورُغم عِلمِه وثقافته وسَعةِ اطلاعه وعمقه، ظلَّ قرويّا عفويَّ العَلاقة والتعاطي، لا يُغلِّف دكتوراه بورقة هدية، ويُبقيها مفتوحةً لِيقتاتَ منها كلُّ طالبِ معرفة.

        وهو محوريُّ التأثير في جماعته، يُشعرك بضَرورة الانتباه إليه دون أن يَطلُبَ ذلك، ويوليكَ جامَ اهتماماتٍ في أُويقاتٍ لا تُنتَظَر وحالاتٍ لا تُرتَقَب، شأنُه شأنَ الفنَّّان جوهرًا، يُناغمُ بين الأخذِ والعطاء، دون مِنََّّة ولا سؤال.

        فيا أيها الأيقونة

        يا نِصفَ قرنٍ من لاهوتٍ مُشعّ ...     ويا نصفَ قرن من خُبزٍ وخَمر.

        ويا نصفَ قرن من دِفاعٍ عن ترابٍ لا نسيرُ عليه إلاّ حُفاةً... ويا نصفَ قرنٍ من سيمفونيةٍ دائمةِ الرَّنين!

        أنت يا من نُقَبِّلُ ميرونَه وعلْياءَهُ في يومِ تكريمِه ..

        هذا بعضُ هذا "الأنت" يا أبتِ ! وليس أفضَلَه.

        ويا أُخَيَّ ويا معلِّمي ويا ملهمي ويا كنزَنا الرُهباني !

        ليتك تعلم !

إنّ الحركةَ الثقافيةَ حَمَلَتْكَ وُسْعَ قَلبِها بقدْرِ ما حَمَلْتَ الثقافةَ وُسْعَ قلبك:

        مجدًا لله في العُلى ...   وسلامًا على الأرض !

        فيا صاحبَ الرسالتين. ليتك تعرف كم نُحِبُّك وإلى أي مدى! يصُحَّ فيك قولُ الشاعر :

        ما  صُغْتُ  بيْتاً  على  الشَّطرَينِ  أَذْبَحُهُ

                                إلاّ  على  نازفَيْه  اللهُ    يَنْشَطِرُ !.

        في كلّ صخرٍ هُنا من خافقي نغمٌ

                                هلاَّ سألتُم صخورَ الدير عن نغمي؟

        كم وقفةٍ لي على أدراج معبَده

                                أستَنْزِلُ اللهَ في اللمّاح من نُجُمي

        معابِدُ الحِمى بالأمسِ ما نسيتْ

                                أَني بَريْتُ على أحجارها قلمي.

 

تكريم الأب يوحنا الحبيب صادر

كلمة الأب موسى الحاج

"فخر البنين آباؤُهم" (مثل 17/6ب)، و "من أكرم أباه سُرَّ بأولاده" (سي 3/5)، وطوبى للرجل الذي يعرف تكريم مَن أَدَّبُوهُ وعلَّمُوه!.

أن تدعو الحركة الثقافية - أنطلياس في معرضها السابع والعشرين، إلى احتفال تكريميّ لحضرة الأب يوحنا صادر الجزيل الاحترام، لعطاءاته التى ما نضبت يومًا، في حقول عديدة أبرع فيها وما زال، من فيض علمه وأبحاثه وروحه، لَهُوَ فخر عزيز ومناسبة سعيدة لي شرف المشاركة فيها.

أن يُكَرَّمَ الأب يوحنا بحضور لفيف من أصحاب السيادة والرئيس العام والمدبرين وأهل وكهنة ورهبان وراهبات، وكوكبة من الأصدقاء والتلامذة، لَهُو تعبير صادق عن العرفان بالجميل لشخص الأب يوحنا، الراهب والكاهن والمعلّم وأحد روّاد الإصلاح الرعويّ ومجدّده في الرهبانيّة وفي الكنيسة، وذلك انطلاقًا من هذه الرعيّة، رعيّة دير مار الياس أنطلياس، في السبعينات من القرن الماضي.

بالطبع، لا يُمكن اختصار عمر ببعض ثوان أو دقائق! لكن، لا بدّ من قول كلمة حقّ، لا توفي حقّ مَن نُكَرِّمُ بقدر ما تعبّر عمَّا يُخالِجُ قلُوبَ الذين عرفوا هذا "الرجل" عن قرب واكتشفوا فيه سرَّ محبَّتِهِ لكنيسته ولتراثها العظيم، والذي أغناه بِمؤلّفاته المتعدّدة الأوجه. كَبُر في العطاء... ولكنّه لَم يعرف الشيخوخة! فَهو كالنسر يُجدِّد شبابه" بالأبحاث ونبش اللآلئ الثمينة! إحتفالنا اليوم ما هو إلاّ تتويج لعطاءاته التي رصّعها بلوحاته ومعارضه، وأناشيده وأشعاره، وبالكتب التي خطّها بيده، وتلك التي نشرها في أكثر من كتاب ومجلّة علميّة وجريدة ومؤتمر ومحاضرة.

وهنا أكتفي برصد البعض من شخصيّته وعطائه في أبعاد خمسة: البدايات والتخصّص، المسؤوليّات والتعليم،  المجدّد، الكاتب والمؤلّف، الراهب الزاهد والمثابر.

1- البدايات والتخصّص: هو حبيب إبن فيليب صادر وسعاد كرم، من حدث بيروت، إبن ثلاثينات القرن الماضي، إبن الضيعة المارونيّة، المتعايشة مع كلّ الطوائف والمذاهب اللبنانيّة، تفتّحت عيناه على تلّة منتصبة أمامه، رهبان وكهنة يصلّون ويعظون ويعلّمون، يصدّرون ثقافة وعلمًا وروحانيّة! يستيقظ الأب صادر يطلّ عليه دير مار أنطونيوس - المعهد الأنطونيّ، فيترك الضيعة ويدخل الدير للترهبّ وطلب العلم والكمال، حيث قال يومها رفيق صباه المرحوم إيلي صنيفر: "فِضيِتْ الساحة يَا حبيب بِدُونك ". طفولته طبعت شخصيّته وأعطته ثباتًا في حياته، ونَمَّت فيه جذوة تَمرُّدٍ على الروتين ما تزال ترافقه حتّى اليوم.

مَن نُكرّمه اليوم، قد لا يعرف الجميع أنّه، قبل أن يصير كاتبًا وناشرًا ومحاضرًا، قد تلقّى علومه التكميليّة والثانويّة في المعهد الأنطونيّ - بعبدا، ومن ثُمّ الفلسفة واللاهوت في جامعة الآباء اليسوعيِّين في بيروت. ومنها انتقل إلى روما حيث سِيمَ كاهنًا وتابع دروسه وحصل على شهادة الدكتوراه في اللاهوت من جامعة القدّيس أنسلموس. من روما ذهب إلى لوفان - بلجيكا حيث تابع دروسه ونال شهادة الدكتوراه في علم الآثار وتاريخ الفنون. ونُشِرَتْ أُطروحَاتُهُ الإثنتان في لوفان وروما. عادَ إلى لبنان سنة 1964 وساهم في مهرجان الأب بولس الأشقر حيث قاد جوقات الراهبات الأنطونيّات.

2- المسؤوليّات والتعليم

 عمل في الرهبانيّة مدبّرًا لمرتّين ورئيسًا لدير مار الياس - أنطلياس، وكاهن رعيتّها، وأصبح بذات الفعل رئيس الحركة الثقافيّة، إلى كونه إستاذًا جامعيًّا ومؤلّفًا ومؤسّسًا لمجلّة "حياتنا الليتورجيّة" وباحثًا متعمّقًا. لدى عودته إلى لبنان علّم الجماليات في الجامعة اللبنانيّة، ومنذ 1971 وحتّى 1983 درّس علم الآثار المسيحيّة في جامعة الروح القدس - الكسليك.

تابع التعليم في مواد الفنّ والتراث واللاهوت في الجامعة الأنطونيّة واليسوعيّة. شارك في عدّة معارض فنيّة في لبنان والخارج، وكان على تواصل دائم مع الفنّان اللبنانيّ الراحل صليبا الدويهي، وقد طبعت رسائله الموجّهة إلى الأب يوحنا صادر في كتاب. وحصل أثناءَها على وسام الاستحقاق الفضيّ ذا السعف ضمن مهرجان التكريم في أهدن في 18 أيلول 2004. كما شارك في تأسيس محترف فنّيّ في نيقوسيا قبرس، في مقرّ الأبرشيّة المارونيّة، وشارك هناك في معرض المدينة.

3- المجدّد

خاطب إنسان عصره وشارك في عمليّة الاستنهاض الرعويّ الهادف إلى تقريب الشباب من الكنيسة بالأساليب الجديدة التي أطلقها المجمع الفاتيكانيّ الثاني سنة 1965.

معه بدأ التجدّد الرعويّ - الليتورجيّ فكان مثل كرة الثلج التي تكثّفت في تفاعلاتِها. عرف أنّ الليتورجيا هي روح الشعب، تَجعله شريكًا في نصّها ومتوغّلاً في جمالها اللاهوتيّ والناسوتيّ، مُفتَتِنًا بترنيمها، أناشيد وأشعارًا لحنّها كبار الموسيقيِّين أمثال منصور والياس وزياد الرحباني، وأنطوان غبريل والأب يوسف واكد، مستسلمًا لعمل الروح في إعادة جبلته، كما في خلق جديد. هذه الليتورجية المارونيّة لَم تكن تصل إلى ما هي عليه لو لَم يكتشف الأب صادر غناها في الأزمان الغابرة فيجمعها في صور ونصوص وكتب، مرجّعة صدى الحنين والذكريات، وفحوى التراث وانتظاراته.

إنّ معرفتي بالأب يوحنّا تتعدّى الكتابات والمقولات، إنَّها القُربى في الرهبانيّة، أين منها قربى اللحم والدمّ، إنّه المعلّم والمرشد. إبن الرهبانيّة والكنيسة والوطن والمشرق العربيّ كلّه، يكتوي بوعي مصيره ونبش ماضيه الغنيّ في آثاره ومخطوطاته وتاريخه، من الحقبة الفينيقيّة إلى يومنا، أليس هو مَن اكتشف الصليب المارونيّ القديم وأصبح هذا الصليب الآن على صفحات كتبنا الليتورجية والكتابيّة، وعلى قبب كنائسنا ومزاراتنا ورمزًا وعلامة للكنيسة المارونيّة في كلّ العالَم؟ أرسلَتْهُ الرهبانيّة مع المرحوم الأب قيصر الأشقر عام 1976 إلى كندا لتأسيس دير ورعيّة لها في وندسور، بقي هناك تسع سنوات يخدم هناك وفي رعايا مارونيّة حديثة.

 

4- الكاتب والمؤلّف

أحبّ الأب صادر الله من كلّ قلبه ومن كلّ نفسه وبكلّ قوّته، فغاص في سرّ الكلمة المقدّسة، متعمّقًا أكثر فأكثر فيها، لا بل قُل في معرفة الله، كعالِم، ولاهوتي، ومؤمن. الكلمة عزيزة على قلبه، لأنّه أدرك أنّ بِها حياة الناس، كلِّ الناس، وهو مَن أَحبَّ الإنسان، فسكب في عظاته كلّ خبرته وعلمه ومَحبّته.

أكثر ما يُميّز مؤلّفات الأب صادر هو ما وضعه نصب العينين، منذ البداية، عنَيْتُ بهِ: البحثَ العلميّ. فإذا أخذْتَ بين يديك هذا أو ذاك من مؤلّفاته، وقرأته أو تصفّحتَهُ، لَبَانَ لكَ على الفور الهدف أو المرمى، ألا وهو إيصال الرسالة بطريقة سهلة، مُدعَمة بالقرائن والتصاوير والشروحات الوافية. مؤلّفاته تضجّ بالمعلومات المتنوّعة، وبسعة الاطلاع على الإطار الجعرافيّ والدينيّ والثقافي للحضارات المجاورة والثقافات المتعدّدة.

على صعيد التراث، اختار الأب صادر طريقًا خاصًّا به، ارتكز على زيارة الأماكن المقدّسة المارونيّة المنتشرة على كافّة الأراضي اللبنانيّة التي لَم يكتشفها أحدٌ قبلَه. هذه الأبحاث طُبعت في مجلّدات كبرى أهداها غبطة البطريرك المارونيّ إلى رؤساء دول مثل فرنسا وأميركا وغيرها.

الأب يوحنا دخل في ملكوت أَعلام الموارنة، على إبداعه في هذه المجالات كلّها. راهب وكاهن متحرّر ومنفتح ودائم التجدّد. طيِّب المعشر، يتحلّى بروح الذكاء والنكتة والفكاهة الطريفة، ذلك كلّه لأنّه جدّي في العطاء والإبداع، رصين في حياته وخياراته.

 

5- الراهب الزاهد والمثابر     

هذه الوزنات الكثيرة التي تسكن في الأب صادر، كيف لي أن أجمع آثارها الساحر المتنقّل بكلمات وخلاصات؟ إنّه الناسك في صومعة مكتبته، في ديره، ناسك من نوع آخر، وإلاّ لَما كان هذا الفيض من العطاء في هذه المجالات المتعدّدة. إنّه النسك، والنسك صمت، والصمت وحدَه يُفسح المجال لحضور الربّ الساكن معنا ولِمُجالسته، كالحبيب مع حبيبته، "فتتعطّل لغة الكلام" و "يقف الزمن". فكأنّ الشخص اختفى وبقي الصوت يُحاكي الصمت ومنه ينبعث.

تكتشف في الأب صادر أَنّك أمام إنسانٍ لطيف المعشر، قريبٍ لكَ ومنك، لا ترهبُ قُربَهُ، ولا تُربِكُكَ مُحادثتُهُ، لأنّ بساطته تأسُرُكَ وتأخذ منك بالقلب، فهو قد جَمع في شخصه سُمُوَّ المعرفة وتواضعَ المسلك. إِنَّهُ كَنْزٌ ثَمِينٌ لرهبانيّته ولكنيسته ووطنه.

للأب يوحنّا صادر، في قلب كلّ راهب أنطونيّ، تقدير واحترام ومحبّة، بخاصّة الذين عرفوه عن قرب. فالذين عملوا معه أحبّوه وقدّروا فيه آراءه السديدة ونظرته الثاقبة التي تضعك في المستقبل متخطّية التقاليد الجامدة التي لا حياة فيها. كَم تَململَ وعانى في سرِّه وأَعماقِه، من كلّ ما يَحُول دون نزع البرقُع عن الوجوه. إنّ إنجازات الأب صادر، هي مواصلة حمل الشعلة لأن المرمى هو هو: تحرير الإنسان، الراهب والمؤمن، المسؤول والمرؤوس، من الروتينيّة والجمود، وتعريفه بالمسيح، الطريق والحقّ والحياة. موقفه هو موقف العاقل الحكيم، الذي يدعوك إلى العطاء والمتاجرة بالوزنات، فهذه هي الباقية وما عداها هباء وضياع.

خاتِمة

لِنمدح الرجال النجباء الذين أورثونا ثِمار جهودِهم وعظمة إبداعهم. أمام هذا الأب العلاّمة، لا بدّ من القول بأنّنا أغنياء به، ولئلا تبقى أعمالنا فرديّة، فلا بدّ من أن تعيش طويلاً وتثمر هذه الأعمال والاكتشافات التراثيّة، عليها أن تصبح عملاً جَماعيًّا، وهذا يقع على عاتق الرهبانيّة من خلال الجامعة التي عليها أن تنشئ مؤسّسات بحثيّة، وأن تؤمّن لها بنية تساعدها على المضيّ في عملها. فالمهمّة كبيرة وشاقّة ومتشعّبة، وتحتاج إلى عمَّال كُثُر ينصرفون إلى القيام بِها. لذا فإنّي أقترح رسميًّا على الجامعة بجمع تراث الأب صادر، وبخاصّة اللوحات الفنيّة والتراثيّة، وتراثات آباء كُثُر غيره، إذ في حفظها غِنًى عظيم للأجيال الآتية وفخر للرهبانية والكنيسة والوطن.

أن ننسى أو نتناسى ما أورَثَناهُ الأجداد والآباء، أن لا نُبقِي حيًّا في القلب وفي الفكر وفي الواقع اليوميّ ما صنعوه من خير، وما أنجزوه لنا ولكثيرين من عظائم، تلك هي الخطيئة الجسيمة. لذا، ولئلاّ تكون الأسماء والإنجازات أثرًا بعد عين، سنبقى نتنشّق أريج الأيّام الخوالي، نُعطّر بِها أيّامنا الحاضرة واللاحقة. الأب يوحنّا بأعماله ومؤلّفاته، يدعونا للعودة إلى الينابيع وإلى التجدّد والتأوين، وإلى خدمة كنائسنا وكشف النقاب عن ذخائرها الثمينة.

في تاريخ المنشورات الأركيولوجيّة والرعويّة، سيُخلَّدُ اسم الأب صادر، بعد عُمرٍ نسأل الله أن يكونَ مديدًا، إِنَّهُ صفحةٌ مجيدة في تاريخ علم الآثار المسيحيّ والمارونيّ بنوع خاصّ، وعَلَمًا لامعًا في سَماء ُرهبانيّتِنا وكنيستنا ووطنِنَا.

يبقى أَنّ لنا في ثنايا الأب صادر شَوقًا دائمًا للانتاج والعطاء، سيظلُّ العين الساهرة على المسيرة الرعويّة وعلى نبش تراث وكنوز الكنيسة المارونيّة، فله التهنئة والتقدير، ولنا به العزّة والفخر، ولرهبانيّتنا وكنيستنا التنامي والازدهار، وشكرًا.

 

C.V.الأب يوحنا الحبيب صادر

1) هويّته:     الأب يوحنا الحبيب صادر

                وُلد في حدث بيروت عام 1932

                كاهن راهب.

                دير مار الياس- انطلياس

2) نشأته الدراسية:

                تلقّى دروسه الثانوية في المعهد الأنطوني (الحدث - بعبدا)

3) ثقافته الجامعية:

        - درس الفلسفة واللاهوت في جامعة الآباء اليسوعيين (بيروت).

        - 1958-1961: حصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة القدّيس انسلمس في روما.

        - 1965-1970: ليسانس ودكتوراه في علم الآثار وتاريخ الفنّ في جامعة لوﭭان الكاثوليكية (بلجيكا).
   4) مهنته الجامعية:

        - 1972-1975: أستاذ علم الجماليات في الجامعة اللبنانية (الاونسكو)

        - 1971-1983: أستاذ علم الآثار المسيحية في جامعة الروح القدس (الكسليك)

        - 1993-1994: أستاذ في معهد العلوم الدينية العالي للآباء اليسوعيين (بيروت)

        - 1972-1975: أستاذ تاريخ الفنّ في معهد الفنون (الجامعة اللبنانية).

        - 1993-1996: عميد كلية اللاهوت في الجامعة الأنطونية

 

5) مؤلّفاته العلمية (بالفرنسية والانكليزية)

 

-         Le “De Oblatione” de Jean de Dara dans C.S.C.O, 308-309, Louvain, 1970.

-         La “Sugitha” sur l’église d’Edesse. Quelques remarques sur le texte et sa traduction dans C.A., 22, 1972, p. 233-236.

-         Le lieu de culte et la liturgie syriaque occidentale selon le “De Oblatione” de Jean de Dara, OCA, Roma, 1983.

-         Peintures murales dans des églises maronites médiévales, Dar Sader, Beyrouth 1987.

-         Croix et Symboles dans l’Art Maronite Antique, Dar Sader, Beyrouth, 1989.

-         Painted Churches and Rock-cut Chapels of Lebanon, Dar Sader, Beyrouth, 1992.

-         Iconographie médiévale du Baptème dans les enluminures syriaques, (Patrimoine syriaque, Antélias, Colloque III, Vendredi 28 April 1995.

-         Stylite Columns and symbols of Libanon, symp. Syr. VII, Uppsala University, 11-14 August 1996 (OCA, 256) (p. 687).

-         L’influence excercée par les theories angélologiques du preudo-denys Sur le traité “De Oblatione” de Jean de Dara (VIII-IX s.). Symp, Syr. IX, 20-25 Sept. 2004, Kaslik.

-         Reliquaires et Sarcophages du VIe siècle au Liban,in Christianisme Oriental, Kérygme et Histoire (Mélanges offerts au Père Michel Hayek) coordination Charles Charfouni, Genthner, Paris, 2007 (p. 232-246.

-        Crosses and Symbols in Ancient Christian Art of Lebanon, Dar Sader, Beyrouth, 2007.

 


مؤلّفاته العلميّة(بالعربيّة)

-         صليبا الدويهي في سيرته الذاتية (رسائل)، مطبعة جوزيف رعيدي 2004.

-         "سيرة المتصوّفين المسلمين في جبل لبنان"، دار صادر، 2004، بيروت.

-         رهبان عرب في بعض سير المتصوّفين المسلمين، 2005، بيروت.

6) حياته الفنّية:

1954 - 1956       - تابع دروسه الفنّية عند الشيخ قيصر الجميّل.

1957 - 1958       - شارك مع معرض الربيع والخريف في قصر الاونيسكو.

1959 - 1960       - تردَّد على محترف الرسّام الايطالي مرشللو افينالي في روما.

          1963       - شارك في معرض الربيع في قصر بسترس.

          1965       - أقام معرضاً في جامعة لوﭭان (بلجيكا) برعاية السفير نجيب صدقه.

اشترت السفارة 3 لوحات.

         1968        - عرض في مدينة بروكسل (غاليري روغمنس) برعاية السفير

                           كسروان لبكي. اشترت السفارة 3 لوحات.

          1978       - عرض في كلية الفنون الجميلة في جامعة وندسور (كندا).

          1979       - مثَّل الفنّانين المغتربين في أميركا وكندا. وصدر اسمه في كتاب

                          "مائة عام من الفنّ التشكيلي في لبنان" 1880 - 1980.

          1993       - أسَّس محترفاً للأيقونات في نيقوسيا (قبرص) في الأبرشية المارونية

                           وشارك في معرض في المدينة.

كلمة شكر ألقاها الأب يوحنا صادر

في ختام حفلة تكريمه.

 

        أشكر بنوع خاص الحركة الثقافية في انطلياس التي اختارتني لكي تكرّمني مع من تكرّمهم من هذه النخبة اللبنانية والعربية، من المفكّرين والشعراء والفنّانين.

        إن ما لَفَتَ أنظار الحركة هو إنتاجي الفكري الذي بدأ منذ السبعينات والمتواصل حتى اليوم.

        لقد كرّست عملياً أوقاتي إلى جانب حياتي الكهنوتية والرهبانية، في مرحلة أولى للتدريس في الجامعات. وكتبت أثنائها مقالات لملحق النهار عن الفنّ والفنّانين وألقيتُ عدّة محاضرات علمية. بعد الحرب التي جرت على أرضنا، توقّفت عن التدريس وانصرفتُ إلى البحوث العلمية في نطاق علم الآثار والفنون. إن ما دفعني إلى هذا العمل هو أنني كنتُ قد اكتشفت بَعْدَ عودتي من جامعة لوﭭان في بلجيكا أن أرض لبنان زاخرة بالآثار المسيحية العائدة إلى القرون الوسطى. نوعية هذه الآثار وأهميّتها العالمية أخذتا بكلّ اهتماماتي خاصة وأن الغرب هو الذي أيقظني أثناء دراستي على عالمية هذا الفرع من العلوم وعلى بُعده الحضاري في العالم. فهو يُدرَّس هناك في الجامعات الكبرى وقد كرَّست الأونسكو أموالاً كبيرة وعلماء وبحّاثين للكشف عن هذا الفنّ.

        لا شكّ أنني واجهت صعوبات عديدة للقيام بهذا العمل لأنه يتطلّب أوقاتاً طويلة للبحوث الميدانية. فكنتُ أنتقل من موضع إلى آخر ومن بلدة إلى أخرى لأكتشف ما يختبئ بحياء في جدران الأبنية القديمة الدارسة منها والقائمة، وعلى عتبات المعابد، وعلى جدرانها الداخلية التي كانت قد طليت منذ عهود بالكلس فابيضّت وخبّأت ما وراءها من علامات ورموز ورسوم دبّجتها وحفرتها أياد مؤمنة كي تعبّر عن إيمانها. كنت على يقين أن ما أعمله هو رفع الغشاء عن تاريخ شعب وعن حضارته وثقافته اللتين عبّر عنهما بإشارات وعلامات. والعلامة هي غالباً بابٌ على المطلق.

        إن هذا التكريم هو دلالةٌ على تقدير الحركة الثقافية لهذا النوع من العمل العلمي. فبتكريمها هذا تشحن عزيمتي لأواصل ما بدأته. فأجدِّد شكري لها.

        كما أنني أشكر حضرة الأب جوزيف عبد الساتر رئيس الحركة ورئيس الدير الذي اهتمّ بإدارة هذا الاحتفال وحضرة المدبّر موسى الحاج الذي قدّمني بهذا السخاء من الألقاب والصفات.

        يشرّفني بطريقة خاصة أن أشكر قدس رئيس العام الآباتي بولس التنوري وحضرات المدبّرين الأفاضل على حضورهم الفعّال المعبِّر أجمل تعبير عن محبّتهم لشخصي وتقديرهم لأعمالي. عسى أن أتمكّن في خدمتي هذه أن أكافئ الكنيسة والرهبانية الأنطونية أمّي على ما بذلاه من أجل تعليمي كي أكون فيهما خادماً أميناً وتاجراً ناجحاً في وزناتي.