ندوة ميشال عاصي
ادارة د. انطوان ضومط

 ندوة ميشال عاصي

ان نكرّم مثقفا هي صلاة نرفعها على مذبح الحضارة، فنتماها معه سيرة ذاتية تتوجها هامة ثقافية فذة، هو فعل ايمان بالثقافة ودورها الريادي في محاكاة شعور الناس، هو خشوع للمعرفة واهلها واجلال للفكر. هو تعبير عن ذواتنا في ذاتية المثقف، وتكريم لانسانيتنا في عالم بدأ يفقد معاني الانسانية، انه حضور العقل في عالم الفكر يحفّزنا للكد والجد.

ايها الاصدقاء،

ان تكريم المثقف واجب علينا نحن اهل الثقافة لنفيه بعضا من حقه على المجتمع والوطن بل على العالم، بتسليط الضوء على مساهماته الحضارية، وبالتبحر في نتاجه الفكري ليأنسَ في حنايا نفوسنا، ويرتعَ في خبايا عقولنا خميرة تحفّزنا لاكمال دربه وتطوير مرتكزاته  الفكرية. من حقه علينا ان يهدى ابحاثا باقلام  مثقفين ارتبطوا به بمنازل وعلائق متنوّعة. انها لعمري اروع هدية تختزن محبة وتقديرا مستديمين

واذا كان التكريم الذي يمارسه أرباب الحكم تخليدا لذكرى المحتفى به فان آليته البرتوكولية الرسمية، على اهميتها، تظل في اطارها الرمزي، ولن تضاهي ابدا احتفالا ثقافيا يجهد المشاركون به في تبيان مساهمات المكرم الفكرية ودورها الحضاري شأن ندوتنا اليوم نتذكر فيها ميشال عاصي وننحني اجلالا له لمثقف فذ من بلادي ونقدم له تحية نابعة من قلب صادق، واقلام بارعة.

ايها الاصدقاء،

ولد ميشال عاصي عام 1927 في بيئة مدينية ريفية، في زحلة يوم كانت بعد ترتقي سلم المدينة (لتصبح مدينة) مثابرة على التمسك بمآثر القرية اللبنانية، عاش في بيئة فقيرة تصارع البؤس، وتعارك العوز، وتسرق الاود من الحرمان، ما جعل ميشال عاصي يتنقل بين عدد من مدارس حيه في الحارة التحتا او القريبة منه الى ان استقر في الكلية الشرقية ونال فيها سقف التعليم في البقاع آنذاك عنيت (البكالوريا القسم الاول).

وبما ان الطموح حدوده الفراغ دأب ميشال عاصي يجهد لتحقيق ذاته، فلم يقعده الفقر والعوز عن متابعة دراسته، ولم يخجل تحقيقاً لهذه الغاية السامية من ممارسة اي مهنة شريفة؛ فقد ارتضى ان يكون صبي حلاق وحداد اواللحام... عمل ايضا ولثلاث سنوات سائق سيارات على اختلاف انواعها واحجامها متنقلا بين زحلة وبيروت او دمشق، فجمع مبلغا من المال جعله يعيش صراعا داخليا مريرا: ايركن الى المهنة المحدودة المستقبل بما تدر من ارباح آنية، او ينخرط في عالم الدراسة الرحب المؤدي الى الافق الثقافي اللامحدود؟ وقد قال عن معاناته تلك:" اعتقد ان قدري هو الصراع الدائم بين الغاية والوسيلة، بين الهدف والطريق المؤدية اليه." فاختار الطريق الاصعب وأللاذَ مذاقا، مزاوجا بين الدراسة ومهنة التعليم فنال البكالوريا القسم الثاني. ثم اجتاز بنجاح امتحان دار المعلمين العالي (كلية التربية الحالية). وأدرك ان مهنة استاذ تعليم ثانوي ليست إلا محطة يرتاح فيها ريثما يتمكن مجدداً من ارتقاء درجات اضافية على سلم التعليم والثقافة غير المحدودين. ولما اختبر التعليم وجد ان اساليبه وطرقه لا تتوازى مع اهدافه البعيدة، فعبّر عن تلك التجربة المريرة قائلا:" ولا اغالي ان قلت ان آفة التعليم في بلادنا هي كونه يفصل بين الواقع المعيوش والنظريات المطروحة.".

وظلّ طموحُه وشغفُه بالثقافة حتى الادمان يحفّزانه للارتقاء بل للغرف من عالم المعرفة ليصبح بدوره مرجعا معرفيا ولأن باعتقاده ان الجامعات الفرنسية تؤمّن الكسب الثقافي والغنى الحضاري جهد للالتحاق بها وبعد لأي مضن مشفوع بالوساطات السياسية اجتاز مصاعب المعاملات الادارية وسافر مع قرينته فرقد الى فرنسا حيث نال دكتوراه في الادب العربي باشراف العلامة شار بلاّ، وعاد بها الى بيروت يصارع للتدريس في الجامعة اللبنانية، ويعارك فيما بعد للدخول الى ملاكها التعليمي. الى ان حقق الاثنين معا وصار عميدا لكلية التربية، ومن ثم رئيسا للجامعة اللبنانية بالتكليف.

ايها الاصدقاء،

 لن ادخل في مشاكل واشكاليات العلاقة بين الجامعة اللبنانية والسلطة السياسية ضنا مني بالوقت المحدد لي بخاصة أنني أتهم دائماً بتجاوز دوري كرئيس للجلسات الى منتدٍ فيها، وسأكتفي بالقول انها علاقة جدلية بين افقين متعارضين على المستويين الثقافي التعليمي والمادي، وان مجلس الوزراء ما يزال حتى اليوم يسطو على استقلال الجامعة الاكاديمي والاداري والمالي، وبالتالي فهل كان بمقدور ميشال عاصي بين تموز 1988 وحزيران 1991 ان يمارس مسؤولياته الجسام المثقلة بما كان يرتبه الوضع السياسي المتعارض مع قناعاته الذاتية في تلك المرحلة الحرجة والظروف المأزومة : فالحكومة كانت حكومتين والوزير وزيرين، والمراسيم جوالة، والانتقال بين الشرقية والغربية عرضة لمختلف انواع المخاطر والرعب. وهو يقول في هذا الصدد:" اقسم بكل غال وعزيز علي ان ما عانيته في رئاسة الجامعة...كان فوق التصوّر والاحتمال."

ايها الاصدقاء،

 لن اتطرق الى مؤلفات ميشال عاصي الكثيرة فاسحا في المجال امام الاصدقاء الزملاء المنتدين الكلام عليها، وهم مميزون بحسن النباهة والتقويم الاكاديمي ولصوق المعرفة الشخصية بمشال عاصي الذي نستذكره اليوم ونرسل اليه ألف تحية وتحية.

      كلمة السفير فؤاد الترك

في "تحية إلى ميشال عاصي"

الأمين العام السابق لوزارة الخارجية والمغتربين ورئيس منتدى سفراء لبنان

 

لو أردت أن اختصر علاقتي بمن تكرمه الليلة الحركة الثقافية انطلياس لاستعرت القول المأثور: "ربّ أخ لك لم تلده أمك".

منذ جلوسنا جنباً إلى جنب على مقاعد الصفوف التكميلية والثانوية في الكلية الشرقية بزحله حتى غيابه المبكر عن هذا العالم، لم تتغيّر قيد شعره هذه العلاقة التي كونتها مشاعر المحبة والصداقة النابعة أولا من مناخات الصبا واليفاع والمرسخة بعدهما بالتواصل الفكري والأدبي وبما كان قد أصبح عليه مكرمنا من موقع مرموق في الأوساط الجامعية والأكاديمية.

سوف يتحدث سواي ومن هم أجدر مني للمهمة عن ميشال عاصي المدرّس وأستاذ التعليم الثانوي والجامعي والناقد الموسوعي والباحث والخبير في الجماليات والكاتب والأديب المجلي وصاحب المؤلفات والمقالات الأدبية والنقدية "كالصحيح في البلاغة" (1959) و"الفن والأدب" و"أجمل الموشحات" (1982) و"الدراسات المنهجية في النقد" (1972) و"أوراق في باريس" (1982) و"المعجم المفضل في اللغة والأدب" (1988) وسيرته الذاتية من "ايام الضوء والظلام" (1994).

اما انا فحسبي ان أسلّط الضوء على ميشال عاصي العصامي وميشال عاصي الصديق وميشال عاصي الإنسان.

اما ميشال عاصي العصامي فقد بات مثلاً ومثالاً للعصامية وبناء الذات.

لم يولد في عالم القصور وملاعق الذهب في فمه، ولا في مناخات من العقار والنضار وهو الذي لم يكن لدى والديه سوى السمعة الطيبة والتربية الصالحة والتعلق بأهداب القيم والأخلاق.

كنا انهينا معاً القسم الأول من البكالوريا في الكلية الشرقية بزحله وعلينا الانتقال إلى بيروت لمتابعة القسم الثاني منها لتعذره في هذا المعهد الذي كان وما زال غالياً على قلوبنا. وليتمكن، نظراً لوضع العائلة الذي لم يكن يسمح بذلك، فقد اضطر ميشال إلى العمل لجمع ما يكفي من أجل تأمين سكنه ودراسته في كلية المقاصد في بيروت. أما العمل فكان سائق تاكسي ثم مدرساً في المدارس الرسمية بعد اجتيازه بنجاح امتحانات الجزء الثاني من البكالوريا، لكي يتاح له بعدها ان يكون معنا في الفوج الأول من طلاب الجامعة اللبنانية بعد انشائها.

وهو يقول في احدى مقابلاته الصحفية تعليقاً على اطلاق صفة العصامية عليه:

"ان هذه الصفة تدغدغ عندي ولا شك شعوراً خجولاً من الاعتزاز بالنفس ومن الرضا والاطمئنان للنتائج التي توصلت اليها في حياتي حتى الآن برغم جميع العوائق وجميع الظروف غير المؤاتية على اكثر من صعيد. وان كانت صفة العصامية تعني بلوغ غايات يتعذر، بل يستحيل بلوغها، لعدم توافر المقدمات والوسائل اللازمة لها، فانني اقبل هذا الوصف عن طيبة خاطر لأن ما استطعت تحقيقه في الحياة كان في معظمه اشبه بالمغامرة منه بالسعي العادي والطبيعي، وكان بعكس جميع الشروط وبرغم جميع الحواجز التي يضعها مجتمع مثل مجتمعنا امام فئات واسعة من ابنائه لا سيما ابناء الفئات غير الميسورة والمجردة من أي ارث طائفي او عشائري او مالي تنفتح له كما بضربة ساحر الأبواب الموصدة والأغاليق المرصودة"

اما ميشال عاصي الصديق فحدّث ولا حرج. وكأن "الحلاج" قد عنى أمثالنا عندما قال:

"انا من اهوى ومن اهوى أنا                            نحن روحان حللنا بدنا

نحن مذ كنا على عهد الهوى                            تُضرب الأمثال للناس بنا

فاذا ابصرتني ابصرته                                  واذا ابصرته ابصرتنا"

وبالفعل كنا كالثنائي المتلازم. اذا سألتَ عن ميشال أُجِبْتَ انه عند فؤاد واذا سألت عن فؤاد كان الرد: "انه عند ميشال". كنا على المقعد الدراسي ذاته. وكنا نراجع الدروس معاً ومعاً نقوم بمشاويرنا على بولفار زحله، ونردد الأغاني والقصائد ونُمضي الاويقات بين الكروم والدوالي العالقة على هضبات جارة الوادي.

لم اجد صعوبة في اقناعه بدخول الجامعة اللبنانية- وقد بدأت في السنة الأولى كمعهد عالٍ للمعلمين خصوصاً وان فئة من الطلاب الذين فازوا بمباراة الدخول كانت من المدرّسين الرسميين- واستمرت في تناول رواتبها طيلة متابعة دروسها بعد لأي وإضرابات واعتصامات وصيامات كان عليّ ان أتولى قيادتها كأول رئيس لهيئة طلاب الجامعة.

وأذكر انه عندما خطف ميشال فرقد- وقد خطفها بالمعنى الزحلي للكلمة وليس الخطف على الهوية، وكنا في اوساط الطلاب على علم بطبيعة العلاقة التي تربط بينهما، رنّ جرس بيتنا في زحله فجر ذات يوم لارى ميشال يوقظني من النوم ليقول لي "صح الصحيح" وهي تنتظر في السيارة وان علي ان اعمل مع من يجب لتدارك الحرب التي يمكن ان تنشب بين الفيحاء وعروس لبنان او بين عاصمة الشمال وعاصمة البقاع. والباقي معروف.

صدر المرسوم بتعييننا أساتذة تعليم ثانوي في ملاك وزارة التربية الوطنية ودخلنا معترك الحياة العملية. هو تابع صعوده دكتوراً وأستاذاً جامعياً ومديراً وعميداً حتى تقاعده كرئيس للجامعة اللبنانية، اما انا فلم تتجاوز معايشتي سلك التعليم الرسمي الأشهر المعدودة بحيث قرأت اعلانا عن مباراة لدخول السلك الخارجي قارب فيها عدد المرشحين الألف وكانت الحاجة إلى ثمانية، شاركت وكنت بينهم وانتقلت إلى عالم الدبلوماسية.

الا ان اختلاف التوجه المهني وخصوصاً وجودي في الخارج بحكم عملي لم يحل دون الاتصال المستمر بالرسائل أو باللقاءات التي كانت تحصل بيننا خلال تمضية اجازاتي في لبنان. اما بعد تقاعده- وقد انتقل مع فرقد إلى كندا ليكون إلى جانب العزيزين نجيب وغسان- فلم ينقطع هذا الاتصال اما مباشرة او بواسطة شقيقتي التي تعيش هناك وكانت تنقل اليّّ تحياته وأخباره.

وفي هذا الصدد نقرأ في كتاب ميشال عاصي من "ايام الضوء والظلام" في الصفحة 295 ما يلي:

في اوائل اول 1991 خطر لي ان ارسل بطاقات معايدة إلى بعض الأصدقاء وان استهل بالشعر مما تيسّر وجادت به الحل فخصصت احداها بالصديق الزحلي الشاعر نزيل باريس جوزف الصايغ جاء فيها:

صائغ الدر

 

يا صائغ الدر احلاما على الورق                        وزارع الفقر اطباقا من الحبق

وعاصر الخمر اكوابا معتقة                    وحاضن الشمس والاقمار والألق

ومبدع الشعر اكوانا ملونة                      ومطلق النثر نسرا طاف في الأفق

بالله!؟ هل عودة الى زحيلتنا                    بعد الطواف بأرض التيه والارق

وهل لقاء لنا والشمس غاربة                    والليل يدنو من الجفنين والحدق

 

حمل الشاعر الصائغ هذه القصيدة وذهب قاصداً مدينة "برن" في سويسرا لتمضية فترة الأعياد في ضيافة الصديق المشترك سفير لبنان هناك فؤاد الترك.

وفي اواسط الشهر نفسه وتحديداً في 14/12/1991 تلقيت في أوتاوا رسالة مشتركة من السفير الترك والشاعر الصائغ مشفوعة بقصيدة جوابية من نظمهما المشترك أيضاً!

تقول الرسالة:

"ويا عزيزنا ميشال،

الزمان: منتصف الشهر الثاني عشر من العام التاسع قبل الألفين ميلادية.

المكان: حي "موري في مدينة برن حيث ينعم فؤاد بحمال سويسرا وهدوئها وبراحة العقل والقلب والجسد.

الموضوع: تلاوة قصيدة موجهة من ميشال عاصي الى جوزف الصائغ والرد عليها .

ملاحظات:

1-  نظمت هذه القصيدة بالتعاون والتكاتف والتضامن بين جوزف وفؤاد

2-  نسجل للتاريخ والمؤرخين انها المرة الأولى التي حاول فيها فؤاد نظم  الشعر.

ولدت هذه القصيدة في سفارة لبنان ببرن قبل عشرة ايام من ولادة المسيح، وسبعة عشر يوماً من ولادة العام 1992.

السبت 14/12/1991

                                                                جوزف الصايغ وفؤاد الترك

الرسالة كانت بخط فؤاد والقصيدة بخط جوزف وهذه ابياتها:

 

ورد البال

 ما مثل قولك يستغلي به الحبق                 فان قولك ورد البال والعبق

وما سواك ليشعر ان عرضت له                        يصف القصيد ويخفق قلبه الورق

ان اعصر الخمر في دني وفي قدحي            لانت في الروح انت الذوق واللق

والشعر ان ابدعت ذكريات صبى                       فحبي العاص صنو القلب والخفق

الله! الله! يا عاصي على قلمي                   قد قصر الشعر حيث الشوق يستبق

هذا فؤاد! وايانا! وانت هنا!                     وتلك زحلة: طاب الشعر والعرق      

ونحن في الارض لا ارض تؤلفنا                       وذاك لبنان ضاقت دونه الطرق

والعمر يمضي، وصرنا في اواخره..           ما ابعد الصبح اما شارف

تعال ! عجل! فما الا على نهر                  تحيا الحياة، وفيه تطفا الحرق

وما عليك اذا ما غربة صدفت                  ما دمات زحل هي العينان والحدق!

 

اما ميشال عاصي الانسان فهو الزوج المثال والأب القدوة وهو الكادح، المناضل، المتوجه صوب اليسار نتيجة المعاناة التي عايشها والظروف الصعبة التي مرّ بها في مطالعه. وهو المنفتح، الرحب الصدر، المحاور، البعيد عن الرواغ والرياء، وعن التملق والمداهنة، والنائي عن التزمت والتقوقع وعن الكبرياء الجوفاء، المتسربل بالبساطة والتواضع على اباء وعزة نفس، الحريص على كرامته، اللاطائفي، العلماني ، الديمقراطي، الحاضر البديهة، الساخر اللاذع، والصارم على نفسه ومع السوى.

هذا هو ميشال عاصي، الذي غدا توأماً للعصامية.

الفقير، الكادح، المناضل، سائق التاكسي الدكتور الأستاذ الجامعي المدير، العميد رئيس الجامعة، المؤلف المتنور، الناقد الأدبي، المبدع ومترجم روائع المبدعين، الحاضر في دور النشر ومعارض الكتب والمخلّف جيشاً من الطلاب والمتخرجين والمحبين وصاحب الغلال الوفيرة، الذي بالطموح والذكاء وبالكد والصبر والجلد أغنى المكتبات بآثاره والذي اذا كان قد عصف به المرض القاهر وبكّر في الرحيل فقد ترك فرائد من ادب وفرقداً من ذوق وعلم ونجمين في الطب والهندسة وسيبقى اسمه محفوراً في قلوبنا وعقولنا وفي ذاكرة لبنان الفكر والثقافة ولبنان الابداع.

 

 كلمة الدكتور نزار ضاهر

 أن تقف في محرابه، يعني أنكَ وصلتَ إلى كنف الهيكل الزاخر بالأطايب، المضمًّخ بشميم الإنسانية التي تفوه من نفسه حكمةً وتواضعاً، ومن أطراف أنامله، كفاحاً وشموخاً.

ميشال عاصي، أديبٌ، مفكرٌ، مدرسةٌ في النقد... ووضوح في الرؤية، سهولة في التعبير... منهجية علمية في مقاربة الأحداث، تنقاد إلى قلمه الكلمات صاغرةً على عتبة ورقته البيضاء من أجل الأبسط والأجمل.

وأنا إذ ألامس أعطاف محرابه، أخشى على نفسي من الوقوع في خطأ قد أستسيغه على الدوام.

بصفتي فنان تشكيلي وأتولّى تدريس مادة الرسم وتقنيته في معهد الفنون- الجامعة اللبنانية- فالموضوع الذي سأتناوله في كلمتي هذه هو ما جادت به عبقرية من نحيي ذكراه من أبحاث في مجال جمالية الفن والأدب، كما في مجال نقل آراء كبار الجماليين من الفرنسية إلى العربية.

كتب ميشال عاصي في البلاغة، والتربية، والتاريخ، في البيان والتبيين وفي اللغة ، كما ترك لنا معجماً مفصّلاً في اللغة والأدب، إضافةً إلى العديد من المقالات والأبحاث والدراسات في الصحف والمجلات اللبنانية والعربية، وشارك في العديد من المؤتمرات الأدبية في البلاد العربية وخارجها.

كلامي إذاً سيُختصَر في الميدان الذي تضيئه لي ثقافتي ومعرفتي وتجربتي الفنية المتواضعة; أي أنني سأركّز على رأيه الذي توحي لي به مؤلفاته في "الفن والأدب" ودراسات منهجية في النقد وأسلوبه في ترجمة الجمالية عبر العصور للجمالي "إتيان سوريو" وفي تاريخ علم الجمال لـ "ريمون باير".

اللافت في مؤلَّفِه "النقد والأدب" والذي جعلناه في رأس لائحة المؤلّفات التي تركها لنا ميشال عاصي، هو ما جاء في مقدّمته من إيضاح للدوافع التي حملته على إعادة النظر في بعض ما تضمّنه هذا المؤلَّف الذي لم يختمر مضمونه في الطبعة الأولى، ومن رغبة في تجاوز المفاهيم والنظريات الجمالية التقليدية.

 

فيما يتعلق بتصميه على إيضاح ما تضمّنته الطبعة الأولى لهذا الكتاب، نقرأ ما يلي :"لقد حاولتُ في هذه الطبعة الثانية أن أتلافى بعض ما شاب الطبعة الأولى من غموض أحياناً بسبب الإيجاز في بعض العبارات، أو بسبب استخدام مصطلحات لفظية غير مستعملة من قبل... كما حاولتُ تعديل بعض المواقف النظرية التي لم تكن قد تركّزت عندي على أصول مستقرة بعد، بسبب من عدم ظهور معطياتها الكافية عند تأليف الكتاب، أو بسبب تقصير في تقصّي تلك المعطيات واستشراف أبعادها..."

إن ما يستوقفنا فيما جاء في هذا المقطع من مقدمة الكتاب، هو أولاًَ تواضع هذا الإنسان، صدقه، صراحته، إعترافه بتقصيره وتلك فضائل قلّما تحلى بها الفلاسفة والأدباء والنقاد. فما نقدّره بادىء ذي بدء في شخصية هذا المفكر، هو إنسانيته، احترامه لما يجب أن يتميّز به الإنسان عن سائر المخلوقات الحيّة، أي أنه يطمح في أول ما يطمح إليه هو المحافظة على كرامته ومن خلالها دعوة الناس جميعاً وفي طليعتهم العاملين في الحقول الفكرية والعلمية والفنية الى التمثّل به. وفي نظري إن مثل هذا الموقف الذي يتبناه رجلٌ موسوعيٌ بحجم ميشال عاصي يكفي بأن يكون صاحبه محطّ إعجاب وتقدير واحترام. وذلك ما لم يفت الرابطة الثقافية في أنطلياس من أن تلمسه من خلال معرفتها لشخص ميشال عاصي، ومن خلال اطّلاعها على مؤلَّفاته ونظرياته وأحكامه.

هذا التواضع لا يسيء إلى ما كان يتمخّض في أعماق نفسية الراحل الكبير من ثورة ورغبة في التجديد والتغيير بغية تمهيد الطريق ليس أمام اللبنانيين فقط بل أمام كافة أفراد المجتمعات للإسراع في بلوغ المستوى الذي يمكّنهم من تحقيق ذواتهم وعلى مختلف الأصعدة. وذلك ما ألمح إليه بقوله: "هذا الكتاب إذاً، لم يكن في الأساس وليدَ  تجربة استقرائية في تراث الفكر الجمالي والأدبي، بل كان حصيلة تناقض جذري بين موقف منهجي جديد في التفكير وبين مواقف إتباعية ساقتني إليها وأخضعتني لمعطياتها دروب التثقيف المدرسي ومسالك التأدّب والتحصيل. فالكتاب من هذه الوجهة هو عندي باكورة جهدٍ واعٍ ونقد منهجي للخروج من سجن التبعية ومعاقل الفكر التقليدي إلى آفاقٍ تحرّرية، أحاول فيها مواكبة وقائع حياتنا المعاصرة".

"لا ريب في أنّ أية محاولة لتطوير ما توقّف وتجمّد من مفاهيم الجمالية والفكر في تراثنا الأيديولوجي الموروث، لِبعث روح الحياة فيه من جديد، ولإدخال التغيّرات اللازمة عليه من أجل اللحاق بالواقع الفكري والفني المتقدم وربطه به... إنما هي محاولة محكوم عليها سلفاً بالوقوع في الخطأ والتقصير، وفي رواسب الإرث الثقافي المهيمن، فلا يمكن أن تكون وافية شاملة بحال من الأحوال بالنظر إلى سعة الموضوع وتداخل جوانبه وتشعّب أغراضه".

الجديد الذي نستخلصه من هذا الإيضاح لا يقتصر على إعلان الثورة على التقليد الفكري الموروث واللهفة إلى تجاوزه بما يتفق وواقع الإنسانية المُعاش، لأنه يتعدّى ذلك إلى الإشارة إلى أنّ التطوّر المستمر في الأوضاع الإجتماعية والإنسانية لا بد وأن يتطلّب حلولاً جديدة مؤاتية للوقائع المستجدّة التي لا يمكن التنبّؤ بما ستكون عليه لتزويدها مسبقاً بما سوف تحتاجه من حلول. في موقفه هذا يضعنا ميشال عاصي أمام حقيقتنا، هذه الحقيقة المتمحورة على التغيّر والتطوّر مما يفرض على الفكر البشري مراعاتها وأخذها بالإعتبار والسعي إلى إيجاد ما يضمن اتّزانها واستمرارها باعتماد منهجية علمية موضوعية تستند إلى معاينة الوقائع وتبيان دوافعها ومراميها لاستنباط الحلول المؤاتية لحاجاتها.

في إشارتنا إلى وجوب اعتماد منهجية علمية موضوعية خليقة بإيجاد الحلول الملائمة للأوضاع المستجدة يضعنا ميشال عاصي في صلب منطلقاته الفكرية ومبادئه العلمية لمجابهة هذا الوضع الدائم التغيّر والتبدّل.

ما ألمحنا إليه من عناوين مؤلفاته، يرتكز على هذه القناعة وهذا اليقين الراهن، فإذا ما تناول الفن أو الأدب سواء من ناحية طبيعتهما أو أهدافهما رأيناه يعتمد العقل والمنطق والفكر الموضوعي في إبداء ما يراه مناسباً من حلول. وكذلك الأمر بالنسبة للمؤلفات التي انتدب نفسه لنقلها من الفرنسية إلى العربية.

قد يكون ميشال عاصي قد تأثّر إلى درجة ما بفلسفة "هيغل" وبمنطقه الديالكتيكي، لأن "هيغل" حاول في مختلف مؤلفاته حتى التي يتناول فيها مسألة الفن والدين أن يضع العقل والفكر العلمي الموضوعي في أساس نظرته وأحكامه على هاتين الظاهرتين.

نورد هذه الملاحظة لا للتقليل من أهمية ما أتى به الدكتور ميشال عاصي، بل لنشير إلى أن مفكرنا الذي نحتفي بتكريمه في ذكراه الخامسة عشرة، لم يفته ما طلع به الفلاسفة والمفكرون والمؤرخون وعلماء الاجتماع والنقاد من قبله.

زد على ذلك أن مفكرنا لم تجرّه قناعاته العقلانية والعلمية لا إلى جعل الفكرة في أساس وجود الكون ونشوئه ولا إلى تلاشي الفن بعد المرحلة الرومانسية.

 

ميشال عاصي يؤمن بأنّ هنالك تفاعلاً متبادلاً ومستمراً بين الفكر والعمل . من هنا أن الأدب والفن بما هما نتيجة تبادل وتفاعل مستمرَّين سيرافقان تطوّر الإنسان إلى ما لا نهاية له.

بالنسبة لميشال عاصي، الفن ضرورة إنسانية، ويُطلق على هذه الضرورة اسم "فاعلية إنسانية". هنا يقترب مفكّرنا من مفهوم كثير من فلاسفة الجمال الذين يؤمنون بملازمة الفن للحياة الإنسانية وبصورة خاصة من أستاذه "إتيان سوريو" في جامعة السوربون في باريس، الذي يقول بأن الفن هو حاجة إنسانية.

لم يتدخّل د. ميشال عاصي في المشكلات التي طرحتها فلسفة الجمال منذ ما قبل أفلاطون حتى إصدار مؤلفه "الفن والأدب"، بالرغم من أنه قد اطلع بعمق على هذه النظريات من خلال ترجمة مؤلّف أستاذه "إتيان سوريو" Etienne Souriau  الذي يحمل عنوان "الجمالية عبر العصور" ومن خلال ترجمة "علم الجمال"... للجمالي "ريمون بايار" Raymond Bayard.

فاقتناعه بأن طبيعة الانسان ووضعَهُ يحتّمان عليه أن يلجأ إلى الفن لإرضاء حاجة متأصّلة في كيانه، جعله يحصر اهتمامه لا بتحديد طبيعة الجمال ووظيفة الفن بل بدراسة الوسائل التي تُمكّن الإنسان من تطوير الفن والإرتقاء به تدريجياً تبعاً لمتطلبات حاجته إلى الجمال.

وذلك ما أكّده في مقدّمة الطبعة الثالثة من مُؤلَّفِهِ "الفن والأدب" حيث قال: "هذا الكتاب هومحاولة إلى فكر جمالي وأدبي يواكب العصر ويستشرف آفاقه الإبداعية ملتزماً بقضايا الإنسان الجوهرية في واقع الأدب وصيرورته، وفي حاضر الزمن ومستقبله. النشاط النظري والنشاط العملي عند الإنسان قطبان متفاعلان. بفضلهما ترتقي الحياة صُعُداً من طورٍ إلى طور، وعلى جناحين من نظرٍ عقلي وعملٍ تطبيقي تنهض البشرية من غور البدائية إلى ذرى الوعي..."

اللافت في ما أوردناه في هذه المقدمة هو: "إنّ ميزة الإنسان الجوهرية أنه يعمل ويفكر وإنّ العمل يسبق الفكر". وهنا لا بد لنا من أن نذكّر بأنّ هذا الرأي قد تبنّاه الفيلسوف "هنري بركسون" الذي رأى بأن الإنسان بدأ أن يكون إنساناً عملانياً "homofaber" ، لينتقل تدريجياً من الإنسان العملاني إلى الإنسان المعرفي الذي أسماه "homo sapiens".

بغية إثبات نظرته في العلاقة الجدلية الحتمية بين الفكر والعمل ينتقل المفكّر بالقارىء من الأجواء التأملية النظرية إلى الحقل الإختباري، فيطرح عليه السؤال الآتي: "هل يستطيع أحدنا مثلاً أن يتعلّم لغة من اللغات ويجيدها الإجادة التامة إذا هو سلك طريق الدروس النظرية البحت التي توفرها له كتب اللغة دون أن يلجأ أيضاً وبالجهد نفسه إلى تطبيق هذه الدروس قراءةً وكتابةً ومحادثة ؟

 

وبعد أن يستخلص "بأنّ المعرفة النظرية المنقطعة عن خط الممارسة العملية هي معرفة نصفية محدودة زهرها لا يثمر". ينتقل من الصعيد الفردي إلى صعيد الجماعة طارحاً السؤال التالي: "كيف يمكن أن نفسّر تحقيق التطوّر الدائم في منجزات البشرية ووعيها إن لم يكن على أساس التفاعل الجدلي بين النشاطين المذكورين ؟... لماذا مثلاً لم تكن السيارة الأولى يوم أوجدها موجدها تصميماً نظرياً وعملاً تطبيقياً تامّين ؟ إنّ ذلك لم يكن ممكناً وليس ممكناً، لأن أقصى ما يستطيع الإنسان تصوّره نظرياً مقيّد بحدود تجربة عملية سابقة، وأقصى ما يستطيع إبداعه عملياً مرتبط بحدود التجربة النظرية السابقة".

لم يفت مفكرنا أن يلفت القارىء من ناحية إلى أن الترابط بين العمل والنظر لا يتمّ على وتيرة واحدة لدى كل فرد وكل جماعة باعتبار أن هنالك أسباب وأوضاع وظروف تتيح لبعض الأفراد والجماعات أن تحقق هذا الترابط بأقصى ما يمكن من السرعة، بينما قد تعيق هذه الأسباب والأوضاع والظروف هذا الترابط وتؤخره. فالمرأة اللبانية كما يشير إلى ذلك في الصفحة 28 من كتابه "الفن والأدب" ما تزال قاصرة قصوراً بارزاً عن تطبيق ما يتيحه لها القانون، وعن ممارسة جميع ما يشرّعه لها من حقوق، لأن هنالك بعض العراقيل والتقاليد التي لا تزال تعترضها.

كما لم يفته أن يشير من ناحية ثانية إلى أنّ نشأة الفن والأدب وتطورهما لا يختلفان عن نشأة العلوم والتقنيات وتطوّرها. أي أن الفن والأدب يخضعان أيضاً لجدلية العلاقة بين الفكر والعمل. بمعنى أنهما نشآ بادىء ذي بدء كنشاطَين عفويين ولّدتهما الحاجة الجمالية ليتحوّلا تدريجياً وعلى مرّ العصور إلى مهارتين تتحكّم بهما بعض القواعد التقنية التي ما لبثت أن اتخذت إما صيغة النقد أم صيغة الفلسفة.

لنتحقق من فعالية العلاقة الجدلية بين الفكر والعمل على صعيد الفن، يكفي أن نلقي نظرة على ما أورده العالمان الجماليان "إتيان سوريو" و "ريمون بايار" في الكتابين اللذين تحدّثا فيهما الأول وهو بعنوان "الجمالية عبر العصور" والثاني بعنوان "تاريخ علم الجمال من خلال الفلسفة والنقد والفن" واللذين نقلهما عَلَمُنا من الفرنسية إلى العربية ليدعم بمضمونهما رأيه في العلاقة الجدلية بين العمل والفكر.

لم يندفع ميشال عاصي إلى التعلّم وإلى طلب العلم من منابعه الباريسية الخصبة ليصبح أستاذاً في جامعة، بل ليتسنى له أن يؤدي رسالة سامية تنهض بالفن وبالأدب والفكر في لبنان كما في بعض الأقطار العربية. من هنا أنه بغية التمهيد لإطلاق رسالته باشر كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، بترجمة المؤلَّفين اللذين من شأنهما أن يضعا الفنانين والأدباء والمفكرين اللبنانيين والعرب في الأجواء التي تتيح لهم أن يتعرّفوا إلى السبل التي تؤدي بالأمم إلى التطوّر والرقي. ومن نافل القول أن نشير إلى الجهد الذي بذله هذا المترجم العبقري ليأتي عمله طبق ما كان يطمح إليه من أمانة للنصوص الأصلية وخاصة من سهولة في فهم هذه النصوص واستساغتها من قبل القارىء العربي. ولن أكون مغالياً إذا قلت بأن مطالعة هذين الكتابين باللغة العربية تبدو، لمن يمتلك الفرنسية ويجيدها إلى جانب العربية، أقرب منالاً من مطالعتها باللغة الفرنسية. ذلك لأن صاحب القلم الذي نقل هذين المؤلفين إلى العربية كان له من الاطّلاع على مختلف النظريات الجمالية وفهمها في أعماقها ما مكّنه من إيجاد الصيغ المؤاتية لنقلها إلى العربية.

في سبيل تسهيل مهمة الروائيين والشعراء والمفكّرين والفنانين التشكيليين والنقاد من الإفادة العملية من المنطلقات التي جعلها في أساس كل إنجاز خلاّق، قام مفكرنا في كتابه "دراسات منهجية في النقد" بدراسة مختارات روائية وشعرية وفلسفية وفنية وأبدى رأيه فيما تتضمنه من عناصر إيجابية وسلبية متجنباً التحيّز المغرض والمراعاة بدافع الصداقة أو الاستمالة.

قد يطول بنا الكلام إذا توقفنا عند كل هذه الدراسات وكشفنا عن كل ما تتضمنه من تحاليل تتناول المعنى والمبنى. فتجنباً لإطالة الوقت سنقصر الحديث على بعضٍ من المؤلفين والمبدعين وعلى بعضٍ من مؤلَّفاتهم.

الرواية الأولى التي صدّر بها مؤلَّفه هي "شجرة الدفلى" للأديبة إميلي نصرالله. لفتته هذه الراوية ليس لأنها نتاج سيدة لبنانية، بل لأن بطلة هذه الرواية ثارت على التقاليد الإجتماعية السائدة والمتجاهلة لكرامة المرأة وحقوقها. ومن جملة ما قاله في شهادته: "إنني لأول مرة مع شجرة الدفلى" تتأكد ثقتي بأدب المرأة عندنا وأقرأ أدباً روائياً في مستوى القصص العالمي الحديث... وقلّما شعرت بأن الفن القصصي في لبنان يتخطى إطار حبك الحوادث... ليعالج مسألة مصيرية أسلوبية مركّزة وحديثة.

القصة الثانية التي نالت تقدير مفكرنا هي "أحلام في النهار" وهي واحدة من "مجموعة أساطير" للدكتور ميشال سليمان. أشاد بقيمة هذه المجموعة القصصية وبموهبة مؤلفها باعتبار أن الدكتور سليمان استوحى الأساطير العربية، وباعتبار أن بطل هذه الأسطورة الذي عشق ابنة ملك الجان لم يتردد في التفتيش عنها واسترجاعها بعد أن أبعدها ذووه عنه، كما لم يخش دخول مقرّ أبيها في أرض عبقر الذي وقد أعجب بوفاء هذا الشاب، سأله :"ما يجب عليّ أن أعمل لأصبح إنساناً مثلك، أجابه عبد الله :"الأمر في غاية البساطة: نعلم كيف تحب لتصبح إنساناً".

القصة الثالثة التي تناولها بالدراسة والنقد هي "الطريق إلى موريانا" للأديب والصحافي الياس الديري.

اتّبع الناقد في تقييم هذه الرواية الأسلوب الذي اتّبعه في دراسة القصة الأولى والثانية. أي أنه اختصر موضوع الحدث والمكان ورسم شخصية البطل في المراحل الحساسة في حياته، لينتقل بعد ذلك إلى الكشف عن ما ورائية هذه القصة التي تبدّت له وكأنها تتعارض مع نواميس الحياة وتتجاهل الغاية التي وجد الإنسان من أجلها. من هنا أنه أخذ على المؤلّف لجوءه إلى المواقف الإنهزامية والعبثية في سبيل إثارة رغبة القرّاء.

في مجال الشعر، تناول الدكتور ميشال عاصي "سنوات الحزن" للشاعر روبير غانم. أبدى أسفه لما عابه بعض النقاد على الأسلوبية التي اعتمدها روبير غانم في سبك قصائده وأشعاره وفي بعض الأحيان على مضمونها. وبعد أن استعرض بعض المقاطع الشعرية الواردة في هذه المجموعة لفت بصورة خاصة إلى الماورائية الفلسفية التي فات النقاد أن يقدّروها حقّ قدرها. وفي رأيه أن روبير غانم هو ليس في طليعة الشعراء المحدثين اللبنانيين فقط بل العرب أيضاً.

لم يكتفِ الناقد بالحديث عن الشاعر روبير غانم بل تناول أيضاً بالدراسة "تلفت اليمام" وهو ديوان شعر للدكتور علي شلق، و "حجر الحب وقصائد الفرح" وهو ديوان شعر لجورج غانم، و "الهوى وحديث العينين" للشاعر فؤاد الخشن، و "هي والآخرون" للشاعر نقولا يواكيم، و "رسائل الياسمين" للشاعر جوزف غصين ، و "رؤيا في الطريق" للشاعر الياس طعمه، و "رحلة الحروف الصفر" للشاعر بلند الحيدري، و "مهرجان تحت الشمس" وهي قصيدة بالعامية لراجي العشقوتي. كما اعتذر عن إبداء رأيه في كافة الشعراء اللبنانيين.

في باب الفلسفة تناول الدكتور عاصي بالبحث "كتاب عبد الله" للدكتور أنطون غطاس كرم و "نحو مجتمع جديد" للدكتور ناصيف نصار. في دراسة مؤلَّفِهِ الأول لم يتردد الناقد في الإشادة بأستاذه أنطون غطاس كرم وبثقافته وبعمق نظرته الفلسفية ودقة تحاليله السيكولوجية. غير أن ما أخذه على هذا المؤلَّف هو سلبيته. وقد قال في هذا الصدد :"يبقى عندي أن فلسفة عبد الله بموقفها السلبي من أزمة العالم، وبانهزامها أمام جدار البؤس والشقاء الإنساني، تضع نفسها مختارة في صف التفكير الفردي الذي ما أن يصطدم بالمشكلة ويتحسّس لهيبها المحرق، وما أن يواجه الواقع الإجتماعي البائس ويذوق مرارته حتى ينكفىء باحثاً عن خلاصه داخل ذاته بدلاً من أن يحاول الإسهام في تبديل هذا الواقع التاريخي مع كثير من العاملين بإيجابية من أجل هذا التبديل".

في تقييمه للمؤلَّف الثاني "نحو مجتمع جديد" للكتور ناصيف نصار، أشار الناقد في مرحلة أولى إلى أن: "الكتاب غزير المادة، متشعّب الأغراض، متعدد الموضوعات والأبعاد، يثير أكثر من قضية على أكثر من صعيد. ولا يمكن للناقد بأي حال أن يتعرّض دفعة واحدة لجميع ما ورد فيه من نظريات وآراء جد مهمة. لكن الأهم الآن وفي حدود النقد الأوّل، التركيز على النقاط الأساسية التي لا بد للفكر الموضوعي، الذي لا ينفكّ المؤلّف يكرر تبنّيه لمنهجيته وعلميته، من أن يسجل مآخذ جوهرية على دراسته... أهمها عندي يتابع د. عاصي: "إنّ المؤلّف يضع فلسفته في خدمة غرض مسبق، يعرف كيف يسلك إلى غايته سبلاً منهجية استقرائية غنية بظواهر التحليل والتعليل، قادرة على بلوغ ما يلائمها من معطيات الواقع واستخلاص الاستنتاجات اللازمة لتدعيم ذلك الغرض تحت ستار كثيف من القول بالمنهجية العلمية ومن ممارسة البحث الاستقرائي وأساليب الجدل الواقعي والتجرّد" .

في ميدان "الفكر الفني والجمالي" تناول الناقد د. عاصي: "مشاكل الفن الحديث" وهي دراسة في جمالية فنّ الرسم للفنان والباحث فوزي القش. يبادر الناقد بتعريف الأستاذ فوزي القش: بأنه أديب وفنان يختزن ثقافة نظرية واسعة وتجربة عملية غنية في ميدان الرسم، تتيحان له التحدث بنبرة الخبير العارف وتوحيان لنا بالثقة والاطمئنان إلى ما يقول.

وبما أن الفنان الباحث دافََعَ عن الوجهة التصويرية وانتقد الوجهة التجريدية، معللاً أن انحرافها عن التصويرية مردّه بعض الأخطاء التي ارتكبها الفنانون التجريديون، فقد أخذ عليه الناقد تجاهله للأسباب الجوهرية التي قادت الفن في سبيل التجريدية التي أصبح معظم الفنانين في العالم ومنذ النصف الثاني من القرن المنصرم يتبنونها باعتبارها اللغة التي تنطق بالواقع الإجتماعي والإنساني المعاصر.

قد لا نشاطر عَلَمَنا آراءه ومنطلقاته الفلسفية والمعايير التي اعتمدها في تقييم هذه الكوكبة من الروائيين والشعراء والفلاسفة والفنانين والنقاد. غير أن ما لا يسعنا إلى أن نكبره ونقدره ونحترمه ونعمل على الإفادة منه هو إيمان ميشال عاصي بأن الإنسان بما زُوّد به من طاقة فكرية وعملية لا بدّ من أن ينتهي إلى مستقبل زاهر زاه، هو ثقته بنفسه وطموحه في تحقيق ذاته ومجتمعه وسائر المجتمعات، هو إحساسه بالمسؤولية التي تفرضها عليه ميزته الإنسانية، هو رغبته في أن يقتنع كل لبناني وكل عربي وكل إنسان بما هو مقتنع به، وعمله في أن تعم هذه القناعة كافة البشر الذين يعيشون على هذا الكوكب.

سنتذكّره ونعمل قدر المستطاع على إشاعة دعوته متمنين على كل الذين يضنون بكرامة الإنسان وبمستقبله أن يطلعوا على مؤلفات هذا المفكر النيّر، كما نتقدم بالشكر والتقدير للحركة الثقافية في انطلياس متمنين لها الاستمرار والنجاح المطّرد في نشاطها.

                                                               

كلمة الدكتور ساسين عساف

 

عرفته استاذاً في كلية التربية واحترمته عقلاً وفكراً ومنهجاً وأسلوب عطاء.. وعرفته زميلاً في الادارة والعمادة وقدرت فيه مكنته من التوحّد بعمله ومن التفاني في سبيل إنجاحه وعرفته رئيساً لا يتجاوز حدود سلطته ديمقراطياً في زمن التسلّط وشجاعاً في الدفاع عن حرم حاول النأي به عن تجاذبات أهل السياسة والانتفاع.

في سنة 1968 كنت طالباً في كلية التربية دخل القاعة استاذ البلاغة والبيان والعروض. دخلها بخطى متدافعة واعتلى منبرها بقفزة رجولية ورمق الطلاب الذين وقفوا له احتراماً بنظرة خفرة وبهّزة كتف رافقته طوال معرفتي به وبابتسامة الواثق من قدرة لسانه على اجتذاب طلابه أشار علينا بالجلوس ولتكن منا الأخيرة. يومها أدركت بالحدس ان هذا الأستاذ مختلف عن سائر زملائه.

بأناقة المظهر والكلام قدم نفسه كالآتي: الداعي لكم أخوكم ميشال عاصي بدقائق وضع أمام عيوننا خارطة الطريق الصعب والمضني الذي اجتازه بالمكابدة الشريفة والشجاعة وصولاً إلينا فشدّنا أكثر إلى كشف مكنونه واستجلاء قدراته.

عشقناه استاذاً طيباً وخلوقاً وخلاقاً ونزيهاً دقاق علم وعطاء لا تعصّب عنده ولا تزمّت، لا تحجّر ولا تبعية لا محرّم على العقل عنده او مغلق على النقد بما فيه "المقدس" ومن خلال نصوصه المختارة وشروحه لها وطرائق تفكيره سرعان ما ادركنا انه من اهل الوعي الوطني والقومي ومن اهل الالتزام التحرري والنهج التقدمي والتوجه الانساني.

نال احترام طلابه بأنسه وظرفه وكياسته ولياقته وهيبة علمه وكنّا حرصاء على عدم التغيّب عن واحدة من محاضراته فنقبل عليها بشغف مستعذبين اسلوبه التعليمي المرح اسلوب التكوين لا التلقين والتدرّب على التذوق والتحليل والتعليل والاستنتاج والى غزارة علمه واتساع مداركه ووضوح منهجه جمع الطرفة والنكتة والتعليق الجاذب والاستقلال في التفكير.

معم تفتحت افكارنا على الابعاد الانسانية والقيم الحضارية ومعنى الانتماء والالتزام في الفنون الادبية ومن مطارحاته ومجادلاته ومقابساته عرفنا ان ثمة اتجاهات لم نكن نلقاها في المراجع المتداولة والافكار الرائجة حول الادب الماركسي والواقعية الاشتراكية والادب البورجوازي والادب الكفاحي الانضوائي والمثقف العضوي وسوى ذلك مما كان يعدّ اختراقاً للأفاهيم السائدة.

انتقلنا الى السنة الثانية من سنوات الإجازة وجميعنا يعترف لهذا الرجل بأننا افدنا منه ومن كتابيه "الفن والأدب" و "دراسات منهجية في النقد" افادات علمية جمّة أسهمت بوفرة في تكوين ثقافتنا الأدبية والنقدية وفي تظهير مصطلحاتها المفتاحية.

وما أعطى حضوره الاكاديمي الخلاق والمحبب لمعة خاصة لسانه الحرّ الزرب ونكاته اللاذعة المستمدّة من تجاربه المرة في الحياة ومع الناس، وفي كتاب سيرته الذاتية من ايام الضوء والظلام الكثير منها.

بعد نيلي الإجازة التعليمية في اللغة العربية وآدابها كان عليّ ان اختار استاذاً للإشراف على رسالة شهادة الكفاءة للتعليم الثانوي ورحت أتخير بين أربعة كبار ما زالت أسماؤهم في الذاكرة والعقل والوجدان: خليل حاوي، انطون غطاس كرم، أدونيس (علي أحمد سعيد) وميشال عاصي. فاهتديت اليه من دون احتساب او مفاضلة وأنجزت بإشرافه رسالة بعنوان "الصورة الشعرية ونماذجها في ابداع ابي نواس" لقيت منه التوجيه السليم في إعداد مخطط البحث وتبويبه والتدرب على تطبيق منهجياته العلمية، وبمسؤولية فكرية وأدبية عالية قاد عملي لا من شرفة النصائح المعهودة بل من داخل النص عراكاًَ وتنقيباً. ومن هذه التجربة الاكاديمية تأكّد لي ان الاستاذ الجامعي الباحث المشرف ميشال عاصي شكّل القيمة المعيارية المطلقة للدرجة التي كان ينالها طلابه نتيجة إشرافه على أعمالهم البحثية.

هذا الاستاذ الجامعي التي توافرت لديه شروط الاهلية الاكاديمية لاعتلاء المنابر الجامعية خاض اعنف المعارك لاسقاط نهج الطائفية والمحسوبية والممالأة السياسية في التعاقد والتعيين:

"أنا لا أستجدي العمل في الجامعة فاما انني جدير به، وهو حقّ مقدّس من حقوقي واما لا ولن اطالب به ما حييت".

هذا ما قاله لحد وزراء التربية يوم اتخذ مجلس كلية التربية آنذاك قراراً بكسر عقده. هذا الكلام العاصي والعاصف بالكبرياء والعزّ والأنفة جاء وليد معاناة خاصة عبّر عنها بالآتي:

"ولست اغالي الآن اذا قلت ان معركة دخولي الى التدريس بالتعاقد في الجامعة اللبنانية، فالى الانخراط في ملاكها الدائم، بعد حوالي ربع قرن من الزمن، كانت اعنف معاركي على الاطلاق وأشدها ايلاماً لأنها كانت اطول المعارك واقساها ظلماً وقهراً.

ميشال عاصي لم يكن استاذاً جامعياً متخفياً بل كان مناضلاً ونصيراً للحركة الطلابية الثورية لا بل عرفناه في صميم تحركها والحركة بدورها احتضنت قضيته وساندته بكل مكوناتها في مواجهة القرار الظالم القاضي بعدم تجديد عقده.

اكاديمي مناضل بالفعل والكلمة بالنهج والتعليم من اجل الجامعة الوطنية وجد نفسه فيها يوم كانت منطلق الحركات السياسية التحررية والتغييرية ووجد فيها المكان الأحب الى نفسه التواقة الى التحرر والتغيير.

ومرّت سنون فعدنا والتقينا زميلين في الادارة وفي العمادة.

"انا اعرف ان الجامعة قد ظلمتك ولم تنصفك الا نادراً، وأنا أشعر انني الى حد ما مسؤول عن عدم إنصافك بمقدار ما كان لي من نصيب في ادارتها. فأطلب الآن ما تريده من الجامعة لتكون من الفريق المعاون لي في حسن إدارتها، وتأدية رسالتها فأنت ممن اقدّر خلقه وثقافته وممن اثق به ثقة كاملة".

هذا ما قاله له الدكتور جورج طعمة يوم تعيينه رئيساً للجامعة..

هذا الكلام سرعان ما اثمر في العام 1980 قراراً بتعيينه مديراً لفرع كلية الآداب والعلوم الانسانية في منطقة البقاع. ومن هذا الموقع سعى الى استقطاب الاساتذة الاكثر كفاءة والى تعزيز العرف ورفع مستواه وتحصينه من التدخلات السياسية ومن شغب الميليشيات وفوضاها وتحريره من تسلّط قوى الامر الواقع وفتح ابوابه امام الجميع بلا استثناء. تدبّر أمره وسيّر شؤونه بحنكة البارع في التعامل مع الناس بليونة لا تعصر وقساوة لا تكسر. هذا الأداء الاداري لم يرض اهل الحل والربط في ذلك الزمان فحاولوا ابتزازه وتدجينه فكان عصياً على التدجين فهددوه بالقتل غير مرة لا بل حاولوا اغتياله باطلاق الرصاصات الاربع على رأسه فأخطأوه وشنوا عليه حملات الدس والتجني والافتراء. آلمته. ولكنه خرج منها بالصلابة المعهودة فيه.

كلفنا نحن الاثنين رئيس الجامعة وضع شروط قبول الطلاب في الدراسات العليا. ودار بيننا نقاش حول حول المعدل العام المطلوب الذي على الطالب ان يناله في الاجازة فأصرّ على المبدأ القائل: التسجيل حق للجميع. أصررت على التسجيل المشروط بالمعدل المطلوب. كان بارعاً في فنّ المحاججة يسعفه في ذلك بصيرة نفاذّة وعقل هندسي ولسان تصويري لا تعصى عليه المعاني مهما دقت او شقت او لطفت. خطوتان الى الامام ثم استدار وقال: لن نختلف. وجدتها. ما رأيك بالشعار الأتي: التسجيل حق للجميع والترفيع حق فقط لم يستحق الترفيع. جدلية تفكيره مكنته من الجمع بين حسه الانساني ومسؤوليته الاكاديمية فاتفقنا وكرسنا الشعار.

عميداً لكلية الاعلام والتوثيق نهجه لم يتبدل انجازه التطوير والمصاعب جمة في مجلس العمادء كان له الحضور المميز صاحب رأي وموقف وخبرة يتقن فن تدوير الزوايا واخراج الحلول مشفوعة بحكاية من هنا ونادرة من هناك تشدّ الآخرين اليها من وشائجهم قبل العقول.

رئيساً للجامعة بالنيابة، وهو الجدير بها بالأصالة عبّر عن حقيقة ذاته أبلغ تعبير:

وحدويّ وطني بامتياز في زمن التقسيم والفئوية المحافظة على وحدة الجامعة والانشقاق في الدولة والمجتمع على اشدّه ليست بالمهمة السهلة. ديمقراطي ادرك معنى القيادة الجامعية في لحظة حاسمة من تاريخ الوطن والمؤسسة فحّول مجلس العمداء الى مجلس جامعة ولم يتخذ قراراً بمفرده بل سعى الى الاجماع.

مؤمن باستقلالية الجامعة حاول حمايتها من تجاوزات خطيرة افقدتها حصانتها ولم تسلم هي وهو لم يسلم بدوره من حملات التحريض والغرضية.

اما سلطة الوصاية فكان له رأي فيها وموقف منها. وخير بيان لهذين الرأي والموقف هو الكتاب الذي وجهه الى وزير الوصاية قبل تقاعده بخمسة ايام معارضاً عددا من القرارات التي أملت عليه قناعته بانها ليست في مصلحة الجامعة .

بشراسة المخلص والمحبّ حمل الامانة ومضى هذا العاصف العاصي ينام الآن في هدأة المطلق.

عذراً ايها الحبيب ايقظتك من دون موعد وعذري في ذلك انك قلت لي يوم كنت استاذي المشرف: تأتي اليّ ساعة تشاء ومن دون موعد وها انا اليوم اتيت اليك وفي جعبتي أوراق اشتاقت ضوء عينيك ولمسة روحك.