كلمة د. عصام خليفة الأمين العام للحركة الثقافية - انطلياس

بمناسبة تكريم د. علي محافظة علم ثقافة في لبنان والعالم العربي

المهرجان اللبناني للكتاب (10/3/2008)

 تكريم د. علي محافظة

        مؤرخ مدقق انكب على تقميش الأرشيفات المحلية والأجنبية وبخاصة الفرنسية والانجليزية.

        أستاذ أكاديمي مرموق كان ولا يزال محط احترام زملائه وطلابه.

        رجل إصلاح ونهضة في الإدارة الأكاديمية يجمع بين المعرفة الواسعة لتجارب الدول المتقدمة والسهر الدائم على تفاصيل العمل الإداري.

        إنسان طيب يتقن فن الصداقة ويتمتع بخصال الصدق والاباء والشهامة.

دبلوماسي يتمتع بالثقافة الواسعة والاطلاع العميق على مسار السياسات الدولية، كما يتصف بدماثة الخلق وحجة الإقناع.

        وطني مخلص يدافع بصلابة وعقلانية عن قضايا شعبه الأردني الشقيق وعن القضايا العربية المحقة وفي طليعتها القضية الفلسطينية.

        هذا هو الدكتور علي محافظة الذي تتشرف الحركة الثقافية - انطلياس بتكريمه كعلم ثقافة في المهرجان اللبناني للكتاب.

علي محافظة المؤرخ انكب عبر أبحاثه على التعمق في عدة محاور:

‌أ- تاريخ الأردن المعاصر وعلاقاته الدولية عموماً ومع بريطانيا بشكل خاص.

‌ب-قضية الوحدة العربية وموقف الدول الأوروبية الكبرى من هذه الوحدة في مرحلة ما بعد انهيار السلطنة العثمانية. وتاريخ العرب المعاصر، وبخاصة تاريخ القضية الفلسطينية.

‌ج- تاريخ حركة الأفكار في البلدان العربية منذ قيام الثورة الفرنسية بشكل عام، وقضية الديمقراطية في النظام السياسي الأردني بشكل خاص.
‌د- أبحاث في التربية والتعليم العالي من موقع الممارسة الإصلاحية العملية وليس فقط من موقع الدراسة النظرية.

وقد اتصفت أبحاث علمنا بعدة خصال من أبرزها:

- اتساع مروحة المصادر والمراجع بشكل لافت.

- الدقة والموضوعية في مقاربة تلك المصادر والمراجع، وفي العرض والتحليل والربط بين الأسباب والنتائج.

- النظرة الثاقبة والبصيرة النافذة في تناول واقع قضايانا العربية والتحديات المطروحة ومقتضيات المواجهة.

- الجمع بين المنهج العلمي وطلاوة اللغة العربية الأنيقة.

- غزارة الدراسات والأبحاث (ألّف 14 كتاباً - مرجعاً، وشارك في تأليف 25 كتاباً، وقدم 63 بحثاً، وشارك في 55 ندوة).

وعلى صعيد العمل الأكاديمي فقد تفوق علمنا محاضراً وإدارياً. فعندما كلف بتأسيس الجامعة العسكرية في مؤتة، قام بدراسة أوضاع الكليات العسكرية الغربية والشرقية واطلع على أنظمتها وبرامجها العلمية والعسكرية والتدريبية بالإضافة الى كليات الشرطة في هذه الدول.

        لقد كانت هذه الجامعة، التي ضُم اليها جناح مدني عام 1986، تجربة فريدة في العالم العربي، وكانت محط تقدير وإعجاب من كل زائر لها.

        وكان علمنا رائد إصلاح تُعهد اليه مهمة التحديث والتطوير للمؤسسات الجامعية الأردنية التي يراد لها النهوض والتقدم.

        والدكتور علي محافظة الإنسان دبلوماسي بالسليقة. يجمع بين قوة الشخصية ودماثة الخلق وملكة العرض وحجة الإقناع.

        ان الحركة الثقافية - انطلياس اذ تتشرف بتكريمه علم ثقافة تؤكد على عمق الصداقة بين الشعبين الأردني واللبناني في هذا المنعطف الخطير من تاريخ المشرق العربي. وان القيم الوطنية والثقافية والأكاديمية والإنسانية التي عمل علمنا في خدمتها، هي القاعدة التي يمكن لشعوبنا العربية ان تنطلق منها لبناء نهضتها وللرد على التحديات القائمة.

        وان لبنان الدولة والمجتمع والاقتصاد والتربية والثقافة الذي يتعرض في هذه الأيام لأخطار داهمة من جهات عدة سيتمكن، بإرادة شعبه وبمساعدة الأشقاء والأصدقاء، ان يواجه هذه الأخطار وينتصر عليها.

        ويا أيها الصديق العَلَم،

        لك من المثقفين اللبنانيين عموماً، ومن الحركة الثقافية - انطلياس بوجه خاص كل المحبة والتقدير. ومن خلالك نوجه للأكاديميين والمثقفين الأردنيين رسالة الاحترام والتضامن مؤكدين العزم على العمل المشترك دفاعاً عن قيم الحرية والاستقلال وحقوق الإنسان في عالمنا العربي الأوسع.

تكريم د. علي محافظة

كلمة الأب أنطوان ضو

ما تقوم به "الحركة الثقافية - أنطلياس" في اطار "المهرجان اللبناني للكتاب" بتكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي هو انجاز حضاري ثقافي أخلاقي ريادي، والتزام بفكر المحبّة الشاملة بين جميع الناس على الصعيد الوطني والعربي والعالمي، تشكر عليه ونبارك لها.

تكرّم الحركة الثقافية - أنطلياس" بتقدير واعتزاز ومحبّة الدكتور علي محافظة. عَلَمٌ ساطع من أعلام الثقافة في الأردن والأمّة العربية، قدّم نتاجًا فكريًا أغنى فيه المكتبة العربية، وبلور بمساهماته تجلّيات الفكر العربي وجدّيته ورفعته واتجاهاته الجديدة الضرورية.

انسان ومواطن، وهو على خلق رفيع. أكاديمي وكاتب اعطى بسخاء، وباحث القى الضوء على مراحل هامة من تاريخ الاردن وفلسطين والعرب. نهضوي ومجدّد وحداثي ومبدع التزم بالعروبة وقضاياها المحقّة والعادلة وفي طليعتها قضية فلسطين والتصدّي ومقاومة المشروع الصهيوني العدواني الاستيطاني العنصري الاستعماري فيها.

مثقف ناضل في سبيل الحريّة والاستقلال والتحرير والتحرّر والمواطنية والعدالة والمساواة والنهوض والتقدّم والبناء والتنمية الانسانية الشاملة، والعروبة الجديدة الانسانية العقلانية الوسطية المنفتحة والمتفاعلة مع الحضارات والثقافات والأديان، والتي لا تُبنى الاّ على اسس وقيم كرامة وحقوق الانسان، واحترام التنّوع والديمقراطية، وثقافة الحوار والمصالحة والعيش معًا بحريّة ومحبّة وشراكة ووحدة.

إنه نهضوي ملتزم بالاتجاهات الحديثة على الصعيد الحضاري والثقافي والسياسي والاجتماعي والعلمي، ويعتبر الاصالة والتجديد والابداع حركة متكاملة ويدعو الى تعزيز الفكر النقدي.

صاحب ثقافة واسعة. يحظى باحترام وتقدير ومحبّة اهل الفكر لاسيّما الأوساط الجامعية والأجيال التي سهر على تربيتها.

المضطلع على سيرته الذاتية تستوقفه حياته الصعبة في بدايتها، كما حياة أبناء جيله من الطلاب العرب الفقراء الذين لم يتمكن أهلهم من ادخالهم الى المدارس والجامعات بسب الأوضاع الاجتماعية الصعبة، أو لعدم تأمين الدولة المدارس والجامعات الكافية لدخول الطلاّب اليها. الاّ ان هذا الجيل رغم كلّ الصعوبات والحرمان لم تقف الأوضاع الاجتماعية الصعبة وعدم توفير المدارس اللائقة أو مجانيّة التعليم من تحدّي الأميّة وتحقيق طموحاته العلمية.

مكرّمنا كّد وجّد. عمل وعلّم وتوظّف. دخل السلك الديبلوماسي الاردني أولاً وعمل في تونس والجزائر فتعمّق في اللغة الفرنسية. وفي المانيا حيث درس الالمانية. نال المنح من الداخل والخارج وفي نهاية المطاف تابع دراساته العالية في السوربون لينال منها دكتورة دولة بامتياز.

أستاذ أكاديمي ناجح، وباحث استقى معلوماته من الأرشيفات الأجنبية والمصادر العربية الأساسية، وخادم المجتمع والدولة بأمانة وصدق وشفافية وإخلاص، وموطّد العلاقات بين الجامعات الاردنية والجامعات العربية.

شغل منصب الرئيس المؤسس لجامعة مؤتة في محافظة الكرك التي كانت تجربة فريدة في الوطن العربي حيث شارك المدنيون والعسكريون الأردنيون في انشائها وتسيير امورها. وهي الآن عضو في اتحاد والجامعات العربية واتحاد الجامعات الدولي ومقرّه في باريس.

ومن سنة 1989 الى نهاية 1993 عيّن رئيسًا لجامعة اليرموك في اربد. وبعدها عاد الى التعليم في قسم التاريخ في الجامعة الاردنية - عمان.

أعماله الفكرية

مؤلفاته تزيد على المئة. منها 14 كتابًا، و25 مشاركة في كتب، و63 في المجلاّت العلمية. كما شارك في حوالي 55 ندوة ومؤتمرًا.

أهمّ أبحاثه تدور حول الاردن وفلسطين وتاريخ العرب والقضايا العربية المعاصرة.

أهمّ مؤلفاته عن الاردن:

تاريخ الاردن المعاصر في عهد الامارة من سنة 1921 الى 1946.

العلاقات الاردنية البريطانية (1921 - 1957).

الفكر السياسي في الاردن (1916 - 1946).

ابحاث واراء  في تاريخ الاردن الحديث.

الحركة الفكرية في فلسطين وشرقي الاردن (1775 - 1925).

الديقراطية المقيدة، حالة الاردن (1989 - 1999).

وعن فلسطين:

العلاقات الالمانية الفلسطينة (1841 - 1945).

الفكر السياسي في فلسطين (1918 - 1948).

وفي التاريخ العربي:

الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة (1798 - 19124).

موقف فرنسا والمانيا وايطاليا من الوحدة العربية (1918 - 1945).

أبحاث في تاريخ العرب المعاصر.

المانيا والوحدة العربية (1945 - 1995).

فرنسا والوحدة العربية (1945 - 2000).

كما له إسهامات فكرية مميّزة في الشؤون العربية المعاصرة وفي طليعتها قضايا الديمقراطية والحريّة، التعليم والتربية ومحو الأمية، التضامن العربي والعلاقات الدولية، والعدالة والتنمية الإنسانية الشاملة، وغيرها من الأبحاث.

عضو في بعض هيئات المجتمع المدني الأردني ، وفي حركات ثقافية عدة نذكر منها : "المؤتمر القومي العربي"، المؤتمر القومي الإسلامي" وفي مجلس أمناء " مركز دراسات الوحدة العربية".

***

تكريم الدكتور علي محافظة هو تكريم للعلاقات الأردنية اللبنانية الصادقة، وتحيّة الى الفكر العربي المعاصر وقضاياه واتجاهاته الحديثة: فكر الحريّة والاستقلال والديمقراطية والتنوع والعقل والانفتاح والاعتدال والعدالة والوحدة والإبداع.

كما هو تكريم للعرب والعروبة والثقافة العربية المتجدّدة التي تعمل من اجل التوفيق بين الأصالة والحداثة، بين الديني والدنيوي، بين الشرق والغرب، والالتزام بالانفتاح وحوار الحضارات والثقافات من أجل تعزيز رسالة العيش المشترك المسيحي الإسلامي على صورة ومثال ما هو قائم في لبنان بشكل أساسي وفي الأردن أيضًا على رجاء ان تعمّ هذه الثقافة العالم العربي  خاصة والعالم كلّه عامّة، على أن يتمّ تطوير وتجديد وتقدّم وتعزيز هذه الصيغة الإنسانية الحضارية الخلاصية.

انه تكريم للمعرفة والعلم والثقافة التي بفضل أمثال عالمنا المكرّم أصبحت أولوية في الحياة، والشرط اللازم لتحقيق مسيرة الحريّة والتحرير والنهوض والتجدّد والتغيير في العالم العربي.

إن ثقافة المحبة التي هي خيارنا ودعوتنا ورسالتنا والتي نلتزم بها جميعاً مسيحيين ومسلمين، أمام الله والإنسان، في لبنان والعالم العربي، والذي أنت أيها الصديق الحبيب الدكتور علي محافظة أحد روّادها، تجعلنا نعتز بتكريمك إنساناً أردنياً عربياً، وعلماً كبيراً أمضى حياته في العطاء والبحث والكتابة والتعليم الأكاديمي وإدارة الجامعات والتربية.

إن التكريم الثقافي هو استنهاض لتحقيق النهضة العربية الجديدة التي لن تتحقق إلا من خلال المعارف وثقافة التغيير والتغيير بالثقافة والتربية والتعليم. فمن خلال تكريمك نوجه التحية إلى الجامعات العربية الرسمية والخاصة ، وإلى إداراتها وأساتذتها وطلاّبها والجسم الجامعي بكامله لأنه من خلال الجامعات سيولد العالم العربي الجديد، وتبنى مجتمعاته ودوله بذهنيات جديدة، وتتحقق فيه التنمية الإنسانية الشاملة.

شكراً للحركة الثقافية- إنطلياس رئيساً وأميناً عاماً وأعضاء وأصدقاء وإدارة على هذه المبادرة التكريمية الرائعة باسم الطيّبين والصالحين والمثقفين والأوفياء.

لسنين عديدة يا سيّد علي محافظة وأنت في تمام وكمال العطاء والصحة والعافية والتوفيق.

عاشت المملكة الأردنية الهاشمية،

عاش لبنان،

والسلام عيكم .


 

كلمة المكرّم الدكتور علي محافظة

أصحاب النيافة والمعالي والسعادة(1)،

سيداتي سادتي

        أسمحوا لي في البداية أن أشكر الحركة الثقافية بأنطلياس والصديق العزيز الأستاذ الدكتور عصام خليفة أمينها العام والدكتور أنطوان سيف أمين سرها، على هذا التكريم الذي ملأ جوانحي بالفرح والامتنان، وأسعدني مثلما أسعد جميع أفراد أسرتي. وسوف يبقى هذا اليوم الجميل ماثلاً في ذاكرتي ما حييت. يؤكد لي هذا التكريم عراقة لبنان العلمية وتفوق نخبه الثقافية في ظل الظروف الصعبة المعقدة التي يعيشها هذا البلد الشقيق، وفي ظروف التداعي التي تمر بها أمتنا العربية. ولا أخفي عليكم، أيها الأحبة، أن هذا التكريم يأتي مع بلوغي سن السبعين وانتهاء عملي في الجامعة الأردنية مع نهاية هذا العام الدراسي. وكالعادة كان الأخوة في لبنان سباقين في تكريمي على الأردنيين وغيرهم. وهذه اللفتة الكريمة من الحركة الثقافية بأنطلياس يقدرها المثقفون والأكاديميون العرب في كل مكان خير تقدير.

        أيها الأخوة،

        إذا كانت حال الأمة العربية تثير قلقكم وتحفز عقولكم على البحث عن أسباب التردي والتمزق والخضوع لقوى الظلم والبغي في هذا العالم، وعن سبل الخروج من هذا المأزق العظيم، فإن ما يثير قلقي وقلقكم وقلق الآلاف من المثقفين العرب، تدني مستوى التعليم في مراحله المختلفة في الأقطار العربية، وما يرافقة من تدن موازله في البحث العلمي في مختلف الميادين.

        لقد أكدت الدراسات التربوية العديدة وتقارير التنمية البشرية العربية، والمؤتمرات العربية التي تناولت التعليم ومشكلاته في الوطن العربي انخفاض المستوى التعليمي للشباب العرب في جميع المراحل التعليمية، وحذرت من النتائج السلبية لهذا الانخفاض على مستقبل الأمة. وقد بينت دراسة حديثة صادرة عن إدارة السياسية السكانية والهجرة في جامعة الدول العربية حول تطور منظومة التربية العربية من أجل تمكين الشباب أن معدل التحاق الأطفال الجدد بالتعليم الابتدائي في العام الدراسي 1999-2000 وفقاً لتقديرات اليونسكو هو 79% أي بانخفاض قدره 21% عما حققته الدول المتقدمة، و 3% عما حققته الدول النامية. وجاء في الدراسة نفسها أن نسبة الأطفال الذي ليس لهم أماكن في المدارس الابتدائية العربية تتراوح بين 20% و 33% ممن هم في سن التعليم الابتدائي، وأن نسبة الرسوب في هذه المرحلة 7% ونسبة التسرب 7%، وبذلك يحرم 14% من الأطفال العرب الملتحقين بالمدارس الابتدائي.

        صحيح أن كثيراً من الأقطار العربية حققت تحسناً ملموساً في محو الأمية، ولا سيما في أوساط النساء، غير أن نسبة الأميين ما تزال مرتفعة بين الفئة العمرية للشباب (15-24 سنة) وهي 36.2% بين الذكور و 64.2% بين الإناث. وترتفع هذه النسبة في مجموع الفئات العمرية من الأمة أكثر من ذلك.

        وتشير الدراسة نفسها إلى أن نسبة التحاق الشباب بالتعليم الثانوي هي 60% ممن هم في الفئة العمرية لهذه المرحلة التعليمية. وبذلك يحرم 40% من هؤلاء الشباب من التعليم. وتبلغ نسبة التسرب في التعليم الثانوي 7% بينما تبلغ نسبة الرسوب فيه 14%. ولا تتجاوز نسبة المسجلين في التعليم الثانوي الفني 10% من مجموع طلبة التعليم الثانوي.

        ولا تقتصر أزمة التعليم العام في الوطن العربي على عجزه عن استيعاب الطلبة، وإنما تمتد إلى البنية المعرفية والمناهج التعليمية التي تكون محتوى التعليم. وتبتعد هذه المناهج الدراسية عن الواقع الاجتماعي الحي، وتعتمد على العلاقة السلطوية بين المعلم والتلاميذ القائمة على التلقين وحفظ المعلومات، والابتعاد عن المناقشة والحوار والإبداع والرغبة في التجديد، بحيث يغدو الطالب عاجزاً ومرهقاً بواجبات مفروضة عليه من المعلمين، ومنشغلاً عن نفسه وتفكيره وفهم حياته الاجتماعية بأمور واهتمامات مثل العلامات (الدرجات) والنجاح والشهادة. ويتعلم الطالب أثناء العملية التربوية هذه الانصياع والطاعة وقبول ما يقوله الكتاب المدرسي الذي لا يثير في نفسه التساؤل والتفكير، بل يغرس هذا النمط من التعليم النزعة الأنانية الفردية في الطالب، ويقتل فيه الرغبة في المشاركة والتعاون والعمل الجماعي، ويقطع صلاته بأقرانه.

        لقد حاولنا في الأردن إصلاح التعليم العام وتحديثه سنة 1985. وتألفت لجنة هذه الغاية توليت رئاستها، درست اللجنة واقع هذا التعليم وما فيه من عيوب ونقائص وما يحتويه من إيجابيات. وقدمت مقترحات عملية شملت جميع عناصر العملية التربوية. وقد أخذت وزارة التربية والتعليم بجميع مقترحات اللجنة، بعد أن نوقشت في مجلس التربية والتعليم بإشراف سمو الأمير الحسن بن طلال، ولي عهد المملكة آنذاك، وأحيلت إلى مؤتمر التطوير التربوي الذي عقد لهذه الغاية سنة 1987. ولكن الوزارة لم تأخذ بمقترح مهم جداً وهو التخلص من المعلمين الضعاف غير الأكفاء الذي قدر عددهم آنذاك ب (27) ألف معلم ومعلمة. وكان اقتراح اللجنة إحالة (2700) من هؤلاء المعلمين على التقاعد سنوياً وعلى مدى عشر سنوات، واختيار معلمين أكفاء ليحلوا محلهم عن طريق المسابقة، وشريطة تدريبهم على طرق وأساليب التدريس الحديثة، ومتابعة تأهيلهم طوال سنوات الخدمة. لم تأخذ الوزارة بهذا المقترح واستبدلت به حلاً آخر، إذ أعدت برامج جامعية خاصة لهؤلاء المعلمين الضعاف لم يسعف في تحسين مستوى آدائهم. ومنيت هذه التجربة الإصلاحية بالفشل، وبقي التعليم العام متدنياً.

        أما التعليم العالي في الوطن العربي فلا يختلف كثيراً في مستواه عن التعليم العام، ويواجه تحديات كثيرة، وتعترض تقدمه عقبات كبيرة. ولعل أبرز هذه التحديات زيادة الطلب عليه، وارتفاع تكاليفه، وتغير حاجات سوق العمل، والتقدم التكنولوجي المتسارع، واعتبار المعرفة الثروة الحقيقية في المجتمع. هذا ناهيكم عن التحديات المتصلة بالأجهزة الأكاديمية والإدارية للتعليم العالي.

        تشير الإحصاءات إلى ازدياد أعداد الجامعيين في الوطن العربي من (173) ألف طالب سنة 1960 إلى (3.8) مليون طالب سنة 2000. ومن المنتظر أن يصل هذا العدد إلى (13.5) مليون طالب سنة 2015. واضطرت الجامعات بسبب هذا الإقبال الشديد على التعليم الجامعي إلى فتح برامج مسائية وبرامج التعليم الموازي، وبذلك تضاعفت أعداد الطلبة دون أي زيادة تذكر في أعداد أعضاء الهيئات التدريسية ورافق هذه الزيادة في أعداد الطلبة تدن في مساهمة الحكومات العربية في ميزانية التعليم العالي، ومحاولاتها التحلل التدريجي من التزاماتها نحوه. ولا شك أن تزايد أعداد الطلبة وانخفاض أعداد هيئة التدريس يؤديان بالضرورة إلى تدن في مستوى التعليم.

        وفشلت معظم الجامعات العربية في الاستجابة للتغيرات السريعة في سوق العمل. وبقيت تتبع نمطية في برامجها وتخصصاتها وفي خططها الدراسية وفي أساليب التدريس، كان من نتائجها أن اتسم خريجوها بالثقافة العامة السطحية، والعجز عن حل المشاكل. وعجزت معظم الجامعات العربية عن التحديات الأخرى السابقة الذكر.

        وظهرت الدعوات إلى إصلاح التعليم العالي في الوطن العربي وتحديثه، من داخل الجامعات العربية نفسها، ومن منظمة اليونسكو، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والمؤتمرات الرسمية لوزراء التعليم العالي العرب. وكنا في الأردن قد بدأنا ذلك سنة 1987، وتألفت لجان عديدة مختصة لدراسة الموضوع وتقديم المقترحات للإصلاح والتحديث وما زالت اللجان تتألف وتقدم توصياتها دون أن يؤخذ بمقترحاتها، وقد شاركت في العديد منها. واعتقد أن الأحجام عن الإصلاح يعود إلى عدم رغبة الحكومات في ذلك، إلى ارتفاع الكلفة المالية للإصلاح، والامتناع عن اعتبار هذا الإصلاح من الأولويات في برامجها.

        وما زالت الجامعات العربية تفتقر إلى آليات لتقويم أدائها انطلاقاً من تقويم أهدافها وخططها الدراسية، ومدى ارتباط هذه الخطط بالحياة المعاصرة والعلوم الحديثة، وتقويم أعضاء هيئة التدريس وإعدادهم المهني وتأهيلهم للتعليم الجامعي.

        وفي تقديري أن معظم الجامعات العربية قد فشلت في وظيفتها الرئيسية: التدريس بسبب النمط السائد فيه وهو التلقين الذي يعد استمراراً للتدريس السائد في التعليم العام. وقد لجأت إلى هذه النمط بسبب ازدياد أعداد الطلبة وقلة أعداد هيئة التدريس، ولأسباب أخرى تتعلق بكفاءة أعضاء هيئة التدريس أنفسهم.

        وافتقرت الخطط الدراسية في معظم جامعاتنا إلى التكامل والترابط فيما بينها، واتسمت بالتكرار والتداخل بين المواد أو المساقات. وأخفقت جامعاتنا في تطوير البحث العلمي لأسباب عديدة منها قلة المخصصات المالية، ونقص التجهيزات العلمية والتقنية، ونقص أعداد الفنيين المتخصصين، وتدني الرواتب، وثقل العبء التدريسي لأعضاء هيئة التدريس، وعدم توفر الحرية الأكاديمية، والعزوف عن عمل الفريق، والأنظمة والتعليمات الجامعية التي تعيق البحث العلمي، ناهيكم عن عدم توفر أعضاء هيئة التدريس القادرين على إجراء البحوث العلمية.

أيها الأخوة،

        تؤكد الأنماط الحديثة في التعلم على اعتبار الطلبة المحور الرئيسي للعملية التعليمية. ويقاس نجاح الجامعة بمستوى التحصيل العلمي لخريجيها وبمقدرتهم على تلبية حاجات سوق العمل، وتمكنهم من المهارات المطلوبة للمنافسة والنجاح في أعمالهم.

        مما لا شك فيه أن مستقبل الأمة مرهون بشبابها والأجيال القادمة، وإذا لم نوفر لهم التعليم المناسب لكي يشاركوا في بناء أقطارهم اقتصادياً واجتماعياً وثقافيا، ستتراجع امتنا، لا سيما وأننا نعيش هذه الأيام مرحلة خطيرة تهدد مستقبلنا وتنذر بأسوأ العواقب.

        لقد أشار تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني الصادر سنة 2003 إلى ضعف نشر المعرفة وإنتاجها في البلاد العربية. وحذر من نتائجه ومخاطره على مستقبل الأمة العربية. وتضمن التقرير رؤية استراتيجية لإقامة مجتمع المعرفة على أسس من أهمها: إطلاق حريات الرأي والتعبير وتنظيم المعرفة وإنتاجها ولا سيما نشر التعليم راقي النوعية، وإيلاء عناية خاصة للتعليم المستمر، وتعميم البحث والتطوير الثقافي في جميع النشاطات المجتمعية. ومنها أيضاً تأسيس نموذج معرفي عربي عام أصيل منفتح ومستنير، يقوم على العودة إلى صحيح الدين وتخليصه من التوظيف المغرض، والنهوض باللغة العربية، وإثراء التنوع الثقافي داخل الأمة ودعمه، والانفتاح على الثقافات الإنسانية.

        لا شك أننا نتطلع جميعاً إلى مثل هذه الرؤية الاستراتيجية التي لا بد وأن تندرج في إطار إصلاح مجتمعي شامل لم يعد يحتمل الإبطاء أو التباطؤ، وتشارك فيه القوى الحية في كل قطر عربي.


(1) الكلمة التي ألقاها الدكتور علي محافظة في حفل تكريمه من قبل الحركة الثقافية بأنطلياس في لبنان في 10/3/2008