تكريم اعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي

تكريم مرسيل خليفة

تكريم مرسيل خليفة

كلمة اسمهان عيد

على اسم لبنان، نبدأُ هذا الاحتفال بالنشيد الوطني اللبناني.

مُحبِّي مارسيل وأصدقائه

أهلاً وسهلاً بكم، في رحاب الحركة الثقافية- انطلياس، في هذه المناسبة العظيمة، مناسبةِ تكريمِ عبقريّةٍ فنّيةٍ لمعتْ في العالَمين، الشرقي والغربي. وجمعت المجدَين، مجدَ الموسيقى، ومجدَ الكلمة.

إنه علمُنا المكرَّم، الفنّان الكبير مارسيل خليفة.

(1)

أسمهان : ذات مساء، دخلتُ الهيكلَ خاشعةً أصلّي... فسمعتُ صوتاً عذباً ملائكياً، وأنغاماً شجيّة، فتساءَلتُ حائرةً... أهذه الأنغام أرضية، أم سماوية؟

أوهذا الصوت الذي ينقُلُكَ إلى فوق، هو صوتُ رجلٍ؟

وبينما أنا في هذه الحيرة سمعتُ صوتاً هاتفاً يقول لي:

        - ما بكِ يا ابنتي؟

أسمهان : عذراً أبتاه، لمن هذه الأنغام؟ ومن هو صاحبُ هذا الصوت؟

        - ألم تعرفيه؟

أسمهان : قد أتخيّلُ من هو، إنه ذلك الرجل الذي سحرته حورية الموسيقى

وداعبت أحاسيسه المرهفة نسيماتُ الألحانِ اللطيفة، وهزّته العواطف الإنسانية.

        - يعني إنه ليس رجلاً عادياً.

أسمهان : كلاّ يا أبي، إنه مُذ وُلِد، كان يتهلِّل للصلاة، ويترنّمُ للأنغام التي كانت تتراقصُ على شفتي الأمّ التي حملها أيقونةً في صدره، وغنّاها: أمّي...               
                                                            (أغنية)

 (2)

        - تابعي كلامك يا إبنتي

أسمهان : إنه إبن عمشيت تلك البلدة التي تغفو حالمةً على شاطئِ المتوسط، بعد أن تكحل عينيها بأجملِ لوحة خطّتها يدُ الخالق، مغيب الشمس!

وتغيب الشمس، ويبقى الفتى ورفاقه، يمرحون ويلعبون ويملأون الفضاء ضحكاً، 
وفرحاً، وأحلاماً.

          وكبر الفتى، وكبر الحلم، وما لبث أن صار شاباً، ثائراً، مناضلاً، عاشقاً للمستحيل.

          ولمّا كان المستحيلُ بعيداً آنذاك، تعثّر الحلم، فهجر الشابُ، بعد أن فقد الأمَّ الحنون، والبلدة التي كانت مسرحاً لأحلامه والوطن الصغير، وحمل غصن الزيتون وعودَه ومشى.

(3)

        - وهل توقّف الحلم؟

أسمهان: بل تفتقّت عبقريتُه، وظهر نبوغُه في الغناءِ والموسيقى والتأليف.

        - وما يحزنكِ إذاً؟

أسمهان: حاكموه يا أبي.

          أتصدّق أن هذا الرجل المرهف العاطفة، النقيّ الروح، الملتزم قضايا

          المعذّبين، يُحاكَم؟

        - كيف لوطنٍ أن يكون وطناً ويقدّم فنّاناً عبقرياً للمحاكمة؟ ما ذنبه؟

أسمهان: عندما مرَّ النسيمُ ولاعب شعره غاروا وثاروا    

                                                  (أغنية أنا يوسف يا أبي).

 (4)

        - وماذا بعد؟

أسمهان: أحبَّ وطنه، فتساءَل: لماذا يشوَّه هذا الوطن الجميل؟

                               لماذا يُذبح؟

                            لماذا يموت الأنقياء وينتهون إلى صمت الحفر الباردة؟

                            هل كلّنا شهداء؟

                                                        (أغنية تصبحون على وطن)

(5)    هذا العاشقُ، القلقُ، الثائرُ، المفكّر، صائغ النثر الجميل،

        المؤلِّف الموسيقى الذي لا حدَّ لإبداعه، من يشبه؟

         إنه هو!! لا يشبهُ إلاّ نفسه...

         فاسمع قليلاً من هذه السمفونية العظيمة التي سمّاها شرق.       
                                                      (موسيقى).

(6)    - هل هذا كلّ شيء؟

        كلاّ! يقول، بأنه في نزاعٍ معك يا الله.

        - مَن كانت هذه مزاياه، لن يكون أبداً في نزاعٍ مع الله، إنه في قلبِ الله.

(7)

        - هل من بعد؟

        الحصادُ كثير، كثير ويداي صغيرتان...

        - وانقضى المساء، وجاء وقتُ الرحيل، وكانت الأنغام ما زالت تتصاعد، فاجتاحتني رغبةُ البقاء لأتعرّف أكثر على هذا العَلَم الكبير، والفنّان المبدع مارسيل خليفة.  

           وقبلَ أن أترك الكلام لمن لديه الكثير، ولرفيقِ العمر الأستاذ جورج مهنا، لا بدّ من الإشارة إلى عمقِ الرباط الروحي الذي يجمع الصديقين الموسيقيّين مارسيل وجورج.

        الأستاذ جورج مهنا، أستاذٌ جامعي، منسّق اللغة الفرنسية في مدرسة سيدة اللويزة، ومسؤول قطاع الفنون في مدرسة عينطورة، عازفُ كمان، وله مؤلّفٌ في الفنّ التشكيلي.

        ماذا يقول عن رفيق العمر مارسيل؟  - (جورج مهنا...)

        صاحبةُ صوتٍ منفرد، والتزامٍ نادر، رافقت علَمَنا الكبير لأكثر من ثلاثين سنة، جاءت تحيِّيه في تكريمه، إنها السيدة أميمة الخليل السبليني فلتتفضّل.        (أميمة الخليل السبليني...)

        الموسيقى لغةُ النفوس، وحديثُ القلوب، تشاطرنا أفراحنا، وتقومُ كالشاهدِ في أيام مسيرتنا. وما الموسيقيّ الكبير وعازف العود الشهير الفنّان شربل روحانا وفرقتُه الموسيقية الرائعة إلاّ شهودٌ على مسيرةٍ موسيقية زاخرة بالحبّ والعطاء فجاؤوا يحيّون عَلَمنا بحبٍّ كبير ويُحيُون الحفل بأنغامِ موسيقاه، وهم السادة الموسيقيون:

شربل روحانا، عود

انطوان خليفة، أخ المكرَّم، كمان

ايلي خوري، بزق

علي الخطيب، رقّ

عبدو السعدي، باس

الكلام لعلمنا المكرَّم مارسيل خليفة، فليتفضّل

شهادات:

        من تقاليد الحركة الثقافية الشهادات، والشهادات تكون عادةً ممّن عرفوا المكرَّم جيداً.

لدينا ثلاث شهادات:

        الأولى: شهادة من الأب ايلي كسرواني وهو مؤلِّف موسيقي، بروفسور في جامعة السوربون، وجامعة سيدة اللويزة، وواضع البرنامج الجامعي ميوزي- ميديا- لوجي، فليتفضّل.

        الثانية: الكاتب والأستاذ الجامعي ميشال معيكي.

        الثالثة: الأستاذ الجامعي انطوان سيف.

        هدية الحركة:

نطلب من الأمين العام الدكتور عصام خليفة للتفضّل على المنبر لتسليم شعار الحركة للمكرَّم مارسيل خليفة.

        هنيئاً لكم يا عَلَمنا المكرَّم مارسيل خليفة عرش الموسيقى

        فتاجُكَم مرصّعٌ بالحبّ، وصولجانُكم مرسومٌ بالقلوب.

        دمتم ترفلون بالعزّةِ والمجدِ، والإبداع والصحّة.

        وهنيئاً لكم تكريمكم

        فأنتم تستحقّون تكريمَ العالم بأسره.

شكر:

        نشكُرُ حضورَكم، كما نشكر كلّ الذين ساهموا في إحياء هذا الحفل، وأخصّ بالذكر الأستاذ جورج مهنا والسيدة أميمة الخليل السبليني والأستاذ جورج روحانا وفرقته الموسيقية، وكلّ ما ساهم في إحياء هذا الحفل.

        نلفت نظر محبِّي مارسيل إلى أن اسطواناته موجودة على المدخل وسيوقّع عليها لمن يرغب.


 

تكريم مرسيل خليفة

كلمة الأستاذ جورج مهنّا

أوّل الكلام سلام وأشرف السلام على الثقافة قبلةً ومحجّةً ونبع نورٍ ونار، نهتدي بشعلة آلها وصحبها، ونكتوي غير تائبين بنار الخائفين منها، الحاقدين عليها... ونعوذ بالحرّية الفكريّة من مقيمي الدعاوى على رسلها وأئمّتها، ومحوّلي شهودها شهداء.

أيّها السيّدات والسادة،

قمّة الإحراج أن يُعهد إلى أخٍ بتكريم أخيه!... كيف الولوج إلى الدُّرج السرّي للذاكرة، أو تعدادُ النجاحات والإنجازات، من دون أن يُخدَش خفرٌ أو يُربَك تواضع؟... حتماً لكنت تهيّبت الكلام، لولا تصميم الحركة الثقافيّة على جعل لقاء اليوم مسكَ ختامٍ لمهرجانٍ عريق تكرّمُ فيه الإبداعَ من خلال تكريم المبدعِ والثقافةَ عبر تكريم المثقّف.

أخي مرسيل،

أنظُرْ من حولك وحدّق في عيون محبّيك. وزِد أوسمةً على ما تكتنز جعبتك من أوسمةٍ وشهاداتِ تقدير ومفاتيحَ لأعرقِ مدن الأرض. وإذ يستحيل عليّ تقليدُك كلَّ هذه الأوسمة، وتحميلك كلَّ هذه الشهادات والمفاتيح، سأختصرها بشهادةٍ واحدةٍ ووسامٍ واحد... أمّا المفتاح فهو الذي أتيتُ به أنا، ليسَ إليك، وإنّما للحاضرين.

شهادة الإعجاب والتقدير أوّلاً، نمنحها لصاحب المشروع الموسيقيّ الرصين المنطلق من تراثٍ على أُفول، دونما تنكّرٍ له، إلى أفقٍ أبعد ومدىً أوسع، سابراً إمكانيّات هذا التراث على التفاعل مع ما هو أرحب من المحيط المباشر، مستعيناً بكلّ تقنيّةٍ، بكلّ مهارةٍ، بكلّ كفاءةٍ تمكّنُه من تحقيق مشروعه. تظهر جدّية هذا المشروع الموسيقي في ثلاث:

* موسيقى الأغنية      * التأليف الموسيقي الصرف (أي المستقلّ عن الكلمة)  * الأكاديميّات

نحيّي أوّلاً التقاء الأصالة والتجديد في موسيقى أغنيات خليفه وغنائيّاته. من "ريتا" و"جفرا" و"أمّي" و"جواز السفر" إلى "قالوا مشت" و"مرّ القطار" و"أمرّ باسمِكِ". بالطبع، لن أنبريَ الآن لدراسة أكاديميّة محترفة لهذه الموسيقى، إنّما سأسلّط الضوء على أمرين: الأمر الأوّل هو أنّ مرسيل خليفه ليس ملحّناً، بل مؤلّف موسيقى أغنية.

توضيحٌ سريع: هناك ثلاثة خياراتٍ أساسيّة في تعاطي الموسيقي مع النص، تماماً كما السينمائيّ مع الرواية المُزمع نقلُها إلى الشاشة.

إمّا أن يلحِّن، أي أن "يقلّد" أو أن "ينقل" بالموسيقى وبأمانة ما يقوله النص (Système analogique)، فيُقلِّدُ الصوتُ والآلاتُ تغريدَ عصفورٍ أو أنّةَ معذّبٍ وَلْهان، ويُسنَدُ للناي في التوزيع مرافقةُ تعبير "غنجة النايات" أو "منجيرة الراعي" ألخ... وهذا ما لم يفعله خليفه حتّى في زمن البدايات.

وإمّا أن يخلق بين الموسيقى والنص المختار علاقةً جدليّة فيها تواصل، تساؤل، محاورة، مداورة، توزيعُ أدوارٍ وتواطؤٌ جميل، بحيث لا يعودُ هناك نصٌّ وموسيقى، بل تأليفٌ متناغمٌ متكامل من نصٍّ وموسيقى معاً... وهذا ما سعى إليه وحقّقه مرسيل في تعاطيه مع أكثر النصوص التي اختارها والتي تتيح هذا النوع من التعاطي، كقصائد محمود درويش وأدونيس وشوقي بزيع وطلال حيدر وأنسي الحاج وغيرِهم.

وإمّا (النمط الثالث) فأنْ يستعملَ الموسيقيُّ النصَّ ليقول شيئاً جديداً، ربّما أمتن، أشمل، أكبر، أعمق... وهذه هي الحال في موسيقى مرسيل لدى تناوله كلماتٍ تراثيّة بسيطة، كـ"الحنّة" مثلاً، ليؤلّف موسيقى تتخطّى بساطةَ الكلمات وعفويّتها.

الأمر الثاني الذي سأسلّط الضوءَ عليه هو شعبيّة أغنية مرسيل، بعكس ما يردّد الستار أكاديميّون والسوبر ستاريّون والفيديوكليبيّون. نعم! شعبيّة هي، وبامتياز، أغنية مرسيل خليفه (من منطلق أنّ "الشعبيّةَ"، سمةَ الرجل الملتزم، غيرِ المستخفِّ بالناس، هي نقيضُ "الشعبويّة" آفةِ الفنّ والسياسة على السواء)...

"الناس بدُّن هيك"، قال!!! كفى احتقاراً للناس يا بعض بيّاعي الصوت والصورة!!! إنّ الشعبيّة الحقيقيّة هي في احترام المتلقّي، أيًّا تكُنْ وظيفتُه أو مستواه العلمي... وقد نجح مرسيل خليفه، بواسطة موسيقاه، لحناً وإيقاعاً وتوزيعاً، في جعلِ أصعبِ النصوص الشعريّة أو النثريّة الحديثة أغنياتٍ بمتناول كلّ مواطن. وبالمقابل فقد ارتفعَ بالكلامِ الشعبيّ البسيط إلى شفة المثقّفين المتطلّبين...

أبي المزارع البسيط يغنّي بفضل موسيقى مرسيل شعراً لمحمود درويش وموسى شعيب وشوقي بزيع... وأصدقاء لي جامعيّون، مثقّفون، باحثون يرندحون "يا بحريّي هيلا هيلا" و"حطّ الدبشي يا صلاح" و"عصفور طلّ من الشبّاك".

نحيّي ثانياً مؤلّفَ الموسيقى الموسيقى، غيرِ المرتبطة بنصّ: تأليف لآلة منفردة، جدل بين آلتين أو أكثر، كونشرتو، تأليف أوركسترالي، موسيقى اللوحات الراقصة، موسيقى الأفلام... السّمةُ الأساسيّة لهذه الموسيقى هي الانتماء والأصالة على صعيد اللحن (le thème mélodique)، من دونِ أن يكونَ هذا الانتماء تزمّتاً أو تقوقعاً... إذ أنّ معالجةَ هذه الميلوديا، وهي شرقيّةٌ شرقيّة، أعيدُها لطمأنة الخائفين على الهويّة والانتماء والتراث الأصيل، هي معالجةٌ متجدّدة من حيثُ اعتماد التوسيع (développement du thème)، والتنويع (la variation)، والتوزيع (l'orchestration)، والتلوين المرتكز على نبرة الآلات (coloration par le timbre)، من الكمنجات والوتريّات الأخرى على اختلافها، إلى الـCors، إلى الـClarinettes، والـBasson، والـHautbois، إلى الإيقاعيّات... هذا التعاملُ الرصين، المتطلّب، الوفيّ للتراث، والمنفتح على كلّ بشرِ الأرض، يجعل من هذه الموسيقى، المشرقيّة المنبع، عالميّةَ البعد وجسرَ عبورٍ وتفاعل بين حضارتنا وسائر الحضارات الأخرى. يكفي للمثال بأن نستمع إلى "كونشرتو الأندلس" و"شرق" أو موسيقى "المسافر".

ونحيّي ثالثاً، في مشروع خليفه الموسيقي، الأكاديميَّ الأستاذ وفاتحَ الآفاق الجديدة والإمكاناتِ التقنيّة لآلةِ العود، أمام الطلاّب المتقدّمين والعازفين الكبار، وهو في هذا المجال أيضاً، مجال العزف والأداء، أحدُ كبارهم. يكفي أن يلمس هذا الرجلُ ريشةً أو أن يداعبَ وتراً لينزلَ سحرٌ على الدنيا.

غير أنّ مرسيل الموسيقي لم يكنْ ليبلغَ هذه الذروات لو لم يكن في الأساس مثقّفاً جريئاً حرًّا يعرفُ أيَّ نصٍّ يختار. وعلى صدر هذا المثقّف يعلَّقُ وسامٌ لم تَرَهُ عينُ رئيسٍ ولم يُصَكَّ في أيّ قصرٍ أو بَلاط. وسامٌ يهديه مرسيل بدوره إلى "جفرا" الآتية من أرصفة الشهادة المتاحة للجميع، إلى الأمّ التي نحنّ إلى خبزها وقهوتها، إلى دم "مَهدي" المهدور باسم حصريّةٍ لم أفهمْها يوماً، إلى "أيمن" وفرحِ الغاباتِ الساكنِ في عينيه، إلى أطفال قانا، إلى سمير قصير ودمِه الذي سيشعل ورداً أحمرَ في قفارٍ لا تنبتُ إلاّ أفاعي وخناجر وسجوناً لخيرةِ مثقّفيها.

تحيّةً أيضاً إلى مرسيل المثقّف الملتزم. كنّا دون العشرين يوم قال لي: "كيف يمكن أن يُقتلَ شعبي، أن يُستَغَلّ إخوةٌ لي، أن يحجَّبَ في موطني عقلُ امرأةٍ وإحساسُها، أن يُهدَمَ بيتٌ، أن يُحرَقَ حقلٌ، أن يُخنَقَ صبْحٌ وأن أتفرّج؟ سأغنّي وجعَ الزجاجِ على كلّ رجلٍ ينكسر". خِفْتُ عليه يومَها من سلبيّات الالتزام، لكنّه عرف طوال مسيرته كيف يتحاشى الوقوع في الفخ. التزم وظلَّ حرًّا. لم يُسخِّر أغنيته لأيّ زعيم، ولم يُعطِ صَكَّ براءةٍ مسبقٍ ولا وكالة عامّة عمياءَ لأقربَ الإيديولوجيّات إلى عقله.

ويومَ سقطت رهاناتٌ وأحلامٌ كبيرة وقام في الدنيا نظامٌ عالميّ جديد، تصرّف كما يليق بالمثقّف: في وجه عولمةٍ تدمجُ الأضدادَ مادياً وتربطها اقتصاديًّا وأحياناً تفكّكها اجتماعيًّا وثقافيًّا - ومن حولنا أسطع برهان - لم يلُذ بالانكفاء أو بالتقوقع، بل اختار الانفتاح. تماماً كما فعل إدوارد سعيد وأمثاله من قبله.

ويوم فاض الخيرُ في منطقتنا وأثمرَ مشاريعَ فنّيّة متعدّدة، فُرِزَت تلقائيًّا الخيارات الثقافيّة لدى عدد كبير من الفنّانين اللبنانيّين والعرب. فمنهم من شدّ الرحال صوب برقٍ خُلَّبٍ على صهوةِ فنٍّ غيرِ رباعيِّ الدفع، فتخبّط في الرمال وأنتج قحطاً وغباراً كثيفاً لم تغطِّهِ الملابس والأضواء والأكسسوارات، بينما كان لفنّانين آخرين، لبنانيّين وعرب، خيارات ثقافيّة أخرى أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر برهان علويّة الكبير في سينما متواضعة التمويل، ومن المسرحيّين جواد الأسدي وكميل سلامه، وفي الموسيقى مرسيل خليفه الذي تجرّأ، ومن البحرين تحديداً، على كتابة موسيقى ترقص عليها الأجساد بحرّيّة لا خبثَ فيها ولا رياء. ليلى تحبُّ قيساً ليس كما علّمونا في كتب الأدب العربي. ليلى ترقص على موسيقى مرسيل كما يحقّ للمرأة العاشقة أن تبوح بعشقها رقصاً. امرأةٌ لها نهدان وعنق وشعر وخصر وردفان، تقول بجسدها:

"أتخيّل وأنا في حضنِك، تداعبُ يدُك خصلةً من شعري تموّجت فوق كتفك. أيَّهُمُ عَرَقُكَ، وأيَّهُمُ عَرَقي، هذا الذي يلمعُ فوق جسدينا؟ لكن... هل سبقَ لَكَ أن أغمضت عينيك وتنشّقتَ عشباً فوّاحاً؟ إنحنِ وقبّلني وأنت مُبتلٌّ بالحبّ والخمر.

إرحلْ آمناً في العناقيد، هزّ رأسك قليلاً وافتح عينيك الآن وأجبني: هل دخلت مملكة الصوفيّين؟"

هذا ما قالته ليلى برقصها على موسيقى مرسيل خليفه فأقامت الأرض في البحرين ولم تقعدْها إلى الآن، وقضَّت مضاجعَ عُرْبِ وأدٍ يأبَون الفنَّ إلاّ سلفيًّا ملجوماً مخصيًّا مختوناً مخفوداً... أو مهوشلاً على ظهور الخيل.

مرسيل خليفه مثقّف مقاوم بأرقى أشكال المقاومة، وأكثرها فاعليّة، أي المقاومة الثقافيّة الحرّة، محقّقة النصر البشري الأسمى، أشرف كلِّ الانتصارات.

وأخيراً المفتاح الذي أردتُهُ هديّةً للحاضرين. مفتاحُ علبةٍ احتفظ في داخلها بمئات النصوص لمرسيل خليفه منذ كنّا في الثامنة عشرة وحتّى البارحة، وكلام ليلى الذي قرأته للتوّ هو أحد هذه النصوص. نعم، أيّها الأصدقاء، إنّ مرسيل خليفه الموسيقي هو أيضاً أديب متميّز، نثرُهُ صافٍ لمّاع كما أوّل الجدول عند آخر الثلج. لن أُذبل ياسَمينَ كلماتِه ناقداً. أكتفي بنقلِ سحرها قاطفاً لكم جَرَساً واحداً هو رَجْعُ حوارٍ بين السماء والأرض:

تقول السماء: "لي صباحٌ تقوده الطيور."

فتردّ الأرض: "لي رقصُ الغزالِ وزركشة الأطفال."

توشوشُها السماء لتستفزَّها: "أعرف سرًّا عن الله!"

تكافئها الأرضُ بابتسامةٍ ماكرة: "أنت وهو تجهلان نكهةَ الطين حين يرتدي الماء."

صديقي مرسيل،

بقي عليّ أن أنقلَ إليك شوقَين تخلّفا قسراً عن الاحتفال:

شوق العصافير التي لاحقَت كفَّك على باب المطارِ البعيد. تطمئنُكَ هذه العصافير بأنّ كلّ عسسِ الأرض لن يستطيعوا إسقاطها من جواز السفر؛

وشوقٌ آخر آتٍ من وراء ستارة المسرح، هو شوق الأحبّة "وإن غابوا فقد حضروا"... طيفٌ من أطيافِهم يدندنُ لكَ متحدّياً العتمةَ والبردَ والعَدَم: "صديقان نحنُ... إلى أن ينام القمر".


 

كلمة الأستاذ مرسيل خليفة

(حين بكى الطفل وأراد ان تقطف له أمه القمر... أتت بدلوِ الماء وصوبته الى السماء، مد الطفل يده الى الماء فانكسر القمر. ضحك الطفل ثم نام)

صحيح أن الولد ضحك ثم نام. أما أنا فبقيت ساهراً ألملم تناثر القمر على وجه ذاكرة تموج كالماء الهارب من الولد، ليغطي مساحات شاسعة من الزمن، يصبح ماء الدلو جدولاً، نهراً، بحراً، ضجيجاً، غناءً، رقصاً، سُكراً، عرساً، وجعاً، ناراً. تصهر كل ما قسا فيَّ وتحجر وتعيده نقياً مثل قربانة أولى أو قبلة أولى.

أصدقائي،

علّني أجد معكم اليوم مقعداً للحنين على وقع تكريم الحركة الثقافية بإنطلياس. هل ما زلنا قادرين على الحنين؟ ورؤية المستقبل الغامض؟ (أحبه دائماً غامضاً!!).

وأعود إليكم، أعود إلى ذاتي، أعود إلى مدينتي لأركب ما تفكك في النفس والزمن، رغبة في التعبير عن فرح غامض، عن سعادة ما، وسط هذا الظلام الدامس، علّنا نستطيع أن نغيّر هذا العالم ونستبدل فوضاه: بالإيقاع والموسيقى والشعر والحب.

لقد قلبت المدن صفحة صفحة، ففي الموسيقى أيضاً غربة، وأعود لألتقي بكم ولأعوض عما أفتقده هناك في البعيد البعيد:

"مطر أول على بيادر وحقول ضيعتي القريبة من هنا، لأسترجع العطر الطيّب للمطرة الأولى على الأرض العطشى ولأتذكر أمجادي الأولى يوم بنيت ممالك على ضفاف السواقي في عمشيت وحمَلَتْها الفصول الى أسفل الأودية".

وتلك الطائرة الورقية التي كانت تجذبني الى الفضاءات الواسعة، وياما انتظرت هبوب الريح الغربي لأتلاعب بها. وكنت أخاف ان ترميني من علوّ شاهق وتتكسر رقبتي من قلة درايتي بقيادة الطائرات الورقية في تلك الهضاب الصغيرة حيث رائحة الحبق والزعتر والنعناع والتراب وحديث القصب المزروع على الحفافي ينبت "نايات" صادحة على بحة "صبا" و "نهوند"...

وذلك الشاطئ الأزرق، أهرب إليه من الحر والدرس، مع القصبة الطويلة والسلّة الصغيرة، وقبعة "الفلين" تغطي رأسي من لطعة شمس حارقة، أترقب اهتزاز القصبة ولطالما أرهقتني الاهتزازات الكاذبة، واثارت أعصابي. بعدها تروح اصابعي، تفْتِلُ برشاقة قطعة عجين صغيرة حول الصنارة. لأقذف القصبة مجدداً. أضغط بسبابة يدي اليمنى على الخيط وبصري يسبق الرصاصة الى الموضع، هناك في الوسط على الصخرة الكبيرة قرب مغارة (البابور) حيث الفقاقيع البيضاء.

أتذكر أيها الصبي كيف كنت ترافق فرقة "النَوَرْ" تطبّل وتغني وترقص معهم حتى صباح الليل تُسلطّن مع "بزق" سعيد النوري وتتحمس لتلك النورية الساحرة ولرقصتها تخطف بصرك. وكان البزق يدندن لها ولكنها تختار ايقاعك، كما لو انها ستقع بين يديك. جمال راقص يكمن في تكامله وجسد عابر مذهل بحسنه يتماوج امامك. وكنت تصرخ بصوت عالٍ: آه تلو الآه.

"لو في جنة الله ساحرة متلك لكنت صدقته"

وذلك القبو العتيق تحت بيت جدك "يوسف": تدخل وتدوس ارضيته اللماعة، السوداء، والتي لبّدها شحم السنين. خيوط العنكبوت تغطي السقف وقد التصقت بها فراشات وحشرات أخرى. "درنبكة" في احدى الزوايا المعتمة تنتظر قدومك.

يسمع جدك الجلبة، ينزل الى القبو مسرعاً ومغتبطاً، خطوة خطوة، نقرة نقرة، يعمّر اغنية. تنزل بعد حين جدتك "عفيفة" غاضبة وتفتعل خناقة مع جدك: "والزغر يا يوسف ما عاد يلبقلك لا الخلع ولا الغناني"... وكان جدك الطيّب يبتسم لها. يروّض مزاجها الحاد. يدعوها للرقص فتمانع. وبعد غمرة حنونة تدخل في الأجواء المطربة. وظلّت جدتك عاتبة على جدك لأنه ترك كل شيء في عز فتوته ولحق بالراقصة وردة العمشيتية الى الاسكندرية. يلعب لجسدها الممشوق على طبلة مدوية وناي منتصب.

جدك لحق بوردة الى مصر لتلهمه ولتضرم حماسته يتطلع الى عينيها العسليتين فتتأجج موالاً وانغاماً ورقصاً. يضرب الأرض بقدميه ويشيع الحب والدفء في القلوب عندما كان يترك آلاته ويشارك وردة رقصتها المدوية على ايقاع طاولات السهيرة.

كيف كان لجدك الصمود امام اللون الأسمر والمشية الراقصة والجمال المتلوي لفاتنة البلدة.

نعود أيها الصبي الى ركن القبو حيث أكب جدك على شبّابته وراح يعزف بصوت خفيض وانت ترافقه على "الدرنبكة" وفي تلك الوصلات البيتية كان جدك قد شاخ كثيراً وتهدّل حاجباه فوق عيونه.

ولم يعد باستطاعته النفخ لساعات فينهي الوصلة، بعد ان يعلّق شبابته بمسمار مثبّت على الحائط بالقرب منه ليأت عندها دور الفونغراف العتيق الذي أكل الدهر عليه وشرب مع اسطوانات كبيرة وسميكة "بيضافون كومباني" الأستاذ محمد عبد الوهاب- يا جارة الوادي وتبدأ الخشة ترافق مطربة الملوك والأمراء بمجرد وضع الابرة على الاسطوانة ويستعيد جدك ايام زمان وينطرب ويسبق على عبد الوهاب وبطبقة صوتية أعلى: لم أدر ما طيب العناق على الهوى حتى ترفق ساعدي فطواك.

تنتهي الاغنية وجدك يسلطن على - لم أدر - تطيب له ، حتى يبحّ صوته فتعود وتضع الابرة من جديد لينسجم بنقرات العود المحببة لديه.

أتذكر أيها الصبي عندما دخل العود الى البيت الصغير في حي "العربة" كان عيداً حقيقياً يوم وصوله مع صديق والدك الذي كان يعمل سائقاً على طريق بيروت - دمشق وبعد ان انتظر الجميع "انطون" اسبوعاً كاملاً ليعود من مشواره الطويل. وكاد والدك يفقد صبره بسبب تأخره وخصوصاً انه دفع سلفاً ثمن العود.

لم يستفرد بك العود المجنون وانما فتك بك وافناك من شدة الولع. وذلك الوتر الناعم الملمس كجسد المرأة الطالعة من لهفة الحب. أوتار مزدوجة، متجاورة، متدفقة في العرض مثل المدرج الموسيقي. تتلاعب عليها من الجانبين بالريشة والأصابع. تجرحها، تداعبها، تحن عليها. تفترسها بشفير الريشة المسنونة المتحكمة في لقاء الأوتار والأصابع تتوغل بالريشة نحو الأعمق. أوتار من قصب وحرير تغور في الأعماق نقر على وتر النوى فيتبعه الصوت ويتبعه الصدى والعود في رهافة وسطوة يتقدم. رنة ذائبة في نقرة تخرج من داخل واحد الى دواخل لا تحصى، والعود الملتهب العاشق تختلط فيه حدود النقرة مع حدود النغمة.

وكنت تتساءل؟ كيف تسنّى لتلك الغابات ان تنبت كل هذه الأشجار وتصبح مخلوقات فاتنة كالعود.

أتذكر كيف كنت تقف بقامتك الصغيرة قرب حافة الدرج الطويل المؤدي لبيت "كريستوف كرم" لترى الأخوين رحباني في زيارتهما السنوية لذلك البيت العمشيتي الذي يشبه المعبد. تتهامس ورفاقك الصغار عندما تلمح وجهاً من وجوه هؤلاء المدعوين: عاصي، منصور. كنت تحاول ان تحييهما متهيباً، إذ انك كنت شغوفاً بحبات النغم وتعرف ايضاً مقام الرجلين.

ومرة عزفت امامهما بعدما تلقيت دعوة من صاحب البيت. وعندما دخلت تفركشت بالسجادة في وسط الدار. ونجوت من سقطة ملعونة كانت ستقضي عليك وعلى العود. احمرّ وجهك خجلاً، تمالكت نفسك وعزفت امامهما وانت ترتعش ومضيت مسرعاً الى وجه امك لتراه مشرقاً يحرضّك على اجوبة لأسئلة كنت تقرأها في عيون "ماتيلدا" تخبرها عن اطلالة منصور وابتسامة عاصي وتخبرها عن تهيبك أمامهما. فتذكرك بأن لك موعداً مع استاذك فريد غصن في المعهد الموسيقى.

رحلت امّك في ريعان شبابها (أحن إلى أمي وخبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي) "ماتيلدا" كانت قصيدة جميلة.

أتذكر ملامح ذلك المراهق في بداية عشرينياته يصغي بشغف الى رجل نحيل، رياضي، واثق من نفسه يتكلم بحرارة لا توصف عن عمل موسيقي راقص يعدّه لفرقته الناشئة آنذاك. كان هذا الصبي شديد الحماس ليقينية هذا الرجل بضرورة عمل شيء جديد في موسيقى الجسد. ومع قلق الرجل بعدم معرفة قدرة الصبي على تحقيق الفكرة، إلاَّ أنه سارع الى الاقتناع به بعد أن حقق بوقت قصير لوحة موسيقية كاملة.

وتعالت الموسيقى في 13 نيسان لسنة 1975 في مسرح قصر الاونيسكو بيروت موقعة باسمك الفني - الناشئ - لعجايب الغرايب لفرقة كركلا ولكن لم يكتمل الفرح مع تلك الليلة. وكانت بيروت قد دخلت في الظلام. واصيبت الراقصة الأولى "أميرة ماجد" برصاصة اخترقت ظهرها واقعدتها مدى الحياة.

اما زلت تذكر نظرة حنان ميشال والدك كيف بدت جليّة وواضحة نظرة سرقها وانت تهم بالرحيل. تطلعت خلالها عيناه صوبك، إذ كنت على سفر وهروب من المنطقة الشرقية في بداية الاحداث. بدا يومها ميشال هادئاً وديعاً. لكنه كان يخفي قلقاً على المصير من حرب ضروس تأكل الأخضر واليابس.

لم تعرف وجه ميشال بهذا الحزن العميق وخاصة عندما دمعت عيناه وتموجت نظراته. غبت وظلَّ نظره معلقاً في اتجاهك. يومها لم تتطلع الى الخلف رغبة في الهروب مما لا يمكن إدراكه واستيعابه من هذا البعد القسري الفاضح.

وفي صباح باكر من شهر آب لسنة 1976 سجلت "وعود من العاصفة" مع شركة الغناء في العالم بباريس وصدرت اسطوانتك الأولى وأول تظاهرة لهذا العمل كان على خشبة الجناح اللبناني في أوائل ايلول 1976 وفي احتفالات جريدة "الانسانية" الفرنسية بالقرب من بسطة للحمص والفول والفلافل.

لم تكن ومنذ البداية لا الصورة ولا الايقاع ولا الجملة ولا القصيدة ولا الادوات ذاتها ولا المفاهيم ذاتها.

لم تكن لديك رغبة في معرفة المستقبل بالوضوح الحديدي الذي تسلح به السابقون.

انه وضوح يضاهي قيداً لا يرحم. وكان من حق الآخرين المحافظين ان يسموا هذا خراباً فربما حلى لك ذلك ولم يستطيع احد منعك او ثنيك عن فعلتك.

بدايات غامضة لتشير الى ذهاب نحو مستقبل اكثر غموضاً مستقبل لا يزعم الثبات ولا يتطلبه.

أصدقائي:

أحسب ان هذا التكريم الذي أحظى به منكم تكريم للبنان الوطن، لبنان الانسان والحرية والثقافة والابداع والجمال. انا، في النهاية سليل هذه التربة والماء والهواء وابن هذه المعاني كلها التي تشربتها منذ الطفولة وانتهلت من ينابيعها وصقلت وجداني.

لقد علمني وطني ان ادافع عنه: ضدّ العدوان الاجنبي، وضد الفساد والاستغلال وقمع الحريات. وحاولت ان أكرّس فني لهذه القيم والاهداف ولم ابرح سلوك هذا السبيل حتى اليوم على الرغم من ان التجذيف الصعب ضد تيار اليأس والفساد والقذارة بات ضرباً من الممتنع او يكاد في هذا الزمن المحروس من الأمل.

أنا سليل هذه المعاني كلها، لكني اليوم حزين أيها الأصدقاء. فأنا أراها الآن تتهاوى تحت معاول هدم جماعي يأتيه من تناقص منسوب لبنان في انفسهم، أو من أخذتهم مصالح القبيلة والعشيرة والطائفة والعائلة بعيداً عن الوطن. وليتها اخذتهم عنه فحسب كان الأمر هان حينها وصغر، لكنهم - بكل مفردات الأسف - يأخذون الوطن معهم الى حتفه كأنه ليس لهم، كأنهم ليسوا منه! كانوا دائماً مختلفين (حتى حينما يتعرض الوطن للخطر!) وكان يسعهم ان يظلوا على سجيتهم مختلفين الى ما شاء الله.

لكنهم لا يملكون ان يغرِّموا شعباً بأكمله بخلافهم ولا ان يدقّوا الأسافين بين ابنائه، فيمارسون الضغط على تماسكه الوطني نيابة عن غيرهم حتى وان لم يدركوا انهم يفعلون ذلك.

انا غاضب ايها الأصدقاء إذ أرى وطناً يتمزق وشعباً يستنفر بعضه ضد بعضٍ وساسةً يتلهون بلعبة الانقسام وقيماً نبيلة تداس وعذاباً انسانيا يتضاعف وشقاء اجتماعياً يلد اليأس، ومبادئ تباع وتشترى وألسنة تؤجر نفسها للسلطة والمال، وثقافة تذوي، وفناً تعبث به يد القذارة وهواء يتلوث وأفقاً ينسدّ ويدلهم. ليس هذا اللبنان لبناننا ليس الوطن الذي ضحّى من أجله الشهداء واليتامى والارامل ولا الثقافة التي انعقدت لها الامارة في بلاد العرب اجمعين. انه شبح مخيف وكابوس مزعج ينخر الذاكرة ويمسح ما تبطن فيها. انا غاضب ايها الأصدقاء فهلا شاركتموني غضبي عسى صوت الاحتجاج يرتفع اعلى فأعلى...

ثم اني احسب هذا التكريم تكريماً للثقافة العربية وانا من معين هذه الثقافة نهلت وفي رحابها نشأت. فأنا اللبناني العربي لست استطيع ان اخرج من افقي العربي حتى لو اردت فكيف اذا لم اكن اريد. وانا لا اريد ايها الاصدقاء والا خنت رسالتي الفنية، وبادلت المحبة والاحتضان بالصد والخذلان، وحرمت لبنانيتي من ان تكتمل مدى ومعنى بأفقها العربي الرحب. ومنذ بدأت رحلتي الفنية، وكان ذلك قبل ثلث قرن، لم أكن جاهزاً لكي أصطنع الفواصل والمسافات بين لبنانيتي وعروبتي. وكما اخذت لبنانيتي من تاريخ هذا البلد ومن ثقافته وشعبه، لا من نظام او مؤسسة كذلك ما اتتني عروبتي من نظام او مؤسسة وانما من تاريخ امة، وتراث، وانسان، وحضارة، وثقافة، ولغة نحن منها جميعاً.

وها ان الحزن والغضب يعتصران قلبي (واحسب انهما يعتصران قلوبكم جميعاً) وانا اعاين هذه القدر الفظيع من العدوان البربري على كرامة وآدمية الفلسطينين في غزة، وعلى كرامة وآدمية العراقي في بغداد والموصل، وعلى العربي في ان يكون انساناً مجرد انسان! ان الذي يسفك دماء الاطفال والنساء في جباليا وخان يونس وبيت حانون وديالى وبعقوبة وبغداد وسامراء والبصرة هو نفسه الذي سفك دماء اطفالنا ونسائنا وشيوخنا في قانا وعرسال وصور والضاحية وبنت جبيل وعيتا الشعب والخيام وعيناتا. القاتل هو نفسه، وأداة القتل هي نفسها من ذا الذي يفرق اذن، بين هذا الوطن الصغير وبين ذاك الوطن الكبير؟! وحّدنا التاريخ والحضارة والثقافة واللغة، وقسمتنا السياسة وها هو الدم المسفوك اليوم يوحدنا ثانية، فليدعونا نتوحد في هذا الألم عسانا نشعر بجمعنا العصيّ على الانقسام وليدعونا نغضب ونصرخ ونستنهض الهمم ونستصرخ الضمائر الحية في وجه هذه الجريمة.

لنتحرر من سلطة النظام والعشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب والمؤسسة الدينية.

ولنتحاور بصدق وبعمق عن عجز المسؤولين وتسلط المسؤولين وتكاذب المسؤولين والهدر الكبير لطاقات الناس "المنومة" والمخصية القدرات الذهنية والعلمية. وربما يقودنا هذا الحوار الصريح الى اكتشاف طرقنا السليمة الى الحرية والديمقراطية فنصل اليها بمبادرة ذاتية ونقطع على المحتلين سجل الادعاء بانهم قادمون لهدايتنا وايصالنا الى الطريق الصحيح، ولو بواسطة الصواريخ والمدافع والقمع والقتل والتشرد والتدمير المقصود لثقافتنا وتراثنا وذاكرتنا وارضنا ورجالنا ونسائنا.

لقد يئسنا الهزائم المبثوثة في مشاريع الشعارات ومبتكرات القمع. يئسنا من سلطة لا امل فيها ومن معارضة تغدر بالأمل. يئسنا من احزاب ترى في المستقبل نوعاً من التأسيس على ماضٍ مهترئ وحاضر ينهار.

يئسنا من اليأس والأمل معاً

ليس في البال سوى فعل الهدم الجميل الذي انتظره الوقت والمكان منذ طفولة الأشياء.

ولم يبق لنا سوى البوح العميق لندافع عن انفسنا. لأن القيم الانسانية الكبرى لا تشيح فلن تكون الحرية والعدالة والكرامة اشياء بالية كما يبشرنا النظام العالمي الجديد الموغل في القدم.

ولن نرضى بأن يحولنا الى جموع خائرة مستنفذة، ذليلة، تتمرغ باليأس وتفاهات التلفزيونات الملونة والاستهلاك الرخيص والطائفية والتعصب.

ان حريتنا الاخيرة هي في ان نتمسك بقناعاتنا بعد مصادرة كل شيء بلا استثناء. لنصون شعلة المبادئ ولنأمل بصباح جديد لربيع لا ييأس ولنسأل باستمرار عن حصتنا من الحرية والسلام.

لا نريد جواباً لأننا لا نريد مزيداً من العذاب

ولا مزيداً من الغربة

ولا مزيداً من الشهداء.