تكريم الشاعر شوقي أبي شقرا
 

 كلمة الشاعرة صباح زوين
 كلمة الشاعر شوقي أبي شقرا
 


 إدارة الجلسة: د. نجاة الصليبي الطويل

أيها الحضور الكريم،

ترحّب الحركة الثقافية، إنطلياس بهذا اللقاء في إطار المهرجان اللبناني للكتاب - السنة الثامنة والعشرون والتي سمّيت إستثنائيًا هذه السنة: "دورة منصور الرحباني".

حضرة الشعراء والكتّاب والزملاء الكرام،

أيها الحفل الكريم،

دأبت الحركة الثقافية إنطلياس على السير بخطى ثابتة نحو إبراز أهمية التطور والتفاعل الثقافي.

فهي ترصد الحدث وتشرّحه وتبحث عن أسبابه ونتائجه وبالأخص عن محفّزيه والمتورّطين به.

وإذ هي تعي أهميّة الفكر الإنساني في عملية تراكم الحضارات، تولي المفكّرين والكتّاب والشعراء الدور الأساسي في تحريك الموجود والمتوافق عليه والمعهود والمتوارث والتقليدي...

تخترق نظرة المبدع الثاقبة جمود قصور الأفكار وتشلّع كليشيهات الأحكام فتقلّب الكلمات وتعجن التراكيب آمال كسرٍ وتطاير حواجز وهواجس اللاءات.

تحدٍّ صارخ نابع من ثقة المبدعين بالإنسان وبقدرته.

حلمٌ، صدى أحلام، ترداد صورٍ تشهد للعاطفة وللحنان.

يكتب الشاعر زهوه بإمكانية خلق العالم كل يومٍ من جديد.

يخطُّ، يحفر في الأذهان نصوع الطفولة، نقاء الأتقياء.

عندما يرصّعون اللغة بكلماتهم والكلمات بمعانيهم والمعاني بتمتماتهم والتمتمات بصراخهم، يهتزّ العالم، يفيق من السبات؛ يسمع حفيف التململ، هدير الإحتجاج فيقهقه عجبًا. يعلو، يدور، يدفع: دوران النجوم والأكوان، تسلسل الحياة، فيضًا من نظرة عيون هؤلاء الشعراء.

سيّد التكريم اليوم هو الصحافي والشاعر شوقي أبي شقرا الذي ينطبق عليه بامتياز لقب "شاعر التجديد والتحدّي".

يلازم التساؤل حول مفهوم الشعر وتحديدُ بُنيَته فِكرَ الشاعر ونِتاجَه.

ففي ببداية الألفية الثالثة، مازال البعض يرجع تحديد الشعر إلى شكله التقليدي والبعض الآخر إلى ضرورة انعتاق الشعريّة والكلمة من تقوقعها وفراغ تشكيلها وأدواتها التقليدية.

الحمدلله لأن الكتابة الشعرية فرضت النموذج الأخير كأمر واقع متعدد الأشكال والإتجاهات.

وإن تشعّبت هذه الجدلية في بعض المجتمعات وتعدّت الطرح المذكور سابقًا إلى رفض الشعر الغنائي عامة وبصورة قطعية والتمسّك بالشعر "الشكلي" formaliste الذي يطرح صياغة وبنيةً جديدةً.

كان الشاعر شوقي أبي شقرا سبّاقًا ورائدًا وجازمًا في طرحه لشعرٍ حديثٍ متجددٍ. فقد أسس بحق لمدرسة شعريّة وشجّع الكثير على التقدّم في الكتابة وعدم التردد؛ وكان منسجمًا مع قناعاته مبلورًا إياها في عمله الصحافي الدؤوب (وهو مؤسس الصفحة الثقافية لجريدة النهار لسنين طويلة) مجسّدًا شخصية المثقف والأديب والمفكّر الذي يشحذ الحياة بنتاجه وتشحذه بدورها بحركتها ودورانها فيشعّ غنًا وتطوّرًا يرفع الآخرين.

تقدّم للشاعر أبي شقرا الشاعرة والأديبة والصحافية السيدة صباح زوين خرّاط فتستعيد معكم أهمّ محطات حياته ونتاجه. ولكن إسمحوا لي أولاً أن أقدّمها لكم.

صباح زوين شاعرة لبنانية لها 9 ( تسع) مجموعات شعرية. صدر كتابها الأخير سنة 2006 تحت عنوان "في   محاولة مني". كتابها الأول صدر سنة 1983 تحت عنوان " على رصيف عار" .

بعض عناوين مجموعاتها الأخرى :

"هيام او وثنية" 

"لكن" ،" بدءاَ من . او، ربما"

" كما لو ان خللا ، او في خلل المكان"، "ما زال الوقت ضائعا" 

" البيت المائل والوقت والجدران"

 " لأني وكأني ولست"

عملت زوين في صفحة جريدة" النهار " الثقافية  بين 1986 و 2004 : في كل من النقد الأدبي  والسينمائي  كما عملت في الترجمة ( الترجمة الصحافية ، لكنها ترجمت ايضا ً كتبا ً من شعر ورواية  وسوسيولوجيا ) .

 حاليا  تراسل بشكل غير ملتزم  جريدة " السفير" وجرائد ومجلات لبنانية وعربية أخرى.

شاركت ( ولا تزال) في مهرجانات شعرية عالمية عدة وألقت محاضرات ادبية في الجامعات اللبنانية والأوروبية.

قصائدها مترجمة في انطولوجيات مختلفة من فرنسية وانكليزية واميركية واسبانية والمانية وبرتغالية وهولندية وسويدية.

صدر لها مؤخرا (شباط 2009) في بروكسيل - بلجيكا كتاب تحت عنوان "عتبات" ضم ّ  بعضَ قصائدها في لغات ثلاث : الأصل في العربية ، كما في ترجمتين فرنسية ونيرلندية عن مؤسسة "هيت بيسكريف".

كذلك صدر في برسلونا ( ايار 2005) كتيّب يضم مختارات من قصائدها في اللغة الإسبانية-الكتالانية.

لها دراسة حول الشعر النسائي اللبناني في انطولوجيا مشتركة صدرت عن الجامعة الأميركية اللبنانية سنة 1997.

ايضا انطولوجيا في الشعر اللبناني صدر في الجزائر سنة 2007.

كذلك اصدرت بالإسبانية ، في برسلونا - اسبانيا، سنة 2008  انطولوجيا في الشعر اللبناني.

أنطولوجيا أخرى  بالإسبانية  ايضا ، في بوينس آيرس -الأرجنتين ، وهي اهم عاصمة ثقافية  في اميركا الجنوبية، وضمّ هذا العمل شعراء لبنانيين في اللغة العربية والفرنسية، كما شعراء مهمين ارجنتينيين.

صباح زوين تعرف ست لغات : اضافة الى العربية ، الفرنسية ، الإنكليزية، الإسبانية ، الإيطالية، الألمانية.

تناولَ شعرَها  كلٌ من النقد الأكاديمي والنقد الصحافي، وفيها قيل ، على سبيل المثال ، انها : " جريئة في تناول الجملة العربية كما تناولتها".   

حائزة على رتبة ماجستير في السوسيولوجيا من جامعة كومون ويلث .

قبل إعطاء الكلمة للسيّدة زوين ولكي نكون في حضرة شعر أبي شقرا وكلماته، يسعدنا قراءة قصيدتين للشاعر أبي شقرا: "لا نجاري الشعراء" وقد نقلتُها إلى الفرنسية، والقصيدة الثانية "الذي ينبح ليس الشتاء" وقد ترجمَتها السيّدة زوين.

لا نجاري الشعراء

فاتح اللون، فاتح الفم

ولمن عداي يهون الوقت

وتبسط جناحيها بجعة التجاعيد.

ولا عيوب من الموشّحات من النفحات تلفّ الوجه

وصدى البشرى.

وشقراء هي الأعشاب وأسود هو

الإزار ومنتدى الطفولة ومخيّم الكهول.

والصيف أزاح الستار عن اللعبة،

والغبار قصَب السكّر

يغمرنا ويذرف أنغاماً

على دروعنا وغلاف المعدن

وصوته عال على كساء صفائحنا.

ونمشي إلى المياه وأحياناً

على أصابعنا لنتألم،

وملعبنا ليس الكرة

بل حجر البعد والغرام

والنوم على النقاء والأبنوس.

والتصابي في محلّ السكوت.

والكيس معنا لنخبئ الحيّة والعاصفة،

ونقدح مصراعيه ونفلت

الرسن لحصاننا

ويجرع الينابيع.

وننثق المرصاد القديم بالزعرور

وبالمقلاع ونسمع الصدمة.

ولا نغنّي كثيراً، أضعنا

الحنجرة في سوق البرغوث

وفي خميرة الأسف نقلّب الأخضر والفاكهة والصفحات.

ولا نجاري الشعراء،

إذ نأسف على جثّة الأيام

وحداد الفصول ويباس الأجّاصة على قدر جماد أرواحنا.

وحجمنا يزداد بطلاناً

يأوي إلى الورق

وقلْ إلى النحافة والقَصَب.


 الذي ينبح ليس الشتاء

ندوخ في مدى أرجوحتنا

على صفير الهواء وعويل النّوتيّة

والتّاكسي الذي يرسل

مزماره هباءً ويؤذي المدينة،

والعاصفة الفتاة التي تجلس في مقعد السينما

تقترب من فمي

وتهزّني الشّارد تنبع مني الصور،

وتموج المعاني، ولا يبصر الحارس الثّمار

والضوء اللّص في العتمة،

ويقبض على رائحة الوشوشة والياسمين،

وفي الغفلة أسرِق الغفلة والقُبلة من الصّدى،

من الشجرة،

وكماني على ركبتي تنام قبل الحفلة،

أسجن في بطنها امرأةً تنوح،

سوف اللغة تكون الزبرجد ومداسي للبيادر

الخشنة، سأصطدم بوهج الظهيرة

وأبصق النّواة

وأوّل السيكار،

تنّورتي الدرويش حين أصلّي

والذي ينبح ليس الشتاء،

والخسائر فادحة على طاولة القمار.

  كلمة الشاعرة صباح زوين

عندما بدأتُ معه كان قد عاش هو الزمن الأكبر والأهم في تاريخ ثقافتنا اللبنانية والعربية، كان قد غاص عميقا في نشاطات الستينات وبداية السبعينات وتحولاتها المهمة ، كان قد اعطى صفحته اجمل اوجه الحياة الثقافية ، فجعلها تلمع كالذهب في ذلك العصر الذهبي . ومع ذلك ، ورغم  كل جنون الحرب وعبثيتها  التي كنا نعيشها عندما نقل مكتبه الى بيته ، رغم كل ذلك، كلما اوكلني بمهمة صحافية ايا كانت، كنت اشعر انه يتحمس وينبض حياة ويتلألأ  افكارا ً جديدة  وحماسية  وكأنه لا يزال يعيش بيروت ما قبل الحرب ؛  فلا نشاطه  ولا عطاءه  نضبا تحت وعيد الإنهيارات المتلاحقة التي شهدها لبنان في عتمة تلك الحقبة السوداء.

بل لم يكن فقط  يفيض افكارا ً صحافية نضرة فحسب، انما وفي كلام اصح ، يجب القول ان لولا مثابرته ومواجهته   للصعوبات بكل ما حملته تلك من قسوة ، لما استمرت هذه الصفحة التي اذا عرفت كل ذلك المجد آنذاك ، فبفضله.

من ناحيتي ، معه حسّنتُ لغتي العربية ! ولا أزال حتى اليوم اتعلم منه ! لا ازال اسأله ، كلما تعثرت في الصرف والنحو! فأتصل به واطرح عليه السؤال كما التلميذ مع المعلم الدائم. ولا ازال حتى الآن استمتع بكل ما يكتبه من نصوص صحافية ، حيث نظافة اللغة العربية ، ودقة الجملة ، وحيث الصقل كما لو كنا في منجم من الذهب ازاء كل مفردة  ينزلها على الورقة البيضاء.  فنظف على مدى عقود مقالاتنا. علّمنا كيفية الكتابة المتينة في اللغة العربية.  اتى أصلا ً الى الصحافة بمهنية صحافية عالية ، كما أتى الى مجلة "شعر" شاعرا اصيلا ً  وأيضا صحافيا ومترجما.  فترجمات غزيرة  قام  بها  لشعراء فرنسيين الى العربية  أغنى من خلالها  مجلة "شعر". 

فكما في الشعر كذلك في الصحافة ، اختزل وجدد وابتكر.  وفي هذا ، له فضل كبير على صحافيين كثر ٍ، وانما ايضا على كُثر ٍ من الشعراء. انه الشاعر المرهف  ازاء اللغة والصورة  والإيقاع، فكم من قصيدة لسواه  نقح وجمّل  حتى أصبحت قصيدة.  كم من تعابير عربية ارسل الى سلة المهملات وذلك رغبة منه في تجديد اللغة وتهوءتها ! كم من عبارة ايضا شحّل حشواتها وزياداتها غير الضرورية ولا بل البشعة والركيكة. كم اختزل وكم قصقص حتى حسّن القولَ شعرا ً ومقالات ٍ !

كما نعلم ، ابي شقرا هو الذي اطلق الصفحة الثقافية في جريدة  "النهار" ، وكان مَن أعطى هذه الصفحة الصبغة الجدية في شؤون الثقافة  فأصبحت المنبر الوحيد والأول ، قراءةً وكتابة ً، لكل المفكرين والشعراء والكتاب العرب  واللبنانيين طبعا. كان الحاضن والمُطلق لأسماء كثيرة  في الشعر وفي غيره. 

هذا هو شوقي ابي شقرا في بعض كلمات ، هذا هو في ميدان الصحافة ،  حيث العطاء من دون حساب، العطاء

للغير، للجميع،  حبا ً  بالكتابة والثقافة والشعر، حيث كان يضع اجمل ما يمكن من عناوين لمقالاتنا ، عناوين مختلفة ومفاجئة، كما عرفناه آنذاك.

ذلك القلم الأحمر اذا ً ( وكنا آنذاك في عصر الأقلام على الوانها ، وهو غادر المهنة قبل دخولنا الحقيقي الى الطباعة المباشرة والتصحيح الإفتراضي غير الملموس عبر الكومبيوتر)، ذلك القلم  الذي لطالما اعاد مقالاتنا عن بعض الأخطاء الشائعة وغير الشائعة، هو ذاته ولكن بحبره الأسود  او الأزرق ، انزل على مدى خمسين سنة ونيف ، في اكثر من ثلاثة عشر كتابا ً ، اجمل ما قرأناه  في الشعر الحديث في اللغة العربية المعاصرة .

ليس ابي شقرا صاحب نظريات وهمية ، ولا صاحب بيانات فارغة المعنى ، ولا فلسفات في اللغوية المجردة  والإنشائية  البعيدة عن واقع فعل كتابة الشعر وحقيقته. فلم يغزُنا ابي شقرا بشعارات ادبية  فضفاضة وتنظيرية ، انما اتى الى عالم الكتابة ، والشعر خصوصا ، بقصيدته المختلفة ، بقصيدة لا تعكز على شعار ولا تشحذ منه الصدقية ، اي اتى بقصيدة هي نفسها فرضت ذاتها من تلقاء ذاتها ووجودها ، فرضت شعارها وفلسفتها وبيانها المتجددة دائما ، المتحولة ابدا ، وما نضارة القصيدة وحيويتها ان لم تكن قابلة باستمرار للتحول مهما مرّ عليها من وقتٍ  ومهما كرر القارىء قراءتها. فهي في كل مرة تتجدد وتنبض حياة .

في كتابته الشعرية نكتشف عالما غنيا من الصور المتميزة.  وفرةُ الصورة  وسرعة خاطرها ولياقتها ، بل لياقته في حسن اختيارها  في مكانها المناسب ووقتها المناسب ، وهي معرفة  تلازم الشاعر الحق ، ولذلك لم يرسب يوما ، على مدى خمسة عقود ، في هذا الإختبار الصعب.  الوعي الشعري لا يملكه سوى الشعراء ، ومن دونه تكون الكتابة خارج عالم الشعر، وابي شقرا برهن عن جدارته الكبرى في الميدان.

ليس ابي شقرا لا سورياليا  ولا دادائيا كما اراد البعض احيانا ً ،  ولا صاحب قصيدة  نثرية في مفهومها التنظيري. انه خارج  كل هذه المعايير لأنه انتج  قصيدة غير متأثرة بالخارج ، اي بالكتابة الغربية وما انتجته تلك من نظريات وفلسفات.  انه فحسب ، طالع من جوف  بيئته وعمقها. انه الأصيل وانه المتجدد والمجدد دائما. انه ابن مكانه وتاريخه. وتاليا ، فقصيدته وليدة هذا المختبركله، حيث اختمرت طفولته وشبابه وحياته .

هذه القدرة الفائقة على استنباط  كل هذه الصور التي لا تتكرر ولا تفقد وهجها مع الوقت، هذه القدرة الفائقة ، بل هذه الطاقة التي لا يزال يملكها ابي شقرا ، لهي  محط  دهشة  وإعجاب .  

القصيدة الأبي شقرية متفردة  في خيارها ومنحاها. انها نابعة من الجغرافيا المحلية ومن تاريخها المحلّي، تاريخ الشاعر الشخصي.  ومن النافل التذكير بأن فقط الشخصي الصادق والحقيقي هو الذي يبلغ العالم وبقوة، هو وحده الذي يصبح كونيا ً لأنه الأعمق. هذه هي "المحلية " الأبي شقرية، هذه هي  كونيتها وميزتها. فمنذ البداية ، اعني منذ ان ترك ، ولو في قلبه غصة كما يقول، مجلة "الثريا"  اواخر الخمسينات ليلتحق بمجلة "شعر"( وبالمناسبة ابي شقرا حاز في ذلك الوقت "جائزة مجلة شعر" عن كتابه "ماء الى حصان العائلة" ، وكان الأول في حيازتها مع الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ومن بعدهما توقفت هذه الجائزة) ، اذا ً منذ ترك مجلة "الثريا" وعى الشاعر مستلزمات الكتابة الجديدة والمعاصرة  وسرعان ما عرف كيف التقاط  جوهر اللعبة الشعرية الحديثة ( بعد ان مارس في البداية الكتابة الشعرية الموزونة ) ولا معلّم له سوى ذاته.

ولي هنا ملاحظة ، وهي انه ليس فقط حدَس بضرورة  الإنتقال الى مجلة "شعر"  المجدِّدة ، وانما أعتبرُ بشكل قاطع انه حتى لو لم ينتقل اليها ، لكان حتما ابتعد عن القصيدة الموزونة اذ ما كتبه ابي شقرا لاحقا كان تعبيرا اصيلا عن تطلعه الى تحديث اللغة الشعرية والى البحث عن  كل ما كان يحتاجه العصر آنذاك أدبيا وشعريا .  لذا اعتقد أن ابي شقرا لم ينضم  الى مجلة "شعر" صدفة : انه اتى اليها لأنها مكانه الحقيقي واللائق به. وللتذكير فقط ، وبمناسبة الكلام على تلك الحقبة ، فوجوده في المجلة لم يكن لا عابرا ولا هامشيا، اعني كان فحسب اساسيا وضروريا فيها. فكما في جريدة "النهار" لاحقا، كذلك في مجلة "شعر"، نقح وشذب وصوّب اخطاء اللغة  وركاكات بعض القصائد التي كانت تفد الى المجلة.

من اين اتت اللغة الأبي شقرية ؟

لم تكن يوما ، منذ كتابه الأول  ووصولا الى آخر كتبه ، لغة قادمة من الترجمات ولا من التثاقف على الرغم من ثقافته الواسعة ورغم  نشاطه  الطويل في الترجمة.  انها لغة نبشها الشاعر من مكانها الأصلي ، نبشها في وكر النمل ، وسرب العصافير في سماء قريته او سماء "اشرفيته" الأولى ، في زقزقة تلك الطيور، في العشب الذي نطنط  فوقه صغيرا ، في الوان الزهور البرية وغير البرية التي احاطت بيته الجبلي كما البيروتي- الأشرفي ّ ( وهنا اشارة الى اقامته الأولى في تلك الأشرفية الجميلة والعفوية قبل ان تصبح دغلا من الإسمنت والحديد والزفت) ، ونبشها في اغصان الشجر وفي خبايا البيت العتيق ، ودروب القرية الصغيرة والأليفة، وفي لغة المواسم ولغة ساعات اليوم من الشروق الى الغروب الى طلة القمر على اكتاف الجبال المحيطة ، كما نبشها في ذاكرته اللغوية طفلا ً ، تلك  المطعمة بكلمات باتت اليوم في طي النسيان ،  كلمات قادمة من صلب مجتمعه  حيث العربية جاورت شيئا ً من السريانية لغة القداديس التي واكبها فترة من زمنه الأول وتعلمها. فالسريانية التي تعلمها ، لم تمنعه من التحليق عاليا في العربية ، بل  محبته  باللغة عامة هي التي  جعلته الى هذا الحد مهتما بجمالية  العربية التي لا تزال تتوهج  في شعره كما في نثره. اقول نثره ، وقد لا اميز كثيرا بينه وبين الشعر لديه ، ولا ابالغ في القول إذ كل نص يكتبه ابي شقرا ، اكان محاضرة او مقالا صحافيا، يعيدنا دائما الى لغته  الفريدة  ، الى عبقرية  صورها وتراكيبها، بكلمة واحدة ، يعيدنا الى الشعر. كلنا نذكر جيدا مقالاته في صفحته في "النهار" التي كان يوقعها بحرفَي "ص.ث." ، اي "الصفحة الثقافية".  هذا النثر البديع ، الذي هو في نظري كتابة شعرية قبل ان يكون مقالا صحافيا ، هو وجه آخر من الشعرية الأبي شقرية التي بحاجة الى اضاءة وتعريف أكثر. انها جزء متكامل من العملية الكتابية عنده ، جزء لا ينفصل عن قصيدته عامة. فيها من السلاسة اللغوية ، ومن الخيال المضطرم، ومن التصوير الجمالي ، ما يليق بقصيدة حقة. واشارة الى انه في تلك المقالات كان فقط يكتب عن ادباء وشعراء سواه ، اعني ان  اناه هو كانت دائما غائبة ولم يحشرها يوما في تلك الأسطر للكلام عن ذاته.

عودة الى كتابته الشعرية الصرفة ، الى القصيدة- القصيدة ، فكما اسلفتُ ، المادة الشعرية  التي كوّنت ولا تزال تكوّن قصيدة ابي شقرا، غرفها الشاعر من تلك المواد الأولية الآنفة الذكر، اي من التراب والمياه  والهواء ، من الطبيعة الحرة والعفوية التي منها شرب وفيها تمرّغ  وفي رحابها هرول  وركض فأشبع روحه  بها ومن جوفها ، ليأتي بالصور الفريدة التي بها اشار الى فكره وأعماقه. انها مغامرة الكلمة في اعماق الكون  من خلال رحلة الكلمة والصورة في الوان الطبيعة الغنية والمتنوعة ، انه استكشاف للحياة والإنسان من خلال العناصر المحيطة ، وهي عناصر الوعي والعمق حيث يكمن معنى الوجود ، حيث العتبة والأفق كيانان في شخص واحد ، حيث العشبة والزهرة والعصفور والشوك والحجر والشمس كلها جسرٌ نحو القفزة الأبعد ، تلك القفزة التي تأخذنا الى عوالم نجهلها ولو موجودة ، عوالم لا نراها ، انما ابي شقرا يبصرها اثناء العملية الكتابية . انه يرى ما لا يُرى ، او يرى ما لا يراه سواه. 

انه الفنان الأكبر في ابتكار الصورة  ورسم الكلمة. انه الرسام الأبرع  في صناعة لوحته الشعرية حيث لا غرابة على الطريقة السوريالية ، انما على طريقته هو. انه يجمع الطرافة بالحزن ، ومن الكآبة يصنع فكاهة  بيضاء ، ناصعة ، ملونة ومضيئة ، خلافا لتلك الفكاهات الغربية السوداء. من المأساة يهرب نحو عالم الإلفة والنقاوة ، الى الطبيعة الحاضنة وانما غير الساذجة ، الى ذاكرة طفولة حيث التواري من القسوة  وليس التواري من الواقع.

انه الفنان الذي من الطبيعة العفوية يصنع قصيدة محكمة التقنية !  ليست صورته وكلمته سوى تعبيرا عن تقنية ناضجة وخاصة به دون سواه. انه صاحب الطرافة لكنه صاحب الجدية في تقنية الكتابة.  وفي اي حال، ما صُوَره الظريفة والخفيفة الدم (دون ان تكون خفيفة المعنى بل على العكس تماما ً) سوى ميله الدائم عن قصد وغير قصد،

الى الإلتفاف على الشجون والحزن والحنين والعزلة والغربة في عالم قاس وغير مريح. هكذا  افهم صوره ، هكذا اراه يكتب القسوة من خلف الطراوة ، من خلالها ، عن طريقها. وخلافا لكل المواربين ، هو يلجأ الى هذا الأسلوب  ليجد  فيه نوعا من الترياق الجميل الذي يأخذ الشاعر الى متن العمل الفني ، الى حيث  التقنية  الممزوجة صورا ً وألوانا وحياة وفلسفة. وهل يجوز لنا ان نقرأ ابي شقرا دون ان تقودنا قصيدته  الى تصوّره للوجود  وللإنسان في هذا الوجود.

انه في تعبير آخر، صانعُ ابجدية ٍ!  ابجدية الكلمة  والصورة الحاملتا توقيعه ! انها ابجدية البداية، تلك التي يعاد صوغها واختراعها. انه المكتشف للحرف ، حرف القصيدة، والمبتكر قاموسها ، والعارف  كل المعرفة في  شؤون المفردة هو الحاضر دائما ً في الكلمة وغير الساهي عنها ، هو المبالي وبكثرة ، هو الذي  يلعب في صورة القصيدة كما في  تركيبة اللفظة ، في مداخلها ومخارجها الى ان تكتمل.  فصاحب الزيز والنملة والضفدعة والغصن والجلّ والخوخة ، هو قبل كل شيء صاحب الفتحة والضمة والألف والياء والضاد  والتاء وكل ابجدية الشعر واللغة وما بعد الأبجدية. قصيدة ابي شقرا  منحت  اللغة لانهائية الكتابة ، وتاليا ً منحت  الشعر لانهائيةً الجمالية.

ختاما ً ،  لغة  شوقي ابي شقرا منبعٌ  ومنهل ٌ خصب من الجمال الشعري والتقنية والعفوية في آن. هكذا تكون اصالة الشاعر الأصيل.  لا بل، هكذا يكون الشاعر المعلم الذي ترك اثرا ً كبيرا في الشعر الحديث المعاصر، تركت قصيدته بصماتها على الكثيرين، لأنه اسس  لشعرية جديدة  في مغامرته هذه.                                                                    

                                                                                                 

  كلمة الشاعر شوقي أبي شقرا

ما أعذب اللقاء في دياركم الواسعة هذه، آتياً من الحبّ، وما أجمل الحب آتياً من اللقاء. والمحبّة التي رأيتها وأراها إثنتان واحدة من القلب وواحدة من الشعر والنثر معاً. وما أجمل الشعر  والنثر حين يكونان معاً. وما أجمل الشعر والنثر حين يكونان من القلب آتيين ومجنحين بجزيل الرونق والعطر وبقية الأخبار والتلاوين.  

        إنه تكريم لي وأنه شكري البالغ السعادة لكم، للحركة الثقافية لإنطلياس وللمكان الرائع المهيب. وشكري الكامل الدائرة للشاعرة والصديقة الملهمة السيدة صباح زوين. وكلاهما ينبعان من هذه الحزمة من المشاعر الباذخة، من الأحاسيس المزدوجة النعم، بل المثلثة الخيرات على غرار ما كان متوهجاً أمامنا وكابدناه، وكان العمل والحفر في الذات وركوب المغامرة الساطعة التي إنطلقت منذ تلك الأيام المجيدة في الخمسينات من القرن المنصرم، وذرفنا عليها أدق التعب وشرحنا ما بنا، بل قلنا ما بنا، وإنما اللغة كانت جديدة وكان الشكل الآخر الذي هو علامتنا وإقتربنا به كما تعرفون، من الباب السامي القامة، وفتحناه، كل واحد على قدر مشيئته على قياس نفسه، وكان أننا صادفنا ما هو منشود من الحكاية وإنما الرحلة هي إلى العقدة والحبكة أو إلى تلك المغامرة، أو إلى تلك الدروب أو هذه الطريق التي إبتدعناها، وأنما الفتح هكذا أن تجد الطريق أن تخلق طريقاً بإسمك في الوعر وأن تحرز الإشارة بالبنان إلينا أننا صورة الشعر الذي هيأناه وخبزناه وحدبنا عليه بكل أعصابنا وبكل الموهبة الكامنة والرسالة الحالمة بالوصول.

        شكري لكم كبير مثنى وثلاث وبادىء بدء للأب الرئيس جوزف عبد الساتر وللأمين العام الدكتور أنطوان سيف وسائر أعمدة الحركة الثقافية، أيضاً للدكتورة نجاة صليبي الطويل وهي الرقة والعلم والعالية الثقافة ومرة ثانية للشاعرة والناقدة البعيدة المدى صباح زوين، وللذين شهدوا لي: لأدمون رزق رفيقي وصديقي وأخي الأدبي، صانع أمجاد في الأدب والبليغ جداً في كتابته وفي شخصيته، وفي نشاطه من أجل الوطن.

وكذلك لأمين الريحاني من السلالة الموهوبة والمديدة الشأن والعقلاني المحلق والمدقق في مجاله، وأيضاً لهدى النعماني الفريدة الغناء والبوح، الشاعرة والفنانة ولها حقلها وتواجدها الصوفي حيث تتصوف وتبدع وترسم وتكتب في جميع الوجهات. ولسليمان بختي صديقي الأغر والسابح في ميدانه الأدبي ويكتب النثر أجمل كتابة، ولمحمود شريح صديقي الأغر والذي يتمهل ولا يتوقف عن العطاء إلا حين يحيط بموضوعه ويلفه بزنار الحق والتدقيق والذي يضع الأكاديمية في نصوص قائمة على المعرفة والطرافة والإمتاع. وشكراً للوجوه قاطبة في ما بينكم ولا إستثناء، شكراً للذين جاؤوا وهم عندي أيقونات من النقاء لن تزول من خاطري ومتحف صوري ولا من حياتي.

        إنها ثابتة ومعلقة ومضيئة.

        وبعد، قبل الطوفان قبل الحرب والإحتراب نلتفت إليها، ولا مفر منها من بيروت وكانت لنا المطهر والنعيم . وكانت لنا بيروت أمارتنا والحب في النشأة والقاعة وإجتماعات الأصدقاء وكأس البيرة من صاحبنا، وكل موقع هو الملائم هو الذي يجمعنا ويدلنا على موقع. فلا فرق بين واحد وآخر وبين ثقافة وأخرى وبين صداقة وأخرى وبين مشروب وآخر. فنحن المهيأون لذلك الدخول إلى الرحابة وإلى المقعد الخالي من الضوضاء ومن الآراء المتضادة والحاقدة. وبيروت هي "صاحبنا" ذاك، بل لبنان الكامل هو لنا، فلا حقد في الأدب ولا حقد في السياسة وأكاد أقول أن الحب كان أجمل الحب، والمرأة أجمل إمرأة، إذ هي تطلّ من الباب وتخرج إلى الجنينة وتلوح دبقة ونحن العصافير نعلق على الشجرة بعيداً عن القوم ثم لا يجرؤ أحد أن يتزحزح . ويكفي اللون والمسحة الحلوة والإيماءة النقية حين تكون جد نقية، ويكفي أن المرأة شديدة البوح، وصريحة إلى حيث تمد ذراعها إلى الصبي الجالس والمتخدر في فقره وفي حيائه، وهي تمرّ ، وهي شجاعة بحيث تترك الرائحة والإشارة أنها تريدني، أنها تريد هذا الجالس، والصبي من فرط فقره لا يعجب ولا ينهض، وتظل الأجواء يتيمة، ولا يذهب مع واحدة على الشرفة، ولا يذهب إلى تلميذة بيضاء الثوب، ولا يسقط في حفرة الغزل والتلاعب بالقلب، هذا القلب الذي يسع الهوى والشوق والنار المندلعة.

        ولا ندامة ولا فجيعة، وأي ندامة وأي فجيعة، وكان أننا في جماعة من الصبايا، وفي زرافات منهن، كنا ننكفىء، فليس في الجيب فلس، وكفى أن اللذة هي القاعدة، وأن القليل من النغم، يفرح النفس ويشير إلى الطريق، إلى حيث نحترق من المشقة ومن الشغف، ويبقى أن نصفنا كان الحريق ونصفنا كان الغريق، وما كنا في عذاب حقيقي، ويكفي أننا متيمون، وأن العاصمة تلفنا بالرداء، بالجناحين، وكنا نحس أننا موجودون وأننا رماح تخترق الأجواء، لأن العاصمة تحبنا، ونحن في مثل واحة، ولا سرعة، بل أن السير حكيم ومتمهل، وهكذا كنا نقطف الجنينة الماثلة حولنا، وكنا موجودين في هذا السهل غير الممتنع، وذلك لأننا مختلفون ولأننا شعراء وأدباء وبعضنا فلاسفة. وفي بعض الأحيان كان أنين البؤس واليد تسأل وبعض الأحيان كمنجة في الليل، وبعض الأحيان سوريالية هي كتابة على الحائط وعبارة "يا صاحب الشرف لا تفعل هنا"  فقط في زاوية وليس في عمق المكان.

        وكان الهدوء كأنه بريق الذهب وكان نوع من الحرير يموج وهمسات يمامة ولا طبل فارغ في تلك الحقبة في غرة خمسينات القرن العشرين ونحن في الوسط ،في الحلبة، في العيش الهانىء ورنين الموشحات الفكرية والذاتية، ونحن الصدى للحياة، للفرح، للحياء اللطيف والخدود المتوردة، ونحن نركب الترامواي والللامبالاة في بيروت البشوشة إلى المنارة ورجوعاً إلى فرن الشباك. ونحن أيضاً متماسكون وأخلاقيون وليس ما يعطل شيئاً إن في مستوى الفاكهة، فاكهة الخير والبركة ، وإن في مستوى النزهة في مستوى الشعر والنثر، حين يرتفعان إلى سدة الجمال، وإلى مرتع الجنة والفوز بمقعد لطيف في الأعالي، وليس في السفح.

وكان الأكثر آنذاك إذ نحن في هيجاء الصبا، وفي نفح الحيوية والإرتعاش الكامل، ونزين الفضاء القاحل أو المستكين بما يوقظ العبرات والضحكات والتأملات، ونركب الهوس حصاننا القديم، ونسلك الدروب الجديدة، وأن كنا قادمين من هناك، من قواعد ذكية، ومن حرية أصيلة هي في جلدنا وفي صلب التكوين ومن الأمر الجلل، إذ لا نحسب أننا متواضعون، وإنما متحمسون، ولا أننا منكفئون، بل أننا متقدمون والأزهار أمامنا، إذ كانت الحقول خصبة، ولنا أن نقطف، وأن نركض على التراب، لأن الطبيعة ما زالت كأنها بكر، كأنها بتول، وأنما أنفتحت لنا، وبددّت المعوقات، وما علينا سوى أن نهجم عليها لأخذ البركة، وأن نرتمي عليها في شوق إلى الثمار، إلى العطاءات، ونسرف في ذلك، ولا نرعوي، طبعاً لأننا الفتوة ولأننا الشباب ولأننا الأطهار والأنقياء، والمغامرة مفتاحنا إلى الغد وليس القعود والندب في الظلمة.

وكيف نرقد أو نتخاذل أو نتباطأ، ويكفي أن تلك الأيام كانت بطيئة وما على الشاعر أو الكاتب إلا أن يسرع، وربما عليه أن يفعل وأن يسبق الترامواي، وأن يسبق الطائرة، وكنا نحس البطء الثمين، والتأني الصالح، وما علينا سوى الصعود إلى المقهى والدخول إلى السينما، وكانت السينما في صالاتها المتأنقة تكاد تكون السلوى العظمى، وكانت الرومنطيقية في الأفلام، وفي المتاجر، وفي أطارنا الأليف واليومي، وكانت القبلات تشعلنا، وكانت الممثلات وصورهن هما ما يعنينا ويوقد النار الجلى في أجسادنا.

وكان هناك الخطاب المنفرد، وما كانت الفوضى، وكان البحر رفيقنا والداعية لنا والهدف الذي يزنّرنا بملحه واليود المنبعث، وكنا نحن طامحين، ونرغب أن نتدفق من عقلنا ومن روحنا ومن جسدنا أجمع، وكانت اللذة أن نقتدر وأن نذرف الطاقة أما في السرير وأما في الخارج وأما في الورقة البيضاء حيث ينهمر الزبد ويصطدم الموج بالموج.

كان الهدوء ، وكانت الجامعة الأميركية في بيروت وغابتها، ومثالياتها ونظراتها الثاقبة وثقافتها الجديدة والمتحركة والشائقة الإختلاف، والزمن المزهر، ومرسلة الأجيال الناضجة والخطط التي تحضن المعاني والخلفيات والركائز التي تقوم على الثبات وعلى إصطناع توجهات هي محط إغتناء، وثراء في سياق علمي، وفي مد البلاد والوطن والعالم العربي، بكوكبات مثقلة بعساكر الغد ومفكريه والعثور على كل ما يشبع الناس وما يدفعهم إلى الأمام، إلى بلاغة التقدم والعنفوان والرؤية الجليلة.

وكانت جامعة القديس يوسف أزاء الجامعة الأميركية، هي أيضاً بشرى ومطالع ومستقبل، ومصنع رجال وأجيال وصفوف من الخريجين وصنوف من الرجال والنساء الذين في يدهم، في وسعهم أن يبنوا الوطن، وأن يزرعوا في أرضه أرقى الأشجار وزينة علمية وأنواراً متعددة الجهود والألسنة.

ونحن في معنى ما، أنا ورفاق لي، تتمة لما تلقيناه في مدرسة الحكمة، من لغة الضاد ومن الحضارة الفرنسية، وهناك زملاؤنا أبناء اللغة الأنكليزية والتراث الأنكلو سكسوني، وما كان إنقطاع وأنما التبادل على أحسن حال وكلتا الثقافتين هنا، وكان البلد هكذا، في ذلك الهدوء العارم والصفاء الكياني والأنيس وكل واحد يشتغل في نطاقه، وكان الأمر كليّ الحسنى والحسنات، كان العمل حينئذ مثابة فتح في المجال الرحب، وما كان بعد في زمن الضيق، وكان الشعر أيضاً في زمن الدقة والصعوبة والإنتصار، وما كانت الفوضى، وكانت الأمور أحلى، وكان الصوت الذي نرفعه سريع القرار والسماع، إذ كان الشعراء قلة، وكان الناثرون قلة، وكانت الثقافة ملعب ترف وكانها ترف مثقل  وصنيعة بعض المبدعين، ولم يكن هناك تكاثر، أي أبعد من اللزوم، ولم تكن هناك جامعات ومبالغات في العلم والفروع وفي أصول اللعبة. ولم يكن أي عيب في الشكل وأنما الشدة والقطب والإستقطاب والبطولة في أن نعكس المضمون الخارق والعذب معاً. أنها حقبة، كان فيها الفكر الملهم والتأليف الذي ينطلق من الكلاسيكية ومن الأريستقراطية، (وهنا كلامي يدور على بضعة وجوه دون غيرها من التجليات)، كان ميشال شيحا وجورج نقاش، وشارل قرم، وكان جورج شحادة وكان هكتور خلاط وكانت القصائد من سعيد عقل إلى يوسف غصوب إلى الياس أبو شبكة إلى أديب مظهر، وكان فكر أنطون سعادة المؤسس والنهضوي، وكانت الأسماء البارزة تتزاحم وتتنافس، كان موريس الجميل ومثاليته وواقعيته وهما معاً ساكنتان فيه، فهو المقتحم والطائر إلى العمل الرؤيوي والواقع الراقي، فوق أسوار البشر العاديين. وكان شارل مالك وهيبته وتعلقه بالجدية والرصانة الأكاديمية، فليس من أحد إلا يجله وإلا يحن أن يقترب منه، وهو كالجادة التي تحمل إسمه في الآونة التالية جادة في ذاته وكان إن تكلم أو حاضر يبرز واقفاً ونجيباً لأي عالم. وكان رينه حبشي وحدبه على الفلسفة الكاملة والوجودية المستفيقة مع الأيام والتي لا تهرب من رسالته، وتعمل للفرد ودربه المفتوحة بها والمغلقة دونها.

وكان فؤاد إفرام البستاني السروة التي ترسل العصفور وخيطه وكان العلاّمة الذي يبرهن دائماً أنه كذلك، وما خيب ولا يخيب القارىء والتلاميذ والناس أبداً. وكان عبد الله العلايلي النديم والباحث والمعجمي واللغوي والرائد في إستيعاب المحدثات والتراكيب وفنون الكلام وكان كرم ملحم كرم الألمعي واللامع القلم في القصص وفي الكتابة الحيّة ونفح اللغة بألوان البلاغة العصماء. وكانت الصفات تتراكم في نخبة المرحلة، مثلما يفعل الثلج، وكل واحد مقدام في مجاله وقدير في ما هو التأليف والتأثير في كل آن. وكانت القصيدة العمودية تتباهى ولها منزلتها في المدى المشرع، وكانت المقالة والقصة ولهما القيمون عليهما، وكانت النصوص مزدحمة بالمضمون الثقيل والكلمة التي تصعد الوعر إلى المساحات الفريدة والرجاء الذي يفحم من يقول العكس. وكان محمد يوسف حمود وبلاغته ورعشته الباذخة في تطوره وكان جوزف نجيم وبحّته ونسوته وكان أدوار حنين وطريقته النافذة وصلاح لبكي ورمزيته وغنائيته، وكان سعيد تقي الدين وضرباته المحكمة وفؤاد سليمان وشاعريته وخليل تقي الدين القصصي وكان فؤاد كنعان واللمح عنده وكان جبران القنديل المتواصل الضوء وظلاله العابقة بالفيء والرغبات والأمثولات، وكان الريحاني وأفكاره المتطورة وتطلعاته الشمولية وكان ميخائيل نعيمة ومرسلاته في النقد والشعر والطيبات المتتابعة، وكان الجو الواسع، جوّ الإرتقاء إلى حيث تشاء من التجدد والعمل الطلق، إلى أعلى الصبابات. وكانت الأرض مرتوية وترابها يتلقى الأجمل والأبهى وكل البذار وكل الصلاح وكل مغامرة، وكنا في منجاة من وطأة الكتابة الجامعية التي أرهقتنا بشوائب القاعدة، والتي تظلمنا جداً بحيث نرتكب الأثم، فلا نعود نقرأ ولا نعود نستوعب النص، ونشتاق خوفاً من هذا العسف، إلى النص الواضح، وإلى الشعر الحميم والرسائل الناضجة ، وإلى إبن المقفع الذي يحسم الجدل، جدل القراءة الممتعة. وقبل أن ننسى، ولن ننسى، كان أمين نخلة المجتهد، والأنيق، والمخضرم واللابس العباءة والمتفرنج، والشاعر الناثر المتين والذي يكلل السطور بأصدق تعبير وأفخمه والمنطلق من تراث العرب، من أصفى غربال وأنفسه ومن أبعاد طريفة، فيها التالد والطريف. كما كان الأخطل الصغير رائداً في الظهور المحدث والقصيدة التي تتصل بالتراث وعمق التجربة والبيان.

وكانت الندوة اللبنانية، في ساحة الدباس، وكان ميشال أسمر الذي أشرعها للمحاضرين ولجميع النخبة من أي صنف وطبقة، وكانت أشبه بالمزار والمحراب يؤمه المتعطشون والذين يجدون هنا الضالة، من بناء للدولة ومن فكر رحب ومندفع ومن عقول تزدان بالمعرفة والتواصل والطموح إلى الأسمى. وكانت الحقبة الفنية المضيئة، وكانت الريشة في أنامل أصحابها مرتاحة على القماشة وتنبىء بنتائج إن لم تكن باهرة على الإطلاق فإنما كانت تحفل بالجهد والجدية والصورة  المدهشة. وكان التراث الذي يستعاد وتقف عنده العيون في كل صالة مرحبة بالنتاج، ما عدا المتحف الذي طالما كان منشوداً ولم يذهب اللثام والقناع عن هذه الأمنية ليرتاح الجميع ويكون الكنف لائقاً بمن يتقدمون، وباللوحات المشتهاة والتي تتطلب اليقظة عليها والسهر عليها، حتى تصير مجيدة.

وترافق الفن والشعر والأدب والفكر العميق رفقة متمازجة ولا ينقطع أحدها عن الآخر، وكان القلم والريشة والمواهب شتى، حتى نكاد نقول أننا نعيش الإزدهار والرخاء في العمل وفي رحلة الثبات والمعطيات الأكيدة.

ونلبث نحن، في مناخ الجودة والحدب على كل شيء من زهرة البيئة الريفية إلى مشاغل العاصمة بيروت، إذ هي آنئذ مستقطبة وجالبة إليها اليمن في الحركة والوصال في مراحل التقدم وبلوغ الغاية، أو ما يشبه ذلك.

وكان أهل القلم، ذلك النادي بأقلامه وسياسته، لا يلجم أحداً، بل يدفع الأدباء معاً إلى الأفق إلى روافد المعرفة. وكانوا يتنافسون ويتصارعون ألا أنهم لم يكونوا في الصحبة إلا قليلاً، وذلك يضمر لهذا، وذلك يريد أن يتفرد، وكانت الأصوات عالية، كل يشد إليه، والإقتدار أليه، وأظن أن الفردية هي كانت الأقوى ولم يحمل النادي ما كان يرمي إليه، وظل الأمر ناقصاً وتعثرت الخطوات كل مرّة، حتى لم يبق أمل، ولكن يحسن أن نغفر للجميع وأن أبلوا البلاء المبين الناقص ولم تأت المحبّة إليهم، ويهبط عليهم روح التعاون والإنبساط والترقي.

وكانت المجلات في الخمسينات تخبرنا ماذا يجري، كل شهر، وما كانت بعد الصفحات الثقافية التي إحتاجت إليها الصحافة اللبنانية في درجة أولى، وكذلك الصحافة العربية. وكنا ننتظر طويلاً أن ننظر إلى النصوص إلى المقالات إلى الأبحاث وذلك كل يوم، لا أن يكون الموعد كل شهر حين يكون الفضول خفّ والشوق فتر. وكانت "الحكمة" مجلة ناعمة الجسد والأسلوب، وقائمة على التلميح، وحيث قلمها فؤاد كنعان، يجلوها لتطل عروساً مرة في الشهر وكانت سطوره الدسمة، وإن قصيرة، تسلي القارىء اللبيب، ويرتوي من النكزة ومن القصائد ومن بعض الأبحاث. ودون أن تدري تحولت الحكمة منبراً لمن يرغب في البزوغ وأن يعطي ما يشاء من القصيدة وسواها، وأن يبرز أمام الجمهور. وهكذا كانت الحكمة على قدر الآداب من حيث أهميتها المحلية، وإلتفاتها إلى النتاج الذي يصدر في لبنان وفي بعض البلدان العربية. أما "الآداب" فكانت قومية عربية، ووجودية مع إلتزام لصاحبها القاص سهيل إدريس وتفوز بالنتاج المختلف مقبلاً من الجهات العدة وكانت الأديب كذلك ناشطة وتبسط على صفحاتها ما يعتبر أنه يعكس الواقع العربي، والفكر العربي، ألا أنها بلا قضية، بلا رسالة، وأنما هي باب لمن كان قادماً نحو الكتابة الحرة ونحو الحرية عامة.

وكانت مجلة الثقافة اليسارية وكانت الطريق أيضاً، وإشارة ثانية إلى أن الموعد الشهري يكاد يبطل، إلا ما كان طموحه بعيداً وسائراً مشتاقاً إلى التعمق وإلى التقصي وإلى النزول إلى الوحي وإلى إشباع ذاته وإن ليس يومياً ولا أن يلبث في التردد وفي الفراغ.

وكان العرب آخراً لا أخيراً في بيروت هي منتداهم وهي الحياة الظريفة والدسمة لهم، كما أنها المتعة وفن عيش وحيث هم على صلة ويطلقون الكلمة من عقالها.

وإنضمت التباشير بعضها إلى بعض، وفي هذا التحدي في هذا الإطارغير المشوب بالكثرة والجلبة التي لا تغني كانت ولادة حلقة الثريا سنة 1956 ومؤسسوها أدمون رزق وجورج غانم وميشال نعمة وأنا ، وكأننا جئنا من التلقائية لا من أحد آخر، وإن كنا لا ننكر أننا أبناء الحكمة، من المدرسة إلى المجلة، وكنا بعد في مطلع الشباب في ريق العمر، ولا نحسب أبداً أننا يجب أن نكون طاعنين، بل أننا في أول اللهاث وأول الترحال وأول الذهاب الطويل، إلى حيث يتاح لنا أن نسترسل إلى حد القيامة، حد الفتون.

ثم أنها طاقتي أرسلت لي الإشارة فلم ألبث دائماً في حلقة الثريا لأنني أطمح إلى حيث ترتكب المغامرة ولها أكون وأفلش على الطاولة مجمل أوراقي وأعصابي. ولهذا السبب أقدمت على الإختيار، في يوم من حياتي كان حاراً وشديد الوقع في من حولي، وفي من كانوا ينتظرون هذا الحسم. ومضيت ليلاً في أوج الإختيار إلى جلسة مجلة "شعر"، وعند وصولي كانت الهيصة والترحاب من يوسف الخال وصحبه الساهرين بهذا القادم الجديد الذي قرر بأن يحمل أدواته وأوراقه ويفوز برفقتهم. هكذا صار ، هكذا كان، هكذا حدث لي في طريقي إلى الحروف والسطور، إلى الأبجدية، وشأني الآخر أنني صحافي، وأنني شاعر في المبتدأ وجئت بهذا الثوب إلى جريدة "الزمان"، وبقيت بضع سنوات، ثم كانت لي جريدة "النهار" منبراً، وصرفت على هذا المنبر أعزّ الصرف والأعمال، وحملت الثقافة على منكبي، وصنعتها دائمة ، والجميع يعلمون أي منقلب كان وأي دروب كانت .والحركة الثقافية-أنطلياس وسائر المجالس الثقافية الناشطة، هي الآن في الطليعة، طليعة الإنطلاق الدؤوب على الجمال وعلى الكتاب وعلى الفكر وعلى السياسة في وضوحها المبدئي، وعلى أسلوب الطهارة المرافق لها، وعلى البحث عن الضائع وعن المجهول وعن الحق والخير أينما هما حاضران.

وأشكرها مرة جديدة وأتمنى لها أن تظل فاعلة، وأن تطبع الأيام الحافلة بالمتناقضات عندنا، بطابع الشفاء والضرب على أوتار الصواب وقول الحقيقة قولاً يضاهي وضوح الأقحوان وشقائق النعمان، وكل أزهار الحدائق الغناء.