"عالم الأخوين رحباني تحية إلى منصور"

الأحد 15 آذار 2009

                                                                              

كلمة د. عصام خليفة
كلمة
محمد دكروب
كلمة الدكتور نبيل أبومراد
كلمة الأستاذة هالة نهرا

كلمة غازي قهوجي


 

  كلمة د. عصام خليفة

أيها الحفل الكريم،

        أقر في مطلع هذه الندوة انني لست اختصاصياً في تقويم الفن عموماً والمسرح والموسيقى والغناء بشكل خاص. ولكنني أشهد امام الملأ أنني منذ وعيت على سماع الغناء والموسيقى، من على موجات الأثير، ما أحببت صوتاً أكثر من صوت فيروز، وما طربت للحن وكلمة شعرية مغنّاة كالحان وكلمات الأخوين رحباني.

        ما هو سرّ محبتي لهذا المثلث؟ سؤال ما استطعت الرد عليه بأجوبة عقلانية واضحة. وربما لن استطيع ذلك. انه الفن العظيم الذي يعبر عن روح الشعب. انه الثقافة الخالدة التي تصدر عن مدى زمني لا نهائي يتجاوز اشد التجاوز عمر العوالم الاقتصادية والسياسية. فالثقافة - كما يقول المؤرخ العالمي فرنان بروديل - هي أقدم شخص في مسرحية تاريخ البشر: العوالم الاقتصادية تتبدل، والمؤسسات السياسية تتحطم، والمجتمعات تتعاقب، أما الثقافة او الحضارة فتبقى وتكمل طريقها.

        ولئن كانت الثقافة في وقت واحد مجتمعاً وسياسةَ وتوسعَ اقتصاد، واذا كان المجتمع يعاني من الصعاب فالثقافة تتمكن من إنقاذه،

        وما يندفع الاقتصاد الى فعله، تحد الثقافة من غلوائه،

        واذا كان مصطلح الثقافة يتناول الدينَ والفكرَ واسلوبَ الحياةِ بكل ما في المصطلح من معانٍ، والأدبَ، والفنَ والايديولوجيا والالوان المختلفة من الوعي.... اذا كانت الثقافة باقة تأتلف بالعديد من الطيبات المادية والروحية، فان المثلث (فيروز - عاصي ومنصور) هو، قبل غيره، المساهم الأول في الاشعاع الثقافي اللبناني، وسيادة هذا الاشعاع، في عالمنا العربي الأوسع وربما في العالم بأجمعه.

        أيها السيدات والسادة،

        ليس من دوري وليس من قدرتي ان احلل مكامن العبقرية والقوة في العمارة الرحبانية الفنية والثقافية. ولا تستطيع ندوة بمفردها ان تبرز جماليات هذه العمارة. حسبي ان اقول ان الفن الرحباني كان فتحاً جديداً في الموسيقى وفي الشعر الغنائي وفي الغناء وفي المسرح. وان جيلنا كان له شرف العيش في العصر الرحباني.

        يبقى ان أشير الى علاقات شخصية كانت تربطني بمنصور خاصة بعد انجازه لمسرحية صيف 840. وبحكم اختصاصي في مجال التاريخ كان هذا العبقري، الذي ربما لا يجود الزمان بأمثاله بعد ألف عام، يتصل بي هاتفياً ويسألني اذا كان بالإمكان ان نلتقي. فكنت البي الدعوة بكل احترام وبكل إحساس بالاعتزاز. مواضيع اللقاء كانت بعض الأسئلة التاريخية وبعض الشخصيات وبعض الأحداث. ثم كنا نتطرق الى القضايا السياسية المتفرقة.

        ما كان يبهرني به ثقافته التاريخية الشاملة وإلمامه بدقائق التفاصيل واطلاعه على كم هائل من المصادر والمراجع. وكم كنت فخوراً ان يستند منصور على ما وفرّت له من عشرات المصادر والمراجع والوثائق حول عامية انطلياس في صيف 840.

        وكلما سمعت هذه المسرحية اشعر ان مردودها الوطني في الذاكرة التاريخية لأبناء شعبنا تفوق آلاف المحاضرات التي نلقيها على منابر الجامعة او في أنديتنا الثقافية.

        في لقائنا الاخير كان منصور مصّراً، في مسرحيته عودة الفينيق، على ابراز صورة الكرامة عند اهل جبيل. بينما كان اسامة الذي كان لي الشرف ان أدرّسه التاريخ في الجامعة اللبنانية، أميل إلى ابراز روح التخاذل والخنوع والتملق تجاه فرعون مصر. وعندما قدمت للرحبانيين الكبيرين وثيقة (اون آمون) المصري الذي وصف جبيل في المرحلة موضوع المسرحية، كان فيها ما يرجّح موقف الرحباني الأب، مع العلم ان النص الرحباني ما كان يهدف الى عرض الوقائع العلمية وانما كان ينطلق من النسيج التاريخي المرصّع بالخيال الى آفاق التجربة الانسانية الخالدة مدى الايام.

        أيها الحفل الكريم،

باسم الحركة الثقافية - انطلياس التي كان لها شرف الصداقة والتعاون مع منصور والعائلة الرحبانية الكريمة في اكثر المناسبات. وفي المهرجان اللبناني للكتاب، دورة منصور الرحباني، ومن على منبر مسرح الاخوين رحباني، نقول بالفم الملآن:

الفن الرحباني هو الأنصع في مجد لبنان الباقي، والعمارة الرحبانية هي الأغلى في الرصيد الحضاري، عندما توضع في الميزان انجازات شعبنا وما قدّمه للثقافة الانسانية ذات الابعاد العالمية. وان هذه الانجازات الرحبانية هي ثروتنا الخالدة بموازاة موبقات اهل السياسة الناطرين على ابواب القناصل، والمتلقفين "صدقات" الذل من موائد غلمان النفط، سماسرة الأرض والعرض والكرامة الوطنية.  "جبال الصوان" بابطالها ومقاوميها، المتنوعي المشارب، ستهزم كل طامع بارضنا المقدسة، وكل مهدّد لحريات شعبنا.

        نحن الرقم الصعب ونقطة الدائرة في المسألة الشرقية، ولا سلام في شرق المتوسط على حساب وحدة واستقلال وسيادة دولتنا اللبنانية الحرّة.

        العدالة الاجتماعية والديموقراطية والمساواة، والتفوق في اقتصاد المعرفة، ستبقى البوصلة الهادية لشبيبتنا وابناء قرانا ومدننا وستستمر بيروت عاصمة الكتاب العربي.

        وانت يا صديقنا الكبير منصور وكل الفن الرحباني - ستمخر عباب تاريخنا الماضي والحاضر والمستقبل ملكاً متوجاً على مشاعر اجيالنا على مدى العصور.

كلمات عن الصراعات الاجتماعية

في المسرحيات الرحبانية

  محمد دكروب

        في البداية أقدِّم لكم هذه الحكاية، التي لها ما بعدها:

        * ذات يوم، روى لي منصور الرحباني طرفة من بداياته، أيام الكدح والسعي وراء أسباب العيش، أوائل الأربعينيات... طرفة يعرف هو أنها تثير اهتمامي، قال: "هل تعرف أنني كنتُ شرطياً في بيروت، أيام الكدح وضيق الحال والأحوال؟". قلت: "أعرفُ هذا، ولكن بدون أيّة تفاصيل". قال: "قد لا تهمّك التفاصيل الآن، ولكنّي أحبّ أن أروي لك تفصيلاً طريفاً، تقرّباً من يساريّتك التي قد لا أكون منها، ولكنّني أتعاطف معها. إسمع:

        "ذات يوم، وكنتُ مداوماً في دائرة الشرطة، سيق إلى الدائرة عدد من الشباب مقبوض عليهم بتهمة لا أعرفها.. كنتُ جالساً خلف طاولة وبيدي قلم أخرطش به. تأمّلت في هؤلاء الشباب المحشورين في الزاوية بانتظار التحقيق معهم.. من ملابسهم وملامح وجوههم الغاضبة والمتحدّية وغير الخائفة، تكهّنت بالجهة التي ينتمون إليها. قلت في نفسي: فلأجرِّب لأتأكَّد... وأمسكت بالقلم وصرتُ أنقر برأسه على الطاولة الخشبية بإيقاعات معيّنة، وأدندن بلحنٍ ما وأنتظر ردود أفعالهم. كانت الإيقاعات تحيل إلى المقدّمة اللحنية لنشيد نضالي محدَّد.. أحسستُ بأن آذانهم أخذت تتّبع اللحن، وأحسست بشيء ما سوف يحدث، فحوّلت الدندنة إلى تمتمة خافتة لأبيات من نظم شاعرنا اللبناني العربي الأنطلياسي قبلان مكرزل:

                "وطني يا مطلع الجمالِ         وطني يا مسرح الأباة"

          مطلع نشيد على إيقاع نشيد الأممية.

        ... فإذا أصوات العشرة، المقبوض عليهم في دائرة الشرطة، تتصاعد عالية، بحماس مشحون بالفرح وبالتحدّي، والأصوات العشرة تواصل كلمات النشيد:

                "وطني بالموت لا نبالي         شأننا أن نسحق الطغاة"

        وأكملَتْ الأصوات العشرة المقطع الأوّل الأساسي من النشيد، وشعرتُ أنهم اطمأنوا إليّ، وحسبوا أنّني من العائلة نفسها، من الرفاق...".

        وأوضح منصور: "كان هذا النشيد هو نشيد الشيوعيّين اللبنانيّين في تلك المرحلة... وعلمتُ أنه قد قُبض على هؤلاء الشبّان في مظاهرة احتجاجية أو مطلبية ما.

        وهذا ما يعنيك الآن من الحكاية أيُّها اليساري الشاب".

        (ولمعلوماتكم: فقد كنتُ شاباً في ذلك الزمان).

        * الحكاية الثانية رواها منصور أيضاً عن عاصي (وكانا يعيشان أكثر أوقاتهما في مقهى، شبه شعبي، لوالدهما حنا عاصي الرحباني. (وكانت تتردّد على المقهى أنواع متنوّعة من الروّاد ينتمي أكثرهم إلى الفئات الشعبية والكادحة وعدد من القبضايات)... روى منصور أن شقيقه عاصي عثر ذات يوم على ورقة العشر ليرات على أرض المقهى.. أخذها لوالده فأخذها والده منه وقال له: هذه لها أصحاب. وعلَّقها على الحبل بحيث يراها روّاد المقهى على أمل أن يعود صاحبها فيستردّها!.. وعاصي يتأمّلها وهي ترتعش في الهواء!.. وتختلط الأسئلة في رأسه.. أيام وأيام، ولم يأتِ أحد لأخذها.. فتناولها عاصي، ورسم ما يشبهها على ورقة سمراء وعلّقها على الحبل حيث الأولى، الأصلية!.. وانطلق إلى بيروت حيث استطاع أن يشتري كمنجة عتيقة ليتعلّم عليها العزف.

        ولا يهمّنا، هنا، إذا كان الوالد قد اكتشف اللعبة.

        ما يعنينا، من الحكاية الأولى، هو دخول منصور الكادح بيديه وجسمه خلال ذلك الزمان، إلى قلوب المناضلين الكادحين، عبر الدندنة بذلك النشيد الحماسي... عبر الموسيقى والنغم، والمكر الطيّب.

        وما يعنينا من الحكاية الثانية: هو الدور التمهيدي الجميل الذي لعبته تلك الكمنجة العتيقة في نسج أجمل حكاية لأجمل إبداع موسيقي، شعبي وحداثي، في لبنان والعالم العربي، منذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا، وعلى مدى الزمان الآتي...

        ... من قاع الحياة وصراعات العيش.. ومن واقع الفقر والكدح والأحلام... اقتحم هذا العبقري الذي اسمه عاصي ومنصور، والذي صار اسمه "الأخوين رحباني" العالم النغمي اللبناني العربي الآسر، وأخذا ينسجان تجاربهما معه وفيه، ويُبدعان إضافاتهما إليه، وتالياً: تجديد مساراته والسير به في اتجاه آفاق الدنيا.

        حملا معهما، في البداية، مشاهد الريف وحكايات الحبّ شبه الخجول في الريف... بدآ بتكوين فريق طريف أعطانا حكايات سبع ومخّول وبو فارس وبرّاد الجمعية، وكيف تتمازج قصص الحبّ بالفكاهة والسخرية وخبريات المكر الجميل.

        وعندما عثر عاصي على فيروز، تكامل المشهد، وبدأت الرحلة الأجمل والأصعب: أغنيات الريف والحبّ الصافي: (عتاب- إلى راعية- نحنا والقمر جيران...)- وأمسيات الدبكة والرقص الآتي من الفولكلور الشعبي، وبدايات الظهور على أدراج بعلبك.. فالدخول، ابتداء من "جسر القمر" (1962)، عالم "المسرح الغنائي" الطالع من تنويعات الفنون اللبنانية، ومخزون التراث العالمي والتجارب العربية في هذا المجال (سيد درويش، بالأساس)... وبتصميم إبداعي وشغل على تثقيف الذات والدراسة الموسيقية.. وبعد ترسيخ فرادة أغنيات هذا الثلاثي والموسيقى الرحبانية، أخذوا ينسجون - بوعي فنّي وفكري- فرادة "مسرحهم الغنائي"، فرادة لا تعود فقط إلى جديد الموسيقى والألحان، أو جديد الشعر المغنَّى ومحاولات تطوير الرقص الشعبي... بل فرادة تعود - بالمقدار نفسه- إلى دخول الصراعات الاجتماعية في التكوين الأساسي لهذا "المسرح الغنائي"، وتالياً: صيرور هذا المسرح الغنائي، بدوره، معْلماً مهمّاً من معالم حضور الإبداع الفنّي الثقافي في الصراعات الاجتماعية:

        من الصراعات على المياه بين جماعات القرى، إلى احتجاجات الفلاّحين على ملاّك الأراضي، فمواجهات المظلومين للسلطات المسيطرة القامعة، فتصدِّي الفقراء لمطامع المستثمرين، ومظاهرات العمال من أجل حقوقهم في العيش الكريم، والانتفاضات الشعبية ضدّ مطامع الأجنبي، فثورات التحرّر من أجل الاستقلال والحريّة... صراعات تتجلّى في لوحات إبداعية عبر عديد المسرحيات الرحبانية.

        وأزعم أن المسار العام لمسرحيات الرحابنة هذه يتكشّف إبداعياً عن وقوفهم الواضح والحاسم مع الناس الكادحين، الشغيلة، أبناء الشعب البسطاء، ومع المكافحين من أجل التغيير والعدالة، ومع الكادحين بأذهانهم من شغّيلة الثقافة على جبهة الإبداع، يضيفون جديداً إلى كنوز ثقافات العالم.

        ويتجلّى هذا الميل، إبداعياً، في كيفيّات رسم هذه الأنواع من الشخصيات التي تحتشد وتنهض في الساحات، داخل هذه المسرحيات، وقد صوّرها الرحابنة بنضارة وتألّق وبحبّ عظيم: ضرِّيبة المعول، حارثي الأرض، باذري القمح، الحصّادين، الرعاة، الحائكين، و"الناس الطيبين البسطا (حسب كلمات الرحابنة) القاعدين عالبواب/ السهرانين بالبيوت/ الماشيين على الطرقات/ الواقعين تحت البراميل وحمولة السفن/ المسوَدِّين بالمواني عا هوا البحور"... البيّاعين، الكنّاسين، شغّيلة المرافئ، العاملين في المصانع، المحتشدين في المظاهرات، حاملي اليافطات بالمطالب، المناضلين المحبوسين في السجون، المكافحين لتحرير الوطن، العاملين لتغيير العلاقات باتّجاه العدالة، الأدباء الشعراء الفنّانين المُبدعين العاملين دائماً للتقدّم والحريّة وتطوّر إنسانية الإنسان.

        ... هذا التعداد لأنواع الناس الكادحين المبدعين ليس نمطاً من الإنشاء الكتابي، بل هو تعداد مستمدّ من مسرحيات الرحابنة أنفسهم، من "جسر القمر" (1962) مروراً بأكثر من عشرين مسرحية غنائية بتوقيع "الأخوين رحباني"، ثم أكثر من عشر مسرحيات غنائية بتوقيع منصور الرحباني، وصولاً إلى "عودة الفينيق" وتصوير احتدامات الكفاح لتحرير المدينة والوطن من المحتلّين ومن الحكّام المحلّيين الدمى صنائع المحتلّين.

        ولا بدّ من القول هنا: إن موقف الرحابنة هذا من الناس الشغيلة الكادحين، والهتاف بقضاياهم، ليس شكلاً من أشكال التبنّي لمقولة "الإلتزام" الطيبة الذِكر!.. ففي تعبير "الإلتزام" شيء من معاني "الإلزام" الذي يُفرض من خارج الذات إلى داخلها، أو شيء من معنى "إلزام" الذات بما تتوهّم أنه نابع من الذات... المسألة عند الرحابنة، وعند أيّ مبدع حقيقي أصيل، هي مسألة كيانيّة إنسانية تتكوّن في الداخل الإنساني عبر تجارب العيش، ومكتسبات الفكر، والتراكم المعرفي، وتجارب الإنتاج الفنّي الإبداعي... فإذا هذا المسار يتجلّى بوصفه من طبيعة الأشياء وطبائع الأمور... فليس عجيباً أن يتجلّى هذا الانحياز إلى شغيلة العمل وشغيلة الثقافة وشغّيلة الإبداع الفنّي المعافى، في جميع مسرحيات الرحابنة الغنائية منذ أوائل الستّينات حتى يومنا هذا.

        والمهمّ - وربّما الأهمّ- في مسار الرحابنة والفنّ الرحباني، هو الدأب - أو الشغل والكدح- في التحصيل المعرفي لتطوير إبداعهم الفنّي، والتفاعل مع جديد الفن عموماً، وفنون الموسيقى والدراما المسرحية والموسيقية خصوصاً في مختلف أنحاء العالم.. فإذا تتبّعتَ مسار نتاج الرحابنة المسرحي، في جوانبه الفنّية والتقنية والمشهدية، تلمس حركة التصاعد في البنى الدرامية عبر سلسلة هذه الأعمال... فالتطوّر والتقدّم وتطوير الذات هاجس تكويني عند الرحابنة، وهاجس تكويني أيضاً عند الرحابنة الجدد بقيادة الكبير منصور، بعد غياب الرائع الكبير عاصي.

       

        إن دخول هذا الثلاثي الشاب: أسامة وغدي ومروان الرحباني إلى عالم منصور، عالم العراقة الفنّية الرحبانية، يشكّل مرحلة مهمّة مختلفة عن ومؤتلفة مع التراث الرحباني الأصيل: تجارب جديدة في الموسيقى- تقنيات جديدة في الرقص التعبيري بحيث يصير الرقص جزءاً مكوِّناً في درامية العمل ككلّ، وجزءاً من حكاية المسرحية نفسها ومن رؤاها ومن تكوينها  الموسيقي والمشهدي- وتقنيات جديدة في المشهدية المسرحية، تقنيات لم تكن في العهد الرحباني الأوّل، وإن كانت في طموحاتهما وأمنياتهما بالتأكيد.

        هذه المرحلة تحمل جديدها إلى المسرح الغنائي واقتراحاتها الفنّية، وتحمل تعثّراتها أيضاً - كأيّ جديد- كما تحمل قضاياها الفنّية والتقنية والفكرية على السواء... فهي تحتاج باستمرار إلى حضور النقد الجدّي في هذه التجربة الممتدّة منذ عشر مسرحيات.. ولا بدّ أن تنفتح على جديد آخر بعد غياب الكبير منصور.

        (وأرجو أن تُتاج لي فرصة الإسهام النقدي والتقييمي على السواء، وبقدر ما أستطيع في المجالات التي يخيّل لي أنني أستطيع الخوض فيها ومعها).

        ولا شكّ في أن مسرحيات غنائية تاريخية من نوع: "صيف 840" و "آخر أيام سقراط" و "أبو الطيّب المتنبّي" و "ملوك الطوائف" و "زنوبيا"... هذه المسرحيات تتطلّب بالتأكيد دراسات وقراءات جدّية، فنّية وفكرية ودرامية ومشهدية، وقراءات في رؤية المؤلِّف ليس في مدى "تطابق" المسرحية مع الحوادث التاريخية (فهذه ليست أبداً مهمّة المسرح الغنائي) بل رؤية مدى تعبيرها عن روح تلك الفترة لذلك الزمان، ومدى تعبيرها أيضاً عن العلاقة بينها وبين زماننا، وكذلك النظر في رؤية الفنّان المؤلِّف نفسه، بالأساس، للزمانين.. ومدى تحويل الحدث التاريخي إلى دراما مسرحية موسيقية غنائية مشهدية وحكائية أيضاً.. ثمّ: مدى حضور تلك الشخصيات التاريخية في إهاب وكيان هذا الممثّل وتلك الممثّلة في هذه المسرحية أو تلك.

        فهل يتزحزح النقد عن "عرشه" الموهوم، ليبحث في فنونٍ يشاهدها ويتفاعل بها عشرات ومئات آلاف الناس في لبنان والعالم العربي وأقطار عديدة من بلدان العالم؟

        لقد أعطانا الرحابنة جميعاً، من عاصي إلى منصور إلى فيروز، إلى زياد، والياس، والرفّ الجديد من الشباب: غدي وأسامة ومروان، الكثير الكثير في هذا المجال الفنّي الذي له فرادته.. فلا أقلّ من أن تُدرس أعمالهم هذه درامياً وموسيقياً وإخراجياً وشعرياً وحكائياً، بما تستحقّه من بحث معرفي وتفعيل في مختلف مكوّنات هذه الإبداعات المسرحية.

        وستظلّ أجيالنا، وعلى مدى الزمان الآتي، تتمتّع بجماليات هذا النتاج المسرحي الغنائي الفريد الذي وهبنا إيّاه عاصي ومنصور.

                                تحية إلى عاصي وتحية إلى منصور.

                                                                وشكراً لكم.    


                        قراءة أولى في المسرح الرحباني الجديد

                                 منصور وأولاده

  مداخلة قدمها: الدكتور نبيل أبومراد

  في مدى زمني يفوق نصف القرن بقي الفن الرحباني يشكل معادلة أساسية في ساحة الثقافة اللبنانية والعربية . فلم يكن يستقيم بحث ولا تحليل ولا مقاربة ولا تحقيق في علم الموسيقى والمسرح والغناء في المنطقة من دون هذه المعادلة .

   ولا شك في أن التحدي الأكبر أمام منصور كان في أبقاء نفسه ، ومن خلاله ، الفن الرحباني داخل هذه المعادلة بقوة ، بالرغم من أنه كان قد تجرد من ركنين أساسيين هما عاصي وفيروز .

   فكان لا بد للرجل أن يقف وقفة تأمل وتفكير عميقين ، فهو أمام تحد مزدوج : هل يتوقف أم يتابع؟ فاذا توقف، يتهم بالتقصير بعدم ابقاء الاستمرارية في المسيرة الرحبانية التي يجب أن تستمر . واذا تابع وحيدًاً ، فالمسؤولية أكبر في الحفاظ على بهاء المؤسسة الرحبانية وفاعليتها وتاريخها .

   وهو كان يعرف بالطبع أنه سيقع تحت سيف المقارنة بين ما كان وما سيكون . ومع ذلك قبل التحدي ومشى وحده ملكاً ثلاثة وعشرين عاما ،ظل يقرأ ويؤلف ويلحن بشغف يؤازره أولاده الشباب بعقولهو وقلوبهم ، وفوق ذلك باحساسهم بانهم أصبحوا معنيين في لعبة التحدي هذه ، بل هم في واجهتها ، فتأبطوا ايمانهم وثقافتهم الموسيقية ونبض شبابهم وساروا تحت لواء الأب والمعلم .

   وكأني بهم جميعاً قد حيدوا الاهتمام بكتابة الأغاني المنفردة كلاماً ولحناً واختاروا المسرح بكل ما في المسرح من صعوبة وتعقيدات وتحدٍ مجالاًلمتابعة طريق الابداع . فكانت الحصيلة احدى عشرة مسرحية هي بحسب تسلسلها التاريخي :

   1 - صيف 840  (1987)

   2-الوصية        (1993)

   3- اَخر أيام سقراط  (1998)

   4- وقام في اليوم الثالث  (2000)

   5- أبو الطيب المتنبي (2001)

   6- ملوك الطوائف (2003)

   7- حكم الرعيان   (2004)

   8- أخر يوم      (2004)

   9- جبران والنبي (2005)

   10- زنوبيا       (2007)

   11- عودة الفينيق (2008) (2009)

   بما تتميز هذه الأعمال ؟

   في قراءة سريعة يسمح بها المجال الزمني لهذه الندوة ، يمكن أن نستقرىء الملامح البارزة التي تتميز بها هذه الاعمال ، والنقاط التي تختلف فيها عن المسرحيات الرحبانية السابقة .

   فهي كما تدل عناوينها مأخوذة في معظمها من مرويات التاريخ ، وتحديداً من سير بعض عظمائه . ثم تركز على السمات الذرى من خصائصها . بمعنى أنها تعيد تصوير كائنات ، وان كانت تحيا يارادات متصارعة ، وأهواء متضاربة ، لكنها تسير نحو نهاية مقررة ، وتتماهى في غلاف ملحمي تزجيه مجموعة من المفردات التي سبق تداولها في المسرح الرحباني مثل: رايات الحرية ، شعوب الأرض ، الزمان اللي جايي ، متوج بالخطر ، هدير الريح ، متوج بالريح ، الغامض ، الثورة والثوار ، صهيل الخيل ، السيوف اللي عمتلمع ، ملوك الأرض ، وغيرها من المفردات التي تصلح لمناخ ملحمي .

   واستطراداً للعلاقة بالتاريخ ، فقد جاءت هذه الأعمال لتعيد توثيق محطات ومواقف من التاريخ من منظار خاص بمؤلفه ، في حين كانت الأعمال الأولى ذات المحور القروي تهتم بتوثيق الجانب الشعبي منه بما فيه من عادات وتقاليد وفولكلور ، القيم التي لم يعد يتطرق اليها بصراحة المسرح الرحباني الجديد .

   فمن المعروف أن المسرح الرحباني الاول بني على محورين، محور القرية ومحور المدينة . الأول يبرز المناخ القروي بكامل وجوهه وملامحه وتفاصيله ، وما أغناها ، والثاني مناخ المدينة ومشاكلها الطارئةعلى أشخاص رحبانية بريئة في الأساس وعفوية تقع ضحية هذا الواقع الجديد المليء بالتناقضات بأشكالها كافة . لكن المسرح الجديد خرج من اطار هذين المحورين وتوجه الى محور أوسع وأشمل، مداه التاريخ وأبطاله عظماء من هذا العالم يحملون هموم الانسان في كل زمان ومكان : فيلسوف كوني من مساقط الغيث الاغريقي ،واله كوني من مساقط الغيث السماوي ، وشاعر ملأ الدنيا وشغل الناس ، وملكة حفر اسمها في التاريخ ، وأديب لبناني الأصل عالمي الانتشار ، ورموز من الميثولوجيا ، هؤلاء من أراد منصور أن يتحاور معهم، ويناقش أفكارهم، ويستخلص تعاليمهم ،ويستنطقهم بلغة خاصة تزاوج الشعر والنثر والموسيقى . انها مهمة لا يتجرأ عليها سوى من ملك مخزوناً جمّاً من الثقافة ،وخبرة غنية من الحياة ،وثقة كبيرة بالنفس بعد انكباب على القراءة والتنقيب في المراجع ليتمكن من تقصّي الأحداث من جانبها الصحيح ، ثم يصّورها بلباقة ومرونة ويقّربها من القارئ والمشاهد ، ويضيف اليها الاسقاطات والمقاربات بحذاقة الشاعر الدرامي المجّرب حتى تؤتي معانيها الانتقادية وأهدافها الاجتماعية فتشعر وكأن وقائعها انما تحدث في ساعتها وليس في الزمن الغابر، فاذا ذكرياتها تقوم وتقعد في خواطرنا .

   ولكن يجب التوكيد على أن هذا المسرح وان كان قد وسع اطاراهتماماته الا أنه أبقى على الأفكار الأساسية التي قام عليها الفكر الرحباني عموماً ،ونلخصها بالعناوين الاتية :

- رفض المحتل أيا كان , كما في جبال الصوان و فخر الدين.

- الحرية كمفهوم فلسفي اجتماعي انساني شامل (معظم المسرحيات الأولى)

- نقد التخاذل السلطوي , كما في صح النوم و الشخص.

- نقد الظلم السلطوي , كما في يعيش يعيش و الشخص و لولو و ناطورة المفاتيح .

- الطمع بكرسي الحكم , كما في الشخص ( كلن بدن يقعدوا عالكراسي و ما في كراسي تكفي)

- تحرير الأرض يجب أن يقوم به أصحاب الأرض في الداخل كما في جبال الصوان.(اللي بحاربو من برا بيضلوا برا...المصدر جوا)

- وجود ثورة و ثوار , كما في جبال الصوان و فخر الدين وناطورة المفاتيح .

- اعلاء شأن العدالة , كما في معظم الأدب الرحباني.

- انتقاد أفراد الشعب الذين يتقاتلون فيما بينهم و العدو على الأبواب.كما في جبال الصوان أيضًاٍٍٍٍٍ - محور الحب كظاهرة انسانية راقية, كما في موسم العز و دواليب الهوا و بياع الخواتم, و غيرها .

_ بقاء المجتمع (اللبناني) محوراً أساسياً في فكر منصور يحيل اليه كل محاولات الاصلاح من خلال الاسقاطات والمقاربات كما كان يحصل في معظم الأعمال الرحبانية .

   هذه القيم لم يكن بمقدور منصور أن يتخلى عنها لانه يعرف أن الأدب أو الفن الراقي هو الذي يحتفظ في تضاعيفه بمثل هذه القيم الانسانية الكبرى .وكأني به لايزال يتابع ورشة بناء الوطن الحلم كما كان يفعل مع عاصي .

   أمر اخر فعله المسرح الرحباني الجديد ، وهو الاحتفاظ بالبعد الدرامي للنص والحبكة، فلم ينح الى الشكل الاستعراضي البراني الأجوف، بل بقي للنص البنبة الدرامية مع مجموعة من الشخصيات الضرورية الأساسية منها والثانوية ، وأبقى الأغنية تسير في سياقها الدرامي المطلوب لتبقى جزءاً من الحالة الأنفعالية للشخصية وموقفاً مبرراً بشكل عام ، في حين كانت الأعمال الأولى تسمح لفيروز من وقت لآخر بأن تؤدي أغنيات منفردة تبدو وكأنها خارجة عن سياق البنية الدرامية ومنطق المعالجة السليمة للشخصية ، وهذا ما حسبه بعض نقاد تلك الحقبة نقصاً وعيباً . والحقيقة ، ان الأغنية الفيروزية لم تكن بعيدة عن السياق الدرامي الى هذه الدرجة ، بل كانت في صلب المعنى الانساني العام . فعندما غنت " سوا ربينا " في الشخص ، لم تكن تناجي عربة الخضار التي كانت تسترزق منها في بيع البندورة، بل بدت الأغنية وكأنها تعبير عن حالة فراق أليم بين عاشق ومعشوق، وتلك حالة عامة تصب في المعنى الانساني والوجداني الذي دارت حوله حكاية المسرحية . وكذلك عندما تغني " يا دارة دوري فينا " في المحطة فقد كانت تعبر عن قلق الانسان من الكبر والسقوط في النسيان، " تعا تنتخبا من درب الأعمار - واذا هني كبروا ونحنا بقينا زغار- وسألونا وين كنتوا - وليش ما كبرتوا انتوا- منقلن نسينا " والتقدم في العمر مصدر قلق لكل انسان في كل زمان ومكان . وعندما غنت " ايماني ساطع يا بحر الليل- ايماني الشمس المدى والليل- ما بيتكسر ايماني - ولا بيتعب ايماني ، كانت تنهد الى حالة ايمانية تشد معها مشاعر المؤمنين الى مراتب سامية من الانعتاق والتطهر الروحي .

   بهذا المعنى ، كان الناس يقبلون من فيروز الخروج عن سياق النص ، ظاهراً ، لأن الأغنية كانت تعوض في معانيها عن ذلك الانكسار في السياق اذا حصل. وتالياً ، فان غناء فيروز كان كافياً بذاته لاشباع توقهم الى صورتها وحضورها .

   والموسيقى ، لولب المسرح الغنائي ، وقد تبادع الأخوان عاصي ومنصور في صناعتها وصقلها والباسها لبوساً روحانياً مشرقياً ، وتمكنا من خلالها من لجم التأثير المصري على الأغنية اللبنانية الذي كان طاغياً في تلك الحقبة  . هذه الموسيقى خضعت أيضاً بدورها لتغيير واضح قاده غدي وأسامة . ويبدو أن أسامة كان له اليد الطولى في تلك المهمة . كمؤلف موسيقي ، أراد أسامة أن تكون له شخصيته المتميزة، فأكد على ربط الموسيقى بالأبعاد الدرامية للنص وتحولاته كافة ، فجاءت ذات عصب متوتر ومتطلب في الغناء والعزف معاً ، وجرأة في مد المساحات الصوتية ، وتنقل نابض متسارع بين السلالم وهو ما يسمى في علم الموسيقى بال               modulation وحاول أن يحافظ على الميلوديا الشرقية من خلال تقنية غربية الطابع .

   فكان لابد لهذا الخط الجديد في التأليف الموسيقي للمسرحية الرحبانية الجديدة أن يحدث تحولات بينة اختلفت عن الخط الموسيقي الرحباني المألوف الى حد بعيد، فاختفت بالدرجة الأولى شحنات الطرب المشربة بالألحان الشرقية و البيزنطية والسريانية، وكذلك الألحان ذات المناخ الشعبي والفولكلوري مثل الميجانا والعتابا والماني والقراديات الشعبية التي كانت من لوازم مسرح غنائي كان صورة لزمانه وعالمه ، وهي صورة جميلة ولا شك ، الا أن الأجيال تتعاقب و كل جيل يحمل معه ثقافته ومفاهيمه وشروطه ، وهذا من سنة التطور . وكذلك الظروف الاجتماعية والسياسية تتغير وتفرض قوانينها . فلم تعد الضيعة كما صورها مسرح الأخوين رحباني في براءتها و بساطة ناسها وعاداتها وتقاليدها ،في أفراحها وأحزانها وسهراتها سوى صورة ضعفت ملامحها الى حد بعيد أمام صور جديدةحملتها العلوم الحديثة والعولمة والانفتاح وتطور وسائل الاتصال وغيرها، فلم يعد بالامكان العودة الى تلك الضيعة الا من طريق الخيال والحنين ، وكان الأخوان قد مهدا لذلك منذ ميس الريم عندما لم تستطع زيون ابنة المدينة الجديدة والتي دخلت عالم التجارة من باب عريض أن تصل الى ضيعة جدتها ، كحلون فتعطلت سيارتها في منتصف الطريق ، ولم يتكرر المشوار .

   الا أن هذا التجديد الموسيقي لم يمر من دون أن يترك ، على ما يبدو ، اشكالية حادة لدى الناس في قدرة هذه الموسيقى على التوفيق بين جيلين ،وامكانيتها في الوقت نفسه من أن تجد طريقاً سالكاً بأمان الى وجدان الناس بحيث تعيش معهم في خواطرهم وتمس منهم على الدوام مواضع الشغف والحنين كما كانت موسيقى الأخوين تفعل ولا تزال .

   هذا واحد من التحديات ، ربما ، التي قد تواجه الموسيقى الرحبانية الجديدة . مع التذكيربأن هذه الموسيقى لم يعد من أولى اهتماماتها التفتيش عن حالة طربية ذهنية بل تعمل على تصوير حالات الصراع في النص التي تختلف وتتنوع بين الشدة واللين والخداع والتآمر والنصر والهزيمة في صراع يقوده ملوك وقواد ومفكرون وأنبياء وثوار ، بمعنى آخر ، انه عالم جياش يضج بالقسوة لا مكان فيه للطرب والاسترخاء .

   أمر آخر لا يمكن أن نتناساه ونحن نتحدث عن المسرح الرحباني الأول ، انه الحضور الفيروزي الطاغي صورة وأداءً ورمزاً . فيروز التي كان حضورها كافيا ًبذاته سواء غنت أم مثلت . انها البطلة التي كان الفكر الرحباني يتنفس من خلالها . ومعها وحولها كانت تتمحور الأحداث والأفكار والمواقف حتى بدا المسرح حالة رحبانية بشعاع فيروزي .

   ان بطلة كهذه لا بد وأن يترك غيابها فراغاً موجعاً على المسرح الرحباني بعامة ، كان من المستحيل تعويضه . وقد بدأ هذا الغياب يظهر منذ المؤامرة مستمرة سنة 1980 والربيع السابع سنة 1981 . ومما لا شك فيه أن منصور كان يدرك أهمية هذا الغياب وصعوبة ملئه بفنان أو فنانة من طينة فيروز . ويا ليت فيروز وحدها . فحول فيروز كان هناك مجموعة من فنانين كبار أيضاً تركوا بصمات واضحة في المسرح والفن الرحباني عموماً أمثال : فيلمون وهبه ونصري شمس الدين ووليم حسواني وايلي شويري وجوزيف ناصيف ... مجموعة طيبة من فنانين أصيلين ثبت حبهم وقبولهم في وجدان الناس ، فكيف التعويض عنهم ؟ لا شك أنها معضلة كبرى واجهها منصور . لكن منصور أدرك أيضاً أن هذه هي سنة الحياة والتطوروهو الذي يقول في "القصور المائية": " اذا سيطر الأجداد وقمعوا الأجيال التي تحاول تثبيت مفاهيمها التغييرية ، يذبل بهاء العالم وتنطفىء شمس الفرح في الانسان "فلم يعدم ايجاد فريق جديد من الفنانين وفي طليعتهم غسان صليبا وكارول سماحة وبقيت هدى وانطوان كرباج صلة وصل بين الجيلين . الى جانب مجموعة من الممثلين والممثلات الشباب كان لابد من تكريسهم ومسحهم بميرون الروح الرحباني والعمل على تجذيرهم في وجدان الناس ، وتالياً تقبل الناس لهم وعدم اعتبارهم دخلاء يشوشون على ذاكرتهم الحاملة صوراً بهية من الزمن الجميل .

   أما التجديد الآخر الذي حمله المسرح الرحباني الجديد ، الى جانب الموسيقى ، فهو على صعيد التشكيل الاخراجي والسينوغرافي . والمعروف أن المسرح الأوبرالي والاستعراضي والغنائي عموماً يعطي دوراً بارزاً للفخامة الزخرفية والتشكيلية ولوازم الديكور والاضاءة والأزياء وغيرها من العناصر التي باتت مطلباً أساسياً في المسرح الغنائي الحديث ، وأصبح الغربيون يستعملون تقنيات مذهلة في هذا المجال مسخرين امكانيات التطور في التكنولوجيا ووسائل الاتصال الى أبعد حد . هذا الأمر لعبه مروان الرحباني ببراعة ، فقد عرف كيف يضفي على المسرحية الجديدة أبعاداً جمالية وغنىً مشهدياً بالغ الترف مستفيداً الى أقصى حد ممكن  من كافة عناصر السينوغرافية وتوظيفها في لعبة جمالية متكاملة ومتناسقة تشبع نهم العين وتقوي العنصر المشهدي الى أبعد حدوده .

   هذه بشكل عام الخطوط الرئيسية التي بني عليها مسرح منصور الرحباني وأولاده ، فحدد ملامح هذا المسرح شكلاً ومضموناً باسلوبه الخاص وبنمط ابداعي متميز من دون أن يتنازل عن أي من قناعاته الفكرية الخصبة التي عاشت معه، وهي قناعات المفكرين والفنانين الكبار كالذين يسخرون فكرهم وفنهم في سبيل القضايا العظيمة لأمتهم .

   المعذرة اذا كان في هذه القراءة الأولى للمسرح الرحباني الجديد نقاط لم نتطرق اليها أو أفكار لم نتوسع في تحليلها لتأخذ حقها من التوضيح ، فان آثار منصور الرحباني من مسرح وشعروموسيقى ستبقى حجراً أساساً في الثقافة اللبنانية المعاصرة ، وستكون حتماً موضوعاً للبحث والدراسة من قبل الكثير من الباحثين والمهتمين بشؤون الجمال في كل مكان .


  كلمة الأستاذة هالة نهرا

  • 1. الأخوين رحباني: قراءة في معالم النهضة الموسيقية الرحبانية
  • 2. منصور باحثا ً عن الجرأة في جديد النوطة:

          تتمات مستحدثة لمقوّمات المسرح الغنائي الرّحباني الجديد

            

الموسيقى لدى منصور الرحباني على ترابطٍ وتفاعل مع حركة الحياة والفكر. وهي  التعبير الأكثر رهافةً وتعقيداً لهذا الفكر. فخاصيَّتُها في أنّها تحمل تمازجاً بين الحسّ الذّاتي وبين الفكر المجرَّد. وفي تناولنا لنتاج منصور الموسيقي، حيث تفاعلت الذات مع محيطها في الواقع المحلّي وفي مداركها للمدى الأوسع المتّصل بالفضاء العالمي، لا يمكننا الاّ أن نقيّمه مبدعاً ظلّ كبيراً في مرحلتيه؛ الأولى مع توأمه الفنّي الكبير عاصي، والثانية بعد رحيل عاصي. فقد نشأا معاً في بيئة شعبيّة وطبيعيّة في بلدة أنطلياس، منطلقَين منها، متلقِّفَين ما استطاعا غرفه من معارف موسيقية، محلِّقَين في مسيرةٍ فنّيةٍ رحبانية أضحت في تطوّرها وغناها مدرسةً جديدةً تجسّد الروح اللّبنانية في بوتقة الموسيقى العربية.

هكذا هما عاصي ومنصور، خطّان متوازيان يلتقيان دوماً كلّما امتدّا متماهِيَين في نسقٍ واحد.

رحل منصور الرحباني مجادلاً غيابه بالموسيقى. نوّطَ الهواجسَ في نبوءة الرّؤى الفنّية. خاطَ هوية الفنّ اللّبناني في ظاهرة المثلّث مع عاصي وفيروز. عبقرية. طاقة. وعيٌ فنيٌّ متقدّم يعكس مفهوم الوطن الصغير حين مرّ بدلالاته الفنّية "الأخوين رحباني".

جاء "الأخوين رحباني" (عاصي ومنصور) لتنقيب تربة التراث الموسيقي المحلّي وأروقة الفولكلور الخام حيث بدأت عملية النبش الجاد عن ملامح الهوية الموسيقية اللّبنانية.

لم يكنِ التراث في فنّ "الأخوين رحباني" كياناً معنويّاً يركن في واقعٍ مضى، بل كان امتداداً وتواصلاً في ماضي الواقع، حاضرِهِ، ومستقبلِهِ. ولم يكن يعرف التراث                

الموسيقي اللّبناني ما سُمِّيَ بالبوليفوني polyphonie (أي تعدُّد الأصوات وازدواجها) قبل الحقبة الرّحبانية. واذا عرفها -نسبيّاً وعرضيّاً- مع نشأة التيار التجديدي بالمزج بين التراث وبين الموسيقى الغربية في بعض محاولاتٍ تجريبية اعتمدت الاسقاط البوليفوني الغربي، فانّ نُظُم المادة الغربية في صميم القالب العربي، الحاوي ثلاثة أرباع الصَّوت، بقيت عاجزةً عن محاكاة مزاجية الطّرب والتطريب لأُذُن المتلقّي اللّبناني والعربي. فلم تحيا تلك المحاولات الاّ في أُطُرها النّظرية الأكاديمية النخبويّة.

وأمّا الرّحبانيَّين، فكانا أكثرَ سيطرةً على خاصية اللّغة الموسيقية المحلّية، وأكثر تنبُّهاً ووعياً لمزاجها الشرقيّ العربي العام. وقد أدّى الجهد المركَّز في قولبة التراث (من قِبلهما) الى حلٍّ فنيٍّ تاريخيٍّ موضوعي بل استثنائي للمعادلة الصعبة، معادلة الأصالة والمعاصَرة، أو مُعضِلة التراث والتجديد. ذلك أنّهما نجحا في التغلّب على مظاهر الفصام حيث التنافُر بين المونوديmonodie  (الخطّ اللّحني العربي الأوحد) من ناحية، وبين تشابُك النسيج الموسيقي الهندسي الغربي (الأفقي-العمودي)، من ناحية أخرى.

فمِن منهجية المحصِّلة الرئيسة لآليات الكتابة الموسيقية الغربية (حيث اكتسبا قواعد الهارموني harmonie، والفوغfugue ، والكونتربوان  contrepoint، وقوانين الكتابة الأوركسترالية)، مروراً بالمخزون الثقافي الغربي والعربي على مستوى الرصيد السمعي التحليلي، وصولاً الى الموسيقى الكنسية البيزنطية والسريانية، ومواد الارث الموسيقي الشفهي في كنف البيئة الاجتماعية التي شكّلتهما.. جاءنا عاصي ومنصور ليؤسّسا مفهوماً حداثويّاً في خصائص أغنية الطرب الجديدة بعيداً من تبعات الحصر الكلاسيكي وتأثير النبض المصريّ المضيء. وقد أكسبا المادة الموسيقية العربية حُلّةً ومعنىً جديدَين. فأحدثا جديداً فاق التوقُّع على مستوى التلاقح والدمج في ثنايا اللّغة العالمية الواحدة،

لتتحوّلَ موسيقاهما الى وميضٍ فنيٍّ هادفٍ قُبَيل عتمة ذاكرة الحضارة الشعبية. فامتدّت النهضة الموسيقية الرحبانية ليس فقط ضمن حدود جغرافيا الوطن، وانّما في سائر

أرجاء المشرق العربي الذي أعاد اليه عاصي ومنصور بعضاً من قمره السليب. ما أطلقهما على المستويَين النخبوي والشعبي في آن. وهنا يكمن سرّ الظاهرة الرحبانية.

لم يعتمدا على النظام الغربي التونالي tonal (المقتصر على المينور والماجور) فحسب، بل طالت موسيقاهما تراكيبَ نظامٍ مقاميٍّ لحني يُعرَف بِ  "modal"، ما مدّ الموسيقى العربية ببُعدٍ جماليٍّ مضاعَف.  

لم يبارك مدرستهما الاّ صوت فيروز حين راحت تلد أداءها الفرداني في همس البلاغة وبساطة المركَّب. ما صنع ثالوثاً مرحليّاً، في صميم التوازي المتكافىء (عاصي، منصور، وفيروز) لا يمكن لظرفٍ تاريخيٍّ تفكيكه أو شرذمته تبعاً لنظام تجاذب الأقطاب في العمل المسرحيّ الغنائي المتكامل.

ولا بدّ من الاشارة هنا، الى اشكاليّة نقدية معلَّقة حيال تصنيف المسرح الغنائي الرحباني. اذ لا يمكننا عِلميّاً زجّ هذا النوع المفرَد من المسرح الغنائي في الخانات المحدّدةِ القالب والبنيان كالأوبّرا والأوبّريت. فالأوبّرا تقوم على سلوكٍ صوتيٍّ محدّدِ الشرط والقاعدة في نمطيّة الغناء الأوبّرالي الغربي ومرتكَزه. وأمّا بعض العناصر المشتركة في أوجه الشّبه والتلاقي بين الأوبّرا من جهة، وبين مكوّنات المسرح الغنائي الرحباني من جهة أخرى، فلا تكفي البتّة للحكم على مسرح الرحابنة في بُعد المقاربة الفنّية. لذا، فواقع هذا المسرح يكمن في انتمائه الى فضاء الدراما الليريكية الموازية نسبيّاً لمناخات الميوزيكال .Musical وقد سبقنا عاصي ومنصور منذ البداية في فهمهما الاستنتاجيّ التقييمي لمسرحهما حين أطلقا عليه صفة "المسرح الغنائي" (ليس الاّ).

يتبدّى النتاج الفنّي الرحباني، لكلٍّ من عاصي ومنصور، ولهما معاً، في خطوط مدرسةٍ موسيقيةٍ جديدة تبلَّرَت فيها الرّوح اللّبنانية في البُعد العربي والمدى العالمي.

                  

          منصور باحثاً عن الجرأة في جديد النوطة:

          تتمّات مستحدثة في المسرح الغنائي الرحباني الجديد

بُعيد غياب عاصي، انكبّ منصور على خوض غمار تجربة المشروع الفنّي الخاص في تتمّاتٍ مستحدثة للمسرح الغنائي الرحباني، اذا جاز التعبير، باحثاً عن عامل الجرأة في جديد النوطة (أوّلاً)، مجدّداً في لعبة النصّ الموسيقي الدرامي (ثانياً)، ومراهناً على الخامات الصوتية الشابة المختلفة المنحى في قماشتها والأداء (ثالثاً) -بدءاً من "صيف 840" وصولاً الى "عودة الفينيق"-، خدمةً لكلّية العمل الفنّي.

وقد شهد مسرح منصور، فيما بعد، على تحوّلاتٍ جذرية تمثّلت في دينامية النظام الأسلوبي الجديد؛ أي تباين الأساليب المتعدّدة Pluralisme stylistique  لمهام التأليف والتوزيع الموسيقيين ضمن أُطُر مخطوطة العمل الفنّي الجامع. فتبنّي منصور -في رؤياه الموسيقية- لأفكار نجله المؤلّف الموسيقي أسامة الرحباني، على سبيل المثال، أعطى المسرح الغنائي الجديد بُعداً أكثر وظيفيّاً على مستوى الموسيقى الآلتية (التي لم تدخل في بنائها الكلمة)، وفي ميدان الأغنية التي تطبّعت بتحدّيات المتغيّرات المعاصرة (كمِثل أغنية "وطني بيعرفني" في مسرحية "جبران والنّبي"-أداء غسّان صليبا\ وأغنية "طوى الجزيرة" في مسرحية "أبو الطيّب المتنبّي"-غناء غسّان صليبا\ وأغنية "أخطأتِ في الحُكم" في مسرحية "زنوبيا"-غناء كارول سماحة).

وفيما بلغت الخلفية الموسيقية ورحابة التقديم الموسيقي وضخامته الأوركسترالية درجةً عالية من التركيب والتعقيد، تمّ العمل على اثراء عناصر المادة الموسيقية عبر اقحام الايقاعات الجديدة في سبيل بلوغها مرتبةً أكثر تكثيفاً في ماهية التعبير الفنّي الهادف. وقد تمظهر جليّاً همُّ منصور في التأليف الموسيقي الصّرف بدءاً من مسرحية "آخِر أيّام سقراط" و"القدّاس الالهي الماروني".

انسكبت الأساليب الموسيقية المختلفة والمتباينة لكلٍّ من منصور، أسامة، غدي، ومروان الرحباني جنباً الى جنب في فسيفساء العمل الفنّي لتؤلّف وحدته الظاهرية، ما يخوّلنا محاولة قراءتها سمعيّاً والفصل بل التمييز في ما بينها. فأسامة طليعيٌّ متطرّفٌ في صبّ رومانسيته الموسيقية الجارفة دراميّاً (أوّلاً)، مجازفٌ في حداثويّته -المقنَّعة منها والعلنية- حين احترف إدراج أسلوبه المبتكَر وارتياد التقنيات المستعمَلة من جانبه لترجمة سايكولوجيا المواقف التراجيدية (ثانياً)، سبّاقٌ في التقاط تلك اللّحظة الموسيقية التي تشي بغير المتعارَف عليه عربيّاً (ثالثاً)، وبليغٌ في فنّ المزج المُتقَن (رابعاً). وأمّا غدي، فمتمرّسٌ في التأليف والتوزيع حيث يتموضع نصُّه الموسيقي المُتقَن ("المقدّمة الموسيقية الأولى" لمسرحية "زنوبيا"، و"رقصة البربر" في مسرحية "سقراط"، على سبيل المثال). وفي الحديث عن منزلة الأغنية وألقها في موسيقى غدي الرحباني، نشير الى إمكاناته التعبيرية الوافرة كمّاً ونوعاً (وأذكر "لا تَقُلْ وداعاً" في مسرحية "زنوبيا"\غسان صليبا، وduo "لعينيكِ ما يلقى الفؤاد" في "أبو الطيِّب المتنبّي"\غسّان صليبا وكارول سماحة، و"جبل التلج" في "ملوك الطوائف"\ غناء نادر خوري).

كما أنّ لمروان الرحباني مشاركة لا يُستهان بأهميّتها الموسيقية رغم تفرُّغه للاخراج المسرحي (وأذكر أغنيتي "وحياتَك ضلَّك قِل لي"- "لا تعرِف اسمي ولا أعرف اسمَك"\ آخِر أيّام سقراط). ولا يمكننا اغفال لمسات الياس الرحباني في السياق التسلسلي التلحيني للأغنية الرحبانية. ما أنتج طرائق متنوّعة في ألوان الكتابة الموسيقية المحترفة لصيرورة مسرح منصور الرحباني.

بين التيمة الأدبية العامة في موضوعة النصّ المسرحي، وبين التيمة الموسيقية في التصييغ المدوَّن طبقاً لمقتضيات السيناريو، أمست العلاقة (بين المادتين) أكثر التئاماً بل لُحمةً في الدَّور الوظيفي للموسيقى. أي أنّ المعالجة الموسيقية الأوركسترالية

لتمرحُل النصّ المسرحي في آفاقه الجديدة مدّت المشهدية الصُّوَرية بمدى درامي أشدّ وطأة على الصعيد السمعي-البصري في حركة سير الأحداث الفنّية المتوالية لمسرح

منصور الرحباني. (وأذكر هنا "جبران والنبّي"، "وقام في اليوم الثالث"، "آخِر يوم"، و"زنوبيا"، على سبيل المثال لا الحصر). فتحوّل المشغلُ الرحبانيُّ هذا بتفاعلاته الجديدة الى صناعة ليست كغيرها من الصناعات الفنّية حيث التماهي والتقابل المطلَق بين الفكرة، وبين المعالجة الموسيقية للفكرة. وقبل الشروع في الحديث عن تقاطيع المتغيّرات التي واكبت المسرح الغنائيّ الجديد، لا بدّ من التوقّف قليلاً عند عتبة بعض نقدٍ فنيٍّ سفسطائيٍّ في نظرته الى الفنّ الرحباني الشمولي (في مرحلتيه الأولى والثانية). فقلّة من الأقلام تنظّر أحياناً في الميدان الثقافي اللّبناني وتستطرد في المقارنات الجامدة بين مسرح "الأخوين رحباني" الغنائي (في عهد عاصي ومنصور) من جهة، وبين مسرح منصور من جهة أخرى. ما يحاولُ استنتاجه أولئكَ، دونما التمعّن في واقع الحال الجديدة الآيلة الى انسلاخ عاصي عن منصور، ومنصور عن فيروز، أي تباعد عناصر الثالوث الفنّي الخالد في الأقنوم الرحبانيّ الواحد، وتفكّك جزئيّاته العضوية.. ما يُراد قولُه من قِبلهم، بحكم الاطلاق وليس التحليل المنهجيّ القابل للرّد والنقاش، يكمن في نظرة فنّية تتحايلُ دوماً في السرد للتقليل من شأن منصور. قد ظُلِم عاصي ومنصور، في آنٍ واحد، عندما أُقحما في عملية المقارنة المتكلّفة وغير المتنبَّهة الى خلوّ الوحدة الفنّية السابقة من وحداتها. لذا، فقراءة الجديد موسيقيّاً في مهمة البحث النقديّ عن الجديد عليها أن تتأتّى من حاضر التجربة في مسرح منصور الغنائي.

وفي قراءتنا لمسرح منصور الجديد، لا يمكننا الاّ أن نتتبّعَ (في الخُطى الموسيقية) مدلولات الخطّ المتمثِّل في امتصاص ايجابيات الموسيقى العولمية (من قِبَل أسامة بخاصة)،

واستيعابها، للجمع بين طابعها العالمي وبين رؤية شرقية عربية منفتحة تتّسم بالخصوصية اللّبنانية تحديداً. أي أنّ قدرة هذا المسرح في بُعده العالمي، موسيقيّاً، على التواصل مع الانسان أنّى كان، تتمحور، بصورةٍ أساسية، حول مسألة التحدّي الموسيقي

الجديد في الحفاظ على الخاصية المحليّة دونما الذّوبان في فوضى القيم الفنّية المعولمة المعمّمة (أغنية "متل الرّيح" في مسرحية "عودة الفينيق" مثلاً).

وتلك اللّعبة الفنّية الشائقة المتعلّقة، أوّلاً وأخيراً، بالقيمة الأساسية للموسيقى، اعتمدت في أشواطها على فهمٍ ثقافيٍّ فكريٍّ عميق (لدى منصور وأبنائه) لأهميّة التمسّك بالمفهوم الفنّي الوطني والقومي في مواجهة تمزّق الهوية، وعوامل التآكل الثقافي الموسيقي، وتفتيت ثوابت الحضارة الوطنية بل بعثرتها وسلخها عن مجتمعها الطبيعي. لذا، فقد فلح منصور في ادراك النُّظُم الفنّية المعولمة من خلال اعتماده نِسَب المزيج العضويّ بين الشرق والغرب، وبين الخاصّ والعام، وبين التقليد والمعاصرة.

قد يأخذنا تقييمُُ نظريٌّ تجريدي الى اعتبار "المسرح الغنائيّ الرحباني" ترفاً ثقافيّاً يصبّ في اناء الكماليات الفنّية. ولعلّ النظرية المختزَلة بمقولة "الفنّ من أجل الفنّ" في ثنايا ذاك التحليل، (لعلّها) لغطُُُ ُ ثقافيٌّ يعمل على افتعال هوّة بين الفنّ الرحباني وبين المجتمع بل الواقع، فيما هما أقرب الى بعضهما البعض من حلول ماء الورد في الورد. فقد قال الأخوين رحباني عن الفنّ "انّه ابن الواقع، وابن الوعي". لذا، فالدَّور الطليعيّ الذي يتصدّره (اليوم) الفنّ الرحباني -موسيقيّاً- (أكثر من أيّ وقتٍ مضى) يكمن في حثّه على اكتساب الوعي الموسيقي اللّبناني، وعلى ترويض الأُذُن العربية الهامدة، بل المتلقّية فحسب، في ظلّ طغيان ثقافة الاستهلاك الفنّي في أنماط التكرار، والنقل، والاستنساخ. أي أنّ للموسيقى الرحبانية دورٌ بالغ الأهمّية على النطاق الوطني والقومي في التشكيل الفنّي للذات العربية وصقلها ما دامت القيم الفنّية المستوردة والمفروضة علينا (من المحيط الى الخليج) متمادية في بثّ السائد.                            

وفي تطرُّقِنا الى بُعد الشِّعر العامّي وماهيَّتِه في مسرح منصور الغنائي، لا يسعنا الاّ أن نقفَ قليلاً عند شاعرية منصور المتحرِّكة في اتّجاهٍ واقعيٍّ تصاعدي في عمق التعبير عن الحالة النفسية-العاطفية للشخصية. ولا نسعى هنا الى نقدٍ أدبيٍّ متخصِّص

يبحث عن موقع الشاعر الكبير ومدى تأثيره في الحركة الشعرية اللّبنانية، بل نحاول قدر الامكان القاء الضَّوء على أطوار الكلمة الجديدة -في الأغنية- حين خمشت قدسية ذلك المفهوم العشقي التقليديّ المُنزَل (المكرَّس عموماً في نصّ "الأخوين رحباني").

فاخترق شِعر منصور المباشَر (أحياناً) مثاليات الحبّ السّريالي الحالِم، ثمّ تسلسلَ في دفقٍ كتابيٍّ موسيقيٍّ متساوٍٍ، ليرشحَ ملح الواقعية في القلق، والسّقم، ونهايات الحبّ المستحيل. فلا شكّ في أنّ الكلمة هي المحرِّك الأساسي لتشكيل النوطة في الأغنية والحوارات. ونقاءُ الكلمة يحثّ على نقاء التعبير الموسيقي. فالنوطة مرآة للكلمة، والصورة في المرآة تعكس ازدواجيةً ما.

الغيابُ أقوى من الحضور أحياناً..

وممّا لا ريب فيه أنّ المدرسة الرحبانية المفتوحة على تواصل الرحابنة الجدد، قد حفرت موقعاً ابداعيّاً تجديديّاً وخاصّاً في تاريخ الموسيقى اللّبنانية- العربية. وتبقى حيّة وملهمة للدارسين والمختصّين، وراسخة في وجدان الأجيال مع مبدعَيها الكبيرَين: عاصي ومنصور.

  كلمة غازي قهوجي

        أحد الأيام سألت عاصي عن دور الفنّ في الحياة، ولم يكن منصور حاضراً.

        أجابني ببساطة: "الفنّ هو محاولة راقية للتخفيف من مرارة الحياة!"

        وبعد رحيل عاصي بسنوات، سألت منصور السؤال نفسه، عن دور الفنّ فقال: "الفنّ هو محاولة لجعل الحياة أجمل!".

        وهكذا، فما بين افتراض يقول بدور الفنّ في تخفيف مرارة الحياة، وما بين دوره في جعلها أجمل، إنساب ذاك الدفق العظيم من الموسيقى والشعر والمسرح والصوت المعجزة، ممّا جعلنا نسمع ونرى في المألوف ما ليس مألوفاً على الإطلاق.

* * *

        لقد كُتِبَ الكثير وقيل الكثير عن النتاج الفنّي للأخوين رحباني، وأُنجز العديد من الأطروحات الجامعية والدراسات الجادة المعمّقة التي تناولت سيرتهما، بالإضافة إلى الندوات واللقاءات التي عُقدت وتُعقد حول ظاهرة الفنّ الرحباني المتعدّد التجلّيات الرؤيوية والقادر على المخاطبة والحوار والذهاب بسلاسة وعمق وغبطة، إلى الآخر والتواصل معه أينما كان في دنيا العرب.

        وتشكَّل لدى الرحبانيين شغف جارف وساطع بالتغيير والتمرّد على مجمل السائد والرائج ممّا ورثته وأدمنته الأسماع، سيّما وأنهما عَرَفا أسرار خطف العادي البسيط وجعله مدهشاً ومؤهَّلاً لسكنى القلب والعين والذاكرة.

        والكلام عن الأخوين بشكلٍ عام أو أحدهما بشكل خاص، أو عن الرحابنة مجتمعين يطول ويتعدَّد ويتنوَّع، وتصعُب مقارنته بالتلخيص والإيجاز والإختصار أمام رائدَين اجتهدا في تغيير عادات السماع، وأعادا تشكيل الكلام وتأليف الأشكال على هدى إيقاعٍ فَرَضَ حركته وتسيَّد على الوقت والزمن، وأمسك محتضناً مختزلاً ببراعة نادرة جوهر المرتجى والمراد كحبّة الرمل التي تختزن الصحراء، وقطرة ماء المطر التي تحضن مياه الله.

        هكذا تكوَّن منهجهما من رؤىً نَدَهَت بعضها فكانت تجلّيات إنسانية جمالية سامية تغبط القلب وتنعش الروح وتخاطب الذهن، وترفع المدارك إلى مراتب الحلم والأمل برؤية الآتي على صهوات الموج وأجنحة السحاب كنبوءة تحفَط وتضبط توازننا الداخلي، وتؤكِّد لنا يقيناً، أنه بذهاب الحلم يُصبح القلب في وحشَة، والروح في شتات، وتثبت لنا بأن جوهر الإيمان هو الحلم بالعدل على الأرض، وهذا عن طريق استكشاف منابع الصفاء والنقاء وبئر المياه، والانتقال من مقام الهمس إلى حال القول الصريح، والتفريق بين السكوت وبين الإصغاء، وإلغاء المسافة العربية الطويلة ما بين السمع وبين البصر.

        لقد كَتَبَ الأخوان للأيام الآتية، وكانا خلال ما يزيد على النصف قرن في مقدّمة المستشرفين، وما خَبَا لهما ضوء ولا كَبَا لهما جواد، وهما يصوغان فرح الناس وتمرّدهم في آنٍ معاً، ويرفعان رايات فخر الانتماء إلى هذه الأرض وهذا الوطن الصغير الذي وَصَلَ معهما إلى غالبية أرجاء القارات الخمس.

        ولم يكن استحضار التراث أو الواقعة التاريخية في بعض أعمالهما - وبعد ذلك لدى منصور منفرداً- سوى مجذاف ودفّة وشراع بسفرٍ مفتوح على الحلم المغاير وعبر مسارٍ جريء وشجاع على عكس ما تشتهي الرياح، وقد أخذا من التراث جذوتَه وليس رماده في زمنٍ كان فيه مَن لا يزال يسرح خيل قوافله متوجّهاً نحو ماضٍ مطفأ وخامد.

        هذه المسيرة الطويلة الثرية المعاصرة، وذلك الاستحضار الحضاري للتراث وإعادة عصرنته بموهبة وذكاء بَلْوَرَ أصالة وصوابية درب الزهد، وجلى جمالية وروعة طريق النحل، ليبقى الزمن مشرَّعاً على التساؤلات الأبدية، وليستمرّ السعي إلى قطف بهجة المعرفة ومحاولة التخفيف من مرارة الحياة وجعلها قدر الإمكان أجمل.

        لكلّ هذا ومنذ البدء سَلَكَ الأخوان درب الصعوبة وفي الزمن الصعب. ومنذ البدء سارا حثيثاً وغزيراً على وترَي الضفّتين معاكسَين لمجرى النهر وصولاً إلى المنابع، في حين كان آخرون ينتظرون عند المصبَّات. لقد أدركا بأن الفن هو ابن الوعي وأنه ربيب المعرفة والعلم والتقنيّة والمثابرة والمتابعة، وهو المتوَّج الدائم بالرؤى الملكة والأحلام المبدعة.

        وما كان لثنائية الأخوين المتفرِّدة أن تكون بتلك الروعة وذاك الدفق في العطاء المتنوّع في الموسيقى والشعر والمسرح وسائر الفنون المرئية والمسموعة، لو لم يكن كلّ من الأخوين بحدّ ذاته يمتلك الموهبة والمزايا الفنّية العالية التي قلَّ تواجدها لدى آخرين.

        ولو لم يكن لدى كلّ منهما رؤاه الخاصة بكلّ عمق تساؤلاتها وهواجسها وثراء جماليتها.

        ولقد كان أن وُلِدَ الكبيران في بيتٍ واحد، ونشآ معاً، ودَرَجا معاً، فَنَمَتْ وارتقت - في آنٍ معاً- عبقريّتان تقاطعتا على الدوام بأحلامٍ ورؤى كل منهما بأحلام ورؤى الآخر، وكاد هذا "الإتحاد" وليس "الوحدة" - هذا إذا استقام التعبير- يندرج وفق مقولة: إن الكبار هم دائماً على موعد لقاء في الرؤى.. ودائماً ما يلتقون.

        ولو لم يكن عاصي أخاً لمنصور، لَطَلَبَ منه أن يؤاخيه في الفن! وكذلك أيضاً كان قد تمنَّى منصور!.

        ولكن الذي حَدّثْ، هو أنه من العطايا الكبيرة التي وُهِبَ بها لبنان وسائر دنيا العرب أن عاصي ومنصور كانا أخوين حقيقيَّين في المقام والحلّ والترحال والإبداع.

        وكانا بثنائيّتهما نوراً على نور، فتجلَّت عبقرية كلٌّ منهما، توهَّجت في مدارها، ثم اتّحدت العبقريّتان في فلكٍ واحد، ممّا أسبَغَ عليها أبعاداً حَمَلَت في ثناياها تفرّداً فنّياً صَعُبَ تقليده أو حتى التماهي به أو تزويره.

        ولقد شكَّل الأخوان قمّةً عالية وشامخة تكاملت منهجاً بحيث لا يمكن الإضافة عليها، أو القول والتصريح بإكمالها، وأن مَن يريد سلوك هذا الدرب عليه أن يسعى إلى تأسيس ورفع قمّة جديدة إلى جانب مَن أنشأ وبنى ورفع القمم! وهذا على ما نعتقد هوىً صعباً أمام ظاهرة فنّية لا تتكرّر وإبداع لا يُقلَّد.

        لقد كانت أربعينيات ومطالع خمسينيات القرن العشرين، هي السنوات التي بدأ فيها لبنان يتلمّس الخطى لإنجاز استقلاله وصياغة طبيعة كيانه الاجتماعي. وذَهَبَت كلّ الجهود أو غالبيتها إلى بناء مناصب الدولة إدارياً واقتصادياً وسياسياً.

        وتزامناً مع هذا الحراك، ظَهَرَت الحاجة المركزية والضرورة الحتمية إلى إيجاد الهويّة الخاصة الكيان، وإلى تأليف الشخصية التي تسعى إلى التفرّد والتمايز في محيطها الواسع، سيما وأنها تستند على تاريخ حضاري عريق حفل على مرّ الزمن بالعطاء الإنساني الكبير.

       

        هكذا، بدأت تتوالد الأعلام الأولى، والرؤى الجديدة للبناء الفوقي للبلد، وتتبرعم وتزهر وتثمر بالموسيقى والأغنية والمسرح وسائر الفنون التي تشكِّل عالم الثقافة بجميع مع تحمله من طموحات وآمال كانت على الدوام هي الهدف لمضامين وجدوى الوجود الإنساني. ثم الخروج على النمطية والرتابة والجمود الذي ورثته الأمّة التي تراخَت وانزوَت دهراً تُقلِّد وتَتْبَع وتسير أسيرةً في ركب الغير.

        في ذلك الوقت كانت مجموعة صغيرة من الشباب الفنّانين المُبدعين تتوق وتجهد لبناء تلك الشخصية الثقافية للبلد القديم- الجديد.

        وكان في طليعة هؤلاء كلٌ من عاصي ومنصور الرحباني. ومذَّاك بدأتْ لبنات البناء الفوقي بالارتفاع في مجالَي الموسيقى والغناء.

        من هذا المنطلق، ومن رحاب هذا الواقع كان الرحبانيان من المبدعين البارزين الذين شاركوا مكيناً في تأسيس بنية كيان لبنان! وكانا من أكبر رموزه الفنّية والثقافية الحيّة والفاعلة والمؤثِّرة، التي تفتَّحت أحلامها على الآتي، وذلك بامتلاكها لمفاتيح الأصالة والتجدّد والنقلة النوعية التي طَبَعَت عصرنا بأكمله كما طَبَعَت بمناخها وهواها كلّ العالَم العربي.

        لقد وَضَعَ الأخوان مقولة التمرّد مقابل صيغة الثورة - بالمعنى الانقلابي- ذلك أن التمرّد يعني التوالد الدائم للأفكار المبدعة، وهو الحافز الأمثل والأهمّ على التغيير نحو الأفضل والأجمل والأشمل.

       

        لقد طَرَحَ الرحبانيان، من دون تنظير أو استعراض معرفي، فعل "رأى" بعد فعل "نَظَرَ"، وذلك انطلاقاً ممّا يُقال بالمحكية: كلّ ا لناس بتطلَّع، بس مش كلّ الناس بتشوف!.

        لقد قصدا وهدفا أن تتدخَّل البصيرة- البصر كمشارك أساسي في استيعاب والتقاط إشارات الوجود وأحداثه، واستكشاف ماهية الأمور والدلالات المحيطة به، وملاحظة وفهم تعدّديتها وتراكماتها، ومحاولة إدراكها وذلك بهدف تغييرها وتطويرها وإعادة تأليفها، والانطلاق بها إلى رؤى معاصرة هدفها الإنسان كفرد وجماعة ومجتمع.

        على هذا الصراط إنساب النصّ الموسيقي الرحباني وكذلك النصّ الدرامي "شعراً وكلاماً، ومعه الأداء والتشكيل اللوني في المشهدية، التي بلغت مطارح عالية عند منصور.

        لم يكن هاجس الرحبانيَّين محاكاة الطبيعة على الرغم من وصفهم الرائع لها. ولم يكن هدفهما تكرار الحَدَث والجمال الطبيعيَّين، أو شرح مواصفات "المكان" وإظهاره بواقعه الجغرافي. كذلك لم يسعيا إلى التفسير بواسطة الكلمة واللحن والشكل لفكرةٍ ما أو موضوعٍ ما، بل جهدا إلى عَجْم واختزال ما تراه العين وما تسمعه الأذن، وكأنهما يصوغان "لوغو" لكلّ من النصّ الموسيقي والأداء الصوتي والحركي، والتكوين اللوني والإيقاع العام.

        لقد سعى الرحابنة إلى تحليل وخلخلة العديد من عاداتنا ومسلَّماتنا البصرية والسمعية، تلك التي تحدّ من مدى حريّة التصوّر والتخيُّل، وذلك عن طريق إخراجها من سجن التراكم النسخي المتوارث الذي استعمر الأذن وأدمنَت على رؤيته العين.

        لقد حاول الرحبانيان استدراج رؤانا وتأويلاتنا المُسبقة ونقلها من مقامات السكون والتفسير الواحد، إلى طرحها بصياغات جديدة تفاجئ العين وتستثير المخيّلة، وهذا ما تكشَّف لدى منصور فيما بعد، والذي تطلَّب تحطيم جمودها المادي المباشر وإلغاء أحادية معناها من الناحيتين الوظائفية والجمالية، وإيجاد مساحة للجدل الجدّي يصل إلى درجة هتك وإزالة صمت العين وتخليصها من موروثها البصري المزمن وأخذها إلى فضاءات الانفتاح على الرؤى الجديدة، والإمساك بكلّ الوسائل التي تؤدّي إلى إعادة تأهيل محفوظات ذاكرتنا المحفورة في أرشيف أبصارنا كمسلَّمات نهائية يقينيّة محسومة.

        هذه التركة المشهدية، وهذا الإرث السمعي- البصري قد أَخَذَ بنا ككلّ موروث ظلامي متخلِّف إلى حالات مريبة وملتبسة من التردِّي الثقافي والفنّي والمعرفي.

        لقد حاول الرحابنة تغيير عاداتنا في التلقّي، وهما على علم بما يتطلّب هذا من مراجعات وهزَّات لمجمل عناوين وتفاصيل مقارباتنا التي ما زالت تغويها وتغريها وتؤثّر بها المشهدية النسخية التفسيرية بأدواتها كافة وسائر مركباتها البرّانية المغرقة والغارقة في المباشرة.