تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي
تكريم الدكتور جدعون محاسب


كلمة د. تراز الدويهي حاتم
كلمة البروفسور جدعون محاسب

  كلمة د. تراز الدويهي حاتم

أيها الحفل الكريم

أرحب بكم في هذه العشيّة مشاركين في الندوة التكريمية للبروفسور جدعون منصور محاسب تكرمه الحركة الثقافية - انطلياس كعلمٍ من اعلام الثقافية اللبنانية الرعيل الرابع والعشرين. فتكريم اعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي تقليد درجت عليه الحركة كما درجت على تسمية يوم من ايام المعرض باسم كل منهم وعلى اصدار كتيّب خاص يتناول سيرتهم الذاتية والعلمية ونشاطاتهم المختلفة ونتاجهم مع نموذج من خط يدهم.

فاليوم هو يوم البروفسور جدعون محاسب رائد جراحة الدماغ والأعصاب في لبنان والشرق الأوسط وقد شكّل ظاهرة استثنائية بتفوقه على خلفية من الأخلاق السامية الرفيعة والنبل الانساني البيّن.

رجل ثاقب النظرة كبير الفؤاد، أبي النفس، غني الخلق ورحب الصدر، قوي الارادة وصبور أعطى الكثير في سبيل إسعاد الإنسان وتخفيف آلامه. هو ابن غوسطا، البلدة اللبنانية المعروفة بالبسالة والاقدام والشجاعة.

سار على خطى اجداده مهتماً بالحفاظ على تراثهم الكنسيّ: بانياً، مرمماً، ومحافظاً. كيف لا وهو القائد الكشاف المؤمن بالله، وبالخدمة الانسانية، عاملاً في سبيلها كل جهد.

يذكر في سيرته الذاتية كيف قرر اختيار تخصصه في جراحة الدماغ والاعصاب في الكلمات التالية: وقد كتبها في الثالث من نيسان 1949: "في تلك الليلة، وفي معرض الحديث عن الجراحة، أسرّ إلي صديق (زميل في الدراسة) بهذه الكلمات: "لا أجد نفسي على الإطلاق موهوباً للجراحة، لأنني افتقد رباطة الجأش وتلك المثابرة على العمل اللتين لا بد منهما لكل موهبة جراحية". في تلك اللحظة أحسست بقشعريرة فكرية تعبر كياني وأنا أسمع هذه الكلمات فقلت لذاتي: "إذاً، انت الجلود، الواثق بنفسك، المتحلي برباطة الجأش، ستكون جراحاً وستكون بالتحديد جراحاً في الدماغ والأعصاب". ولست واهماً البتة في أن تكون تلك الثقة صادرة عني، وانا أشدّ من مارس على نفسه النقد الذاتي وتناولها بالتحليل، بل أشعر على العكس، وأنا العالِم بذاتي وبحقارتها، بأن ثقة كهذه تنبع من الله. فباري هذا الكون، وهو عندي حضور حميم حيّ لا كائن مجرّد في أقاصي البعيد، قادر على أن يصنع بي العظائم، أنا الخليقة المسكينة. آه طبعاً سيتدغدغ كبريائي وستنتفخ نفسي غروراً وأنا أكتب هذه السطور، ولكن كل قذارة ستزول مع النمو. كل إيلاد يصحبه اتساخ، وكل ولادة تحمل فيها مخاطرها وعثراتها وثغراتها، لكن كل شيء يعود إلى نصابه بقوة المثابرة".

وكان الطريق طويلاً وشاقاً الى ان انهى دراسة الطب العام بامتياز في جامعة مونبيلييه وتخصص في جراحة الدماغ والأعصاب مدة ست سنوات نائلاً شهادة الدكتورا في جراحة الدماغ والأعصاب بأعلى درجات الشرف مع تقريظ اللجنة الفاحصة وجائزة الطب في جامعة مونبيلييه.

ثم راح جدعون محاسب متكلاً على الله وعلى روحه الكشفية الرفيعة يخوض غمار هذا الاختصاص من بلد الى آخر، مطوراً بارعاً متقدماً وحط به الرحاب في اوتيل ديو بيروت سنين طوالاً بعد ان عمّت شهرته العالم مقدرين براعته في هذا المضمار والخدمات الانسانية التي كسبها العالم من هذا التطور.

بالاضافة الى ذلك كانت له محاضرات عديدة. أسس جمعيات ونظّم مؤتمرات في مجال اختصاصه.

والمشوار لم ينته بعد فقد كتب بخط يده ما يدخلنا الى سر عطائه المستمر.

البروفسور جدعون محاسب: جرّاح القرطاس الإلهي
د. يوسف كمال الحاج
جراحة الدماغ والأعصاب (Neurochirurgie) هي من أحدث الميادين عهدًا في الطب نظرًا إلى دقتها وصعوبتها. أطلقها الأميركي هارفي كوشنغ (Harvey Cushing) كلفظة مستحدثة وكاختصاص مستقل عام 1904، ومرّس الجيل الأول من عمالقة المهنة حول العالم، أمثال نورمان دوت الإسكتلندي وكلوفيس فانسان (Clovis Vincent) الفرنسي، الذي أسس أول كرسي طبي لجراحة الدماغ والأعصاب في فرنسا عام 1938. وبإشراف هذين الأخيرين تمرّس جيرار غييوه، الذي أسس أول قسم مستقل ومتفرّغ لهذه الجراحة في مستشفى فوش الباريسي عام 1954. وفي السنة عينها، وصلت جراحة الدماغ والأعصاب إلى الشرق الأوسط للمرة الأولى عبر البروفسور اللبناني فؤاد سامي حداد، الذي تمرّس بها على يد البروفسور ويلدر بنفيلد (Wilder Penfield) في جامعة مونتريال. وبقي فؤاد حداد الاختصاصي الوحيد في مجاله في لبنان حتى عودة جدعون محاسب، كبيرِنا الذي نكرّم اليوم، إلى لبنان عام 1961 قادمًا من كلية الطب العريقة في مونبيلييه، ثاني أقدم كلية طبية في التاريخ، بعد أن تمرّس في هذا الاختصاص بإشراف البروفسورين كلود غروه في مونبيلييه وغييوه في باريس. وعليه، فإن فؤاد حداد وجدعون محاسب هما رائدا جراحة الدماغ والأعصاب في لبنان والشرق الأوسط، ومؤسسا أول قسمين لهذه الجراحة في لبنان، الأول في مستشفى الجامعة الأميركية والثاني في مستشفى أوتيل ديو. وليسمح لي ههنا، نزولاً عند إلحاح البرفسور محاسب نفسه، بأن أناشد الحركة الثقافية-أنطلياس تنظيم تكريم لائق للبروفسور حداد، ابن الخامسة والثمانين، في إطار مهرجانها السنوي المقبل.

يعترف البروفسور جدعون محاسب بأنه لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه من نبوغ علمي، وشخصية مكتملة جناحاها العقل والإيمان، لولا سخاء العناية الإلهية التي كانت على موعد دائم معه في المفترقات المصيرية. ومن اللافت أن تلك العناية قد تبدّت في حياته عبر كهنة أربعة: عمِّه الخوري الياس محاسب، خادم الرعية المارونية في الاسكندرية أوائل القرن الماضي، الذي كان أباه الروحي وحاضنه المادي ومرجعه المعنوي الأول، والأبِ الكريمي بطرس شلهوب، مربيه في المدرسة وفي الكشفية وقدوته الدائمة، والراهبِ البنديكتاني أمبرواز دو تورنومير، الذي أرشده إلى مونبيلييه وصقل روحه هناك في مرافقة حميمة على مدى سنين، والأبِ اليسوعي بيار ماديه، الذي فتح له أبواب العودة إلى لبنان وذلّّل لأجله جميع العراقيل في مستشفى أوتيل ديو وجامعة القديس يوسف، التي كان عميد كلية الطب فيها آنذاك.

بعد طفولة صعبة بدأت بيتم باكر من جهة الأم، أمضى الفتى جدعون عمره المدرسي في عين ورقة ثم في معهد الرسل، حيث تألق في قيادة فوج كشافته، تاركًا أثرًا كاريسمائيًا بقي حيًا في نفوس أجيال وأجيال من الشبيبة، بدءًا بسيادة المطران رولان أبو جوده ورجل الدولة الكبير الراحل جورج أفرام. وقرّر الشاب المتوثّب امتهان الطب، حلمه الكبير الذي استلهمه من روح الخدمة الكشفية، مباشرة بعد مشاركته اللامعة كقائد للفوج المسيحي في الوفد اللبناني إلى جمبوريه الكشافة العالمي في فرنسا عام 1947، وكان أول حضور عالمي للبنان على هذا المستوى في تاريخ الكشفية. وقد اختار متابعة دراسته الجامعية في مونبيلييه عملاً بنصيحة الراهب دو تورنومير.  

فور قدومه إلى جامعة مونبيلييه، انخرط الطالب الشاب في عشيرة الجوالة، أي الكشافة الكبار، وفي المركز الكاثوليكي الجامعي، حيث استمع ذات يوم إلى محاضرة للبروفسور كلود غروه (Claude Gros)، جراح الدماغ المشهور وأستاذه في ما بعد، حول جراحة الفَصّ الجبهي (Lobotomie frontale) في الدماغ، فأُخِذ بالتحوّل الحاسم الذي تحدثه عملية كهذه في شخصية الانسان، ناقلة إياه من حال العدوانية الخطرة إلى الهدوء والصفاء، ورغب التخصص في جراحة الدماغ والاعصاب منذ تلك اللحظة. وكتب عام 1949، وكان بعد في سنته الدراسية الأولى للطب، تأملاً رائعًا ورد فيه: "في تلك الليلة، وفي معرض الحديث عن الجراحة، أسرّ إلي صديق (زميل في الدراسة) بهذه الكلمات: "لا أجد نفسي على الإطلاق موهوبًا للجراحة، لأنني أفتقد رباطة الجأش وتلك المثابرة على العمل اللتين لا بد منهما لكل موهبة جراحية". في تلك اللحظة، أحسست بقشعريرة فكرية تعبر كياني وأنا أسمع هذه الكلمات، فقلت لذاتي: "إذاً، أنت الجَلود، الواثق بنفسك، المتحلي برباطة الجأش، ستكون جراحًا، وستكون بالتحديد جراحًا في الدماغ والأعصاب." ولستُ واهمًا البتة"، يتابع جدعون متأملاً، "في أن تكون تلك الثقة صادرة عني، وأنا أشدّ من مارس على نفسه النقد الذاتي وتناولها بالتحليل، بل أشعر على العكس، وأنا العالِم بذاتي وبحقارتها، بأن ثقة كهذه تنبع من الله. فباري هذا الكون، وهو عندي حضور حميم حيّ لا كائن مجرّد في أقاصي البعيد، قادر على أن يصنع بي العظائم، أنا الخليقة المسكينة."
عام 1954، أنهى جدعون محاسب دراسة الطب العام بامتياز في جامعة مونبيلييه، إلا أن إنجازه الفذ كان اجتيازه مباراة الإقامة (Concours d'internat) عام 1956، فكان أول طبيب لبناني يسجّل هذا السبق الأكاديمي في تاريخ الجامعة، الذي ينوف على الثماني مئة عامًا. وفاجأ "الدليل السنوي لسلك الأطباء المقيمين في مستشفيات مونبيلييه" (Annuaire de l'Internat en Médecine des Hôpitaux de Montpellier) قراءه بصورة لفوج 1956 وفيها تسعة أطباء، بدلاً من الثمانية الملحوظين قانونًا، لأن واحدًا من غير الفرنسيين، اللبناني محاسب، حلّ رابعًا في الدورة. وبعد أن أصبح جدعون محاسب "طبيبًا مقيمًا"، فتحت أمامه مرحلة الإختصاص الطبي، فكان يقطن المستشفى بشكل دائم، متقاضيًا مرتّبًا شهريًا ثابتًا، ومتمرسًا على إجراء العمليات الدماغية والعصبية، أولاً كجراح مساعد، ثم كجراح مسؤول.
تخصص الطبيب الشاب في جراحة الدماغ والأعصاب  لمدة ست سنوات كاملة بإشراف البروفسور كلود غروه (1956-1961)، حائزًا على شهادة الدكتوراه في جراحة الدماغ والأعصاب بأعلى درجات الشرف مع تقريظ اللجنة الفاحصة وجائزة كلية الطب عام 1960، قبل أن يمنح رتبة "رئيس عيادة" (Chef de clinique) في تلك الكلية. وطبقت شهرته آفاق الجامعة وحتى المدينة. ويخبر الشاب معين حمزه، الأمين العام الحالي للمجلس الوطني للبحوث العلمية في لبنان، أنه عندما وصل إلى مونبيلييه للمرة الأولى بغية متابعة تحصيله الجامعي واستقل سيارة أجرة، سأله السائق عن مسقط رأسه. وعندما أجاب بأنه لبناني، ردّ عليه السائق: "عندنا هنا في جامعة مونبيلييه طبيب لبناني مشهور."
أما في لبنان، فكان الأب ماديه، عميد كلية الطب في جامعة القديس يوسف، يضرب أخماسه بأسداسه منذ أن وقع أحد الآباء اليسوعيين في دير تعنايل على يأفوخه من على سلّم عال، فاصيب بنزيف داخل الجمجمة وخارج الدماغ، ونقل على وجه السرعة إلى مستشفى أوتيل ديو التابع للكلية، ولكنه فارق الحياة بعد ساعات لخلوّ المستشفى من أي جراح اختصاصي في الدماغ. وصادف، بعد مرور أعوام قليلة على تلك الحادثة، أن قدم عميد كلية الطب في جامعة مونبيلييه، البروفسور غاستون جيروه (Gaston Giraud)، إلى بيروت لترؤس اللجان الفاحصة في الامتحانات النهائية لكلية الطب اليسوعية، فسمع من عميدها الأب ماديه طلبًا ملحاحًا للمساعدة على إيجاد جراح فرنسي في الدماغ والأعصاب يؤسس هذا الاختصاص في مستشفى أوتيل ديو. ولَشَدّ ما كانت دهشته عندما أجابه البروفسور جيروه: "عندنا في مونبيلييه جراح ممتاز في هذا الاختصاص: إنه اللبناني محاسب". فما كان من الأب ماديه إلا أن اتصل بالطبيب اللبناني المتألق وسعى له بمنحة رسمية من الدولة الفرنسية كي ينتقل إلى مستشفى فوش، التابع لجامعة باريس، لمدة ستة أشهر (تموز-كانون الأول 1961)، باشراف البروفسور جيرار غييوه، تمهيدًا لعودته إلى لبنان رائدًا في جراحة الدماغ والأعصاب ومطلقًا إياها في مستشفى أوتيل ديو الفرنسي في بيروت.
مع البروفسور غروه تمرّس الدكتور محاسب على تقنيات جراحية جديدة وجريئة، كجراحة استئصال النصف الدماغي (Hémisphérectomie)، والجراحة التجسيمية (Chirurgie stéréotaxique) لمعالجة الباركنسون في عمق الدماغ، وعملية كلووارد (Opération de Cloward)، أي الجراحة الأمامية لبلوغ العمود الفقري على مستوى العنق. وفوق ذلك، فقد تمرس على تقنية الجراحة عبر الأنف (Approche transphénoïdale) لمعالجة الغدة النخامية بإشراف غييوه، الذي كان قد تعلمها من نورمان دوت. وسيكون الدكتور محاسب أول من يدخل هذه التقنيات الجراحية النموذجية إلى منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى الجراحة الميكرووية في الدماغ والأعصاب مع التجلّط الثنائي القطب (Microneurochirurgie avec coagulation bipolaire)، التي أتقنها لاحقًا في بورلينغتون (الولايات المتحدة الأميركية)، وجراحة سَدّ الأورام الوعائية بالسيانوأكريلات في عملية دماغ مفتوح (Embolisation des angiomes par le cyanoacrylate à ciel ouvert)، التي طوّرها شخصيًا استنادًا إلى قراءاته.  
عاد طبيبنا اللامع إلى لبنان ليلة عيد الميلاد من العام 1961 بعد أربع عشرة سنة متواصلة من الدراسة والتخصص والتألق ليمارس جراحة الدماغ والأعصاب في بلده الأم. وفور وصوله إلى لبنان، عيّن "مستشارًا" في جراحة الدماغ والأعصاب لمستشفى أوتيل ديو الفرنسي بتوصية من الأب ماديه. وكتب العميد جيروه إلى الدكتور محاسب مشجعًا، في رسالة من العام 1962: "بعث إلي البروفسور ميلييز (Milliez) بهذه الكلمات: "لقد سبق لي أن أُخطرت بجودة الدكتور جدعون محاسب الاستثنائية. من الأكيد أنه يتوجب علينا قطعًا أن نتوصل إلى ضمه إلى الأوتيل ديو." لكن ميلييز تابع مشككًا: "لكنك تعرف الأوضاع المزرية والمؤسفة لأقسام الاستشفاء في بيروت، وشح الموارد المالية التي تحول دون أي مسعى لتحسين الوضع. لا يوجد في مستشفى أوتيل ديو قسم لجراحة الدماغ والأعصاب."
وهكذا وصل الدكتور محاسب إلى لبنان وفي جعبته نبوغه العلمي لا غير، واضطر في البداية إلى استدانة مبلغ خمسة آلاف ليرة لبنانية لاستئجار عيادة في شارع بدارو وتجهيزها، موزعًا نشاطه الجراحي بين مستشفيات عدة (رزق، اللبناني، المقاصد، البربير، مار يوسف). ثم بدأ يدرّس جراحة الدماغ والأعصاب في كلية الطب في جامعة القديس يوسف، وذلك بتعيين فوري من الأب ماديه. ولكن موهبته "الاستثنائية"، كما سماها البروفسور ميلييز، مكّنته من تخطي جميع الصعوبات الناشئة، فسطعت شهرته سريعًا في لبنان عندما أنجز بنجاح نحو ثمانين عملية جراحية في الدماغ والجهاز العصبي خلال سنة 1962 وحدها، ومنها بعض الحالات المستعصية جدًا، بعد أن كانت عمليات كهذه مجهولة في المستشفيات اللبنانية على وجه العموم، ما عدا مستشفى الجامعة الأميركية.
ويتذكر جدعون محاسب بعضًا من هذه العمليات الأولى التي فتحت أمامه أبواب الشهرة الصاروخية، وأذكر منها اثنتين. الأولى هي شفاء هاشم الكوسى، صاحب مطعم "أبو نواس" في بيروت، شفاء تامًا من شلل عضال كان قد أعجز جميع من عاينه من أطباء في لبنان على مدى ثلاث سنوات. أما الثانية، فهي إنقاذ مريض مسنّ من براثن الموت بعد دخوله في الغيبوبة الأخيرة وبداية التحضير لمراسم دفنه. وكان الدكتور محاسب قد عاين المحتضر، وهو من آل سعاده، بناء على طلب طبيبه وأفتى بادئ الأمر بتعذر شفائه. ثم نام ليلته، فحلم بذاك المريض وهو يزوره في العيادة، فاستفاق مصعوقًا لأنه تذكّر أن هذه الزيارة قد تمت فعلاً منذ شهر إثر تعرّض المريض لوقعة مؤلمة، ولكن الفحص الدماغي آنذاك لم يظهر ما يشغل البال نتيجة لهذه الحادثة. أما الآن، فقد ذكّره الحلم فجأة بأن وقعة قاسية لدى المسنّ يمكنها أن تنتج في حالات خاصة نزيفًا متأخرًا في الدماغ، ولو بعد أسابيع. فطلب إعادة نقل المحتضر فورًا من بيته إلى غرفة العمليات بعد منتصف الليل وسط ذهول أهله وطبيبه، وشخّص فعلاً نزيفًا متأخرًا في الدماغ، فقام بعملية جراحية دقيقة أنقذت المحتضر كليًا. ومنذ ذلك الحين أحاطت بالجراح الجديد هالة فائقة من الشهرة والمهابة، وذهب تشخيصه الدقيق، الذي لم يخنه حتى اليوم، مضرب مثل.
عام 1966، اجتاز الدكتور محاسب بامتياز مباراة الأستذة (Concours d'aggrégation) الرسمية في باريس، فرقّي إلى رتبة أستاذ محاضر (Professeur agrégé) في كلية الطب في جامعة القديس يوسف. وفي السنة عينها، انتخب عضوًا أصيلاً في جمعية الجراحة (Société de chirurgie) في مونبيلييه واللانغدوك-روسييون. وبعد سنة، انتخب عضوًا أصيلاً في جمعية جراحة الدماغ والأعصاب للناطقين بالفرنسية. وكان قد سبق له أن أسس ورئس، عام 1962، جمعية خريجي جامعة مونبيلييه، التي ضمت أعضاء بارزين لعب بعضهم دورًا كبيرًا في لبنان والعالم، أمثال الدكاترة إدوار صوما وإميل بيطار وأسامة فاخوري وسعيد الأسعد ورياض الصراف ورضا وحيد وميشال موسى ومعين حمزه وطوبيا زخيا. ويتذكر جدعون محاسب بحنين كبير كم كانت روح الصداقة والمحبة تجمع بين هؤلاء الخريجين القادمين من مناطق ومذاهب مختلفة. وبالفعل، فقد أسس جدعون محاسب ورئس، مع القاضي فارس الزغبي، لجنة أصدقاء إميل بيطار بُعَيْد وفاة الأخير. 
عام 1969، وُضع المدماك الأول لتأسيس قسم جراحة الدماغ والأعصاب في مستشفى أوتيل ديو بعد تعيين الدكتور جدعون محاسب برتبة رئيس قسم مشارك (Chef de service associé). ثم استقل القسم بذاته نهائيًا يوم تعيين الدكتور محاسب برتبة رئيس قسم (Chef de service) في مطلع العام 1973، وذلك بعد أن حاز على رتبة أستاذ أصيل (Professeur titulaire) في جراحة الدماغ والأعصاب، وهي الرتبة الأعلى جامعيًا، عام 1972. وبقي البروفسور محاسب على رأس قسم جراحة الدماغ والأعصاب في مستشفى أوتيل ديو عشرين سنة متتالية إلى حين بلوغه سن التقاعد القانونية، بعد أن مرّس أجيالاً وأجيالاً من جراحي الدماغ والأعصاب في لبنان، وبعد أن توسّط بنجاح لدى صديق عمره جورج افرام لدعم تركيب أول جهاز تصوير بالارتنان المغنطيسي (Imagerie par resonance magnétique, IRM) في مستشفى اوتيل ديو عام 1991، وكان الأول من نوعه في لبنان. كما ظلّ البروفسور محاسب يدرّس مادة جراحة الدماغ والأعصاب في جامعة القديس يوسف لأكثر من ثلاثين سنة متتالية. وكتب البروفسور غروه في تقريظ لتلميذه البروفسور محاسب: "لقد كان لإنجازاته الشخصية إسهام كبير في إشعاع فرنسا في لبنان، فوازنت التأثير الكبير للجامعة الأميركية. كان عنوانًا للصداقة التقليدية بين لبنان وفرنسا." وكتب البروفسور شارل ميون (Charles Mion)، أحد الرفاق في فوج 1956، عن الصديق محاسب بعد 35 سنة: "لقد تميّز الدكتور محاسب، طوال مساره المهني، بتوقيره الفائق لمهنته، وبحرصه على إبقاء معارفه المهنية على أرفع مستوى، وبتفانيه غير المحدود تجاه مرضاه، وبخصاله الإنسانية العميقة... إنه مشبع بالثقافة الفرنسية. وإن تملكه لفن لغتنا وتضلعه في تاريخنا وأدبنا يجعلان منه سفيرًا مميزًا للثقافة الفرنسية في الشرق الأوسط...يتسم باستقامة شديدة، أخلاقية وفكرية، وتعلقه العميق بفرنسا يشرّف بلادنا." أما البروفسور فيليب كاستان (Philippe Castan)، الذي عاصر البروفسور محاسب كطبيب مقيم في مستشفيات مونبيلييه، وكان يصغره بثلاثة أفواج، فكتب في زميله البكر: "كان دائم الدماثة، دائم الرزانة...طبيبًا ذا إنسانية مرهفة مع المرضى، وفيهم كان يحيي الأمل على الدوام بفضل ما كان يشعه من طاقة هادئة وباسمة. إنه يوافق ما نسميه في مونبيلييه "un humaniste"."     
لم يغادر البروفسور محاسب لبنان طوال فترة الحرب (1975-1990)، وبقي مواظبًا على رسالته الانسانية في مستشفى اوتيل ديو والمستشفيات الأخرى في بيروت والمناطق كافة، فعالج المئات من الحالات المستعصية، وأنقذ حياة الكثيرين، فمنح وسام الأرز الوطني تقديرًا لخدماته خلال الحرب اللبنانية. ومن بين الذين أنقذهم الفنان عاصي الرحباني، الذي أصيب دماغه بنزيف حاد في عزّ عطائه، فشارك البروفسور محاسب في عملية عاصي الشهيرة مع البروفسور غروه، التي تكللت بالنجاح بعد أن حبس لبنان أنفاسه. ويتذكر البروفسور محاسب باعتزاز معاينته الحية لدماغ من كان يعتبره من أعظم عباقرة الفن الخالد. كما يتذكر باحترام كبير موقف السيدة فيروز عندما أخطرها البروفسور غروه، قبيل العملية، بإحتمال إصابة زوجها بالشلل الكامل إذا بقي على قيد الحياة، فأجابت بلا تردد، وفي بالها معاناتها مع ابنها هلي، الذي كان مصابًا بإعاقة كهذه: "المهم يضل عاصي طيب، حتى ولو بدو بس يتنفس." ولكن العناية الإلهية سخت عليها ورفقت بلبنان، فتبين أن نزيف عاصي كان في نصف الدماغ الأيسر، وهو محل النطق والمنطق والعلم، لا محل الملكات الفنية، التي تتمركز في النصف الأيمن. وهكذا استعاد الفنان الكبير قدراته الإبداعية كاملة في المجال الموسيقي، ومتقدمة إلى حد بعيد في المجال الفكري. وقد شهدتُ شخصيًا على ذلك لسنوات من خلال مرافقة عاصي الرائعة لزوجتي فادية في أول مشوارها الفني، واجتراحه الميلوديات الآسرة لها دون عناء عبر ارتجالها عزفًا على البزق، ثم شغفه بالغوص معي في مناقشات فلسفية وعلمية مطوّلة فيها ما لا ينضب من "القفشات" الذهنية البارعة، ولو على تفلّت.
فُوِّض البروفسور محاسب العديد من المهمات الطبية الاستشارية أو التنفيذية في بلدان عربية وأفريقية، وكانت أبرزها تلك التي أوكلتها إليه الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم عام 1983 في زائير، حيث ألقى ثلاث عشرة محاضرة للجسم الطبي ونفّذ ثلاث عمليات جراحية نقل وقائعها التلفزيون الرسمي. كما فوضته منظمة الصحة العالمية إجراء تقويم لحالة جراحة الدماغ والأعصاب في القارة الأفريقية عام 1990، ثم سمته في السنة التالية، بشخص مديرها العام، أحد اختصاصييها العالميين في علم الأعصاب (Expert de neurologie).
عام 1987، نظّم البروفسور محاسب ورئس مؤتمرًا عالميًا لجراحة الدماغ والأعصاب في مستشفى اوتيل ديو بمناسبة اليوبيل الفضي لإدخال هذه الجراحة إلى المستشفى، وذلك بحضور صفوة من مشاهير الجراحين في العالم. كما شارك في العديد من المؤتمرات العالمية في جراحة الدماغ والأعصاب في نيويورك، وبوسطن، وميونيخ، وأوهايو، والمكسيك، وغيرها، وفي العديد من مؤتمرات جراحة الدماغ والأعصاب ذات الطابع العالمي التي نظمت في بيروت، وفي دورتين للتنشئة المستمرة في كلية الطب في جامعة هارفارد.
هو عضو مؤسس للجمعية اللبنانية لجراحة الدماغ والأعصاب، فرئيسُها من 1991 إلى 1994، وعضو مؤسس للجمعية العالمية لجراحي الدماغ والأعصاب اللبنانيين (World Association of Lebanese Neurosurgeons)، ورئيسها الفخري مدى الحياة. وقد شغل منصب أمين سر جمعية جراحة الدماغ والأعصاب في الشرق الأوسط لأربع سنوات (1992-1996).
بعد تقاعده، عيّن عميدًا مؤسسًا لكلية الطب في جامعة الروح القدس (الكسليك) عام 2002، فوضع أنظمتها الأكاديمية، وربطها باتفاقيات تعاون مع جامعات هارفارد (الولايات المتحدة الأميركية) وباريس ومونبيلييه وتور (فرنسا)، وبقي يدير دفتها بدقة مثالية حتى 2007، حين ألمّت به وعكة صحية ألزمته التنحي وتسليم الأمانة. وهكذا بقي البروفسور جدعون محاسب ناشطًا منتجًا في حقله حتى سنه الثمانين.
له أكثر من ثلاثين مقالاً بحثيًا في جراحة الدماغ والأعصاب، ولا سيما في مجالات أورام الجهاز العصبي (Meningiomas)، وارتضاض العمود الفقري (Spine trauma)، وأورام ذيل النخاع الشوكي (Cauda equina tumors)، وجراحة الدماغ المفتوح الجمجمة بفعل أضرار الحروب (Open cranial trauma). وفي هذا المجال الأخير، فقد طوّر نظرية خاصة به هي المعروفة باسمها الفرنسي Règle des 4 D (Délai, Débridement, Duroplastie et Détente)، وقد قدمها عام 1988 في دوفيل (فرنسا) كشرعة عمل عامة للجراحين استنادًا إلى تجربته المكتسبة إبان الحرب اللبنانية بعد إجراء حوالي 400 عملية استئصال للشظايا والرصاص من الرأس. كما قدّم البروفسور محاسب العديد من المشافهات (Communications orales) القيّمة أمام المحافل الطبية في لبنان والخارج، وأنتج أربعة أفلام طبية.
نشط البروفسور محاسب أيضًا خارج الحقل الطبي، فكان رئيسًا سابقًا لرابطة خريجي معهد الرسل (1967)، وأحد مؤسسي التجمع الاجتماعي الكشفي (1981) ونادي روتاري كسروان (1975). وهو حاليًا رئيس لجنة وقف دير مار شليطا-مقبس (منذ 1969)، الذي أسسه أحد أجداده في خراج بلدته غوسطا عام 1628، فكان أول دير ماروني في كسروان منذ خرابها على يد المماليك عام 1305. والبروفسور محاسب هو أيضًا عضو في الهيئة الإدارية لـ "مؤسسة البطريرك الدويهي" منذ العام 2007 بتعيين من غبطة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير. وله مقالات ومداخلات عدة خارج الإطار الطبي، أذكر منها مثلاً محاضرته في جامعة دمشق بمناسبة ذكرى الأربعين لوفاة الأديبة والشاعرة ماري عجمي (25 نيسان 1966).
هذا غيض من فيض سيرة فذّة عنوانها التألق المهني، والثقافة الرفيعة الواسعة، والحكمة المنوَّرة، والأخلاق النبيلة، والايمان الراسخ. أما شهادتي أنا فيه، فإكبار على إكبار لا تحوشهما كلمات. لقد حظيت بشرف التعرّف به عن كثب، رائدًا ومثالاً كشفيًا ذرعت معه وعلى طَرق عصاه دروب لبنان وجروده مدى ربع قرن، وأبًا معنويًا ما زلت أنهل من مَعين ألمعيته ونبله ووطنيته وظرفه حتى الثمالة، وعَلَمًا علميًا شرّفني بطلب المشاركة الأكاديمية في إعلاء عمارة الطب في جامعة الروح القدس أول بداياتها. لقد جاورت عظيمًا من بلادي ما ساكن إلا القمم، وملفانًا جمع الحكمة بمعنييها على أحسن تقويم، وأعطي نعمة تذوق حضور "الإلهي" في قلب عالمنا الصاخب، فاستطاب التعفف عن شهوات الأرض ليبقى في جوع إلى بهاء المعنى الأخير.
أما أمنيتي الصادقة، فهي أن يحذو مستشفى أوتيل ديو في بيروت حذو مستشفى غي دو شولياك (Gui de Chauliac) في مونبيلييه، فيكون لنا قريبًا "قاعة جدعون محاسب" كما أنّ لديهم هناك "قاعة كلود غروه"، وتحذو كلية الطب في جامعة الروح القدس حذو الكليات العريقة التي تتذكّر مؤسسيها بما يليق من الإكرام، فيكون لها، بعد العمر الطويل للبروفسور، نُصُب تذكاري له يكون غرّة تراثها الذي نرجوه متألقًا وملهِمًا على مثال مؤسسها. أما النصب الأحلى لجدعون محاسب، فقد نقشه هو بنفسه، لا على الحجر بل في تضاعيف المخّ، لا بإزميل بل بمبضع، لا بمعارف الأرض الباردة بل بمحبة السماء الدافئة."J'ai écrit avec le bistouri" ، يبوح "الحكيم" مسترجعًا شريط حياته. نعم، لقد كتب بقاءه باللغة التي يتقن، مجرّحًا على قِرطاس إلهي بشفرة العبقرية، وشاهدًا بالعين والنيّرة، في تلافيف الأدمغة وحنايا العَصَبات، على تذاوب العلم والسرّ، وتبادع المادة والروح، ولسان حاله يسبّح قائلاً، مع مثاله الأدبي باسكال:  "الطبيعة فيها من الكمالات ما يبيّن أنها صورة الله، وفيها من النقائص ما يبيّن أنها مجرّد صورة له."
La nature a des perfections pour montrer qu'elle est l'image de Dieu,
et des défauts pour montrer qu'elle n'en est que l'image.

 
 كلمة البروفسور جدعون محاسب

 من أين لي أن أقف في حضرة أصحاب الفكر والقلم، كتابًا وأدباء ومثقفين من لبنان وسائر الأقطار العربية، وهم أعلام الثقافة عن حقٍّ حَقيق؟ وما لي أنا المتطفل أن أقول؟ أنا هنا طائر يغرّد خارج سربه، أفنيت العمر ومبضع الجراحة في يدي، وبه كتبت بدل "القرطاس والقلم".

أولاً، شكرًا للذين تكرّموا فكرّموني، أعضاء الحركة الثقافية-أنطلياس، "والحركة بركة". بوركت لجنتها الإدارية، وعلى رأسها لولب الحركة العصامي المعروف الدكتور عصام خليفه، والنخبة التي تشاركه النشاط الثقافي والتنظيمي، وأخص بالذكر منهم الدكتورة تيريز الدويهي حاتم، والدكتور أنطوان سيف، والأستاذ هيكل ضرغام. لكل منهم خالص الشكر، وعذرًا على عدم ذكر الباقي من الأسماء لعدم تعرفي بهم، وهذا تقصير مني.

 ثانيًا، الشكر لحضرات الشهود الخمسة الذين شرفوني بحضورهم والمخاطرة بالشهادة في شخص قلّ عارفوه وكثر المدّعون معرفته. أتمنى من كل قلبي أن أحضر يومًا تكريم هؤلاء الشهود "لآخذ ثأري منهم" كما يقال، ولكن بكل تقدير ومحبة: سيادة المطران رولان أبو جوده، البروفسور معين حمزه، الدكتور طوبيا زخيا، الأستاذ سهيل مطر، والطبيبة الواعدة ناتالي أبي حاتم.

الحركة الثقافية كرّمت بالأمس صديقي البروفسور أنطوان غصين، ابن السهل القادم إلى المدينة. واليوم تكرّم ابن الجبل النازل إلى المدينة. وعساها تكرّم غدًا، في الموسم القادم، البروفسور فؤاد سامي حداد، رائد جراحة الدماغ والأعصاب في لبنان منذ 1954، فهو أول من كشف عن دماغ اللبنانيين، "ويا لهول ما رأى"، كما يقول العارفون بخفايا الأمور. وفؤاد هو نِتاج المدينة بامتياز، وابن رأس بيروت تحديدًا.

بعد هذه المقدمة، وليست لإبن خلدون أية صلة بها، أستعين بأمين نخله، ما غيره، إبن النشيد الوطني، حين يقول في كتابه "أوراق مسافر": "وقد كان والدي يقول لي: "السمعة كلام يتناقله الناس حقائق...عن مسائل واشياء لا يعرفون حقائقها..."

هذا الكلام يعزيني ويثلج صدري، فلا ننخدع بهذه البهرجة التي تحيط بالصيت والشهرة.

هل لنا أن نذكر هنا، ولو باقتضاب، حضارتين من لبنان: حضارة الأرزة من بشري وحضارة السنديانة من عين القبو؟ فجبران كان عنوان الأولى، وبنو معلوف، من رشدي إلى ابنه أمين، عنوان الثانية، وهذا الكلام هو للصحافي سمير عطا الله، ابن اخت الكاتب والشاعر بولس سلامه، وهذا يكفي تعريفًا "بحفافي السنديان".

عيد الأم

وكم نحن سعداء اليوم بمناسبة عيد الأم، فهو أحلى الأعياد وأقربها إلى القلب. الإنسان يولد من أرحام الأمهات. لذا أتقدم بأحر التهاني من كل أم حاضرة في هذه القاعة، ومن كل الأمهات الغائبات، وحتى الراحلات، وذلك كي أصل إلى والدتي لبيبة رحمها الله. واسمحوا لي بأن أعيّد علنًا رفيقة العمر، أم العِيال، الشاعرة ليلى، وانا القيس الولهان، "وكل قيس يغني على ليلاه"، فلولاها لما كنت بينكم اليوم. فمنذ أكثر من سنة بقليل تعطّل القلب فجأة، فأسعفتني ليلى بسرعة قصوى، وبعد ربع ساعة كنت بين أيدي الأطباء الذين أنقذوا حياتي. فلهؤلاء شكري العميق، وهم، مع حفظ الألقاب والتسلسل الزمني: إيلي عاقوري، كلود سمعان، حميد البايع، رشوان رشوان، نبيل طويل جرّاح القلب، وأمال باسيل، أطال الله بأعمارهم.

نتابع مسبحة الشكر، "وبالشكر تدوم النعم".

أولاً: جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت، التي استقبلتني واحتضنتني منذ البداية، أي من 1962 لغاية 1994، حيث علّمت فيها اثنتين وثلاثين سنة، وخرّجتُ ما يناهز الألفي طالب. ولن أنسى فضل الأب بيار ماديه، عميد كلية الطب آنذاك، فهو كان السند - وأي سند!

ثانيًا: جامعة الروح القدس في الكسليك، التي أولتني ثقتها، فأوكلت إلي عمادة كلية الطب في انطلاقتها الأولى سنة 2002. ولمدة ست سنوات تقريبًا عملنا مع نخبة من الأطباء على إنجاحها. وهي تسير اليوم بخطى ثابتة ناشطة نحو النجاح على يد "خير خلف لخير سلف"، البروفسور العميد كمال كلاب. وستخرّج الكلية أول أطبائها بعد ثلاثة أشهر من الآن. وما زلت أشعر تجاه طلاب السنوات الأولى بعاطفة ابوية، فأعتبرهم كأولادي.

بقيت لي محطتان: الأولى مع العصر الرحباني، والثانية مع الطب والحب.

كان لنا الحظ في أن نعايش العصر الرحباني، العصر الذهبي بامتياز والحقبة الأجمل في مسار حياتنا. هذا الثالوث الرحباني، الذي فقد اثنين من أعمدته، عاصي ومنصور، ما زال يحافظ على ثلثه الباقي، السيدة فيروز، الذهبية الفم والنغم وساحرة الجماهير، أطال الله بعمرها.

في صيف 1972 قيّض لي أن اعاين بأم العين دماغ عاصي الذي أصيب بنزيف، وذلك أثناء العملية التي قمت بها مع أستاذي البروفسور كلود غروه. وقد استعاد عاصي آنذاك كامل صحته وبقي يؤلف المسرحيات مع منصور لمدة ثلات عشرة سنة.

أسمح لنفسي بشيء من الخيال، فأتصوّر دماغ عاصي يحوي ايضًا دماغ أخيه منصور، شخصيتين بدماغ واحد - فلمن كان هذا البيت من الشعر أو هذا اللحن، ألعاصي أم لمنصور؟ الله وحده يعلم. ولماذا نستغرب تفوّق الجيل الثاني الصاعد من الرحابنة: زياد وغسان وأسامه وغدي ومروان؟ فالموهبة تنتقل بالوراثة، مثل العيون الزرق. وكم أصاب المثل في هذا المجال حين قال: "فرخ البط عوّام".

كلمة أخيرة في الطب والحب. فالطب حب بامتياز، وقديمًا قال الطبيب السويسري Paracelse في القرن الخامس عشر: « La médecine est tout amour ».  فعلى الطبيب أن يحب مريضه لكي يشفى. فإن احب فقط جيبه الملآن أو جسمه الجميل الجذاب فلن يشفيه. الحب هو لصالح المريض ولصالح عائلته. كلمة "حكيم" أكثر وقعًا ودقًة وقبولاً من كلمة طبيب، لأنها تعبّر عن الحكمة والثقة والمشورة الصالحة، فيصبح الحكيم فردًا من أفراد العائلة.

كلمة شكر أخيرة لصديقي العميد الشاب يوسف كمال الحاج، فإنني أقل بكثير مما قاله فيّ.

الطب يتقدم بسرعة هائلة بفضل الأبحاث والتطور العلمي الجبار. وهذا كله يصب في خانة الشفاء، شرط ألا تقف الآلة حاجزًا بين الطبيب ومريضه.

أَلا فَلْيُعطِنا الله أطباء حكماء وباحثين، وليُنعمْ علينا بوطن غني بالنوعية والطيبة! هذا هو أملنا في أطباء الغد ولبنان المستقبل.

شكرًا لإصغائكم.