تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي
تكريم الدكتورة يمنى العيد

 

كلمة الدكتورة  نايلة أبي نادر
كلمة الدكتورة سحر خليفة
كلمة الدكتور يمنى العيد

 

  كلمة الدكتورة  نايلة أبي نادر

       

اطلّت بتميّز على منبر الفكر صوتاً ناقداً يطرح الاسئلة الصعبة، ويحفر في خفايا القول الشعري والنص الأدبي. التزمت المسار النقدي تبرز من خلاله والأساس البنيوي وركيزة الحبكة النصية، بعد ان تمررها تحت مهجرها الفاضح.

انها كائن مشغول بطرح الاسئلة، لا يملك الاجوبة المعلّبة والنهائية. ترى في السؤال "عامل إثارة للبحث والمعرفة القائمة بالعقل والمنطق والحوار".

        لعل كتابة الشعر امرٌ ممتعٌ فيه من الابداع والمشهدية ما يرفع قيمة التعبير الكتابي ويجعله في مقام التميّز والاحتراف، لكن الكتابة في الشعر، والتنظير في القصيدة وجعلها موضوعاً للدراسة والنقد والتحليل امرٌ يتطلّب الكثير من الجهد والدقة والتروّي.

        ان اختيار الموضوعية هدفاً والنقد منهجاً، والقول الشعري موضوعاً، أبرز ما ميّز د. يمنى العيد في نشاطها الفكري. أقبلت على الشعر والرواية لتحفر في البناء النصّي وتكشف عن مكنوناته وتقيّم شروط تأليفه. شغَلَها الشعر، وانحازت إلى القصيدة فأقامت في رحابها تبحث عن اسرار حكمتها المخفية داخل الحبكة النصيّة.

ان التفكير في الكتابة، والغوص في حيثياتها امر يتطلب إعداداً محترفاً، ومقدرة على سبر الاغوار، واقامة المقارنات، واستخلاص النتائج. كما يفرض على صاحبه الاطلاع على آخر مكتسبات علوم الانسان واللغة وما أفرزته من مناهج نقدية تكشف عن المسكوت عنه، وعما لم يظهره الخطاب للوهلة الأولى.

ان غزارة انتاج الدكتورة يمنى العيد في مجال النقد الأدبي لخير دليل على تمرّسها في هذا المضمار فأسست مشروعاً مترابطاً ركيزته المقاربة النقدية ليس فقط في بعديها التفكيكي والتركيبي، انما الابحار ابعد من ذلك نحو "المرجع الحي" للنص الأدبي حيث نشأ وتطوّر. لم تنظر الى الانتاج المعرفي باعتباره قالباً متحجراً انما "نشاطاً خلاّقاً قائماً في سياق التحول، كما هو قائم في بنى النشاط المنحرفة نحو شكلها الخاص". هذا ما بلورته في كتابها "تحوّلٌ في التحوّل" حيث انشغلت بابراز اهمية التوقف عند "حكاية" الخطاب الأدبي، عند مرجعه الحي، عند شروط انتاجه وكيفية نموّه.

ان هذه الرغبة في رسم الحركة التي تسيّر فعل الكتابة بين مرسِلٍ ومرسَلٍ اليه كشف لها عن عجز المنهج البنيوي في مجال تحليل النصوص وتقييمها. هناك ارتباط حيّ بين النص والواقع بالنسبة اليها.

ترفض عزل النص "عن حوضه البشري الذي ينمو فيه ويحيا". من هنا جاء مفهوم "المرجعية الحية" ليفصح عن هاجسها في عدم فقدان الصلة مع الواقع وتخطّيه والغرق في البديهيات او الايديولوجيات المتحجرة. ويرى حسين بن حمزة مقيّماً كتابها "في القول الشعري" انها "برعت في ابتكار جذاب وعميق وقادر، في الوقت نفسه،على تقديم سجال نقدي غايته خدمة النص الشعري من خلال الإصغاء الى الدوافع الشعرية الموجودة في داخله، ثم مقارنة هذه الداوفع بمصادر الواقع و"مرجعياته". المرجع الحي يستمدّ طاقته وحيويته من هذا المزج الطليعي والمنصف بين الشعر والواقع مع انحيازٍ واضحٍ الى الشعر".

وفي سياق علاقة النص الشعري بالحياة وما ينبغي ان يعبّر عنه من مواقف بلغة جديدة ومختلفة يقول الشاعر والناقد شربل داغر ما يلي: "علاقة النص الشعري بالحياة علاقة حياة إذ يطلب النص من الحياة ان تمدّه بأسباب النشاة والنماء والتجدّد. وهي علاقة تتعدّى صيغة الانعكاس التي عوّل عليها بعض النقد لتفسير الظواهر الادبية في نشأتها وتعبيراتها. فالقصيدة ليست ترجمة امينة او مباينة لما كانته الحياة نفسها. ذلك ان القصيدة بناء مخصوص يتدبر ما يحتاجه في كيفيات شديدة التعقيد. والقصيدة قبل ذلك كله تجربة بالمعنى الحياتي للكلمة، مخصوصة ومبتكرة لا يمكن اختصارها بما كانته تجربة بعينها في الحياة.

ما توفره الحياة للقصيدة بعيداً عن احداثها ووقائعها سواء السعيدة او الحزينة، الرتيبة او المفاجئة هو الرغبة في القصيدة في الاقبال عليها". (النص منشور في كتاب مصطفى الكيلاني، شربل داغر: الرغبة في القصيدة)

يمنى العيد هذه المرأة الشغوفة بالممارسة النقدية الهادفة، أرادت أن تخصص في عملها وتميّز خطاباً نقدياً عربياً يسهم في تحرير القراءة النقدية من "سطوة النموذج الجاهز، كي تصبح هذه القراءة نشاطاً إبداعياً في إنتاج ما تنتجه من معرفة".

قليل من الذين يمارسون النقد، يقبلونه في حال طُبّق على نصوصهم او منهجهم او قراءتهم. اما هي فتعلن برحابة تقلي ما يكتب في كتاباتها من نقد لأن في ذلك امراً ضرورياً من امور أصول الارسال والتلّقي. تقول: "ولئن كنت قد حاولت في ممارستي صياغة بعض الاجوبة او ما اعتقدت انه اجوبة، فإن ما قدّمته يبقى خاضعاً للنقد لأني اعتبر النقد فعلاً مستمراً متواصلاً. انه حياة الكتابة وحقيقتها".

يمنى العيد، اهلا بك، علَماَ مكرماً على منبر الحركة الثقافية - انطلياس، امرأة تضج بالعطاء، مع كل التمني بدوام الصحة والإبداع.

  كلمة الدكتورة سحر خليفة

      شرف عظيم أسبغ علي هذا المساء أن أقوم بالتقديم لهذا التكريم الجميل لصديقتنا، ناقدتنا، معلمتنا، الأستاذة الدكتورة يمنى العيد.  فمن أين أبدأ؟  أبدأ بها كناقدة ذات منهج تقدمي ملتزم من الأدب والفكر والسياسة؟  أم ككاتبة سياسية - اجتماعية - تربوية تقول لنا إن المعرفة والوعي هما الطريق الى القوة وتحرير الوطن وارتقاء الذات؟  أم كإنسانة ذات بعد جمالي آسر فيه من المحبة والتواضع وسمو الروح ما يجعلنا ننسى الوقتي والعابر وندخل معها، بقيادتها، عبر آفاق تسحبنا نحو العلوي والمرهف وضمير الخير؟

      لن أقول لكم ما اعتدنا قراءته في الصحف والسير المهنية والسجلات الرسمية.  وقد تعمدت وضع هذه الشاشة وما عليها من معلومات حتى يتسنى لنا ما يكفي من الوقت والمساحة أن ندخل معا، ونحتفي معا، بما هو أعمق، أقصد بالحميم والمضمر وخفايا الروح.

      وأنا كروائية، وباحثة، لا ولن أكتفي بالأوصاف العائمة والمديح المعمم، لأن الأوصاف لا تغني عن المحسوس والمجسد، أي عن المثال والنموذج، وعن المشهد.  وإليكم إذن هذا النموذج والمشهد في وصف حي.

      كاتب جزائري كتب يصف لقاءه بيمنى العيد على هامش إحدى المناسبات الأدبية في الجزائر بقوله:

      تبادلنا بعض الكلمات، لكن هذه الكلمات اتضحت ملامحها وقسماتها في اليوم التالي، عندما تعشينا في أحد المطاعم برفقة مجموعة من الكتاب.  كانت يمنى العيد وهي تتحدث بذاك الهدوء الروحي، توحي لك بالوقار والتواضع اللذين يميزان المرء الذي عرك الحياة وجعل من الثقافة تمرينا عميقا. 

      ويصف الكاتب كيف ذكرت له يمنى العيد حادثة ارتكبت فيها خطأ ما يوم كانت مديرة مدرسة ثانوية، وكيف جاء زميل حميم لها، وهو الفيلسوف الشيوعي مهدي عامل، ونصحها أن تعيد النظر في موقفها وأن تكون شجاعة في الاعتراف بخطئها... وكيف أنها عاشت مع ذاتها لحظات عسيرة،  وعانت ما عانته من تمزق وحيرة، حتى وصل بها الأمر الى الانفجار بكاء ... لكنها، في نهاية المطاف تراجعت عن خطئها وقدمت اعتذارها.  وبهذا الصدد قالت يمنى العيد: إن العمل على الذات ليس بالأمر السهل أو الهين... وإن الاشتغال على النفس والاستمرارية فيه يمنحان المرء ليس نظرة متزنة وحسب، بل هدوءا روحيا وشجاعة أدبية وقدرة على المحبة وعلى تفهم الآخرين.

      ويواصل الكاتب الجزائري قوله:

      كان يبدو على يمنى العيد وهي تسر لنا لحظات منشئها والظروف التي عايشتها، أنها قامت بشكل قاس ودؤوب على ممارسة هذا الاشتغال، الاشتغال على الجسد والنفس معا...   ويخلص الى القول:

      يمنى العيد، اكتشفت فيها وراء الناقدة، كاتبة إنسانية من طراز رفيع .. امرأة لا بد من أن يعاد اكتشافها. 

      وها أنا أحاول معكم، برفقتكم، إعادة اكتشاف ما وراء هذه الناقدة الإنسانة، أي الحميم والمضمر وخفايا الروح. فأنا يعنيني، بل يؤرقني، عدم التحام المكتوب بالمعيشي لدى الكتاب، معظمهم.  وأصدقكم القول إني عرفت أفواجا من الكتاب والمفكرين ممن يكتبون الشيء ويفعلون ضده.  لذا، يعنيني، بل يفرحني ويفحمني، أن أجد ناقدة تقول لي الصدق دون تشنج، ودون إدعاء ودون تأستذ، فتفتح عيني وتحفزني فأعرف أين قلت الصواب أو جانبته.

      يعنيني جدا أن أجد من يعلمني، طوال حياتي، وحتى الممات، أن الالتزام بقضايا الناس، بقضايا الحق والعدالة والحرية هو أصل الأدب وقاعدة الجمال. 

      يعنيني أن أجد ناقدة بهذا الحجم، بهذا الاتساع، تقول لي، تقول لنا، تناقشنا، تحفزنا، وتنبهنا، فتنير الطريق.

      فماذا تقول أستاذتنا وصديقتنا حكمت مجذوب الصباغ أو يمنى العيد؟

      دعوني أوجز في نقاط حتى نفهم ما يقول النقد بلغة سهلة، ولاحظوا معي التواضع والصدق والنزاهة، فماذا تقول يمنى العيد؟  تقول:

      * لقد كنت، وما أزال، شغوفة بطرح الأسئلة، لأني اعتبرت نفسي لا أملك أجوبة جاهزة، أو نهائية، ولأني اعتبرت السؤال عامل إثارة للبحث والمعرفة القائمة بالعقل والمنطق والحوار.

      وتقول يمنى العيد:

      * لئن كنت قد حاولت في ممارستي، صياغة بعض الأجوبة، أو ما اعتقدت أنه أجوبة، فإن ما قدمته يبقى خاضعا للنقد، لأني اعتبر النقد فعلا مستمرا، متواصلا، إنه حياة الكتابة وحقيقتها.

      وتقول يمنى العيد:

      *  كان همي وما زال، تكوين ناشئة تفكر وتسأل وتبحث وتفسر وتسعى الى المعرفة - المعرفة العلمية بحقيقة ما يجري، بالأسباب والمسببات، بطبيعة أحوالنا على هذه الكرة الأرضية، فلا نضع الأسئلة عن الكون والطبيعة والماوراء في خانة المحرمات مما يجعلنا نتماثل في المعرفة ونصبح كتلة أو مجموعة عددية في عهدة المرجع الواحد أو الراعي العارف أو الموجه الدال.

      وتقول يمنى المنخرطة بالبعد الثقافي - الاجتماعي - التربوي المعني بالانفتاح وتحرر الفكر من قيود الغيبي والسلطوي والمطلق:

      *  لعل المخيف في هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر هو نزوع ثقافتنا العربية الى مثل هذه الإيمانية الشمولية المطلقة على حساب المنظور النقدي الذي يرتكز على المعرفة بوقائع الأمور وأحوال المعيشي.

      وتضيف يمنى مؤكدة:

      *   قد يبدو ضروريا أن يكون كل قارئ ناقدا.  وهذا معناه أن نلتفت الى واقع ثقافتنا والى ما يجعل منها ثقافة فكرية نقدية، أي أن نرى مشكلة الثقافة حيث هي في الأساس، أعنى في نظم التعليم، ونظم السلطة الحاكمة، وفي انحسار القراءة وتراجع مساحة الحريات. 

      وفي هذا المحال أسأل يمنى:

       -  من المسؤول عن تردي الواقع العربي، أهو المواطن المحدود أم الحاكم المحدِد؟  أوليس الحاكم المحدِد هو أصلا نتاج المواطن المحدود؟  بمعنى أن هذا الشبل من ذاك الأسد، أو كمقولة: كما تكونون يولّى عليكم؟

      تجيب يمنى:

      -  أشعر أحيانا بانغلاق الحلقة التي لا بد من كسرها بتغيير النظام والطقم الحاكم.  لعلها الثورة المعوقة بسبب ما راكمه التاريخ من تخلف وبسبب التواطؤ مع آخر ينهب ثرواتنا. لذا لا بد من إعادة قراءة الواقع، والخروج على قيود الماضي، وثوابت الحاضر دون إلغاء كل شيء.  لا بد من فكر نقدي جريء.

      وأسأل يمنى:

      -  برأيك كناقدة أدبية تحيل على المرجعية الاجتماعية والسياسية، كيف نخرج من هذه الدائرة المغلقة، أي من مقولة: كما تكونون يولّى عليكم؟  وبمن نبدأ، بالحاكم أم بالمواطن؟  وما دور المثقف من كل هذا؟

      تجيب يمنى:

      -  عن أي مثقف تسألين:  التبعي، الانتهازي، المتواطئ، أم الحقيقي المغلوب على أمره، والمستهدف بالقتل، والنبذ، والعزلة، والفقر؟

(لم تجبني يمنى على هذا السؤال بالكامل، بل أجابت السؤال بسؤال، لكنا سنجد جوابها كاملا في الجزء التالي، سنكتشفه معا.  تذكروا...

       والآن، دعوني انتقل بكم الى بعد آخر، وتجربة أخرى حفرت آثارها في وجدان يمنى المواطنة، والناقدة السياسية في مشهد يندمج فيه الخاص بالعام، والفكري بالجسدي، والمحسوس بالمضمر.  هذه التجربة وهذا المشهد اقتبستهما من كتابها في النفاق الإسرائيلي الذي قصدت يمنى أن يكون شهادة على ما رأت وسمعت عن اجتياح إسرائيل لمدينة صيدا في حزيران عام 1982.  وتذكروا معي أن يمنى صيداوية المنشأ، ولاحظوا معي أن ما تصفه يمنى في هذا الكتاب يكاد يكون نسخة مطبوعة بالكربون عما حدث في غزة قبل أسابيع، وما حدث في بيروت عام 2006، وما حدث في جنين ونابلس ورام الله عام 2002، وما حدث في قانا وصبرا وشاتيلا وبحر البقر والسموع قبل سنين ، وما حدث في دير ياسين قبل عقود.  بمعنى أن ما حدث في صيدا لا نستطيع أن نصنفه كماض مات وانتهى أمره، ولا كحاضر محاصر بعيد عنا، ولا كتجربة سحيقة في أرض فلسطين عام 48، بل انه يحاصرنا الآن، في كل قطر أو دولة أو دويلة أو مشيخة، وهذا ما تراهن عليه إسرائيل.  فهي لا تراهن على ضعفنا وانقسامنا وتناقضاتنا فحسب - كما تحذر يمنى العيد - بل تراهن على ضعف ذاكرتنا وآنية خطابنا وعلى ردود فعلنا العفوية المباشرة ومقاومتنا التي تعتمد على الوقتي والراهن.

      وحتى لا ندخل في أوصاف معممة، دعونا نخوض التجربة مع يمنى كما وصفتها خطوة بخطوة. وتبدأ التجربة كالتالي: كانت الساعة قد جاوزت الثالثة بقليل، من بعد ظهر يوم الجمعة الواقع في 4 حزيران 1982، حين كانت يمنى تحاضر في الجامعة.  تقول يمنى:

      كان كل شيء يبدو طبيعيا ...حين فاجأنا هدير طيران منخفض، فزلزل المكان، وتلاحقت أصوات انفجارات قريبة، وكأن جحيم دانتي استيقظ ليملأ الفضاء حولنا.

      غادرت والطلاب القاعة ( قاعة المحاضرات في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية).  أسرعنا الى زوايا جدران الطابق السفلي نطلب الحماية من الموت، لكن أحدهم ابتسم وقال: إن الصواريخ التي ترميها الطائرات تخترق طوابق عدة، وقد يعاني المرء، تحت الردم، عذابا أشد هولا من الموت.

      وتواصل:

      لم نكن نعرف، نحن القابعين في بيروت فوق قلقنا وأسئلتنا عن حدود المدى الذي ستغزوه إسرائيل، حقيقة ما جرى.  فلقد أغلق جيش "الدفاع" الإسرائيلي صيدا على دمارها وموت أهليها، ومنع أيا كان، حتى الصحافيين، بمن فيهم الأجانب، من دخول المدينة، دمر مراكز الاتصال السلكي واللاسلكي ... ولم أستطع، شأن الآخرين، الاتصال من بيروت بأهلي في صيدا.  لم أستطع أن أعرف إن كانوا ما زالوا على قيد الحياة، أو قتلوا!  من قتل منهم ومن أصدقائي ومعارفي!! من منهم نجا ..

      وتقرر يمنى مع عائلتها مغادرة بيروت المحاصرة الى صيدا.  وتقول:

      غادرنا بيروت المحاصرة.  خرجنا باتجاه الشرق، عبر حاجز الجيش اللبناني، لنلتف بعد ذلك على القسم الجنوبي من العاصمة ونسلك الطريق العالي، عبر القرى، باتجاه صيدا

      وتصف ما رأت حين وصولهم صيدا بعد أحد عشر يوما من سقوطها واحتلالها ودمارها.  تقول:

      كان الدخان ما زال يتصاعد من ملجأ بناية جاد، القائم، أو الذي كان قائما، في الطرف الجنوبي -الشرقي من المدينة، والى الجهة اليمنى من الطريق المؤدي الى عبرا، ومن ثم الى جزين.  الى اليسار من هذا الطريق تقع المدرسة الابتدائية التي قتل في ملجئها جميع من كان فيه من الأهالي.  القنبلة التي أسقطها الجندي الإسرائيلي من  طائرته على المدرسة حولت الملجأ الى محرقة، فهي من النوع الذي لا ينفجر إلا عندما يرتطم بحاجز لا يمكن اختراقه ... هكذا وبما أنها اخترقت سطح المدرسة وأرض الغرف فقد انفجرت، بعد أن نفذت الى الملجأ المظلم ولامست أرضه حيث كان يتجمع اللاجئون المدنيون المذعورون.

      كنت بصحبة ابنتي ليلى عندما سمعتها تصرخ وقد توقفنا عند المدرسة، وأرعبنا أن نرى الجثث المحروقة من شقوق السقف المنهار وبعض الأطراف لأيدي وأرجل محترقة، تمتد من بين الركام كأنها كانت تحاول النجاة في لحظة الهول العظيم.

      بعكس ما حدث في غزة حين نقلت لنا وسائل الإعلام والفضائيات كامل المشهد وأجواء الرعب بتفاصيلها تذكرنا يمنى بأن الصورة - في ذاك الوقت - لم تكن مسموحة، ولم يكن بثها عبر الأقمار الصناعية ممكنا شأنه اليوم.  في عام 1982 لم تكن التكنولوجيا تؤمن للصورة حضورا واسعا، ولا كان البث العربي يمتلك وسائله المتطورة، وكان الإعلام مصادرا .  لهذا صممت يمنى على توثيق ما رأت وسمعت حتى لا يغيب ما حدث عن الذاكرة وعمق الوجدان.

      وتصف يمنى بقية الرحلة:

      هكذا مدفوعة بالقهر، وبمشاعر المرارة مما كنت قد رأيت من فداحة المأساة، المجزرة، التي أوقعها جيش الاحتلال بالمدينة وأهلها، فكرت بلقاء الأهالي وبتدوين شهاداتهم، وشهاداتي لما أسمع وأرى.  أسمع وأعاين وأكتب . . أدون المعلومة في حدود الحدث . . وأهيئ مادة للذاكرة.

      وقد ظن الناس الذين رحت التقي بهم أني صحفية فحكوا بحماس . . كأنهم يجدون عزاء في أن يعرف الآخرون الذين سوف يقرأون ما أدون، حقيقة ما جرى لهم.

      وفي الطريق تلتقي يمنى بامرأة تمسك بيد فتاة صغيرة، تتوقف المرأة إذ ترى يمنى تتأبط محفظة أوراقها وأقلامها فتسألها والحزن يغمر وجهها:

      -  حضرتك صحفية؟

      تجيب يمنى:

      - لا.  أنا بنت البلد.

      وتواصل يمنى، بنت البلد، تدوين أقوال الناس وتوثيق مآسيهم.  وكذلك تواصل تدوين وتوثيق سلوكيات جنود الاحتلال بتصوير نماذج ومشاهد لا بد من حفظها في الذاكرة، في الوعي واللاوعي، حتى لا تضيع في غياهب الزمن وننساها. فتصف لنا في كتابها المذكور مشاهد مزعجة، مقلقة، مهينة، مستفزة، فماذا قصدت يمنى من وراء ذكر هذه المشاهد ورصدها؟  تقول يمنى إن المقصود هو إبراز وتصوير وتوثيق وتحليل المشهد الإسرائيلي وما يضمره هذا المشهد من حقد وبذاءة وروح تدميرية تعود في جذورها الى التربية التي نشأ عليها الإسرائيليون في مدارسهم الابتدائية والتكميلية، وعن تكون وعيهم من خلال خطاب أدبي، سياسي، ديني يحتقر غير اليهودي، الجوييم، لأنهم استنادا لما جاء في المزمور 149 من التلمود،  موكل إليهم، أي اليهود، تأديب الشعوب وأسر ملوكهم بقيود، وأشرافهم بأغلال من حديد.

      قد يقول قائل: وما دخل ناقدة أدبية بما تفعله إسرائيل وما تضمره إسرائيل وما تبرره إسرائيل؟  ما تقوم به إسرائيل هو من اختصاص السياسيين والعسكريين والمنخرطين في المقاومة وليس من اختصاص الأدباء والنقاد والفنانين!  تجيب يمنى إن إسرائيل تدرك أهمية المستوى الفكري، أي أهمية ما هو مرتبط ارتباطا وثيقا، وعضويا، بالمسألة الثقافية (بما في ذلك الإبداع).  وتذكّر بموقف إسرائيل الصاخب من قصيدة محمود درويش: عابرون في كلام عابر. ولأن إسرائيل مدركة للبعد الثقافي وآثاره، فهي تداور وتناور وتلفق الأحداث بمنطقها وتقلب الحقائق وتعكسها حتى تبدو في ثوب الحمل في مواجهة الذئاب وغدر اللئام.

      وتحذر يمنى من أن بقاء معنى المشهد، مشهد صيدا، مشهد قانا، مشهد غزة، وجنين والخليل، بقاء المشهد في حدود المحسوس يعني بقاء المقاومة في حدود ردة الفعل العفوية والمباشرة، القابلة لتوظيفات هامشية وانتصارات سطحية، وهو ما قد يعرض فعل المقاومة للتفتت والتكسر ويحد من قدرتها على الاستمرار.  ففي نظرها أن المقاومة لا يمكن أن تستمر وهي تعتمد على المحسوس والآني والمباشر، ذلك أنها بحاجة الى موقع فكري يجد تعبيره ولغته في مجالات الثقافة والإبداع حتى تكون المقاومة  لا في حدود العمل العسكري فقط، بل في السلوك، والإحساس والتوجه الوطني التاريخي العام. هي نمط حياة، ومستوى وعي، وقدرة تفكير.  إنها وضعية فكرية اجتماعية تربوية تحول دون سقوطها في الاستغلال، أو في التوظيفات الجانبية والصراعات المحلية والمزايدات الحزبية.

      أرجو المعذرة إذا كنت قد أسرفت في الغوص بالسياسي والاستشهاد بما لا يتناسب والروح الجمالية لهذه الاحتفالية وهذا التكريم.  لكني، وعن عمد، قصدت أن أؤكد واشدد على أمرين تؤمن بهما يمنى أشد الإيمان، وأنا أومن.

      الأول: هو عدم الفصل بين الخاص والعام، بين الفكري والجسدي، بين الآني والتاريخي، بين المحسوس والمتخيل.

      والثاني: الإيمان بدور المثقف الملتزم بقضايا الوطن وهموم الناس.  فواجب المثقف، ابن البلد، أن يكون على الأرض، في الساحة، لا أن يختبئ بعيدا في برجه العاجي عن الأحداث والواقع  بحجة الحفاظ على الجماليات والتقنيات والذوق الرفيع، لأن الاختباء - بنظرها - يعني الإنكار والتنكر، يعني الجحود والتواطؤ، يعني الانسلاخ والتنصل من قضايا العدل والحرية وحياة الناس.

(هذا هو الجواب الكامل للجواب المبتور الذي أشرت إليه سابقا حول دور المثقف.  أتذكرون؟)

      أنا حاولت، من البداية، أن أوجز لكم ما اعتقدت أنه الأساس لما يقوم عليه فكر يمنى، وإيمان يمنى، وإحساس يمنى.  هي يمنى العيد، وإن شئتم، حكمت مجذوب الصباغ، أهناك فرق؟ بالنسبة لي هي يمنى اليمن والمحبة والقلب الكبير.

      وقد حاولت، قدر المستطاع، أن أحيط بما قالته وما فعلته وما أحسته.  حاولت أن أصور وأفسر وأدخل في عمق الشخصية وألا أطفو على السطح بلغة التعميم.

      حاولت أن أضع الشخصية في صورة، وأن أضع الصورة في إطار، وأن أضع الإطار في مشهد، مشهد عام يبدأ من هنا، أي من لبنان، وينفرش على وطن أكبر، على عالمنا، عالمنا العربي بكل همومه، بكل هزائمه وأحزانه، وبكل ما فيه من قدسية وفضاء الروح،  وأرض خصبة تزرع فينا ما هو أخضر فنعلو على الجرح ونتسامى ونصبو لأجواء خلاقة فيها أجراس ومشاعل وشموع كريسماس وقناديل تنير العتمة، وتضيء الكون بما هو أزرق، وتضمخه بعطر الزنبق ونوار اللوز، وأجنحة سنونو وعصافير تطير بنا عبر مسافات تسحبنا - من غير قيود - فوق الساحات، والمزارع، ولعب الأطفال فنتجاوز عثرات الزمن وجراح الأرض، ونمد، نمد، بلا حواجز، عبر الآفاق فوق صنين وجبل الكرمل، فوق الجليل وجبل الشيخ، ونغنى معا، نغني للحب والمحبة، نغني للفرح والسعادة، نغني للسلم والحرية ونهدي يمنى أغنية جميلة تسعدها لأنها - برأيي - تلخص إيمان مسيرتها وتختزل ما تقول وما تفعل، نغني لها، نغني معا، من هذا المكان، من أنطلياس، من عبق الرحباني ومخمل فيروز، نطلق ترنيمة قدسية، للوطن الصغير، للوطن الكبير، للوطن الحر، للحب العظيم، نغني معا:

      ع إسمك غنيت، ع إسمك رح غني

      ركعت وصليت، والسما تسمع مني

      ع تلالك، ع جبالك

      ركعت وصليت

      هون السما قريبة، تسمعنا يا حبيبي

      تسمعنا يا صديقتي، يا رفيقتي، يا حبيبتي،

      تسمعنا يا أصدقائي، يا أحبائي،

      يا كل الحب

      يا وجع القلب،

      يمنى منكم، منكم ولكم،

      وأنا منكم

      والله معكم.

  كلمة الدكتور يمنى العيد

لست من أصحاب الحنين إلى الماضي. لكنها الذاكرة، حمالةُ معاني، وشاشةُ صور، ومرآةٌ لعيشٍ مضى ، ولطرح الأسئلة على زمنٍ نودُّ أن نعيش..

لا وجود لنا بدون هذه الذاكرة، ولا ذاكرة بدون ذاك الزمن الذي يمضي، أبداً يمضي وتختزنه الذاكرة.

*****

        ها أنا أقف أمامكم لأحكي، ربما لأول مرة! كيف جئت إلى الكتابة.

        من الصمت جئت إلى الكتابة.

        من الصمت الذي لفَّ عالم طفولتي، صمت الفقراء والأغنياء الذين تجاورتْ بيوتُهم في حيِّنا القديم. الأغنياء الذين لم أكن أسمع نطقهم، والفقراء الذين لم يكونوا يعبِّرون.

        هو الصمت. صمت الأمكنة والناس، الطرقات والزواريب والأقبية، الوجوه والشفاه والجسد. صمت أحمد وبهية والعشباوي ونفيسة والست نسيمة ونور الجبين، الأهل والجيران. صمت أمين ابن خالتي  منيفة وصديق طفولتي يوم جاءوا به جثَّة هامدة.. وكان ضحيَّة الجهل وعناد الجهل وادعاء المعرفة.

        من صمت البحر الذي كنتُ أرى موجه يتكسَّر باستمرار على شاطئ بحر المدينة ولا أدري أين ينتهي الأفق القادم منه، الأفق البعيد الغائب في الضباب والذي تغرقُ فيه الشمس ويختفي خلفه القمر.

        من ذاك الصمت، من سرِّه جئت إلى الكتابة. ومن صمت والدي الذي بدأ حياته إدارياً في الجيش التركي، ثم معلماً [شيخاً] في مدرسة المدينة، ثم تاجراً حراً انتقل من الاكتفاء إلى الثراء، لينتقل بنا من الدار التي ضمَّت أهلَه وعشيرتَه وكان فيها بئرُ ماء وطرمبة، وفناءٌ مفتوح على السماء نلعب فيه، وسطح نصيِّف عليه، وفلّ وياسمين وقرنفل تغمرنا روائحها، وسماء نعدُّ نجومها، ونسوةٌ لا نصغي إلى ثرثراتهن التي يبددها ضوء النهار ومشاغله المضنية..

        من تلك الدار الكبيرة التي هُدمت قناطرها وتشتت أناسها انتقلنا إلى بيت خارج المدينة القديمة، في حيّ كانوا يسمّونه حي الأشراف، وقد أصرَّ والدي على أن يكون بيتنا الذي اشتراه مطلاً على البحر. البحر الذي أصغيتُ إلى هديره الصامت، وموجه الذي يضرب الجدار أسفل نافذتي..

        تركنا المدينة القديمة وبقي والدي صامتاً. أصبح ثرياً وبقي صامتاً، ولم يقل شيئاً يوم تراجعت حركةُ العمل في مطاحنه... وكنّا نعيش زمن الانتقال إلى حداثة الآلة، إلى زمن الاحتكار ومركزية العاصمة. أُهملت المدن الصغيرة، وإلى فقر الصناعيين الحرفيين أضيف فقر العمال وبطالتهم.

*****

        من ذاك الصمت الذي تعبِّر عنه سمات الوجوه، ونظراتُ العيون وحركةُ الأجساد برغبتها النقيّة في الحياة، من صمتٍ انتهى بوالدي شيخاً مسناً، عاجزاً، يدير وجهه للبحر ويحفر بأظافره سرَّه فوق الجدار، تحت النافذة، نافذة غرفة نومه المفتوحة على الأفق، الأفق يُصغي ولا يحكي، الأفق البعيد الذي صبوتُ إليه، إلى اكتشاف ما يخفي.. من كل ذاك الصمت أتيتُ إلى الكتابة ولم أكن اعرف أنَّ موت والدي في نهاية العام 1975 كان صرخة في الصمت تعلن، مع بداية الحرب موت الطبقة التي كان ينتمي إليها.

*****

        أودُّ أن أعرف، أودُّ أن أقول، وأودُّ أن يعرفوا، أن يقولوا.. وفي سرِّي وددتُ لو يصرخوا، لماذا لا يصرخون؟

        لماذا بقيت أمي صامتة يوم قلت لها بأني أكره خالتي منيفة لأنها لم تخبِّئ أمين في خزانتها الكبيرة وتركت الرجال الذين أكرههم يحملونه في صندوق صغير إلى مكان بعيد.

        سألت، ربما في سرِّي، عن معنى ذاك الغياب، ولا أحد أخبرني يومها بأنه الموت، ولا أحد كان يقول شيئاً عن معنى الموت، عن الـ هناك التي كانت تؤرقني، عما بعد الـ هناك حيث يذهب أطفال دارنا الصغار ضحيّة الجهل، وعناد الجهل، وأنتظر عودتهم ولا يعودون.

        سألت، ثم سألت لماذا يموت الأطفال في بلادنا، في هذا العالم العربي، في هذا العالم الثالث. باكراً يموتون ويبقى السؤال معلَّقاً.

لماذا ؟

لماذا ذات يوم صوَّب العسكر بنادقَهم علينا، وسدَّتْ دباباتُهم طريقنا، نحن أطفال المدارس، لم نفعل شيئاً. سرنا مع الكبار ولم نعرف إلى أين، وهتفنا مثلهم: بدنا بشارة بدنا عادل بدنا الصُّلح.. ردَّدنا الهتاف ولم نكن نعرف ماذا يعني الاستقلال، وماذا يعني الوطن، وماذا يعني الاستعمار.

        لماذا ما زال الأطفال يُقتلون، أو يكبرون ويُقتلون؟

        فهل نعرف؟

ولم نكن نعرف.

لم نكن نعرف لماذا حُرِّم على شقيقتي الكبرى متابعة دراستها رغم تفوقها. ولماذا لم يُسمح لي بالسفر إلى فرنسا لمتابعة دراستي العليا، فرنسا التي وراء الأفق، فرنسا اللغة التي تخولني أن أقرأ غير قصائد امرئ القيس وغير قصص الجاحظ.

لم أكن أعرف لماذا يُهددني أخي بالقتل إذا تكلمت مع صديق في الجامعة، أو ذهبتُ في رحلة مع الشباب، أو إلى السينما دون إذن منه.

ولم أكن أعرف لماذا حين التزمتُ بالعدالة وناضلتُ من أجل الحريّة هُدِّدتُ بالقتل.

لماذا يريدون قتلي، أنا الطفلة، أنا الفتاة، أنا الأم، أنا المواطنة والإنسان!

من هذه الـ لماذا التي لم تنم في الذاكرة أتيتُ إلى الكتابة أنشدُ المعرفة، سبيلي إلى أن أكون أنا لي حريتي ولي ذاتي. ذات الإنسان في هذا الوطن الكبير.

من هذه الـ لماذا بدأتْ رحلتي في عالم القراءة والكتابة، وكان زواجي من صديقي في الجامعة بداية هذه الرحلة الطويلة، هو الذكر ولكن المختلف، معه صرت كائناً ولم أعد مجرد أنثى في محيط ران عليه الصمت وافتقد وعياً معرفياً يكشف ويحرِّر ويدفع إلى الحياة في معناها العادل والجميل.

وكان المسار صعباً وطويلاً، كان مسار حكاية ليست هي فقط حكايتي. إنها حكاية أناس كُثُر يشاركونني الأسئلة ويصبون إلى المعرفة، بل إنها حكاية وطن يعاني قيامته، وتحقَّقه الحديث ونعاني معه وجوده ووجودنا الذي لا بد وأن ينبني على المفارقة والاختلاف.

ولكن ما معنى هذا الاختلاف، وما هو المقصود بالمفارقة.

تعود الأسئلة وكأنَّها لا تنتهي، وتعود بي الذاكرة إلى ما عشته، إلى واقع هو مرجع أعيد قراءته في ضوء حاضر أعيشه.

في صيدا وحتى نهاية المرحلة التكميلية تعلمت في مدارس المقاصد الإسلامية، وحدها ماري عون كانت المسيحية بيننا. ماري تعرف الفرنسية وأنا أتقن العربيّة وأعاني من فرنسيتي.

وفي بيروت، العاصمة، اكملتُ دراستي الثانوية في مدارس الراهبات، وكنّا ثلاث مسلمات في القسم الداخلي على ما اذكر.

ما هذه القسمة، ولماذا! ألسنا أبناء وطن واحد، هل نحن في وطن واحد، أين هي المدرسة التي تجمعنا وترفع حدود الطائفة والمذهب؟

كنتُ أتساءل في سرِّي وأسعد بتعلُّمي الفرنسيّة، وبالتعرُّف إلى أخريات أكثر حرية في عيشهن منِّي.

غير أننا في الجامعة اللبنانية التي كانت يومذاك تُسمَّى بـ"دار المعلمين"، اجتمعنا. كنّا معاً: ميشال ومحمود، ومحمد، وإدوار، واسبرنس، ورضى، ونزيه، وماري، وسامية، وإيلي، وسليم، وجان، ومادونا، وعبد اللطيف...

كان المكانُ صغيراً، والغرفُ والقاعاتُ محدودة، بلا ملعب، بلا مطعم، بلا كافيتيريا.. ومع هذا بدا لي هذا المكان الذي جمعنا رحباً أمتدُّ فيه خارج حواجز الجنس والطائفة. كنتُ كمن يخرج من قفص، يفكُّ قضبانه الحديد، يكسرها، ويرمي بها بعيداً في الهواء ويضحك.

دار معلمين عليا: أدب وفلسفة وتاريخ وجغرافيا.. لا اختصاصات أخرى، لا هندسة، لا حقوق، لا طب.. هذه ليست جامعة تلبِّي طموحاتنا المتنوعة، صرنا نقول. هناك الجامعة، جامعة بهوية وانتماء. هناك الجامعة الأميركية، والجامعة اليسوعية. أين هي الجامعة اللبنانية التي بلا طائفة، التي تجمع، التي لها هوية لبنانية وانتماء لبناني.

هكذا عادت الأسئلة. ولم تكن أسئلتي وحدي، كانت أسئلتنا، نحن الجامعيين/ الجامعيات. كنا نجهر بها، وكانت تتحوَّل إلى شعارات، إلى نضال..

الكتابة التي مارستها طويلاً في مجلة الطريق نضال، والعمل قبل الكتابة نضال. أقول نضال وأعني فعل تغيير تُذكيه الذاكرة، وهذا التبصُّر في الواقع الذي نعيش.

بنضال اللبنانيين / اللبنانيات صارت دار المعلمين العليا جامعة، وبنضال خريجي دار المعلمين العليا، نهضت المدارس الثانوية الرسمية، مدارس التعليم الوطني، في كل لبنان.

يوم طُلب منِّي أن اكون مديرة لثانويةٍ رسميّة، أي وطنيّة، للبنات في مدينة صيدا، تركتُ بيروت على مضض، بيروت التي أحببت، وعشقت، بيروت التنوُّع، بيروت المكتبة الوطنيَة، السينما، بيروت الثقافة الثريّة، بيروت المدينة المفتوحة على الآخر بلا تعصُّب يومذاك، بلا حواجز قاتلة..

تركتُ بيروت وكان عليَّ أن أترك، فقد كنتُ الفتاة الوحيدة، الصيداويّة، التي تحمل شهادة الليسانس والكفاءة.. وكنتُ بصفتي هذه اشعر بمسؤوليتي اتجاه ثانويّة ناشئة. واتجاه فتياتٍ يرغبن، كما رغبت ذات يوم، في متابعة الدراسة.

وكان سؤال:

كيف أكون مديرة أنا التي لم يمضِ على تخرجي ووجودي في الوظيفة أكثر من أربع سنوات، كيف وحين يأتي الأهل يسألونني أين هي المديرة.

كيف أكون مديرة وهذه المدرسة لا تضم سوى صفَّين وطالبات لا يتجاوز عددهن الثلاثين؟

وكان نضال. نضال من أجل أن يكون هذا المكان ثانوية ومن أجل أن تكون الثانوية وطنيّة، ثانويّة تجمع فتيات صيدا والمحيط، المسلمات والمسيحيات. هكذا كنت أرفض تعبئة الجداول التي كانت ترسلها مديرية التعليم الثانوي لتحديد عدد التلميذات المسلمات وعدد المسيحيات. وهكذا طلبت من مدرِّسي/ مدرِّسات، مادة التعليم الديني التركيز على ما يجمع ولا يفرِّق [ الإيمان والأخلاق]، والسماح لمن ترغب من هذه الديانة حضور حصة الديانة الأخرى.

كان ذلك أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي. كان لبنان ينهض: صناعة، وعمالاً وطبقة وسطى ونقابات، وحركة طلابيّة للإعلاء من شأن التعليم الجامعي الوطني.

ويوم تركت الثانوية للتعليم في الجامعة اللبنانية، كانت ثانوية صيدا الرسمية للبنات تضم 40 شعبة، وكانت قائمة على نظرية تقول: كل القاعدة إلى القمة، كل تلميذة هي أولاً مواطنة لبنانية. والتعلُّم حق لا منَّة فيه لأحد. أما الواجب فهو المساهمة في إعلاء شأن هذا الوطن على أساس أنه للجميع، وبعدالة، وبلا تفرقة بسبب الانتماء إلى طائفةٍ أو مذهب.

لكنها الحرب، الحرب على لبنان وفي لبنان. الحرب التي أشعلت نار الطائفة واستهدفت في ما استهدفت تدمير المدينة وتدمير قيمها الثقافية.  تدمير أسواقها، ومكتبتها وجامعتها الوطنية، أو اسس أن تكون الجامعة اللبنانية ما يجمع على أساس وطني لا طائفي.

لقد دمَّرت الحربً الجامعةَ الوطنيّة، كما دمَّرت المدينة وفكرة المدينة، وروح المدينة، وفكرة المواطنية في المدينة، وفكرة المكان والوطن.

وبدا سؤال المعرفة أكثر إلحاحاً عليَّ:

كيف نكون مواطنين.

كيف تكون الثقافة العربية ثقافة وطنيّة، متميزة بطابع خاص بها؟

كيف نتعامل مع المعيش بصفته مرجعاً هاماً من مراجع ثقافتنا وتعبيراتنا الأدبيّة.

وبدا لي المنظور النقدي مفهوماً هاماً يطرح سؤاله على مجموعة من العلاقات:

العلاقة بالواقع المعيش، أو ما سمَّيتُه، اصطلاحاً، بالمرجع الحي.
العلاقة بالذاكرة وعلاقة الذاكرة بمرجعيّاتها الثقافية العامة والخاصة بما فيها المرجع الحي.
العلاقة بالمتخيّل، بالتعبير، بالفن والإبداع.

هكذا رحتُ أقرأ، وأقرأ. أقرأ وأكتب، أقرأ وأكتب وأناقش مع الأصدقاء والرفاق: مهدي عامل، محمد دكروب، حسين مروة، ومع نزيه رفيق الدرب الطويل. أكتب وأبحث، أستكمل أدوات بحثي واستمر في طرح أسئلتي:

ما هي الشعرية في نتاجنا الإيداعي العربي؟

كيف تتشكل البنى الأدبيّة، بنى العالم الروائي المتخيَّل باعتبار علاقتها بالمرجع الحي، دون أن يعني ذلك انغلاقها على هذا المرجع؟

ما علاقة الخاصّ، الذاتي، بالعامّ الإنساني؟

أسأل مسكونةً بهمٍّ وطني، ثقافي وإبداعي. همٌّ لا يغلقُ روحي على المكانِ الضيِّق، همٌّ يستجيب لهواجس طفولتي المتأملةِ في الأفق البعيد، السائلة عمَّا وراءَ الأفق. هناك وراءَ البحر الذي كنتُ أُصغي إلى موجه يتكسَّر تحت نافذة بيتنا العتيق.

أسأل ليكون الاختلافُ في وطني مصدرَ ثراءٍ لحياتنا وثقافتنا، لا سبباً لتدمير البلد فوق رؤوسنا.

أسأل، انا التي جئتُ من الصمت، لكن لا لأحكي الحكايات أو لأنقذ فقط بنات جنسي، بل لأكتب من موقع الإنسان الذي لا يقفُ عند حدود الأنوثة، بل يتجاوزها ليشملها، يتجاوزها دون أن يُغفل معاناتها التاريخيّة المضاعفة.

إنَّ كتابتي هي أنا الذات، هي ما عشتُه، هي ما استقرَّ في لا وعيي، هي الأمل والقصد، وربما الوهم، الوهم الذي يجعلنا نُصدِّقُ الحياةَ، ونحتملُ زمنَنا فيها. نعيش ونحن نعرف، أو نعرفُ ونودُّ  أن لا نعرف، بأنَّ عيشنا ليس سوى اقترابنا من نهاية حياتنا.

*****

شكراً لكم أيها الحضور العزيز على إصغائكم الذي منحني لحظة وجود لا تُقاس بزمن.