كتاب الدكتور ناصيف نصّار
الذات والحضور


كلمة د. أنطوان سيف 
كلمة مشير باسيل عون
كلمة الدكتور وجيه قانصو
كلمة بَسكال لحود
 

  كلمة د. أنطوان سيف

        نشر ناصيف نصار عام 1975 كتاباً بعنوان: "طريق الاستقلال الفلسفي" يحمل أيضاً عنواناً أصغر أكثر تحديداً لمضمونه: "سبيل الفكر العربي إلى الحرية والإبداع"، وهو كتابه الأول بعد كتابه "نحو مجتمع جديد". وبطبيعة الحال، بعد نشره أطروحته الجامعية "الفكر الواقعي عند أبن خلدون". على الرغم من أن عنوان كتابه "طريق الاستقلال الفلسفي" سقط من اللائحة التي نشرها نصّار بمؤلفاته في الصفحة الثانية من كتابه الجديد والأخير الذي نلتقي حوله في هذه الندوة، والحامل عنوان "الذات والحضور" وبعنوان أصغر تحته هو "بحث في مبادئ الوجود التاريخي"، فإن الكتاب "القديم"، الذي يسبق أخاه الحديث بحوالي أربعين سنة (إذ أن أبحاثه نشرت في مطلع سنة 1970) والذي تكّلم فيه عن الراهن القائم في العالم العربي تحت مسميّات مختلفة هي التالية: "الوضعية المجتمعية التاريخية" (ص 40)، "الوضعية الحضارية في العالم العربي الحديث والمعاصر" (ص 38)، "الواقع التاريخي الحضاري" (ص 31) إلخ... وانطلاقاً منه، عن "وضعية الفلسفة في الثقافة العربية المعاصرة"، فإن ذاك الكتاب، على قدمه النسبي، رسم كثيراً من الأطروحات القاعدية للكتاب الجديد، والتي يمكن اختصارها بما قاله المؤلف حينذاك: "ان الفكرة التي انتهيت إليها في هذا الكتاب تتلخص في ضرورة إبداع نظرة فلسفية انطلاقاً من مقولة الفعل، أو من مقولة الوجود التاريخي. ولكني امتنعت، بعد تفكّر، عن تفصيل الكلام في كيفية إبداعها وفي تصنيف وترتيب المشكلات التي تندرج تحتها، وذلك لكي أترك انتباه القارئ متركزاً على قضية الاستقلال الفلسفي نفسها" (ص 12). الاستقلال الفلسفي هو عن كابوس تاريخ الفلسفة القديم والحديث على السواء، الذي يجعله الشرط الكافي لوجود فلسفة عربية حديثة نابضة بالحياة تهدف الى الكشف عن "حاجة الإنسان العربي الى فلسفة جديدة في العمل" انطلاقاً من مقولة الفعل، او من مقولة الوجود التاريخي". اذ "الاستقلال السليم يقوم على الانفتاح والتفاعل الدائم والمشاركة الايجابية من الذات" (ص 36)، و"تعميق الإنسان بوجوده وبالسر الأعظم الذي هو خلق الذات بالذات" (ص 12). وهذه هي النهضة الحضارية الموعودة. ويحذر في الكتاب القديم نفسه من ان "رفع كل معقولية عن القيم (أي النسبية المطلقة للقيم) يؤدي في النهاية الى فصل الفلسفة عن العمل  فصلاً تاماً (ص 35). ويضيف ان "المشكلة الأساسية في الوجود الإنساني، مشكلة العمل" (ص 37)

        ليس المقصود في هذه الإشارة إقامة استمرارية مفترضة، تامة الانسجام بين الكتابين وإساءة قدر الهوة الزمانية (التي تنتمي الى ما نسميه بالحداثة العربية، أو حتى المعاصَرة، التي تربك عند تحديدها بأرقام السنوات) ولا الانجرار بتبؤات تستهين بتقلبات الأحوال، فالمؤلف نفسه لعب دور المؤرخ للفلسفة والحضارة العربيتين والحديثتين، من غير أن يريد ذلك، وفاته اكتشاف سمات أساسية فيهما كشفتها الوقائع التاريخية اللاحقة، أي الوقائع الأكثر حداثةً، ومنها قوله حينذاك. منتقداً اثنين من الفلاسفة العرب الحديثين الاتباعيين غير الاستقلاليين الذين لم ينتبهوا للفرق بين الفلسفة العربية القديمة وواقعها الحديث بقوله: "في القرون الوسطى العربية الإسلامية كانت العقيدة القرآنية هي المرجع النظري العام الذي يؤخذ منه الجواب عن السؤال: ما العمل؟... أما اليوم (أي سبعينات القرن العشرين) فقد تغيرت الوضعية المجتمعية التاريخية، ولم تعد العقيدة القرآنية ذلك المرجع النظري الشامل في تقدير شؤون الحياة الفردية والمجتمعية، إذ نشأت ايديولوجيات ودول ونظُم سياسية اجتماعية، وظهرت تحولات اقتصادية، وارتسمت بالنتيجة خطوط حركة تاريخية ثورية لا تستلهم في الدرجة الأولى نظام العقيدة القرآنية" (ص 40 - 41)!

        كان يمكن قراءة الكتاب الراهن لناصيف نصار بكونه إيضاحاً، ورداً أيضاً، على "الوضعية المجتمعية التاريخية" الآنية الأصولية "الحديثة" التي تجتاح ساح الحضارة العربية والإسلامية الراهنة. إلاَّ أن الالتفاتة اليها، ورفضها، في كتابه الجديد لا تتناسب وحجمها وخطورتها، ولا تفي بمقولة المؤلف الشهيرة بضرورة "الفعل النقدي التقييمي"، وبضرورة "تغيير الإنسان العربي من الداخل" كما يقول.

        مهما يكن، فأهلة تفلسف نصار لم تُقفَل مع هذا الكتاب، لا بل يبدو أنها تفتح صفحة جديدة معه، أو "معركة" جديدة، إذ هو وسم مرّة الفلسفة بأنها تخوض معارك ضد الايديولوجيا، المحترفة خوض المعارك، لا بل إنها لا تحيا من غير معارك!

        ليس من الضروري خوض معارك مباشرة، برأينا فثمة معارك أمضى تخاض بضخ أفكار جديدة مبتدعة (بفتح الدال) ومبتدعة (بكسر الدال) في جسم ثقافتنا العربية العامة. وتلك أهمية كتاب "الذات والحضور" فيها، وتميّزه وجرأته وانفتاحه على القضايا الإنسانية الراهنة التي تندرج خصوصية قضايانا في إطار آفاقها.

        في هذه المقدمة يُمنع علي الاسترسال بما لا يتعدى الربع، كما ان الفلاسفة الشباب، الجيل التالي لناصيف نصّار، سيحظون بما لا يتعدى نصف الوقت الذي يرغبون فيه لإلقاء قراءتهم لهذا الكتاب المنتمي من ذوي الأحجام الموسوعية كمّاً شكلياً وثراءً مضمونياً: انه بحسب المؤلف، استكمال لكتابيه السابقين: "منطق السلطة" و"باب الحرية". فهو، بمختلف عناوين أقسامه، يدور حول سؤال واحد: ماذا يعني ان الإنسان يصنع نفسه؟ ويقوم بتقرير مصيره بنفسه؟ وقادر على ان يكون ذاته بأن يصير ذاته حاضراً وبحضوره؟

        هذا الكتاب يردم الهوّة الزمنية العربية التي لم تتبدّل كثيراً فلسفياً، بين طريق الاستقلال الفلسفي والذات والحضور. انه ينطلق منها ويملؤها، لكأنه أحياناُ يلتحق بنقاش انفضّت ندوته الغربية ورحل المتبارون فيها، ولكن لم تفت إشكالياته في الحيّز الحضاري العربية والاسلامي. انه قراءة جديدة للعديد من القضايا التي طبعت القرن الماضي الذي ولّى منذ أقل من عقد: فالوجودية فيه حاضرة بسؤالها الهايدغري عن الوجود المغيّب من الحضارة الغربية المعاصرة، السؤال الذي أثار دهشة واستغراباً واستهجاناً في الاوساط الفلسفية عام 1927، ولاحقتها الفينومينولوجيا التي أبرزت "قصديّة" الوعي وتلازمه الوجودي بموضوعه نقضاً لكوجيتو ديكارت المفرّغ من موضوعه: فالوعي عنده هو الحاضر، حضور الذات لذاتها وللآخر الذاتي وللواقع غير الذاتي، هي حضور لموضوع: هذه هي قصدّيتها الجوهرية وفيه إبراز الفعل Praxis الذي محوره ماركس في أساس جدله؛ وصيرورة الهوية المتلازمة مع الكينونة إرجاعاً لأصداء الفكرة النيتشوية الشهيرة: "صِر ما أنت هو فعلاً"، وهي سليلة هيراقليطس ونقيضه الملازم له برمنيدس... وفرادة الانسان عند نصار انه وعي وحرية (كما قال سارتر) ولكن يصنع بهما ذاته أي هويته وماهيّتة. إذ الانسان الذي بات نصار يقول به هو "الكائن الذاتي" الوحيد، بخلاف كل "الكائنات من غير الذوات" (ص 112) هذا الدازَين (Dasein) يحمل طبيعتين: واحدة معطاة يسمّيها الماهية وتدل عليه من حيث النوع، وهي جواب على سؤال ما هو؟ وآخرى مصنوعة ويسميها الهوية، هو يصنعها من حيث هوفرد، فريد في نوعه، وهي جواب على سؤال: من هو؟ ويضيف: هوية الكائن الذاتي (الانسان) هي في أفعاله وليس فقط في سماته وشبكة انتماءاته الواسعة. فالفاعل (الانسان) "يواصل صنع هويته التي هي "في حال انبناء دائم"، أمّا الكائنات غير الذوات فلا تمييز بين ماهيّتها وهويّتها. ويصل فعل الانسان وحريته الى حدٍ تؤثر فيه الهوية بالماهية وتفعل فيها.

        لو كان نصار في القرون الوسطى لأتحفتنا أفكاره بنظرية لاهوتيّة حول الطبيعتين قادته حكماً الى المحرقة او الى الخازوق. فهي هرطقات وبدع تدخل الفلسفة العربية الحديثة في مسار جديد لم تعرفه سابقاً. وفي كتابه وفر أيضاً من "بدع" لغوية في جسم اللغة العربية التي يمتلك ناصيتها بامتياز هذه نماذج منها: النموقع - المماسفة (تمسُّفاً، تمسيفاً، تماسفاً)- يتوقعن - التوقعن - المعيَرة... تلك كلها تندرج ضمن "مبادئ الوجود التاريخي" العربي الحاضر.

لقد ملتُ لفترة بأن أقرأ "الذات والحضور" قراءة توفيقية عظمى (بالمعنى التوليفي الأكبر للعبارة) أو قراءة انتقائية جزئية وتجزيئية لكل البنى والمذاهب الفلسفية الكبرى. وأكبرت فيه رؤيته الشمولية التي ترفّعت، بعناوينها الكثيرة التي تتقاطع مع موضوعات عزيزة على كثير من العلوم الإنسانية عن الدخول في تفاصيل الدرس الأكاديمي. إلاّ أن المؤلف أبى الغوص في تفاصيلها التقنية لا قبولاً ولا رفضاً، محافظاً على شموليته الفلسفية.

تراجعت عن هذا الخيار، لا لأن ما من فلسفة عظمى لم تختر، بالمثاقفة الضرورية التي لا مفرّ منها، من سواها، بل لأقف مع المؤلف في وقفته الواسعة المتفائلة بمستقبل أكثر أشراقاً لحضارتنا لم ينجرف نحوه بعواطف وأهواء وأوهام وأحكام مسبقة، بل بنقدية هو أحد نماذجها الأبرز ومن الأكثر سطوة في تراثنا الراهن.

        إلاّ أن آفاق المناقشة والإيضاح والنقض لن تكون في كل الأحوال، وعلى مدى سنوات عدة قادمة كما أظنّ، إلا متماثلة مع غنى وتنّوع مضمونه ومواقعه، لا يقهرها إلا الجهل والتجاهل والأميّة المستشرية في جسمنا الثقافي إلى حدود ترخي الكثير من اليأس على وعي المتفائلين باستعجال ملحّ.

                                                       


 ميتافيزيقا المعنى والقيمة

  مشير باسيل عون

أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة

الذات والحضور أسفارٌ في سفر. هو موسوعة النظر الفلسفيّ العربيّ المعاصر في مسائل الوجود التاريخيّ. أراده ناصيف نصّار حاملاً لمجموع المباحثات الفلسفيّة الرصينة في شؤون الوجود الإنسانيّ التاريخيّ، فخرج من بين يديه تحفةً مرصّعةً بأبهى الجواهر الذهنيّة. عكفتُ على قراءته طوال أسبوعين، فتبيّن لي أنّ كلّ باب من أبوابه يستحقّ أن يقف المرء أمامه برهبة الإصغاء والإكبار قبل أن يلجه في روح الاندهاش والاستكشاف والتحسّس العميق.

أحببتُ أن أطالعه فأستطلعه عن الآفاق الفلسفيّة الرحبة التي ينسلك فيها مشروع ناصيف نصّار، وقد نضجت أفكارُه واكتملت عُدّتُه وترسّخت مواطنُ اليقين فيه، حتّى استبان للجميع أنّ ناصيف نصّار غدا اليوم صانعًا لمذهب فلسفيّ خاصّ اسمه الرسميّ فلسفة الحضور أو فلسفة الوجود التاريخيّ. وبما أنّ الاستطلاع يقتضي الاسترسال، والاسترسال يستوجب صبر الجمهور، والجمهور اللبنانيّ سريع التضجّر من المطوّلات الكلاميّة، آثرتُ أن أتناول الكتاب كلّه من موقع السؤال الذي ما انفكّ يعتمل فيّ ويستنهضني في هذه السنوات الأخيرة، عنيتُ به سؤال التأصيل الفلسفيّ الأنسب لاختبارات الوجود التاريخيّ. ولا غرابة، من ثمّ، أن أعرض عن استعراض جميع منقلبات الفكر التي استودعها ناصيف نصّار هذا الكتاب الثمين، وقد سلس إنشاؤه في ما يقارب السهل الممتنع واستقامت موازين العبارة فيه فلامست أرض البلاغة الأدبيّة المستحبّة والممتنعة على أهل الفلسفة. وأمنيتي في هذا كلّه أن ينقلب السؤال بعينه موضع التحفّز الفلسفيّ في محاورة الفيلسوف، ولو لم ينبثق السؤال توًّا من مقاصد الكتاب الصريحة. وفيلسوفنا الحبيب يعلم أنّ بيني وبينه بريدًا دائمًا بالفكر المستمرّ والطيف المثابر والمفاتحة المتّصلة. ولا شكّ في أنّ أفضل سبُل المحاورة الفلسفيّة أن يتناوب الفيلسوف والقارئ على الكلام، فتنعقد بينهما تارةً أواصرُ القربى وتنفرج لهما طورًا مواضعُ التباين. وبذلك يتهيّأ للجمهور أن يُصغي إلى بعض ما قاله ناصيف نصّار في هذا الكتاب الجديد، وقد ساقه القارئ سوق المساءلة الذاتيّة الحرّة.

حين يتمعّن المرء في معاني العنوان لا يلبث أن يدرك أنّ فلسفة الحضور التي ينتصر لها ناصيف نصّار إنّما تقوم على جدليّة العلاقة الناشطة بين الذات والحضور. فالذات والكائن الذاتيّ والإنسان عباراتٌ لجوهر واحد في هذه الفلسفة[1]. ومعنى هذا الجوهر طاقةٌ على الفعل والإبداع بمقتضى الوعي والإرادة الحرّة. أمّا الحضور، فهو المدى التاريخيّ الذي ينبسط بفعل الانوجاد. وإذا سأل المرء عن معنى هذه الجدليّة أجابه ناصيف نصّار بأنّ الإنسان صانعٌ لذاته، وبأنّ الحضور هو ما يصنعه الإنسان فردًا وجماعةً في الواقع الزمنيّ الراهن. غير أنّ مثل هذه الإجابة لا تُغني القارئ عن طلب المعنى الذي ينطوي عليه الحضور. وعند هذا المطلب الفلسفيّ تجتمع الاستفسارات القصوى التي تُعنى بمسائل التأصيل. وهي الاستفسارات التي أحملها في مطالعتي لهذا السفر الفلسفيّ العربيّ الفريد في دقائق تحاليله ولطائف مقارباته.

فالحديث عن القيمة يستوجب الحديث عن المعنى. والحديث عن المعنى يستتلي الحديث عن التأصيل، والحديث عن التأصيل يستتبع الحديث عن اللامتناهي. ذلك أنّ اللامتناهي هو عنوان الرسوخ في الحركة، والوحدة في الكثرة، والأصل في الفروع، والجود في الموجود، والانكشاف في الكشف، والمآل في الانبساط. ويصحّ هذا كلّه حين يُصرّ ناصيف نصّار في بنائه لأنظومة القيَم السبع على الفوز بأصل فلسفيّ متين لا يتعالى على الوجود في ما يشبه التأصيل المثاليّ الميتافيزيقيّ الأفلاطونيّ، ولا ينضمر في الوجود على صورة الارتهان لمتقلّبات الدهر. وفي ظنّي أنّ هذا هو الأصل الذي ما انفكّت تبحث عنه العقولُ الفلسفيّة المبنيّة على تطلّب الاعتدال والتوازن والإنصاف. وإذا ما استطاع المرء أن يستخرج مثل هذا الأصل في محاجّة فلسفيّة رصينة صلبة مقنعة، تهيّأ له، على غرار ما أتى به ناصيف نصّار، أن يتوسّع في تحليل وقائع الوجود الإنسانيّ التاريخيّ وقد استضاءت بنيتُها كلّها بأنوار الحقيقة الأصليّة المفترضة في عمق المعنى وعمق القيمة وعمق الذات الإنسانيّة وعمق الحضور التاريخيّ. غير أنّ البلوغ إلى هذا الأصل هو التحدّي الفلسفيّ الأبرز الذي أعاينه ماثلاً في ذهن الكاتب يستنهضه استنهاضًا حثيثًا في مثل هذا الإنجاز الفكريّ المبدع.

        غير أنّ ناصيف نصّار مدركٌ أنّ هذا السبيل في التأصيل وعرٌ شائكٌ مربكٌ. ويُزيَّن لي أنّه ربّما أعرض عن التأصيل المباشر لسبب من سببين، إمّا لوعورة المركب، وإمّا لاقتناعه الفلسفيّ بعسر هذا النمط من التفكير الفلسفيّ في عصرنا الحاضر. وإنّي أحار حيرةً شديدةً في إيثار السبب الأنسب، ولئن كنتُ أميل إلى القول باستحالة التأصيل الميتافيزيقيّ المصيب الجدير الشامل في تجاوزه للانتماءات الحضاريّة. ولكنّي لن أستعجل البلوغ إلى الخاتمة قبل أن أسمعكم ما صاغه فيلسوفُنا من بليغ الإفصاح عن بنى الاختبار الأصليّة التي تستوطن طبيعة الكائن الذاتيّ الذي هو الإنسان الفاعل في الوجود التاريخيّ.

وقبل الشروع في استجلاء طبيعة الإنسان هذه، يومئ ناصيف نصّار إلى اللامتناهي في خفر عظيم، إذ يعتبر أنّ كتابه "ينطلق من الهاهنا والآن حتّى المطلق اللامتناهي"[2]. ولكنّه سرعان ما ينكفئ عن مساءلة اللامتناهي ليُعمل فكرَه في استجلاء هويّة الإنسان، هذا الكائن الحاضر الذي به تتكشّف حقائق الحضور بأسرها. والإنسان، في عرفه، هو طاقةٌ على صنع الذات. فيسأل : "ماذا يعني أنّ الإنسان يصنع نفسه ؟"[3]. وماذا يعني أنّ "الكائن الحاضر هو في المقام الأوّل (...) الكائن الذي يقوم بفعل الحضور من تلقاء نفسه"[4]؟ وللأجابة عن هذَين السؤالين ينبري ناصيف نصّار يحلّل طبيعة الإنسان في أعمق أعماق مكوّناتها. فينتهي إلى القول بأنّ الذات الإنسانيّة صانعة لذاتها لأنّ وجهًا من وجوه كينونتها، وهو هويّتها، حاملٌ لطاقة دائمة على الفعل : "إدخال الوعي بالذات والحرّيّة في طبيعة الكائن الذاتيّ يتطلّب إعادة بناء مفهوم هذه الطبيعة، بحيث تصبح مركّبة من طبيعة معطاة وفيها الوعي والحرّيّة، ومن طبيعة مصنوعة بالوعي بالذات والحرّيّة. ونظرًا إلى الاختلاف بين طبيعة الطبيعة المعطاة وبين طبيعة الطبيعة المصنوعة، على الرغم من وحدتهما في الكائن الذاتيّ، وتجنّبًا لسوء الفهم، فإنّنا نصطلح أن نسمّي الأولى ماهيّة، والثانية هويّة"[5]. لا شكّ في أنّ مثل هذا التعريف خليقٌ برعاية الحيويّة المبدعة التي تكتنزها الذات الإنسانيّة. غير أنّ القول بطبيعة مصنوعة، على صحّته وبهائه وجدارته، لا يعفي المرء من السؤال عن أصل الطبيعة المعطاة، وقد تناولها نصّار في عمق تكوينها، عنيتُ به الوعي والحرّيّة. فإذا كانت الطبيعة المصنوعة، أي الهويّة، قابلةً للعقل، فمن أي تأتينا معقوليّة الطبيعة المعطاة، أي الماهيّة ؟

        لا يسترهب ناصيف نصّار هذا الضرب من الاستفسار، بل يجبهه بروح المسؤوليّة الفكريّة، ولو أنّ سبيله في المواجهة لا يُبلغنا إلى الإجابة الجامعة المانعة. فها هوذا يقارع سارتر في ادّعائه العدم في الأصل والعدم في المنتهى، فيجرؤ هو على القول بأنّ الإنسان لا بدّ له من أن يستند إلى طبيعةٍ سابقة لوجوده :  "ليس من الضروريّ إطلاقًا، لكي نرفع مكانة الإنسان فوق مكانة الطاولة، كما يزعم سارتر، أن نُفرغ كيانه من كلّ شيء سابق لوجوده. الإنسان لم يأتِ إلى الوجود بقرار من ذاته، ولكنّه يستمرّ في الوجود كمشروع دائم لذاته. ولذلك ليس من الصواب أن نختزل كيانه بنصفه، فنقول بأنّه طبيعةٌ معطاةٌ هكذا (بالمصادفة أو بالعناية الإلهيّة أو بمبدأ ميتافيزيقيّ آخر كمبدأ العود الأبديّ)، ونسكت عن كونه مشروعًا دائمًا لذاته. نقول بأنّه عدمٌ يخلق ماهيّته بذاته من ذاته، ونطمس كونه ظاهرةً من ظاهرات الحياة على الأرض. النظرة الصائبة إلى طبيعة الإنسان هي النظرة التي تميّز بين ماهيّته وهويّته، وتحتفظ بهما معًا، فلا تفصل ماهيّته عن هويّته، ولا هويّته عن ماهيّته"[6]. فإذا كان الإنسان قد أتى إلى الوجود بقرار من غيره، فمن هو صاحب هذا القرار ؟ وما صلته بالوجود ؟ وهل تكون صورته على مثال التصوّر الإنسانيّ أم على مثال تصوّر آخر ؟ وإذا كانت على مثال تصوّر آخر، فمن أين للإنسان أن يفوز بمداناة هذا التصوّر المخالف لمقولات التصوّر البشريّ ؟

        لا ريب أنّ هذه الأسئلة المربكة لا تغيب عن بال ناصيف نصّار حين يعترف بأنّ الموت هو اليقين الوحيد الذي يحمله المستقبل إلى الإنسان[7]. أمّا ما ينطوي عليه الزمن في بعده الذي أقبل إلينا، وما سينكشف عنه في بعده الذي لمّا يُقبل علينا، فهذا ممّا يفوق قدرة الحاضر على معاينته. وبما أنّ الوجود حالٌّ في كثافته التاريخيّة في الحاضر الذي يراعي الماضي من غير ارتهان له، ويرعى المسقبل من غير استبداد به، فإنّ السؤال عن أصل الكائن الإنسانيّ يظلّ خاضعًا لهذه الوضعيّة المربكة. وأمّا القول بأنّ الذات هي حضور إلى الذات وإلى العالم وإلى الآخرين في قصديّة هي من صلب كيانها[8]، فإنّه يستجلي طبيعة الحيويّة التي تختزنها الذات ولا يوضح للإنسان حقيقة القصد الأقصى الذي يتجاوز جميع الإنجازات التي يقصد إليها الإنسان في نزوعه إلى تحقيق إنسانيّته.

        جملة الأمر أنّ الإنسان قابلٌ لماهيّته، صانعٌ لهويّته[9]. ومن ثمّ، فإنّ الاستفسار يصيب إشكاليّة القبول. فالمرء لا يرتبك بما ابتكره عقلُ ناصيف نصّار في وصفه لحيويّة الابتكار في صنع الهويّة، بل يهنأ به أيّما هناء. فحين يعترف نصّار بأنّ الذات الإنسانيّة منفتحة على الآخرين في صلب كيانها، وأنّها منفصلة عن الطبيعة وكائناتها بهوّة أنطولوجيّة سحيقة[10]، وبأنّ الهويّة الإنسانيّة دائمة التكوّن تصنع ذاتها وفاقًا لمراتب الصناعة الذاتيّة الخمس[11]، يصيب أشدّ الإصابة. ولكنّه لا يلبث أن يكتم أصل الطبيعة الإنسانيّة المعطاة، وكأنّي به يُسكت الوهمَ في هذ المسألة.

        وقد يكون لهذا الإسكات أسبابه في طبيعة فلسفة الحضور والوجود التاريخيّ. وما الإعراض عن تعيين أصل الطبيعة المعطاة في الذات الإنسانيّة سوى وجه من وجوه الإعراض المثلّث الذي ترتاح إليه هذه الفلسفة. ذلك أنّ فلسفة الحضور تُعرض عن التعيين الميتافيزيقيّ أوّلاً في مسألة الطبيعة الإنسانيّة المعطاة، وثانيًا في مسألة أصل الحضور، وثالثًا في مسألة أصل المعنى والقيمة. ومن بعد أن اتّضحت قرائنُ الإعراض الأوّل، يحسن بنا أن نستجلي قرائن الإعراض الثاني. وفي هذا الحقل يلحّ ناصيف نصّار في الاستناد على الحاضر كموضع الانطلاق الأمثل لفهم الوجود التاريخيّ : "لا يمكننا أن نمنع ما هو الآن من أن يصير ما كان؛ ولا يمكننا أن نعود بما كان إلى ما هو الآن، ولا أن نزيله من الوجود أو نزيل عنه ما هو حيث هو. ولذلك لا يمكن فهم الحاضر فهمًا كاملاً إلاّ على أساس أنّه حاضرٌ زمنيّ. غير أنّ هذا لا يعني بالضرورة عدم وجود حاضر دائم، حاضر إلى الأبد، حاضر أبديّ سرمديّ؛ بل يعني أنّه، إذا كان ثمّة حاضر دائم أبديّ، فإنّنا لا نستطيع إقامة أيّ نوع من الاتّصال به إلاّ ونحن محكومون بمنطق الحضور الزمنيّ"[12]. ينطوي هذا النصّ على تصريح جريء قد يُلزم فيلسوفَنا الاعتراف الصريح بكينونة أبديّة سرمديّة هي بمثابة الأصل الذي منه ينبثق الحضور. غير أنّ استحالة الاتّصال بهذه الكينونة عن طريق غير طريق الحضور الزمنيّ تمنع علينا النظر إليها نظرًا منزّهًا عن اعتبارات الحاضر الزمنيّ. وهنا يعتلن الإرباك الشديد في تحدّي التأصيل الفلسفيّ الذي أبحث عنه في تضاعيف هذا الكتاب. فإذا كان الحاضر الأبديّ السرمديّ ممكنًا، فلا ضير في أن ندنو إليه من موقع انتمائنا الزمنيّ التاريخيّ النسبيّ. ولكنّ طبيعة الدنوّ التاريخيّة النسبيّة لا يليق بها أن تُبطل وجود الحاضر الأبديّ السرمديّ. فهل يذهب ناصيف نصّار هذا المذهب، فيُثبت السرمديّة في الحضور، وهذا مبتغى فلسفة الحضور، ويُبطل الحضور في السرمديّة، وهذا ما يُعيبه على المثاليّة الأفلاطونيّة، وذلك من بعد أن أشار إشارةً خفرةً أخرى إلى اللامتناهي ؟

حقيقة الأمر أنّي لست متيقّنًا من رغبة ناصيف نصّار في تعيين أصل الحضور في ما يتعدّى المدى الزمنيّ التاريخيّ. ودليلي على ذلك أنّه سرعان ما يستنجد الحياة كمفهوم رحب واسع قابل لتأصيل الحضور من غير الاستناد إلى كينونة متعالية. فالذات التي تنبسط كينونتُها في الحضور إنّما أصلها ناشبٌ في الحياة ومآلها عالقٌ على الحياة : "الذات عندما تحافظ على ذاتها تعلن أنّها تقبل ذاتها كما هي معطاة، في مقوّماتها وبنيتها وتجذّرها في عالم الحياة. وأيًّا كانت القطيعة بينها وبين الكائنات الحيّة حولها، فإنّها لا تستطيع الادّعاء بأنّها بدءٌ لذاتها من الصفر المطلق. إنّها تحيا جسدًا سابقًا على وعيها الاستملاكيّ له، وتفكّر عقلاً ليس من اختراعها. ولكنّها تعلم أنّ ما تأخذه من الحياة لا يخرج من الحياة إلى اللاحياة، بل يبقى في الحياة، ومآله إلى الحياة بواسطتها ومسؤوليّتها"[13]. في هذا النصّ تتجلّى الأبعاد الخطيرة التي يحملها مفهوم الحياة في تدعيم الوجود التاريخيّ. ومع أنّ الذات ليس لها في ذاتها أصل الابتداء المطلق، فإنّ أصلها يكمن في تدفّق الحياة الذاتيّ. وما هذا التدفّق سوى التعبير الأسمى عن الطاقة الكونيّة التي تكتنف جميع الكائنات. وأمّا المسرى التاريخيّ الصريح الذي به يتحقّق الحضور، فيدعوه ناصيف نصّار، حين يسأل عن أصل الحضور[14]، الانوجاد : "ما يهمّ فلسفة الحضور هو طابعها الوجوديّ من جهة، وتحديدها لأشكال الحضور الفاعل من جهة ثانية. الطاقة المتدفّقة في الكائن الذاتيّ عبر عتبة الحضور تعني أوّلاً أنّ وجوده لا يعرف السكون والسكينة؛ وتعني ثانيًا أنّ وجوده مسرحٌ تتجدّد الأحداث فيه بصورة متواصلة؛ وتعني ثالثًا أنّ انتقال الطاقة إلى التحقيق الفعليّ يمرّ عبر الوعي والحرّيّة؛ وتعني رابعًا أنّ وجوده مظهرٌ من مظاهر تحقيق الطاقة الشاملة في الكون بأسره. وجميع هذه المعاني تتلاقى وتنجدل في معنى واحد : الانوجاد"[15]. هذا هو المفهوم الأساس الذي ترتفع عليه العمارة الفكريّة لفلسفة الحضور. وما وزن الانفعال الذي صيغ فيه سوى دلالة بليغة على رغبة ناصيف نصّار في الإعراض عن هموم التأصيل الفلسفيّ المتجاوز لحركة بناء الذات الإنسانيّة على أساس حركة النقص في الذات الإنسانيّة. فإذا كان الانوجاد يقتضي صناعة الهويّة انطلاقًا من الماهيّة[16]، وإذا كانت الماهيّة مكتومة الأصل، فإنّ مفهوم الانوجاد المنبجس من ينابيع الحياة المتدفّقة لا يُضيف شيئًا على حلقة الدوران الذاتيّ في مصطرع الوجود التاريخيّ. وليس القول بنزوع الإنسان إلى الكمال قادرًا على إخراج الفكر من حلقة الدوران هذه. ذلك أنّ الكمال الذي يتوق إليه الكائن الذاتيّ يستخرجه ناصيف نصّار من مغامرة الوجود في إطلالته على ما انطوى عليه كيانُه من ممكنات[17]. فالكمال هو أيضًا تعبيرٌ عن اللامتناهي من غير تعريف به. وفي هذا الموضع ينكشف الوجه الثالث من وجوه الإعراض المثلّث الذي يعتصم به ناصيف نصّار.

        وفي تبرير هذا الإعراض الثالث يميل ناصيف نصّار إلى تأسيس الكمال على حقيقة النزوع إلى الكمال، لا على مضمونٍ للكمال متقدّم على حركة النزوع الإنسانيّ إلى الكمال : "إنّ وجود النزوع إلى الكمال يعني أنّ مهمّة الإرادة في اعتماد القيَم وتجسيدها مرتبطةٌ بمرجعيّة كيانيّة، وليست متروكةً للتعسّف والمصادفة الخالصة. وفضلاً عن ذلك، فإنّه يعني أنّ الكائن الذاتيّ مستقبليّ التوجّه، ولا يمكنه أن ينغلق في حاضره"[18]. وتتضاعف حدّةُ هذا الإعراض الثالث حين يرسم ناصيف نصّار أنّ هناك ضربَين من الكمال، الكمال الإنسانيّ والكمال الإلهيّ : "والحال أنّ الكمال صفةٌ من صفات الكائن، تابعةٌ لطبيعته ورتبته في الوجود، بحيث إنّه يمكن القول بأنّ الكمال الذي يليق بالله، في حال وجوده، إنّما هو الكمال المطلق، لأنّ الله هو الكائن المطلق اللامتناهي، وبأنّ الكمال الذي يمكن إسناده إلى الذات الإنسانيّة إنّما هو كمالٌ خاصّ ونسبيّ، تبعًا لطبيعتها وزمنيّتها. فالحديث عن الكمال للإنسان لا يتناقض منطقيًّا مع الحديث عن الكمال الإلهيّ"[19]. لا شكّ أنّ هذا الفصل يذكّرنا بالفصل الأرسطيّ بين الوجود الإنسانيّ والمحرّك الأوّل، وهو الفصل الذي به أراد أرسطو أن يتجاوز أزمة الشرك الأفلاطونيّ بين عالم المثُل وعالم الظلال.

        بيد أنّ الفصل بين هذَين الكمالَين لا يُسعفنا في تأصيل المعنى والقيَم. فالمنحى العامّ في فلسفة الحضور يقضي بأن يعمد العقلُ إلى "تسويغ القيمة بأدلّة موضوعيّة مستمدّة من مبادئ استمرار الحياة وتفتّحها الشامل والنزوع إلى الكمال"[20]. يدلّ هذا الكلام الفلسفيّ الخطير على اقتناع ناصيف نصّار بضرورة استخراج القيمة من صلب الحياة. ولكنّ الحياة سيلان يجري في تنوّع عصيّ على الانضباط. فكيف تأتينا الحياةُ بالثبات والتعالي نسند به ترجرج المعنى في معترك الوجود التاريخيّ ؟ فإذا كان المعنى يتكوّن في الوجود التاريخيّ[21]، على ما يذهب إليه ناصيف نصّار، فكيف تكتسب أنظومةُ القيَم جدارتهَا وضرورتَها وشموليّتَها وتعاليَها على إرباكات الدهر وتناقضاته ؟ وبالرغم من هذا التعسّر في الإجابة، يُلحّ ناصيف نصّار في رفض كلّ أصناف المثاليّات : "لا يهمّنا الآن أن يكون هذا المعنى مستمدًّا من إيمان دينيّ، أو من منزع إيديولوجيّ، أو من فلسفة أنتروبولوجيّة-ميتافيزيقيّة، أو من غيرها من المذاهب. ما يهمّنا الآن هو إثبات أنّ المعنى هو بمثابة الجوهر في صناعة الذات"[22]. لقد حيّرتني عبارة "الآن" في هذا النصّ. أفتكون إبطالاً أم إرجاءً لمشروع تأصيليّ قد يُقبل إلينا في إنتاج فلسفيّ آخر ؟ لن أغامر في الإجابة. ولكنّي أواظب على مساءلة فلسفة الحضور عن رغبتها، لا بل قلْ عن قدرتها على التأصيل. فإذا كان المعنى هو الجوهر في صناعة الذات، فكيف يكون في الوقت عينه في الحاضر وفي حكم المستقبل عليه[23]، بحسب ما يُفصح عنه ناصيف نصّار ؟ فقيام الجوهر في الحاضر الزمنيّ يسلبه القدرة على التعالي ويقضي عليه بالتبعثر والسيلان والتيهان. والحال أنّ القيمة، بحسب تعبير ناصيف نصّار، "أمرٌ جديرٌ بالاعتماد مرجعًا للفعل. ولو لم تكن كذلك، لكان الحضور الفاعل عبارة عن سيلان يفيض في كلّ اتّجاه بدون أيّ إطار لفيضانه"[24]. والمشكلة الفلسفيّة هي أنّ القيمة تأتي الوجود من خارج مظاهر الوجود، على ما يقوله ناصيف نصّار : "القيمة ليست من عالم الأشياء والظواهر الخارجيّة، وليست من مقوّمات الطاقة الذاتيّة، وإنّما هي مرجع يعتمده الكائن الذاتيّ للفعل لجدارته الناتجة من صفاته ومن اعتبارات الكائن الذاتيّ في شأنه"[25]. فالقيمة ليست من إنتاج الوجود والذات، ولو أنّ الإنسان لا يختبرها إلاّ في نطاق الذات والوجود[26]. ومن ثمّ، فإنّ فلسفة الحضور تطلب للقيمة مقامًا من التعالي[27] يضمن لها انعتاقها من سطوة النسبيّة التاريخيّة. ويبدو هذا الاجتهاد في تأصيل القيمة كأنّه تصوّر للتعالي في هيئة النزوع الإنسانيّ إلى الكمال. فالقيمة متأصّلةٌ في هذا النزوع المستمرّ. غير أنّ ربط تعالي القيمة بنزوع الإنسان إلى الكمال لا يبيّن مقام التعالي في القيمة إلاّ في حركة تجاوز الإنسان لنقصه. بيد أنّ التجاوز حركةٌ منبثقةٌ من الإنسان. والنزوع حركةٌ منبثقةٌ من الإنسان. فما الذي يحول دون تحوّل الكمال بعدًا من أبعاد الإنسان المقبِل إلى ذاته في حركة الحاضر نحو الكمال ؟[28] أفتكون هذه هي المثاليّة الناسوتيّة التي يتحدّث عنها ناصيف نصّار كبديل للمثاليّة الأفلاطونيّة ؟ وفحوى هذه المثاليّة القول بأنّ القيَم هي "من طبيعة روحيّة ومتكوّنة في الانوجاديّة الزمنيّة على أساس مبدأ النزوع إلى الكمال. وهذا ما ينقلنا من المثاليّة الميتافيزيقيّة إلى ما نصطلح على تسميته المثاليّة الناسوتيّة. القيمة معنى يترجم وجهًا من وجوه نزوع الكائن الذاتيّ إلى كماله الذي لا يعلمه في حدّ ذاته، بل من خلال وجود النقص في كيانه وفي علاقاته. وبوصفها معنى ساميًا مشتقًّا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من مبدأ النزوع إلى الكمال، فإنّها بطبيعة الحال متميّزة عن المحتوى الشعوريّ الحاصل لكلّ كائن ذاتيّ من اختبارها"[29]. في هذا النصّ يوضح ناصيف نصّار أنّ المثاليّة الناسوتيّة لا تعترف بالتأصيل الميتافيزيقيّ وترضى بأن تنبثق القيمة من نزوع الإنسان إلى الكمال. غير أنّ الكمال في جوهره لا يعلمه أحدٌ. وليس للإنسان من سبيل إليه سوى التبصّر في اختبار النقص. ولكنّ اختبار النقص يستقيم بالقياس على اختبار الكمال. فكيف يتسنّى للإنسان أن يختبر الكمال من غير أن يدرك في وجه من الوجوه جوهر الكمال ؟ وهل يظلّ الكمال على كماله حين يستوعبه الذهن البشريّ ؟ فالمستوعب في مدارك الزمن يكفّ عن التعالي وينسلك في مجاري التاريخ. أمّا النقص، فلا يدركه الإنسانُ إلاّ بالاستناد إلى تصوّره إلى الكمال.

        وخلاصة القول في هذا الإعراض الثالث والأخير أنّ فلسفة الحضور كما انتهت إلينا في هذا الكتاب لا تنتصر لأيّ ضرب من ضروب التأصيل الميتافيزيقيّ. ولكنّها تصرّ الإصرار كلّه على مناهضة النسبويّة التاريخيّة. وفي هذا أعسر السبُل الفلسفيّة. فإذا أعلن ناصيف نصّار أنّ استدعاء الميتافيزيقا غير نافع في تأصيل القيَم[30]، يدرك أنّ السعي إلى الكمال لا يعصم الإنسان من الخطأ والضلال، ولا يُبطل "الدروب المتعدّدة إلى الكمال"[31]. وحجّة ناصيف نصّار في هذا كلّه أنّ الإنسان يجب عليه أن يختبر الوجود اختبارًا صادقًا قبل التوجّه إلى الميتافيزيقا : "يجب على الكائن الذاتيّ أن يعطي المستوى التاريخيّ من وجوده حقّه الكامل من النظر والاعتبار في ذاته، قبل أن يقرّر الأفق الميتافيزيقيّ الذي يرتضي أن يتوجّه نحوه"[32]. وكأنّي به يبيح للناس أن يذهبوا المذهب الميتافيزيقيّ الذي يستصوبونه على شرط رعاية الوجود الإنسانيّ. ولكنّ المسألة هي في تصوّر الناس لجوهر الكمال في مذاهبهم الميتافيزيقيّة، وفي انعكاس مثل هذه التصوّرات على هيئة وجودهم التاريخيّ. فكيف يُجيز ناصيف نصّار للناس أن تتنوّع مذاهبهم ويحظّر عليهم أن يستمدّوا من هذه المذاهب صورةً للكمال متأصّلة في ضرورات التعالي الميتافيزيقيّ، فلا تُستخرج  من صنع الإنسان لذاته ؟ فإذا كان تصوّر الماهيّة في هذا المذهب الميتافيزيقيّ يخالف تصوّرها في المذهب الميتافيزيقيّ الآخر، فما الذي يضمن لفلسفة الحضور ألاّ يُقبِل الناسُ على صنع الهويّة الإنسانيّة عينها بالاستناد إلى ماهيّتين مختلفتيَن، لا بل قلْ متناقضتَين ؟

        يحاول ناصيف نصّار في جهد أخير أن يتجاوز هذا المأزق في تصوّره الفلسفيّ للمقام الأصليّ الذي تكتسبه كرامةُ الإنسان. فالكرامة الإنسانيّة أصلٌ لا يعوزه أيُّ تأصيل ميتافيزيقيّ : "ثمّة نوعٌ من الاستقلاليّة ونوعٌ من الأسبقيّة لمبدأ كرامة الإنسان بالنسبة إلى التسويغات الميتافيزيقيّة الممكنة له. وهذا يكفي لكي تكون الكرامة، من الوجهة المعياريّة، قيمة أساسيّة بالنسبة إلى جميع الكائنات الإنسانيّة"[33]. ولكنّ ناصيف نصّار يدرك أنّ مفهوم الكرامة مسألةٌ ثقافيّة تُجمع الحضاراتُ على اعتمادها أصلاً للشرائع، ولكنّها تختلف في تصوّرها للمضامين الأخلاقيّة التي تنسبها إلى هذا المفهوم. وقد يتبيّن لنا أنّ من وجوه الاختلاف بين التأصيل الميتافيزيقيّ والمثاليّة الناسوتيّة أنّ التأصيل يرتاح إلى تسمية هذه المضامين بحسب طبيعة المذهب الميتافيزيقيّ المعتمد في حين أنّ المثاليّة الناسوتيّة لا تقوى على هذه التسمية.

        فإذا كان الأمر على هذه الحال، فإنّ الإنسب للناس، بحسب ناصيف نصّار، أن يتشاوروا في صياغة أنظومتهم القيَميّة. وليس في التشاور من نسبيّة، بل "انفتاحيّة عقلانيّة"، على ما يحلو لنصّار أن يدعوه : "العصمة ليست من العقلانيّة. إلاّ أنّ انفتاحيّة العقلانيّة لا تعني إطلاقًا النسبويّة، بل تعني أنّ الكائن الذاتيّ يسعى، مع غيره من الكائنات العاقلة، إلى الأصوب والأصحّ في إدراكه العقليّ لذاته وللعالم حوله وفي توظيف هذا الإدراك في صناعة هويّته"[34]. فإذا انتهى الأمر إلى ضرورة التشاور، فلم لا يكون التشاور مستندًا إلى ضروب شتّى من التأصيل الميتافيزيقيّ ؟ صحيحٌ أنّ ناصيف نصّار لا يمنع على أحد الركون إلى مذهب ميتافيزيقيّ في التأصيل. ولكنّ فلسفة الحضور لا ترتاح إلى التأصيل الميتافيزيقيّ، لا بل قد تعتبره مخالفًا لمقتضيات الوجود التاريخيّ. وفي هذا عمق الإرباك الفلسفيّ الذي تُنشئه هذه الضروب الثلاثة من الإعراض.

        ورأس الكلام في هذا كلّه أنّ الإعراض عن تأصيل القيَم في أرض هي غير أرض الوجود التاريخيّ يرتّب على الفكر مسؤوليّات خطيرة. وفي ظنّي أنّ طبيعة التأصيل لها نتائج تصيب تصوّر المعنى والقيَم والوجود، وأنّ غياب التأصيل له أيضًا نتائج تصيب هذه الحقول عينها، وأنّ الإعراض عن التأصيل له أيضًا نتائج، وأن تصوّر التأصيل في غير ما يتصوّره التراثُ العقليّ الأوروبيّ له نتائج. فإذا أعرضت فلسفة الحضور عن تأصيل القيمة في ما يتجاوز نسبيّة الوجود التاريخيّ، أصبح لزامًا عليها أن تنظر في مضمون القيمة هل يكون منبثقًا من تشاور الناس أم يأتي الناسَ من موقع التعالي الميتافيزيقيّ ؟ فإذا كان مستخرجًا من تشاور الناس، كفّ المضمونُ عن الاتّصاف بالتعالي الهادي وتشعّبت السبُل إلى الحقيقة[35]. أمّا إذا انبثق المضمون من مشيئةٍ تتجاوز نسبيّات الوجود التاريخيّ، اضطرّ الناس إلى معارضة مذاهبهم الميتافيزيقيّة بعضها ببعض حتّى يبلغوا إلى توافق على معاني القيم الأساسيّة في الوجود. فما الأنسب للناس في مطالع الألف الثالث : أن يتشاوروا في استخراج مضامين القيمة الإنسانيّة من معين اختباراتهم التاريخيّة، أم أن يتشاوروا في التقريب بين تصوّراتهم لمضامين القيمة الإنسانيّة المستخرجة من مشيئة عليا تتجاوز حدود اختباراتهم النسبيّة ؟ لا شكّ أنّ فلسفة الحضور، حين أعرضت عن التأصيل الميتافيزيقيّ، آثرت الاكتفاء بوصف البنية الأساسيّة في اختبار الكائن الذاتيّ لحضوره التاريخيّ. فهل كان القصد من فلسفة الانوجاد أن تقطع الطريق أمام التأصيل الميتافيزيقيّ ؟ في الصفحة الأخيرة من الذات والحضور يُعلن ناصيف نصّار بخفر كبير أنّه قد يشمّر لورشة فكريّة أخرى من أجل معالجة مسألة التأصيل. فعلى أيّة هيئة ستنتظم هذه الورشة، وقد انصاعت مفاهيمُها كلّها في نطاق الائتمار بفلسفة الحضور هذه ؟

قبل أن تطلق سهم الحقيقة إغرس نصله في العسل (مثلٌ عربيّ). أفتكون فلسفة الحضور هي العسل الذي غرس ناصيف نصّار نصل سهمه فيه قبل أن يطلق حقيقته الميتافيزيقيّة. وإذا أقبل إلينا ناصيف نصّار بكتاب آخر يرفع عنّا إرباكات الإعراض هذه، فما الذي يتغيّر عنده في فلسفة الذات والحضور والوجود التاريخيّ ؟


 كلمة الدكتور وجيه قانصو

في "الذات والحضور" ينتقل الفيلسوف ناصيف نصار، إلى التفكير في مجال وجودي، كان على ما يبدو هاجسه الفلسفي الأول. إلا أنه آثر تأجيله والإحتفاظ به في أفق الإنتظار، ليحسم أولا معركة الإعتراف بالفلسفة الخالصة في مجال التفكير العربي، وليشق طريق الإستقلال الفلسفي الذي يبدأ باستعادة الحرية التي نسيها الخطاب العربي الفلسفي أو تناساها عن عمد، بعد أن تاه في الحديث عن الإستبداد الشمولي.

بالذات والحضور، يستعيد الفيلسوف أو ينتزع لنفسه، مساحات وجود أو حياة حسبناها من حقول السياسة أو التكنولوجيا أو العلوم المخبرية، ليقول لنا، أن الفلسفة، وكما هي شريكة في تشخيص حقائق هذه المساحات وعوارضها، فإنها شريكة في إدارتها وصنعها وإنتاجها.  فالفلسفة لم تعد تبحث في الوجود بما هو وجود، بل تبحث في الإنوجاد، بما هو فعل وفاعلية وابتكار وإبداع. إنها ليست خروج من العالم والبحث عن محركاته المتعالية، بل هي النفاذ إلى باطنه وصميم حركته. لتصبح الفلسفة بذلك، ومعها الذات المفكرة والكينونة الذاتية، حضوراً لا يتوقف حاضره ولا يهدأ بمجرد انقضاء البرهة أو الحظة. ولترتقي الفلسفة من مرتبة البحث في الضبط الفلسفي للمفاهيم والحقائق، إلى مرتبة صناعتها وإنتاجها والبحث في شروط تحققها، ومن البحث في معطيات الماهية إلى البحث في صناعة الهوية، ومن البحث في الكائن السرمدي إلى البحث في الكائن الزمني.

الكائن الحاضر 

تبدأ قصة الذات والحضور، بالسؤال المركزي: ماذا يعني أن يصنع الإنسان نفسه؟  وهو سؤال يجد نقطة انطلاقته الأولى في الكائن الذاتي الذي يقوم بفعل الحضور من تلقاء نفسه. إلا أن حضوره هذا هو حضور قصدي يحول دون استقلاله أو انفصاله المطلق عن العالم، فهو يشمل بالإضافة إلى حضور الذات إلى نفسها، حضورها إلى الواقع، وحضورها إلى ذات أخرى أو آخر كائن غير الذات قائم بنفسه لا يمكن إلغاءه أو إبطاله مهما كانت مباشؤية الحضور لديه أو عنده.، وحضورها إلى الواقع.  فالآخرية، موجودة في بنية هذا الحضور القصدي، تكتشف الذات من خلالها  حاجتها الكيانية وتتعرف إلى نفسها عن طريق ملاقاة ما ليس هي وما ليست هو.

حضور الكائن الذاتي يتخذ وضعية ال ها- أنا- ذا، التي تفيد أن الأنا تخرج من ذاتها وتطرح ذاتها أمام طرف تخاطبه، وتضع نفسها في موقع المشار إليه لكي تقيم إتصالا ما مع ذاتها، ومن ثم مع طرف خارج عن ذاتها.  إنها تطرح ذاتها في عالم الظهور وتعلن عن استعدادها للدخول في علاقة مع من يعنيه أمرها أو من يعنيها أمره.

الزمن الحاضر

بيد أن الحضور يتطلب فسحة من الحاضر أو زمنا حاضرا يتوسط بين ذاكرة ما انقضى وانتظار ما سيأتي. هذا الزمن لا يستمد وجوده من معرفتنا به، وليس صورة قبلية في حساسيتنا، وليس أيضا كيان قائم في ذاته كجوهر أو كإطار تنزل الأشياء فيه مع مجيئها إلى الوجود.  إنه نمط وجود يتبع تحقق الكائن وليس طارئا عليه أو يأتيه من خارجه. فالعلاقة بين الزمن والكائن ليست علاقة علة بمعلول، ولا علاقة وسيلة بغاية، بل علاقة كينونة صميمية.

هذا الحضور يتعرض للإنمحاء، وبالتالي لانمحاء الموجود نفسه، حين يتقلص الحاضر أو الآن في وعينا، ويفقد حيزه لخاص به، بأن يصبح حدا متوهما بين الماضي والمستقبل، ومجرد طرف موهوم لنهاية من جهة وبداية من جهة ثانية. 

لذلك، كان لزاما لتثبيت الحضور، تأكيد مركزية الحاضر، خصوصا وأن أصل تقسيم الزمن الكوني (ماض وحاضر ومستقبل) هو من صنعنا بالنسبة لنا نحن الحاضرين إلى ذواتنا. أي أن أصل تقسيمات الزمن هي بفعل الحضور ومن منطلق الحاضر.  بحيث لا يكون الماضي ماضيا أو المستقبل مستقبلا إلا بالنسبة إلى حاضر معين. فالحاضر وفق الحاضر الجرجاني له: "إسم للوقت الذي أنت فيه"، يدل على أن الحاضر الآني مقولة وجودية لا ينفصل مضمونها عن كيفية إنوجادنا في العالم، إنه ليس لحظة عابرة تتفرج عليها بل هو لحظة مليئة من وجودك الفعلي في علاقتك بذاتك وبالآخرين وبالعالم من حولك.  فالأصل ليس ما تحقق أو ما سيتحقق بل ما يتحقق فينا وبنا، وكوننا كائنات فاعلة فنحن نصنعها بافعالنا وحالاتنا المتعاقبة وتفاعلنا الموضوعي بين ذواتنا وغيرنا من الذوات ومن واقعات الطبيعة. فالحاضر مدة متسيلة وممتدة، وليست مجرد وصلة بين الماضي والمستقبل، ضر، بل تتداخل مع ماضيَّ المباشر ومع مستقبلي المباشر، ولا تستقر على هيئة هيئة واحدة ثابتة.

مركزية الحاضر:

الزمن يظهر في الكائن الذاتي زمنا حاضرا ويظهر بالفعل نفسه ماضيا ومستقبلا بسبب علو الوعي في هذا الكائن عليه وعدم انقضاء هذا الوعي بمرور لحظات الزمن. فلا الزمن حاضرا إلا في إحالة على ماض أو على مستقبل. ولا ندركه ماضيا أو مستقبلا إلا على إحالة على حاضر معين.

ورغم أن الماضي معطى ومتحقق، والمستقبل ليس متحققا كمعطى وإنما معطى لنا أن نتصوره ونحققه، فإن شبكة العلاقات بين الماضي والحاضر أو بين الحاضر والمستقبل أو حتى بين الماضي والمستقبل تقوم على مركزية الحاضر.  خاصية العلو التي يتمتع بها الكائن الذاتي بالنسبة إلى الزمن،  تمكن الكائن من التمركز في الحاضر والإنطلاق في عملية التعرف إلى الماضي. فوجود الكائن الذاني الفعلي هو وجوده حاضرا،  لكنه يتموقع ذهنيا في أي بعد شاء من أبعاد الزمن.  فالتمركز كياني والتموقع ذهني فقط.

تبدأ مشكلة الحضور، كما هو حاصل في واقعنا، حين يصادر تموقع الكائن الذاتي في الماضي مركزية الحضور أو التمركز فيه ويلغيه، ليصبح الماضي مصدرا ومرجعا نهائيا وحاسما لاعتماد الحاضر من آراء ومواقف وقرارات.  وهذا يتمثل في الإيديولوجيات المعاصرة التي تأخذ الذاكرة الجماعية فيها مداها الكامل وتحدد للجماعة مراحل صيرورتها مع تركيز خاص على عصور ذهبية أو تأسيسية، وعلى ما يخترقها من ثوابت للحفاظ على الهوية وتأمين استمراريتها. أي يصبح التموقع في الماضي تمركزا فيه على حساب الحاضر، ويصير في عمقه هروب من التمركز في الحاضر من مسؤولية صنع الذات بالذات وتعطيل للعقل والإرادة والمخيلة والشعور في مواجهة اوضاع الحاصر. إنه تمركز في الحاضر يحاول الفرار من الحاضر.

من الجهة الثانية، وكون التموقع في المستقبل لا يستقيم على اساس وقائع بل على اساس تصورات يريد الكائن تحقيقها أو منعها من التحقق، ولأن الكائن مهموم أصلا بتحقيق أمكانياته، فقد انزلق البعض إلى اعتبار المستقبل البعد المركزي في زمانية الكائن البشري، بحكم أن المستقبل هو ما يأتي إليه الكائن البشري وليس ما يأتي إلى الكائن البشري، الأمر الذي يجعل الحاضر يتولد من المستقبل الذي يقبل عليه الكائن البشري في عملية تحقيق إمكاناته.  إلا أن هذا القول، يقول المؤلف، لو سلمنا به، فإنه لا يصح إلا مع الإفتراض أن الكائن البشري يحول إمكاناته بحسب ظروف تمدد كيانه بين الولادة والموت إلى غايات محددة بناءا على تصورات معينة. أي أن الكائن الحاضر هو الذي يقرر إلى أين يذهب وكيف ومتى. وهو الذي يحدد العلاقة بين الإمكان والواقع في كيانه. فالمستقبل أفق يتحرك الكائن البشري نحوه باستمرار وهو بالتحديد أفق للحاضر، ولأنه كذلك فإن الحاضر يتولد منه ولكن بعد أن يكون الحاضر نفسه قد حبل به.

مركزية الحاضر  تعني أن يتعاطى مع الحاضر بأقصى درجات الجدية من دون الغرق فيه.  فاللحظة الراهنة هي لحظة تمتع الكائن بالوجود، غير أنه لا وجود لها من دون ما قبلها وما بعدها، وطبيعة المغامرة في الوجود التاريخي تمنع الحاضر من الإنغلاق على نفسه والإكتفاء بنفسه، لأن الإهمال المتنامي للماضي لا يقلان خطأ وخطرا على الركض المحموم وراء المستقبل وعن التقوقع في أقبية الماضي.  الحضور هو بداية وجود الإنسان ومنطلقه.

الإنوجاد أصلا للحضور

وحضور الكائن ليس مجرد الوجود في ذاته، أو أن يعيش مكتفيا بذاته، أو معطى قائم في ذاته،  بل هو فعل حامل لأفعال لا حصر مسبقا لها في تحقيق الذات. إنه انوجاد يخرج بها الكائن الذاتي من مجرد الوجود في ذاته إلى الحضور إلى ذاته وإلى العالم حوله. إنه حركة داخل الكائن الذاتي. تنطلق من التدفق الباطني الذي يختزنه ويحدد نوع علاقته مع الوجود بتوسط الحضور. فلا إنوجاد خارجا عن الوجود ولا انوجاد من دون واجد وموجود. وهو ما يجعل الإنوجاد أصل الحضور، والمصدر الذي يجعله ممكنا ويغذيه على الدوام ويمنحه مكانته في الوجود، بل ويدفعه للإنخراط في الوجود عبر الحضور.

الإنوجاد والماهية والهوية

هذا الإنوجاد لا ينطلق من الفراغ، بل يستند إلى طبيعة معطاة له مركبة من قدرات واستعدادات، هي الماهية، يرتكز إليها ويوظفها ويتعامل معها، ليصنع منها وبأفعاله الخاصة طبيعة مصنوعة هي الهوية.  فالكائن الذاتي لا يقبع ساكنا في ماهيته بل ينطلق بها إلى تحقيق هويته.  وهو تحقق لا يتوقف لأنه يتحرك وسط عالم هائل من الممكنات، يسمح لهوية الكائن الذاتي بأن يكون في حالة انبناء دائم.  فالهوية لا تتحدد بسمات الفرد وانتماءاته فقط، بل بكيفية تعاطيه مع الممكنات في علاقته مع ذاته ومع الغير, وبكيفية قيامه بالأفعال التي تؤلف بمضامينها وأشكالها نتائج انوجاده. أي أن هوية الكائن الذاتي موجودة في أفعاله وليس فقط في سماته وشبكة انتماءاته. فما دام الكائن الذاتي فاعلا  فإنه يواصل صنع هويته. وتحليل للهوية لا ينظر إلى الأفعال بعد حصولها بل أثناء حصولها.

الإنوجاد وصناعة الذات:

دينامية الإنوجاد إذاً، تدور في جملتها على صناعة الهوية، وبالتالي صناعة الذات. والصناعة، تبدأ مهمتها وفعاليتها مع تحويل وعي الذات بذاتها إلى تفكير في ذاتها، لترتفع من مستوى العفوية إلى مستوى الرؤية. وإلى إرادة تقود الكائن الذاتي في حياته أو تقود حياته، وبالتالي تقود صناعة الذات لنفسها.  ولا تكون الإرادة منتجة، إلا حين تتفاعل مع العقل لا تستخدمه من جانب واحد. حيث يؤدي الفصل الأقصى بين الإرادة والعقل إلى جعل قوى الإرادة لا ترى موضوعا يليق بها سوى نفسها، وتتحول قوة الإرادة إلى إرادة للقوة. 

يعدد المؤلف خمسة مراتب أو مستويات متداخلة في صناعة الذات، تتلخص في إرادة الذات لبقائها في الحياة، وحملها على تحسين قدراتها الفعلية على الإنجاز، وهندستها لتكتسب شكلا معينا بهدف إدخال الترتيب والإنتظام على تحركات الحاجات والرغبات والميول والمواهب فيها، وصناعة المعنى من داخل الذات لا من خارجها لتصبح علاقة الذات بنفسها وبالذوات الأخرى موضوع التزام وشهادة. وصولا إلى أسمى المراتب كلها، التي تخترق العطاء المشروط والمتبادل بين الذات والعالم، إلى مرتبة العطاء الخالص بلا قيد ولا شرط حتى التضحية بالذات، الذي يتجسد أو يحصل، بالحب الخلاق وفي الإبداع الفكري، الذي ليس عطاءا من الذات بل لها أيضا.

مع الذات والحضور، أستعدتُ متعة افتقدتها في الفلسفة العربية، وبالذات والحضور، أصبحت الفلسفة عندي نمط وجود، لا يمكن للذات أن تحقق حضورها إلا بالحضور فيها. 


الذات والغياب

  بَسكال لحود

ناصيف نصار،

أيها الأصدقاء،

كنت "أفلفش"، للمرة الألف، تلك الخاتمة-اللغز التي جعلها ناصيف نصار لكتابه ما قبل الأخير "باب الحرية"، وهي لغز إذ يقدمها على أنها رسالة من متصوف (يبقيه غامض الهوية) بعث بها إليه جوابًا على تساؤله حول الحرية، ولأنها من حيث شكلها وأسلوبها ونبرتها لا تشبه نصار الذي نعرف، أو الذي كنا نظن أننا نعرف إلى أن قرأناها. كنت أفلفشها مرة جديدة لأنها في تقديري أم النص الذي بين أيدينا، أي كتاب "الذات والحضور"، ولو كان الوعد بكتاب حول الوجود التاريخي حاضرًا في نص نصار، كمشروع لم يرق إلى الوعد، منذ خاتمة "طريق الإستقلال الفلسفي".

كنت إذًا افلفش تلك الخاتمة، وأنا غالبًا ما أفلفشها، من باب التلصص على نصار نفسه، وإن هو نبهني ونبهكم في مقدمة الكتاب إلى أنه إذ أنجز كتابه ودفع به إلى الناشر يترك "للقارئ ما يخصه ويحتفظ لنفسه بما يخصه"، فتقديري أن من يصفق بوجهك الباب قصده غالبًا أن يدلك إلى ثقب القفل من حيث يمكنك أن تراه من دون أن يشعر هو بذنب استعراض نفسه.

مهما يكن، وجدتني أقرأ ما يلي :

"أوقفني في الذات وقال لي : هذا باب. هذا هو الباب. انت هو وهو أنت. وبعد صمت بدا لي وكأنه الصاعقة، أضاف: عندما تفهم هذه الكلمات يا آدم ستفرح كثيرًا وسترتجف كثيرًا"[36]

وها أنا وها أنتم أمام كتاب في الذات، سأحاول تقصي الفرح والرجفة فيه، بل تقصي تحايل نصار على الفرح الذي فيه ومكابرته إزاء الرجفة التي فيه. ما هم لو كان الفرح والرِّعدة آخرَ ما يتوقف عنده الفلاسفة، أو هكذا يزعمون، فالتفلسف بتقديري ليس سوى تلك الرعدة الوجودية عندما تلبس اللغة، بعضها يلبس اللغة ليتقي الرعدة، والآخر ليرتعد لغوًا.

وبعد،

وجدتني إزاء الذات الواقفة بباب ذاتها، أتساءل ما إذا كانت الذات بابًا، وإن كانت كذلك فإلام هي باب؟ وإن كانت هي الباب لا عابر الباب، فمن تراه الذي يعبر بها؟ ومن أين إلى أين؟ ومن أين يأتي ذالك الفرح الكثير والرجفة الكثيرة التي وعد نصار بهما نفسه بلسان المتصوف الذي ... فيه؟

•1.     كتاب في الحضور أملاه الغياب

أيها السادة،
لا يغرنكم العنوان : موضوع الكتاب هو الغياب لا الحضور، والغياب مفهوم خفِر، غيرُ دعيّ، غيريّ، لا يريد شيئًا لنفسه، من طبيعته أن يعصى قواعد البيان فلا يحضر في القول إلا غيابيًا، لذلك ربما لا تعرف كم نحن مدينون له.

غياب الحياة الحياة، الحياة المترعة حياة ومعنى، خلق التفلسف، وغياب المحبوب خلق الشوق والشعر، بل هو خلق الحب، غياب الله خلق الليتورجية واللاهوت والدين، وغياب الثدي عن الخد خلقنا كائنات تلغو... وهاجس الغياب أعطانا هذا الكتاب في الحضور!

لذا سأقرأ الكتاب انطلاقًا من فصل متواضع فيه، هو برأيي علة وجوده، هو الفصل الثالث والعشرون، وهو تحت عنوان "في الغياب".

يقيم الفصل عرضًا، وخفرًا، في الباب السادس كمدخل إلى دراسة الحضور وما قبله، أي الماضي وإشكاليات التذكر والوفاء. أقول عرضًا لأنه كان من الأجدر أن يكون مدخلا لفصلي "الما قبل" و"الما بعد" معًا، وخفرًا، لأن الغياب حاضر في مفاصل الكتاب جميعها وليس في الفصل الصغير الذي يحمل اسمه وحسب.

فما هي خصائص نصار كفيلسوف للغياب، وما مدى مشروعية قراءة الكتاب رمة على ضوء هذا الفصل؟

2- فلسفة المكابرة تعجبًا ولعبًا

يدخل نصار إلى الغياب من باب الحاضر وما قبله أي الماضي، ويطرح أسئلته وفق المستويات الثلاثة التي تحكم كل الإشكاليات التي يطرحها في الكتاب:

أولا - كيف يتحمل الكائن الذاتي الزمنية  في حضوره الفاعل؟

ثانيًا - كيف يتعاطى مع الزمنية؟

ثالثًا- هل عليه من واجب ما في هذا التعاطي؟ (ص 450)

وليست الزمنية هنا سوى قناع يختبئ خلفه الغياب - الموت، وهذا ما سنكتفشه لاحقًا.

يفيد ترتيب الأسئلة على هذا النحو الإنتقالَ من سلبية التحمل، إلى التعاطي بوصفه تحملا يتبرأ جزئيًا من سلبيته، وصولا إلى قلب المأساة الوجودية إلى إشكالية أخلاقية كطريقة وحيدة لإنقاذ حد أدنى من فاعلية للذات في مأساة الحضور والغياب.

تخرج هذه الأسئلة في نهاية الفصل نفسه إلى مستوى أعلى من الإفصاح، فيسقط القناع عن الغياب- الموت(فالإتجاه نحو الموت هو المعنى الحقيقي للزمنية) فيلبس سؤال التحمُّل الصيغة التالية:

"كيف يتحمل هذا الكائن أن يكون انوجاده الذي هو أسمى أشكال الحياة متجهًا لا محالة إلى الموت؟" (472) ويجيب نصار باختصار على سؤال التحمل وقد أضحى أكثر إفصاحًا ومأساوية "إنها لا تطاق" (472)، أما عن كيفية التعاطي معها فيقول "لا تستطيع (الذات) مهما استغرقت في مشاريعها أن تتجاهل حقيقة أن الموت ينتظرها" إلا من باب خداع نفسها. وعند سقوط إمكان التعاطي مع المأساة بتجاهلها، يغدو الجواب الوحيد هو الإنتقال إلى السؤال الثالث أي إلى واجب الذات إزاء مائتيتها. ويأتينا إذاك الجواب أنها مسؤولة "عن اتخاذ موقف منه ( أي من الموت) قبل فوات الأوان بحسب قدرتها وحريتها". (469-470)

الخلاصة: كيف يتحمل؟ لا يتحمل لأن المأساة لا تُحتمل. وكيف يتعاطى؟ إما بأن يتناسى وإما بأن يواجه، وإن هو قرر أن يواجه فعليه أن يطور من الغياب موقفًا يليق به ككائن ذاتي، فتنفتح إذاك أمامه أطيقا الغياب، وينفتح كذلك باقي الكتاب، ببابيه السادس والسابع، المخصصين لأخلاقيات التعاطي مع الغياب،  بحيث يغدو الوفاء مسؤولية الذات إزاء الماضي، والطموح أرقى ما يليق بها في مقاربة المستقبل.

 ولكن الطريق من الأسئلة إلى الخلاصات لا يتم من خلال مسيرة مستقيمة وجافة كالتي عرضتُها للتو، لأن نصار اختار أن يتحايل على الفرح الكثير والرجفة الكثيرة اللذين ينتظرانه عند باب الذات، وأن  يكابر... وأبرز عوارض المكابرة مقاربة مأساة الغياب من خلال مصطلحي التعجب واللعب :

أولا - في التعجب :

الذين يعرفون نص نصار يعرفون أنه قلما يتعجب، إلا أنه في الكتاب الذي نحن بصدده يفرط في التعجب. وصحيح أن العجب موجود في فصول الكتاب جميعها، إذ يقول نصار في الصفحة 17  مثلا "إن علاقات الآخرية داخل الذات من أعجب ما في الوجود من علاقات"، وعن القيم وحضورها  في وجود الكائن الذاتي يقول إنه "مطبوع بخاصية عجيبة" (ص 228). إلا أن وتيرة التعجب تقوى بشكل ملفت في الفصل الذي نحن بصدده فنقرأ، على سبيل المثال لا الحصر:
تقضي الزمنية أن "بأن يكون الحاضر زمنًا بين زمنين لا وجود له من دونهما على الرغم من أنهما، في مفارقة عجيبة، غيرُ موجودين مثله" (450).
وعن التذكر نقرأ "ما هذه العملية العجيبة التي تربط ما كان بما هو كائن وتجعله ماثلا في ما هو كائن مع بقائه في مقامه مما كان"؟ (450)
وبعد ذاك، "النوم ظاهرة عجيبة" (456) بل هو "نمط عجيب من الغياب" (457).
ثم إن الذات في قدرتها على التغيب والغييب "تتمتع بهذه القدرة العجيبة على إدخال الغياب في وجودها"(459)وفي مكان آخر، إن الكائن الذاتي يقود مصيره "في هذه الجدلية العجيبة بين الحضور والغياب" (462)
وبعد، "من أعجب الأمور أن الذات لا تتعامل مع الجهل الناتج من ذلك الغياب الإستعداد نفسه الذي تبديه في تعاملها المعرفي مع أشياء الطبيعة"(463)
وعن ماضي الأموات، إنه "موجود في وضع غريب عجيب يتأرجح في درجات الغياب بين أقلها اصطباغًا باللاوجود وأشدها اصطباغًا به" (475).

والواقع أن تعجُّب نصار، لا سواه، إلى هذا الحد، هو أمر... عجيب!

عجيب أولا إذا ما انطلقنا من ان الدهشة، وهي أخت التعجب، هي واحد من ينابيع التفلسف، إلى حد أن جان هرش كتبت تاريخ الفلسفة من خلال تأريخها للدهشة الفلسفية، فمن العجيب أن تجد الفيلسوف متعجبًا، لا في كتبه الأولى، بل في كتاب متأخر يعتبره الناشر ( في كلمته على الغلاف الخلفي) "تتويجًا لمشروعه ( نصار) الفلسفي"، وفي كتاب يتساءل كاتبه بصدده إن كان في إكماله مشروع منطق السلطة وباب الحرية قد أصاب نوعًا من الإكتمال. فالقارئ أميَل إلى أن يتوقع عند فيلسوف صنَّف ما صنَّفه نصار من مؤلفات، فيلسوفٍ مرَّر فكره وقلمه ذهابًا وإيابًا على فجاجة الوجود ونتوءاته وإشكالياته، قراءة وكتابة وتأملا، أن تكون الأسئلة والاشياء قد ملست نوعًا ما تحت يديه، تماما كما تملس جدران الكنيسة لكثرة اللمس واللثم، وأن تكون دهشته، وهي ينبوع تفلسفه، قد وجدت قنواتها إلى الأجوبة أو غارت في جوف الدوغمائية البداهة الزائفة، وفقدت بالتالي بريقها كدهشة.

هذا سبب أول للتعجُّب من تعجُّب نصار. أما الثاني، فمردُّه إلى أننا لسنا امام دهشة، بل أمام تعجب. والتعجب ليس الدهشة وحسب، إنه، إلى الدهشة، نوع من الإستهجان المعترض، كأني بالفكر عندما يتعجب يقلب شفتيه بشيء من الدهشة الإعتراض والتسليم في آن. والواقع أن تعجب نصار ينتمي إلى حقل دلالي في النص يحاول المكابرة إزاء مأساوية الوجود وغموضه، والإلتفاف عليهما، لذا فهو (أي التعجب) يرسم سلبيًا خريطة ما لن يقتحمه نصار تحليلا وتوسيعًا، أي ما سيبقى سؤالا معلقًا برسم تطور العلوم، أو ما هو فجوة سوداء في وجودنا.

قرر نصار إذًا ألا يفرح كثيرًا ولا يرتجف كثيرًا، إذ كان بإمكانه عند هذا الحد القفز إلى مطلقات إيمانية تقلب تعجبه انبهارًا بالخلق، أو ينزلق أمام استغلاق الوجود وعجز الإنسان عن التحكم به إلى العدمية أو على الأقل إلى لاأدرية مريرة، أعرض عن هذا وذاك، واكتفى بأن يتعجب انتصارًا لكبرياء الفكر.

ثانيًا - اللعب

وتأتي مفردات اللعب واللعبة لتكمل مشهد المكابرة.

هكذا، تبدو الذات في مطلع الفصل ممسكة بالغياب من ناصيته: تختار أن تتغيب، أو تختار أن تنسى (موعدًا أو استحقاقًا) فتتغيب، أو تختار أن تبتز الآخرين بغيابها فتستقيل أو تقاطع. وفي هذا كله تتكرر عبارة "لعبة الحضور والغياب"(452- 460...). يتغاضى نصار عن كوننا نحن لعبةً في يد قانون الحضور والغياب، وينكبُّ على أصول لعبنا لعبةَ الغياب. حتى عندما يصل إلى النوم، نراه يتشبث للذات بشيء من الفاعلية يبقيها لاعبة لا ألعوبة ولو من باب تحميلها "ذنب" النوم. فهذا الأخير قد يكون هروبًا، أو بحثًا عن لذة بديلة. وفي نهاية الأمر ليس النوم نقيض الحضور إلا ظاهريًا (يقول في ص 457).

لكن اللعب لا يدوم طويلا وإن تقصَّد نصار التأخر فيه، وإن تقصَّد التوسع في مفاهيم كالمقاطعة والتغيب والإستقالة والهجرة، وهو يعرف أنها لا تضاهي جاراتها من حيث القيمة الفلسفية ولا الوجودية. يتأخر ريثما يربح المزيد من التعجب واللعب، لأن "اللعبة" لن تلبث أن تتحول "جدلية عجيبة بين الحضور والغياب" (462)، ثم "معاناة جدلية الحضور والغياب" (466) لتغدو في الصفحة 472 "معضلة رهيبة لا تطاق". إذ إننا في نهاية الفصل نقف وجهًا لوجه مع الغياب بعدما تأخرنا عنه كتابًا كاملا، وجهًا لوجه مع الموت ولو أجلناه فصل الغياب كله. هو الذي كان كامنًا في أسئلة بداية الفصل.

لكن انقلاب لعبة الغياب والحضور مأساة لا يعني استسلام المكابر فها هو يمسك بنفسه مجددًا، ليميز بين الولادة والموت فيقول على عكس الولادة "الموت لا يحدث بمعزل عن إرادة الذات" (469). قد تظن أنه سيتحدث عن بعض الموت الإرادي الإنتحاري منه أو الفدائي، لكن الوضع ليس كذلك. إرادة الذات تكمن في عجزها عن تجاهل حتمية الموت، من هنا كونُها "مسؤولةً عن اتخاذ موقف منه قبل فوات الأوان"(470)

الحيوانات تنفق. وحده الإنسان يموت. وحده يرتفع بواقع أنه يموت إلى وعي اضطراره أن يموت، ووحده قادر أن يحول اضطراره للموت اضطراَرا لموقف من الموت. يكاد نصار أن ينحو منحى ليفيناس ليجعل من موت الآخر ما يشغلني أكثر من موتي،  فيتوقف عند موت الأحباء الذين "يرحلون تباعًا إلى الأبد" (472)، ولكنه إذ لا يحتمل أن يقيم طويلا في تراجية الموت، يسارع إلى الأطيقا.

كأني به يقول أمام مأساة الوجود: هذا هو الواقع، سمِّه عجيبًا أو رهيبًا، سمِّه لعبة أو مأساة، ذاك هو! فدعك من ضرب رأسك بجدار ما هو، وتعال إلى ما يجب أن يكون، فهو، على ضيقه، الحيزُ الذي يمكنك أن تُعمِل فيه الإرادة، وتنتصر، ولو موقتًا ، على المأساة.

لكن الأطيقا عند نصار لا تقف عند حدود الواجب، بل تسمو مما يجب على الذات أن تفعل إلى ما يليق بالذات أن تكون. تغدو الأطيقا استطيقا الذات. وهو المخرج الطبيعي لأخلاقيات لا تريد الخوض في  إشكالية المطلق ومصير النفس بعد الموت. لا تملك الأخلاق التي لا تنطلق من المتعالي أن تعطي نفسها صفة الإلزام، لذا تصبح ضربًا من الفن، يقوم على نحت الذات تحفة، ولو كان ذاك الفن فن الماندانا لا غير.

والماندانا هي الإسم الشائع لطقس بوذي يقضي بإنجاز لوحات كبيرة الحجم، عالية الدقة والجمال والصعوبة، من الرمل الملون. ويقضي الطقس بعد الرسم أن يقوم الرسام نفسه بكنس اللوحة، تمرسًا بفكرة التناهي، وزهدًا بالأنا وحبه للإنجاز.

تبدو استطيقا الذات ماندانا، عملاً على صيرورة الذات ما يليق بها أن تكون  بصرف النظر عن مصيرها.

إلا أن نصار يتابع: على الذات "اتخاذ موقف قبل فوات الأوان". لا يقول لنا عن أي أوان يتحدث، ولا ما يمكن أن نخشاه إن هو فات. سنموت سواء أخذنا موقفًا من الموت، أم لم نأخذ. فلم العجلة في اتخاذ موقف؟ فهل سكت هنا عن ماوراء ما يعتقد به؟ يصعب تبني فرضية كهذه.

فإذا كان شارل مالك اعتبر الموت "نهاية ما". بحيث توسع "الما" مكانًا لرجاء المسيحي الذي كانه مالك، فإن نصار يعرض عن هذه الإمكانية ليبقي الموت نهاية وحسب. انقطاع، انطفاء، تسليم اضطراري بقانون التناهي ( 471)...

صحيح أنه يتساءل : هل هذا كل شيء؟ لكنه لا يستطيع أكثر من التساؤل. او هو لا يستطيعه في حدود ما رسمه لنفسه في هذا الكتاب: ماذا تستطيع قصبة بسكال إزاء الريح؟ ماذا تستطيع رمال الماندانا إزاء المكنسة؟ يمتنع نصار عن الإجابة فالإنتقال إلى فوق إلى ما "يكتنف المسرح والمجرى معًا" أي "المطلق اللامتناهي"، وإمكانية انتقال كهذا، موضوع كتاب ممكن يأمل نصار أن يكتبه ولا يعدنا بذلك (633).

حتى يتم الوعد، تبقى مشكلة البعد، أي ما بعد الموت قائمة. وتبقى أخلاق الوفاء الناقد والطموح المسؤول التي يوسعها في البابين الأخيرين من الكتاب جواب قصبة تكتفي من الكبر بشرف المكابرة إزاء الريح قبل أن تنكسر، وجمال الماندانا لحظة قبل مرور المكنسة...  فاللحظة كفيلة لتحجز لها مكانًا في الذاكرة، وتدخلها ملكوت الوفاء.

هذا اللعب مع التناهي، هذا التحايل على عجز الذات عن الإمساك بالوجود، له صداه في أسلوب نصار في هذا الكتاب الأخير.

3- في التفلسف شعرًا

من سمات نصار المتأخر، جنوح لغته، أو ارتقاؤها، أو اتساعها ... للإستعارة، لبعد شعري قلما تجده في مؤلفاته الأخرى إذا ما استثنينا تلك الخاتمة اللغز التي تحدثت عنها. ولا يبدو أنه قبِل هذا التحول بسهولة، فهو بعدما تبرأ من خاتمة باب الحرية ونسبها إلى متصوف مجهول، نراه، في "الذات والحضور"، يعترض على نفسه عندما عند كل زلة قلم باتجاه المجاز. في الصفحة 30، يقول: ليست المسافة الفاصلة بيني وبين كتابي "من النوع نفسه الذي يقوم (...) بيني وبين تلك النجمة التي تنتظر الليل حتى ترسل نورها الخافت (ثم يستدرك بين هلالين) (وهي في الحقيقة لا تنتظر شيئًا لأنها لا تعرف الإنتظار أصلا)". ولا أخال أن الإعتراض جاء من باب الحرص على الحقيقة وحده، وإلا لوجب توسيعه فالإستعارة ليست فقط في إسناد فعل الانتظار إلى النجمة، بل في اتهامها بإرسال الضوء، بل في تسميتها نجمة أصلا، وفي اعتبارها لا ترسل الضوء إلا في الليل، وفي القول إن الضوء الذي ترسله خافت.

يعترض ناصيف نصار على نفسه، وفق ما نسميه بالفرنسية prolepse ، كأنه يؤكد لنا تنبهه لمجازية العبارة ، إى حد ما استهجانه إياها، لكنه لن يعترض طويلا وإلا لتحول كتابه مجموعة من الأهلة تفتح وتغلق لتعترض على لغته الجديدة. كقوله"الزمن طاحونة لا تتوقف، تستهلك الحاضر لإنتاج الغائب، وتعود فتستخدم بعضًا من هذا الغائب في انتاج الحاضر" (ص 466)...

عندما قلت له ذات مرة إن اللغو نفسّه استعارة، نظرًا للفجوة الكيانية القائمة بين الإسم ومسماه، (أليست الأسماء أصواتًا وأشكالا استعرناها للأشياء؟)، وأن الفرق بين الحقيقة والمجاز مسألة عادة، نسمي حقيقة جرعات المجاز التي نتحملها أو التي اعتدناها، اعترض. واظنه ما يزال معترضًا. لذا لن أصر.

ولكنني مصرة من جهة أخرى على أن الإستعارة موقف أنطولوجي، هو نقيض الموقف الذي يعتمد المفاهيم الجامدة الصلبة سبيلا لمقاربة الوجود. 

يميز مارك ألان واكنان بين قبضة المفهوم، ويد الإستعارة المفتوحة للمداعبة، وقلما تنفتح قبضة المفهوم ومخالبه للمداعبة من تلقاء نفسها، بل بحكم استحالة القبض، بحكم هيولية ما تحاول القبض عليه بحيث يتسرب من بين أصابعها، بحيث ينشُّ من فسوخ مفاهيمها وبراهينها وعقلانيتها الضيقة، لتجد نفسها في نهابة المطاف قابضة على كلمة دميمة وحسب.  

يتساءل ناصيف نصار وكأنه يتابع هذا المنطق هل "يمكن تلمُّسه ( الموت) إن لم يتيسر القبض عليه كليا؟" (46)

كأني به يقول (وليضع هذا القول على لسان متصوف ما، لا يهم): طالما الوجود بإدهاشه وعتامته يتسرب من بين أصابعنا، فلماذا لا نرخي قبضتنا عن خوانيق اللغة ونتركها تقول إيحاء ما وشوشها إياه المتصوف المتخفي داخل كل منا؟ لماذا لا نتركها ترتعد  بالفرح والمأساة اللتين نريد لها أن تغلفهما وتخفيهما؟ لماذا لا نتركها تشرد إلى النجوم التي تنتظر، والزمن الذي يصنع من قمح الحاضر برغل الغائب وغيرها من الإستعارات الجميلة التي تحاكي سر الوجود بسر الشعر؟

خاتمة

عدت إلى خاتمة باب الحرية أفلفشها، وجدتني أقرأ:

"أوقفني في التراب وقال لي:

يا آدم هل نسيت أنك من التراب؟ فقلت: ولكنني لست ترابًا.

فقال: يا آدم وهل نسيت أنك إلى التراب تعود؟

ووجدتني أخرطش على الكتاب: أنسيت أنك من الغياب وإلى الغياب تعود؟

وعدت أقرأ: فقلت : لا ولكنني لن أعود كما كنت،

وأخرطش: ولن يكون العالم من بعدي كما كان

فقال: وما الفرق بين ما كنت وما أنت وما ستكون، وما كانه العالم قبلك وما سيكون؟

أجابه نصار:إسأل الحرية،

وأضفت، خرطشة: إسأل الكتابة!

شكرًا.

 


[1]     ناصيف نصّار، الذات والحضور. بحثٌ في مبادئ الوجود التاريخيّ، بيروت، دار الطليعة، 2008، ص 104.
[2]     ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 5.

[3]     ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 6.

[4]     ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 9.

[5]     ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 105.

[6]     ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 116.

[7]     الإنسان كائن الاحتمالات انطلاقًا من الحاضر ومن يقين الموت : "التموقع في المستقبل لا يستقيم على أساس وقائع، بل على أساس تصوّرات وغايات يريد الكائن الذاتيّ تحقيقها أو منعها من التحقّق. الواقعة الوحيدة الأكيدة التي يحملها المستقبل إلى الكائن الذاتيّ هو واقعة موته. ولكنّها واقعة غير محدّدة الساعة. إنّها ستحصل بالتأكيد يومًا ما. ولذلك يعود للكائن الذاتيّ أن ينظر إلى حاضره انطلاقًا منها بحسب ما يترتّب عليها في اعتباره أو في اعتبار المجتمع من مفاعيل. (...) وفي ما عدا ذلك، فإنّ التموقع في المستقبل مفتوح مبدئيًّا لكلّ أنواع الاستهداف والتخيّل. ومسيرة الحياة تستدعيه. (...) المستقبل لا يكتسب قيمته الفعليّة، في النهاية، إلاّ بالتوقعن، والتوقعن قائمٌ في قلب الحاضر" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 79-80).

[8]     "الذات تعيش الحضور القصديّ كوضع كيانيّ لها" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 13).

[9]     "هويّة الكائن الذاتيّ موجودةٌ في أفعاله، وليس فقط في سماته وشبكة انتماءاته. فما دام الكائن الذاتيّ فاعلاً، فإنّه يواصل صنع هويّته". (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 107)

[10]   "لا بدّ لنا من الاعتراف بوجود هوّة أنطولوجيّة بين الذات وبين ما هو واقع أمامها وحولها من كائنات الطبيعة". (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 30)

[11]   "إنّ مراتب صناعة الذات خمس. أولاها مرتبة المحافظة. وثانيتها مرتبة التنمية. وثالثتها مرتبة الهندسة. ورابعتها مرتبة المعنى. وخامستها مرتبة العطاء". (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 153)

[12]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 34. يميّز ناصيف نصّار "بين الزمان المطلق الذي هو موضوعٌ للميتافيزيقيا وبين الزمن النسبيّ الذي هو موضوعٌ للأنطولوجيا والعلوم الوضعيّة بشقّيها الطبيعيّ والإنسانيّ" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 36).

[13]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 163.

[14]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 98.

[15]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 99. "الانوجاد، في فلسفة الحضور، هو الحركة التي يخرج بها الكائنُ الذاتيّ من مجرّد الوجود في ذاته إلى الحضور إلى ذاته وإلى العالم حوله. إنّه إذن حركةٌ داخل الكائن الذاتيّ، تنطلق من الدفق الباطنيّ الذي يختزنه، ويحدّد نوع علاقته مع الوجود، بتوسّط الحضور" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 99).

[16]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 179.

[17]   "الحضور الذي يقوم الكائن الذاتيّ به ليس حضورًا كاملاً كمالاً مطلقًا، سواء أكان حضورًا إلى الواقع، أم إلى الآخر، أم إلى الذات نفسها. الوعي ينعكس على ذاته وهو يفرّ إلى خارج ذاته؛ فحضوره إلى ذاته محكومٌ بقدرٍ ما من النقص في تطابقه مع ذاته. ولذا يبحث الكائن الذاتيّ دومًا عن استئناف وتحسين حضوره إلى ذاته وإلى العالم حوله" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 89-90)

[18]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 255. ولذلك يصرّ نصّار على أنّ البحث عن قيمة الحقيقة يسبق البحث عن ماهيّة الحقيقة : "بمقتضى تحليلنا للحضور الفاعل السؤال عن قيمة الحقيقة يسبق السؤال عن ماهيّتها" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 347).

[19]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 252.

[20]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 242.

[21]   يربط نصّار المعنى بالحاضر ربطًا محكمًا : "إلاّ أنّ هذا لا يعني إطلاقًا أنّ المستقبل هو صاحب المسؤوليّة الكاملة عن تقرير معنى الحاضر. فكما لا يستطيع الحاضر اختراع المعاني لحوادث الماضي اختراعًا تحكّميًّا، كذلك لا يستطيع المستقبل اختراع المعاني لحوادث الحاضر اختراعًا تحكّميّا. فالمعنى يتكوّن في الوجود التاريخيّ في الحاضر، بمسؤوليّة الكائن الذاتيّ الفاعل وقصده؛ ولكنّه يبقى موضوعًا ممكنًا لحكم يأتيه من المستقبل" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 85).

[22]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 161.

[23]   لا يني ناصيف نصّار يوضح أنّ الحاضر هو الذي يبتكر المعنى، وأنّ المستقبل إنّما يحكم بمقتضى المسافة التاريخيّة النقديّة على مواءمة المعنى. فالأسبقيّة في تأصيل القيَم هي للحاضر : "ثلاثة مبادئ (...) 1. الحاضر يتقدّم على الماضي والمستقبل في الرتبة الوجوديّة، ولا يتقدّم عليهما بالضرورة في الرتبة القيميّة. 2. طبيعة المغامرة في الوجود التاريخيّ تمنع الحاضر من الانغلاق على نفسه والاكتفاء بنفسه. 3. معنى الحاضر موجودٌ فيه وفي حكم المستقبل عليه" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 83).

[24]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 222.

[25]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 225.

[26]   يوضح نصّار أنّ القيَم "ليست حالة مزاجيّة، كما أنّها ليست حقيقة قطعيّة. ومن هنا، تطلّبها بطبيعتها لمجهود مركَّب من الاستبيان والبناء والشهادة" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 225). فالقيَم "وضعٌ فوق الواقع لا يمكننا أن نكتشفه إلاّ في اختبار وجوديّ ذاتيّ" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 231).

[27]   يصرّ نصّار على تصوّر التعالي بعدًا من أبعاد الذات، وكأنّه يستعين بنظريّة كانط في بناء الشروط البنيويّة الذاتيّة في المعرفة : "إنّ التعالي بلا انفصال قاطع عن الذات والواقع خاصيّة رئيسيّة لعالم القيَم. إنّه تعالٍ للقيَم لأنّ زواله يعني زوال مرجعيّتها. وبالتالي سقوط الحضور الفاعل في التيهان. ولكنّه تعالٍ للذات أيضًا لأنّه يفتح لها، في عدم تطابقها الدائم مع نفسها، سبيلاً للخروج من النقص الذي تعانيه". (...) "القيمة، من حيث هي قيمة، تأبى أن تنحلّ كلّيًّا في الواقع. وذلك ما دامت قائمةً بالنسبة إلى حضور فاعل" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 227).

[28]   في فلسفة ناصيف نصّار أنّ القيَم ناشئةٌ من نزوع الإنسان إلى الكمال : "ينبغي لنا أن نبحث عن فوقيّة القيَم بالنسبة إلى الواقع في منطق التوقعن قبل أن نبحث عنها في ميتافيزيقا الواقع" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 232). ولذلك "لا بدّ لنا من اعتبار طاقة الكائن الذاتيّ برمّتها والبحث عمّا يمكن أن يكون سببًا كامنًا فيها لحركته التجاوزيّة الدائمة لواقعه. ولا شكّ في أنّ أصحّ ما نجده في هذا البحث إنّما هو مبدأ النزوع إلى الكمال. ومعناه أنّ الكائن الذاتيّ يتحرّك بكيانه كلّه، بدوافعه وفكره وإرادته وحواسّه، نحو تحقيق أقصى إمكاناته في حدود الجدليّة بين ماهيّته وهويّته. فالكمال في حدّ ذاته ليس معلومًا عنده. ولكنّه ينزع إليه من خلال اختبار وجود النقص في كيانه وعلاقاته، ويتعرّف إليه من خلال سعيه الدؤوب إلى إزالة نواقصه قدر المستطاع، بكيفيّة تحترم وحدة كيانه وتوازن مقوّماته وميادين نشاطه" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 233).

[29]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 235.

[30]   "من المشكوك فيه أن تكون الطريقة الفضلى للردّ على التاريخانيّة (...) التبصّر في النهايات القصوى، واستطرادًا استدعاء المواقف الميتافيزيقيّة أو اللاهوتيّة المنفتحة على الحقائق الثابتة الأزليّة" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 381).

[31]   "لا يوجد ضامن يحمي الكائن الذاتيّ من الخطأ في التفسير، أو من الخلل في خطّة الإرادة، أو من الزيغان والاضطراب في اعتماد القيَم وتنظيمها، أو من الفشل في الممارسة مع وجود حسن النيّة. وهذا يفيد أنّ الكائن الذاتيّ أمام دروب متعدّدة إلى الكمال، يتعيّن عليه شقّها بنفسه، من دون أيّ ضمان للنجاح" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 256).

[32]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 337.

[33]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 288.

[34]   ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 184.

[35]   يرسم ناصيف نصّار أنّ "العقل لا يقارب الغايات العليا بالبرهان، بل بالتسويغ. ولا مهرب للكائن الذاتيّ من الغايات العليا في وجوده، ولا من تسويغها" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 206). ومن ثمّ، يعتبر أنّ البشريّة مفهوم أمبيريقيّ : "البشريّة مفهوم أمبيريقيّ، إذ إنّها تعني في منظور هذا البحث جملة الذوات الفرديّة والجماعيّة التي تمارس الحضور القصديّ الفاعل، الموجودة فعلاً في زمن معيّن". (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 273). أمّا حين يكبّ على تعيين مضمون الخير، وهو القيمة الأسمى، فإنّه يحدّده في ثلاثة مستويات : "الخير في تصوّرنا للكائن الذاتيّ يقال بمعنى ضيّق وهو مقتصر على المصالح المنتظمة في مشروع حياة الكائن الذاتيّ دون سواه، وبمعنى تفاعليّ وهو يشمل جملة مصالح الكائن الذاتيّ ومصالح الآخرين في إطار العدل، ويقال بمعنى شموليّ وهو جملة القيَم الأساسيّة والفرعيّة التي يتحقّق بها السعيُ إلى الكمال" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 352). وإصرارًا على هذه النسبيّة، يعمد نصّار إلى مسألة التفسير، فيعاينها ناشبةً في صميم الحضور الذي هو تفسير ومساحة ممتلئة باللغات : "إنّ صورة الآخر شبكة لغويّة أو بالأحرى شبكات لغويّة متطلّبة للتفسير. وتفسيرها يؤسّس للموقف منه. وما هو التفسير ؟ إنّه هو أيضًا لغة، لها قواعدها ووظائفها. الأنا الحاضرة تستخدم لغةً تفسيريّة للتعامل مع الصورة، أو بالأحرى مع الصور التي تصدر عن الأنا المحضور إليها. وهكذا تمتلئ المسافة في الحضور إلى الآخر بعالم من اللغات، لا تمتلك الذات الحاضرة أيّ تحكّم مسبق بمعطياته وتفاعلاته" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 25). وبالرغم من ذلك كلّه، يعتصم نصّار بضرورات التماسك المنطقيّ في مقاربة الوجود ويثق بقدرة العقل على الخروج بتفسير جامع مانع يعصم من الانفجار والتناثر في المعنى، ممّا يدفع "مفهوم الواقع، ومعه مفهوم التفسير، إلى الانفجار والتناثر، إنْ لم يكن ثمّة رؤية أساسيّة تضع كلّ أمر في نصابه، أعني نصاب الواقع في الوجود، ونصاب مستويات الواقع في الواقع بأسره، ونصاب الكائن الذاتيّ الحاضر وأنماط حضوره في الزمن التاريخيّ" (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 32). غير أنّ هذه الرؤية الأساسيّة لا بدّ لها من أن تنسلك في نسبية الحقول المعرفيّة التي تتناولها. ومنشأ هذه النسبية تنوّع مراتب المعارف : معارف الحياة اليوميّة، ومعارف العلوم الطبيعيّة، ومعارف العلوم الإنسانيّة، ومعارف العلوم الصوَريّة، ومعارف المذاهب الإيديولوجيّة، ومعارف العقائد الدينيّة، ومعارف الفلسفة (ناصيف نصّار، الذات والحضور، ص 358).

 باب الحرية. إنبثاق الوجود بالفعل، بيروت، دار الطلبعة، 2003، ص. 336[36