نـدوة حـول كتـاب
 جيوبولتيك لبنان، الإستراتجية اللبنانية
 د. نبيل خليفة


كلمة جميل جبران
كلمة د. دعد بو ملهب عطالله
 كلمة الدكتور سعود المولى
 كلمة الدكتور  ساسين عساف

 

  كلمة جميل جبران

        ما يدعونا عادة لتصفح كتاب، صدر حديثاً، ولإقتنائه وقراءته، هو ما يظهر على غلافه: اسم المؤلف، العنوان الرئيسي، العنوان الفرعي، وأحيانا الرسم.

أما الكتاب، موضوع ندوتنا الليلة، فتتضافر هذه العناصر كلها للتحريض على قراءته.

        فالمؤلـف، الدكتور نبيل خليفة، الباحث في الفكر السياسي، هو، ومنذ ما يزيد عن ربع قرن، متابع دؤوب، ومدقق متيقظ، في ما يدور في لبنان أو حوله. وله عدة أبحاث في هذا الحقل، كما أصدر بضعة مؤلفات تتناول حياد لبنان، وموقعه في استراتجية كيسنجر، وفي الإستراتجيات السورية والاسرائيلية والأوروبية، ومدخل الى الخصوصية البنانية....

        وعنـوان كتابه الأخير، الذي ستجري مناقشته، هو:  "جيوبولتيك لبنان ـ الإستراتجية اللبنانية". وأول ما يتبادر الى الذهن عند قراءة هذا العنوان، هو راهنية هذه المسألة، وتداولها على نطاق واسع في المجتمع اللبناني، وعلى مختلف المستويات الرسمية، والحزبية، والفكرية، والسياسية. فالبند الرئيسي، إن لم يكن البند الأوحد، على جدول أعمال طاولة الحوار، هو البحث في "الإستراتجية الدفاعية"، بمعناها الواسع، وليس بمعناها التقني والعسكري الضيق. وهي المسألة الأكثر إثارة للعواطف والعواصف، وتتقاطع فيها وحولها الخيوط المتشابكة بين اللاعبين المحليين، وهم من ذوي الأحجام ذات التأثير المحدود، واللاعبين الخارجيين أصحاب النفوذ الفعلي والتأثير الحاسم.

        إن مؤلّـف الدكتور نبيل خليفة، يقدم للمتحاورين، ولكل المعنيين، مرجعاً، جامعاً، شاملاً، ودقيقاً، لمختلف المعطيات الجغرافية والتاريخية والفكرية والسياسية والإيديولوجية. وهو، كما ورد في العنوان الفرعي للكتاب، بحث جيوـ سياسي في واقع لبنان ودوره ومستقبله ومصيره. ويستبطن دعوة لربط الأهداف الاستراتجية بالمصالح الحقيقية للمجتمع بمختلف مكوناته وليس لمصالح فئة منه.

        وفي لمحة سريعة على بعض المسائل الحساسة، التي تطرق اليها الكتاب، نشير الى مسألة في غاية الأهمية، وهي متداولة على نطاق واسع، وقد أفرد لها المؤلف فصلاً خاصاً، وهي ان للبنان ثروة نفطية في المياه الإقليمية، مع ما يترتب على هذا الأمر من مخاطر إضافية، يقتضي التنبه لها، والاستعداد لمواجهتها بأفضل الوسائل.

        وفي بحثه لتأثير الجوار المباشر، على وضعنا الداخلي، فهو يفرق تماماً، بين الصـراع مع العدو الإسرائيلي، صاحب المطامع في الأرض والمياه، والعامل على تقويض الصيغة اللبنانية، القائمة على التنوع الديني والثقافي، والنـزاع مع الخصم الشقيق (اي سوريا) صاحب المطامح، المستمدة من عقيدة قومية، تتغير بفعل جدلية الفكر والواقع.  "قدر لبنان المأساوي أن يعيش بين دولة لا تعترف به (ربما تغير هذا الأمر) ودولة لايعترف بها"

        لناحية المقاومة، يقول ان "الفعل المقاوم"، كان دائماً سمة من سمات لبنان، الحيز الجغرافي قديماً، والكيان السياسي، بأشكاله التاريخية المتحولة منذ عدة قرون حتى يومنا الحاضر، وعلى الأخص، المقاومة التي أنشأها حزب الله، وقادها بكفاءة عالية، لتحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي. لكن هذا "الفعل المقاوم"، كان يصدر دائما عن فئة أو طائفة. إلا أن ما حصل في 14 آذار، كان تياراً جامعاً عابراً للفئات والطوائف، وربما مؤسساً لوحدة وطنية أشد وأصلب، في مواجهة، توترات  الداخل وتدخلات الخارج.

        كما طرح الكثير من الأسئلة، التي يتحاشى كثيرون معالجتها، أو الإجابة عنها، نظراً لدقتها وحساسيتها المفرطة. وعلى الأخص، فيما يتعلق بالمقاومة ضد العدو الإسرائيلي. فإذا كان لدى المقاومة آلاف الصواريخ، وإذا كان الخطر الأدهى هو الطيران الإسرائيلي، فلماذا لم تعطَ المقاومة، أو لماذا لم يُسمح لها أن تحصل على صواريخ مضادة للطائرات؟  فهل ان الخطوط الحمر، التي رسمت في عهد كيسنجر، بين اسرائيل وسوريا، والتي تحظر مواجهة الطيران الأسرائيلي، الذي يخرق الأجواء اللبنانية، مازالت قائمة؟

        وأفرد المؤلف فصلاً مستقلاً لبحث مستفيض عن مسألة شائكة ينقسم اللبنانيون حولها منذ عقود، وهي مسألة حياد لبنان الإيجابي الذي أصبح يلاقي المزيد من الآذان الصاغية والعقول المنفتحة والأقلام المشجعة.

وفي الختـام،

وبإيجـاز كلـي،

        كتاب مرجع، ضروري لأصحاب القرار، الذين يهمهم مستقبل الحرية والإنسان في هذا الوطن، ويهمهم مصير لبنان "كوطن نهائي لجميع ابنائه"..


  كلمة د. دعد بو ملهب عطالله

أراد الدكتور نبيل خليفة كتابه الجديد "وصية" وطنية لليوم والغد و"مادةً للتأمل والحوار والنقد" و"قاموساً للبنان". وهو أعلن من على الغلاف أن كتابه هو كناية عن "بحث جيوسياسي في واقع لبنان ودوره ومستقبله ومصيره". بدا لبنان على الغلاف مضرّجاً بالدماء ما بين سمرة صحراوية وزرقة مترددة على الجانب الآخر ربما لكون الجيوسياسة تميل بالأخص إلى تلوين المعطيات بألوان الطموحات الكبرى للأمم وموازين القوى في زمن معيّن.

على القارئ بالتالي التقميشُ في هذا القاموس والغَرف من تحويشة تحديداته المتنوعةِ المصادر للمفاهيم العديدة من جغرافيةٍ سياسيةٍ وستراتيجية، والتأمّلُ في الأفكار والأراء والمواقف ومتابعةُ الشروحات التي تتوالى على طول الأقسام الخمسة الموزعة على واحد وعشرين فصلاً.

أرى أفضل طريقة في تقديم الكتاب هنا بأن أُبرز بعض أهم ما أتى فيه من معلومات وتحليلات وآفاق بحثية تجعله مادة دسمة للنقاش والتداول الفكري السياسي من قبل عدد غير يسير من المفكرين والباحثين. قبل الولوج في هذه المهمة، أشير إلى أن وضع كتاب من هذا النوع يتطلب عطاءً لا تقدّمه إلا نخبة قد أقول مختارة...

- كانت الخطوة الأولى في القسم الأول، الذي اختُزل في فصل وحيد، تحديدَ معنى عالم الستراتيجية هذا المفهوم المتداول كثيراً دون أن يكون دوماً واضحاً ما فيه الكفاية. هنا عمد المؤلِّف إلى بسط العديد من التحديدات الأكثر تداولاً بالأخص في القرن الماضي.

- أما "مقومات الجيو-استراتيجية اللبنانية" فخُصّص لها القسم الثاني من الكتاب على مدى مئة وعشر صفحات مكتنزات بالمعلومات الجغرافية السياسية عن لبنان. هنا، يستطيع من لا يعرف شيئاً عن بلدنا أن يغرف ما شاء من أرقام ونسبٍ ومقارنات مع دول أخرى في العالم لتوضيح الصورة عن حجم ومقدرات وخصائص لبنان، من الاتساع والشكل والموقع إلى الحدود أهميةً وشرعية وتمثّلاتٍ وإلى السكان أرقاماً وإيديولوجيات، ومن ديمغرافيةٍ بين أرقام  وإشكاليات إلى أهميةٍ ستراتيجية.

بينما ثروات لبنان "الست" الأساسية التي أصرّ المؤلِّف على أن يضيف إليها سابعةً هي كناية عن العناصر الأساسية التي تشكل في الأصل منابع قوة الدولة الحديثة، أيةِ دولة ذات المعطيات الاقتصادية الطبيعية الضعيفة. فالمناخ والمياه نوعاً وكميةً، والتراث ثقافة وحضارة وآثاراً، والديمقراطية التي يسهب في كونها "الضرورة الأخلاقية" "لبلوغ الحرية والعدالة والتنمية" والتي هي "نزعة أصيلة لدى شعبه" أي لبنان منذ الفنيقيين. وتبقى ثروتان قيّمتان أي : الشبيبة بنسبة التعلّم والتفوّق العالية هي "حجر أساس" في صياغة الستراتيجية الوطنية، والانتشار "بما له وما عليه"، ف"أي ستراتيجية بالمعنى الوجودي" لا بدّ من أن "تقوم على رؤية صحيحة لدوره".

أما الثروة السابعة، التي عالجها دكتور خليفة، فهي ما تزال حتى الآن فرضية أكثر مما هي واقع كما الثروات السابقة. إنها النفط، هذه الثروة "المغمورة المطمورة". متابعة مسألة الثروة النفطية المفترضة أتت معتمدة على المتواتر من المعلومات حالياً حول دلائل وجود مواد نفطية في المياه الإقليمية اللبنانية وعلى ربط الأمر ببعض السياسات تجاه لبنان. وهذا بالتأكيد أمر ورد في بعض الأذهان وإن بخفر منذ أوائل حروب الربع الأخير من القرن العشرين، لكن ربما أصبحت المسألة اليوم أكثر جدّية.

- بالنسبة "لقوة الدولة وضعفها"، أي موضوع القسم الثالث من الكتاب، كان الاعتماد بالطبع على المكان والزمان أي العنصرين اللذين يجد المؤلِّف أنهما يختصران قوة الدولة دون أن ينسى الإرادة الوطنية التي لا بدّ من أن تكمن وراء "صياغة استراتيجية مناسبة" عن طريق ربط الأهداف "بالمصالح الحقيقية للمجتمع" بكلّيته. ويعتبر خليفة مع بعض التصرف في المفهوم أن لبنان هو نموذج "الدولة-الحاجز" مستنجداً بعدد من التفسيرات والآراء لبعض كبار الجيوسياسيين والمنظّرين في الشأن الدولي عامة ليؤكد في هذا المجال أن مثل هذه الدول تكون مهددة من قبل الجوار وطموحاته وصراعاته.

ويتوقف الكتاب هنا عند مسائل جيوسياسية محورية على غرار الأرض والمياه على الجانب الإسرائيلي : من "أرض التوراة" إلى "المستلزمات الحياتية" و"الفجوة المائية" بالنسبة لإسرائيل. وكذلك بالطبع مسألة الأمن والتوقف عند الربط الإسرائيلي بين أمن لبنان وأمن إسرائيل ومسألة خطر الوجود في ظلّ النفوذ الفلسطيني والسوري في لبنان وبعدها بالطبع الإيراني... وفي هذا تفسير للضغوط الإسرائيلية على لبنان خلال العقود الماضية.

أما بما يخص العلاقات اللبنانية السورية فتوقف المؤلِّف بتأنٍّ عند ما اعتبره "ثلاث إشكاليات" : الإيديولوجية والهموم والتصور السوري للدور الإقليمي. عمل المؤلِّف على تحليل الهموم السورية من خلال الأنظمة الفكرية وخاصة الفكر البعثي العروبي الشامل، ومن خلال "المُعلن" و"المستور" واعتبار لبنان جزءاً من سوريا يجب استعادته. وقد كانت مطالعة لبعض الآراء والمواقف من مسألة "الخصوصية اللبنانية" وصولاً إلى تأكيدها بدوره. ولقد توقف محللاً عناصر القوّة والضعف لدى سوريا الطامحة إلى دور إقليمي ليصل إلى طرح خلاصات أبرزها التأكيد على أن سوريا ترمي لأن تكون جزءاً من حل المسائل الإقليمية عن طريق أن "تساهم في خلق المشكلة".

- يتخصص القسم الرابع من الكتاب، على مدى مئة صفحة، في موضوع "المقاومة" في لبنان بأشكالها وعناصرها وأبعادها المختلفة معيداً ذلك بالدرجة الأولى إلى "حجم الضغوطات" التي يواجهها لبنان. بداية، شرحٌ لمفهوم المقاومة و"من هو المقاوم" بدءاً من اللفظة وصولاً إلى البحث في الأخطار والعداء والاحتلال والمواجهة التي تتولّد عنها المقاومة دفاعاً عن إرادة المقاوم.

"من يهدّد لبنان"؟ و"ما هو المهدَّد في لبنان؟"سؤال مزدوج محوري طرحه خليفة. هنا كان تمييز ما بين تهديد الوجود والسعي إلى النفوذ وفي الحالتين : "كل شيء مهدّد". أما من يهدّد لبنان فيحدّد : "إسرائيل وسورية والفلسطينيون والإرهاب الدولي وإيران وأية جهة" تحاول أن تفرض على لبنان....

وأما المقاومات في لبنان المعاصر فهي :

1- "المسيحيون والمقاومة اللبنانية" وهي مقاومة قامت على "خط محورية كرامة الإنسان وحريته" : أولاً، في وجه الفلسطينيين الذين تحوّلوا "كابوساً أمنياً سياسياً ديمغرافياً"؛ ثانياً، في وجه السوريين الذين دخلوا إلى لبنان وذلك دفاعاً عن حريتهم واستقلالهم. وهنا قدّم خليفة تفسيراً لتطور المقاومة من بشير الجميّل إلى سمير جعجع مفنّداً إنجازاتها وأخطاءها خاصة من حيث "الافتقار إلى قراءة جيوبوليتيكية صحيحة وعميقة للوضعية اللبنانية".

2- المقاومة الوطنية وهي شملت العقائديين أي "القوى اليسارية ومعها قوى وحركات إسلامية" التي تطورت من التضامن مع حركة التحرير الفلسطينية إلى مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وتحرير الأرض. أتى عدد من التوضيحات لإيجابيات وسلبيات هذه المقاومة خاصة بعدم تراصّ صفوفها الأمر الذي يضعف من كونها "وطنية" بالفعل.

3- المقاومة الشيعية و"تجربة حزب الله" كانتا موضوع تركيز على الظاهرة الدينية أي "اليقظة الإسلامية" ونشوء الأحزاب في الإسلام واختلاف التفسيرات للظاهرة. وكذلك كان التركيز على نشوء حزب الله في الإطار التاريخي ك"حركة شيعية إيرانية إسلامية" تعتمد الجهاد ركناً وولايةَ الفقيه نهجاً. وكان أيضاً تقويم ما للحزب إيديولوجياً ومؤسسياً ومن حيث البنية الفكرية وخاصة صراعه ضدّ إسرائيل، وما على الحزب من ملاحظات حيث يبادر المؤلّف إلى التنبيه بداية بأن مقاربته النقدية ترتقي "إلى الحد الأعلى من الموضوعية". وهو خصّص لهذ المقاومة مساحة واسعة قياساً مع الإثنتين السابقتين.

4- أما ثورة الأرز أو"مقاومة شعب" فاستدعت أكثر من غيرها تحليل العديد من الوقائع اللبنانية العائدة للعقدين الأخيرين. من "انقلاب على الديمقراطية" و"على الديمغرافية" و"التسلّط" إلى قرار مجلس الأمن 1559 وإلى تفجير 14 شباط 2005، وبالتالي إلى "أهل السنّة والكيانية اللبنانية". من رياض الصلح إلى رفيق الحريري، وبخاصة بعد استشهاده، سجّل تطور الموقف السنّي "من المصالحة إلى الإلتزام".

توقّف الكتاب مطولاً يطالع محلِّلاً نظرة الرئيس رفيق الحريري، واصفاً إياه ب"القيادة التاريخية"، إلى مستقبل لبنان والعروبة والعرب. انطلاقاً من إيمان بنهائية الوطن اللبناني "العربي الهوية والانتماء" كانت وصية الحريري عبر تيار المستقبل بحيث يرى المؤلف أن هذا الأخير ترجم الوصية رسالة يعمل على تحقيقها من خلال ثورة الأرز التي انبثقت عن الحركة الشعبية الواسعة التي قامت في 14 آذار على إثر استشهاد الحريري. وكان اختزال لثورة الأرز بغض النظر عن المكوّنات الأخرى الفاعلة جداً وهي جزء وازن في هذه الثورةكما يؤكد عنوان الفصل بأنها "مقاومة شعب".

وأتى تقييم هذه المقاومة، على صغر عمرها اقرب إلى الإيجابي خاصة ك"حركة خيار وطني بامتياز" تنقل لبنان "من التسلط إلى السلطة". أما الأخطاء فتبدأ بعدم القيام بنقد ذاتي وهنا تأتي النصائح المبنية على "قراءة جيوسياسية" للمعطيات المتوافرة التي يفنّدها المؤلف الذي لا يتوانى عن الكلام عن "إخفاقات الحركة" مؤكداً بذلك موضوعية حاول الاستناد إليها بقوة.

- ثم، وعلى مدى ستين صفحة،حلّ القسم الخامس والأخير من الكتاب تحت عنوان "من أجل استراتيجية متكاملة لدولة قوية قادرة" وهو يبدو غاية الغايات. بيت القصيد الأول هو ستراتيجية حزب الله التي يبرّر خليفة تناولها على مدى فصلين بقوة الحزب العسكرية ورؤيته الدفاعية ودوره المستمر. ويطرح هنا العديد من النقاط المحورية التي هي قيد تداول وتنظير وتساؤل على الساحة اللبنانية على غرار : تحديد دوافع وأشكال العدوان وبالتالي "لزومية وضع استراتيجية دفاعية" في ظلّ معرفة نقاط القوة والضعف لدى كل من إسرائيل ولبنان إضافة إلى "خيارات لبنان العسكرية" مع طرح مقولة "التنسيق بين الجيش والمقاومة" إلى جانب الفرضيات المتداولة.

ولم يتوانَ خليفة عن تخصيص فصل يقدم فيه "ملاحظات نقدية حول رؤية حزب الله للاستراتيجية الدفاعية" مستعيناً بآراء عدد من "كبار العسكريين اللبنانيين" متوقفاً عند بعض الإشكاليات المحورية :  -حزب الله لا يرى خطراً على لبنان إلا من إسرائيل بينما هناك تهديدات لمصالح لبنان من أفرقاء آخرين أُبقيت أسماؤهم هذه المرّة في قلب الشاعر؛ _"المقاومة والشرعية" والواجب الديني الجهادي الشيعي؛ -الشرعية الدولية؛ -العلاقة بين الدولة والمقاومة؛ -تأثير كلٍ من سوريا وإيران على ستراتيجية حزب الله مادّياً وثقافياً.

أما بالنسبة ل"الاستراتيجة اللبنانية" أي "الوطنية" فيحدّد المؤلِّف مبادئ الستراتيجية "المتكاملة" وهي لا تتوقف عند ما يتعلق بالقوة العسكرية بل : -هي كل ما يعني واقع الدولة والشعب و"القدرات المادية والمعنوية" وتحديد العدو وما يستهدفه؛ -وهي أيضاً تقوم على الأخذ بالاعتبار لستراتيجيات الآخرين في المحيط و"بالتنسيق... مع جامعة الدول العربية"؛ _وتفترض طرحَها على "كل اللبنانيين".

وفي موضوع الستراتيجية الدفاعية بالذات يتوقف المؤلف عند "لبنان بين مطامع إسرائيل ومطامح سوريا" ويحدّد "الخصم" و"المنافس" و"المختلف" ليتوقف عند الميزان العسكري بين لبنان وكلٍ من إسرائيل وسوريا. ويصل إلى طرح "خيارات لبنان الاسراتيجية لمواجهة كل التهديدات" بالاعتماد على الخصوصية اللبنانية والتهديدات المتنوعة المصادر وتصوّر الردّ المناسب. الخيار الأول هو الجيش اللبناني ولما هو "غير مهيأ ولا قادر على مواجهة القوى التي تهدد لبنان" إنه "يشكل جزءاً من استراتيجية الدولة". أما الخيار الثاني فهو "المقاومة الشعبية" والأخص حزب الله لكنها هي أيضاً غير قادرة على حسم المواجهة مع إسرائيل. وبالتالي يأتي خيار "التنسيق بين المقاومة والجيش" وخيار "الأحلاف والقوات الخارجية".

ولما كان لكل من هذه الخيارات نقاطُ ضعفها وسلبياتُها، وصل خليفة في النهاية إلى "الخيار الوحيد المناسب للبنان : حياد لبنان الدولي". بعد تحديد "شروط الدولة الحيادية" وهي تكون "دولة حاجزة"، "هل يستوفي لبنان شروط الدولة الحياديّة؟" و"أي حياد؟". بالنسبة للشروط هو رأى أنها تبدو مؤمّنة إن جغرافياً أو سوسيولوجياً أو ستراتيجياً. وإذا كان الحياد عامة مفيداً للدولة المحيَّدة وللقوى المعنيّة بما يساعد في تأمين السلم فللحياد اللبناني  "مميزات" : إنه "يجسّد إرادة وآمال الشعب اللبناني" وهو "الإلتزام بلبنان الاستقرار" وبالقضايا العربية، إنه "الضرورة" و"الضمانة". وبالنتيجة يخلص خليفة إلى أن خيار الحياد هو عملياً خيار "لبنان أولاً" وإن لم يكن قبوله سهلاً داخلياً وإقليمياً...

أخيراً، لا بدّ من أن أشير إلى الجهد الكبير، المضني بلا شكّ، الذي ارتكز إليه الكتاب من حيث المضمون والتوزيع. وهنا أسمح لنفسي بأن أستأذن دكتور خليفة لألفُت إلى أني أودّ تسجيل عدم اتفاقي التام معه حول اعتماد أو مقاربة بعض النظريات الواردة كمسلَّمات في الكتاب. من أبرز هذه النظريات نظريةٌ احتلت موقعاً محورياً فيه أي : لبنان "الدولة الحاجزة". علمياً وواقعياً أرى مآخذ جدّية حول اعتبار أن هذه النظرية تنطبق تماماً على وضع بلدنا الجيوسياسي حتى وإن اكتفي بالقول بلبنان "شبه الحاجز" (ص 367)... كما أني أرى ضرورة في التبحّر أكثر في أبعاد وحدود مسألة "الحياد" بالنسبة للبنان من وجهة نظر العلاقات الدولية والقانون الدولي العام والمعطيات الجيوسياسية المحيطة بحيث يكون الحياد مبتغىً أو مرتجىً نسعى إليه لتفادي العديد من الأخطار المحدقة دون التمعّن فعلاً في الظروف والمعطيات التي تسمح باللجوء أو بالأخص الوصول إلى مثل هذا الموقع الآمن. فالشروط لا تبدو لي في الواقع مؤمّنة وهي لا تقف تماماً عند إرادتنا ولهفتنا... قد يكون الجواب الوحيد أنه علينا أن نسعى لتأمين تلك الشروط.

في كل حال، تبقى قيمة الكتاب غيرَ منقوصة وهو الموجّه بشكل خاص إلى أهل السياسة والقرار، على الأقل في بعضه، بمعنى لفت الانتباه بجرأة إلى بعض الأمور التي اعتبرها خليفة أساسية لتشكيل القناعات الوطنية والغايات المصيرية وأسسَ النضال... هو لم يهادن، كما في العديد من المواضيع ، لقد سمّى عامة المواقف بالتسميات التي قد تثير بعض الحساسيات. لكننا وجدناه أيضاً يتخذ حذره ويلفت الانتباه عن حقّ إلى عدم التسرّع في الحكم على بعض كلامه كما درجت عليه العادة عامة عندنا : "للمرة العشرين نؤكد أن إيراد سوريا إلى جانب إسرائيل لا يعني المماهاةَ بينهما أبداً بالنسبة لموقفهما من لبنان" (ص 356).

على كلٍ، نحن بحاجة لأن ينصت الناشطون والفاعلون السياسيون أكثر إلى أهل الفكر والعلم والقلم فقد تكون في ذلك الفائدة الأكيدة.

شكراً دكتور نبيل خليفة على هذه القيمة المضافة التي أجدْت بها على مكتبتنا.

في التوقعات :

ص 165-166 يتوقع، في 2007، مغامرة لبنانية من قبل باراك. كانت غزّة... ولم ينجح العمل في الانتخابات في مطلع 2009....

  "دول حاجزة" و"هي شبه حاجز" ؟ ص 367

      في كل الأحوال، إن الكتاب موجّه بشكل خاص إلى أهل السياسة والقرار


  كلمة الدكتور سعود المولى

مقدمة:    أود بداية أن أشكر الحركة الثقافية في انطلياس على استمرارها وصمودها في الزمن الصعب.. وأجدد العهد للاصدقاء الذين عرفتهم منذ أيام النضال في الجامعة اللبنانية من أجل العلم والخبز والحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة، فأقول لهم تحية الى هذا الصرح الشامخ المتجدد والحاضن للثقافة وللتنوع وللابداع،تحية الى حركتكم الديمقراطية الطليعية..

 ثم أحيي الصديق الدكتور نبيل خليفة على كتابه-المألفة ،والوصية، والمعلم، ليس فقط له وانما أيضاً لكل جيلنا الطامح الى سلام واستقرار وعدالة وكرامة تحت كنف  دولة مدنية ديمقراطية..

وبالانتقال الى مناقشة الكتاب أسجل اغفاله مسألتين اساسيتين لعل تركيزي عليهما يعود الى انشغالي في ممارسة العلوم الاجتماعية فترة طويلة من الزمن حتى صار عندي هاجس ووسواس في ملاحظة الوقائع والظواهر الاجتماعية التاريخية الخاصة بلبنان.. فباعتقادي انه لا يمكن فصل مسألة الناس أولاً والنظام السياسي ثانياً عن مكونات وعناصر الجيوبوليتيك....ذلك أنه لا يمكن اختزال الناس او المجتمع بمقولة السكان وبالاحصاءات حول عدد السكان..وفي السياسة لا يوجد دولة بدون ناس ومجتمع... وليست الحدود هي التي تحدد وحدها  الجيوبولوتيك الخاص ببلد...ولعل هذا الامر أخطر واهم ما يكون في بلد مثل لبنان الذي نتفق على وصفه بانه مجتمع طوائف..... وقد انقسم اللبنانيون طويلاً حول فهم الطوائف في لبنان وفهم ديناميكية اشتغالها..كما انقسموا وما يزالون حول النظام السياسي الانسب لهذا البلد..والحال انني سأطرح رؤيتي هنا التي ارجو أن تكمل معالجة نبيل خليفة للمسالة... فأقول انه لا يمكن تحديد الجيوبوليتيك الخاص بلبنان من دون تبيان تلك العلاقة الجدلية التاريخية ما بين الداخل والخارج والتي نسميها علاقة الاستقواء-الغلبة...كما انه لا يمكن بلورة مشروع لبناني حقيقي أو استراتيجية أو خيار وطني استقلالي يخرج من إطار الغلبة والاستقواء ومن الارتهان للتدخلات الخارجية ، من دون الأخذ بالاعتبار موقع لبنان الاستراتيجي وبيئته الجيوسياسية الى جانب التشكل السوسيوتاريخي للمجتمع اللبناني بطوائفه ومذاهبه وتياراته وعصبياته ، ولمصالح وهواجس الطوائف كما لحقوق افراده المواطنين الاحرار في دولة مدنية. والتحدي أمامنا جميعاً هو اجتراح تلك الصيغة السحرية التي توفق بين الاتصال والانفصال ، بين الاستقلال اللبناني والانتماء العربي (ميثاق 1943-اتفاق الطائف 1989)، بين امكانات لبنان وضرورات الموقف العربي الممانع، بين حقوق الطوائف وحقوق الافراد ، بين التوافقية الميثاقية والممارسة الديموقراطية الدستورية...والأمر يبدأ بفهم واقعي للمؤثرات الداخلية والخارجية التي منعت وتمنع حتى اليوم تجسيد الكيان اللبناني في دولة حرة سيدة مستقلة...

1= لا يختلف اثنان حول العلاقة الجدلية ما بين الاستقلال والسيادة من جهة والسلم الاهلي
والوحدة الوطنية من جهة ثانية....ولا يختلف اثنان على ان الاستقواء بالخارج كان مشروع غلبة
في الداخل ، كما ان الغلبة في الداخل كانت وما زالت تستجر حتماً التدخل الخارجي..فالعلاقة
بين المؤثرات الداخلية والخارجية التي تمنع قيام كيان وطني ومؤسسة عسكرية أمنية وطنية،
هي علاقة تفاعل وارتباط متبادل وعنوانها العام دور العصبيات العشائرية-الطائفية كقوى
نابذة على صعيد الوطن وكقوى مفككة على صعيد المؤسسة الوطنيات واولها القوى العسكرية-الامنية..

2= عبر تاريخ لبنان، لعبت العصبيات العشائرية والتضامن الطائفي دور التيارات النابذة (forces centrifuges) بحيث أدت الصراعات بين الداخل العربي-الاسلامي والخارج الغربي- المسيحي الى قيام حواجز نفسية منعت التحام سكان الجبل بالسواحل والسهول الداخلية، بالرغم من الوحدة الثقافية-اللغوية-العرقية التي تجمعهم في البوتقة الحضارية العربية...

3= استقرار قواعد توزيع السكان والطوائف في القرن الثالث عشر-الرابع عشر(حملات المماليك على جبيل وكسروان والشمال)،بعد التحولات الاموية فالعباسية،أرسى تفكك المناطق اللبنانية وانعدام الوحدة السياسية والوطنية برغم سيادة اللغة العربية وعلاقات القرابة العربية.. العصبيات العشائرية الطائفية كانت قوى عسكرية حزبية في الوقت نفسه...

4= النظام الاقطاعي الفدرالي شبه المستقل ذاتياً والذي قام عليه الحكم العثماني للبنان، أدى الى ظهور التيارات الجاذبة (forces centripètes) التي ساعدت على بلورة الشعور الوطني اللبناني لاحقاً....  حيث يبدو أن فترة الامارة في الجبل عرفت وئاماً طائفياً واختلاطاً سكانياً جغرافياً واقتصادياً ، على قاعدة وجود ادارة سياسية-عسكرية مشتركة خلقت قواسم وطنية مشتركة..

5= كما ان العصبيات الحزبية القيسية- اليمنية كانت دمجت زعماء الطوائف في تيارات وجماعات سياسية مشتركة متجاوزة للطوائف..وهي حزبيات حاربت ضد بعضها البعض بغض النظر عن الانتماء الديني الطائفي..فهنا ايضاً قاعدة لوحدة صف متجاوزة للطوائف كانت في أساس العصبية  اليزبكية- الجنبلاطية ثم  الانقسام الدستوري- الكتلوي في المراحل اللاحقة.....

6= نظام الامتيازات العثماني للدول الاوروبية ،و نظام الملل العثماني في الادارة الداخلية لشوؤن الطوائف،ضاعف من سيطرة وسطوة الزعامات الدينية والعائلية على طوائفها وعشائرها..  وبذا فإن التيارات النابذة والتيارات الجاذبة كانت تتصارع على أرضية التوازنات الخارجية بين السلطنة العثمانية ودول اوروبا.. خاصة وان الدخول الغربي الاقتصادي- الاجتماعي والثقافي- التربوي ، فاقم من التفاوتات بين المناطق والطوائف اللبنانية..

7= انهيار نظام الامارة واندلاع النزاع الطائفي الاول(1840) ثم الثاني(1860) ارتبط بتوازنات الصراعات الاوروبية حول الرجل المريض (الدولة العثمانية)...وببحث الطائفتين المارونية والدرزية عن دعم خارجي للاستقواء به في الداخل دفاعاً عن ميزان قوى قائم او لتعديله.. فالمثال القوي على الصلة ما بين الاستقواء بالخارج والغلبة في الداخل تقدمه حالة الموارنة والدروز في الفتنتين الاولى والثانية..حيث أدى الصراع الدولي للسيطرة على المنطقة الى صراع بين الاقطاعيين اللبنانيين على السلطة المحلية، على قاعدة استشعار الموارنة بقوتهم المستجدة للتخلص من الاقطاع الدرزي والحكم العثماني وبتشجيع اوروبي مماثل لتشجيعهم الحركات القومية المسيحية في البلقان..الأمر الذي حدا بالموارنة الى طلب الدعم الفرنسي، وبالدروز الى طلب الدعم الانكليزي..

8= نظام القائمقاميتين ونظام المتصرفية كانا نتيجة حرب اهلية داخلية من جهة، وتدخلات دولية خارجية من جهة ثانية، أنتجت توازنات جديدة في علاقة الدولة العثمانية والدول الاوروبية (ازدياد النفوذ الاجنبي،مقتضيات التوفيق بين مصالح وسياسات الدول الغربية المتصارعة،وبينها وبين الدولة العثمانية)، كما في علاقات الطوائف اللبنانية وميزان القوى بينها...

9= الفكرة اللبنانية (والتيار القومي اللبناني) انطلقت من الوجود الماروني المستقل(والرافض لصيغة الحكم الاسلامي)،والكنيسة كانت هي العمود الفقري لتلك الفكرة والجسم الذي تجسدت فيه قبل قيام دولة تكرسها..هذه الحزبية - العسكرية كانت الاساس الايديولوجي والتنظيمي  لليمين المسيحي في المرحلة اللاحقة..

10=التيار الاسلامي العام كان عثمانياً يرفض انهيار الدولة او تمزيقها وتقسيمها..وهو تجسد في الزعامات السنية في المدن كما في زعامات القبائل والعشائر والطوائف الملتحقة بالسلطة المركزية والمستفيدة منها. وهذه الحزبية- العسكرية المرتبطة بالدولة كانت الاساس الايديولوجي للتيارات الاسلامية والقومية اللاحقة...

11= التيار القومي السوري-العربي (تدعمه فرنسا وبريطانيا كل لمصلحتها في بسط نفوذها على المشرق) نما وتطور على قاعدة حقوق الاقليات،وخوف تلك الاقليات من تياري اللبننة الماروني والعثمنة الاسلامي..وذلك في مرحلة ما قبل سقوط الدولة العثمانية..

12= في اساس تبلور التيارات والقوى اللبنانية نجد سياسات التدخل الاجنبي في دعم استقلال الاقليات عن الدولة العثمانية..ووراثة تركة الرجل المريض..ونموذج اليونان والبلقان كان المثال يومذاك..فيكون الاستقواء بالخارج اساساً لغلبة داخلية..كما نجد الاستقواء بالدولة العثمانية كاساس لاستمرار الغلبة المقابلة  ...وقد انعكس ذلك بالطبع وبالضرورة على واقع ودور التشكيلات الامنية والعسكرية كما التكتلات الحزبية السياسية...

13=لم تهضم الاحزاب اللبنانية الحديثة معنى التسوية التي قام عليها لبنان، ولا هي آمنت أصلاً بوجود أو معنى أو دور لهذا الكيان اللبناني..وهي لم تستطع بالمقابل ان تقدم بديلاً علمانياً وطنياً لهذه التسوية التوازنية الطوائفية...فالحزب الحديث قام في اوروبا تلبية لحاجة موضوعية داخلية بينما الحزب الحديث عندنا نشأ في فترة غلبة القوى الاستعمارية الخارجية على الداخل بعد انهيار الدولة العثمانية،فلم يتواجد هذا الحزب على المستوى الواقعي بل كان على هامش الحياة السياسية للبلاد وقضاياها..الحزب الحديث كان مجرد جهاز ايديولوجي مركزي يعكس حاجات ورغبات نخب مثقفة في قطاعات وكتل حديثة وفي الوقت نفسه يتوزع على، ويستند الى، علاقات تقليدية لا صلة لها بنصه التأسيسي...ولذا كان هذا الحزب محكوماً بالتناقض أولاً وبالهامشية ثانياً وبالفشل ثالثاً..الأمر الذي نعيش آثاره ونتائجه الى يومنا هذا..

14=لم تنجح الاحزاب الكيانية اللبنانية في تحويل الفكرة اللبنانية الى مشروع دولة ومجتمع ووطن..فهي استمرت تحكم اثر التسوية التاريخية (ميثاق 1943) بنفس عقلية مرحلة الانتداب فلم تلحظ المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية على مستوى العلاقات بين الطوائف ومواقع واحجام وادوار تلك الطوائف... ولم تلحظ المتغيرات الاقليمية والدولية بعد العام 1973 فاستمرت بعقلية الحلف الثلاثي الناشئ إثر الهزيمة العربية في حرب حزيران 1967.. الامر الذي قاد البلاد الى الحرب الأهلية على قاعدة موازين قوى خارجية وداخلية جديدة تجمع كالعادة بين الغلبة الداخلية والاستقواء الخارجي حين ترى امكانية الانقضاض وتحقيق الحد الأقصى من مطالبها...

15=ان قراءتنا السوسيولوجية-التاريخية للاحزاب السياسية اللبنانية تجعلنا نؤكد انه لا وجود للحزب الاوروبي الحديث والصافي في لبنان، سواء بالمعنى العلماني الليبرالي الذي يقوم على اساس العقيدة الايديولوجية او السياسية (بحسب موريس دوفرجيه) أم بالمعنى الماركسي اللينيني الذي يقوم على أساس التمثيل الطبقي او الوحدة الاقتصادية (بحسب الرفيق لينين وأشياعه)...الحزب عندنا هو الحزب\ الطائفة، والحزب \العشيرة ، والحزب\ الحي او الزاروب او القرية الخ...وهذا التصنيف لا ينطبق فقط على الاحزاب التي تعلنه وتفخر به (أحزاب الطوائف والمذاهب)، بل هو ينطبق أصلاً على تلك الأحزاب التي تقول انها تتجاوز الانقسامات التقليدية والعصبيات القائمة نحو السعي الى توليد حالة نموذجية خاصة (علمانية وطنية أو مدنية ديموقراطية)..فهذه الأحزاب (يمينها ويسارها) ليست أكثر من تشكيلات مركزية منظمة تقوم على تكتلات وتجمعات "ايديولوجية" ،اي أن لحمتها وعصبها وعشيرتها هي الايديولوجية دون ان يعني ذلك انها تخرج عن السياق العام للانقسامات التقليدية في البلاد والتي تفعل فيها عوامل الانقسام الداخلي والتدخل الخارجي....الأمر الذي يجعل هذه الاحزاب أسيرة (عن وعي أو غير وعي لا فرق) للتجاذبات والمحاور الطائفية كما للتدخلات الخارجية....

16=كان اتفاق الطائف عقداً اجتماعياً جديداً أبرمه المسلمون والمسيحيون من أجل العيش معاً في ظل نظام سياسي توافقوا على أساسياته. ويلزم بالتالي إسلاميا ويلزم سياسياً ووطنياً، الوفاء بكل مقتضيات ومستوجبات العهد( ان العهد كان مسؤولا، كما في القراّن الكريم).. وقد قرر المسلمون في هذا العقد الاعتراف بلبنان وطناً نهائياً لجميع بنيه وأكدوا على ثوابت الوفاق ورفعوا ميثاق العيش المشترك إلى مستوى المرجعية التي تعلو حتى على الدستور (لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك).

17= ومنذ الطائف وانتهاء الحرب وبداية مرحلة السلم الأهلي، ورغم كل الانتكاسات والعراقيل، حصل تطور كبير في العقل السياسي اللبناني ( الإسلامي والمسيحي على السواء) تمثل بفهم جديد متوافق عليه لقضية الكيان..فلم يعد المفهوم (نهائية الكيان) مفهوماً سكونياً ( خارج التاريخ: كما كان على أيدي غلاة الفينيقية والفرعونية وغيرها)... وصار الكل ( على اختلاف وتنّوع طبعاً ) يقر بتاريخية المفهوم أي بضرورة وضعه ضمن أطره المرجعية التاريخية والاجتماعية والثقافية الخاصة. والمتابع لتطور الفكر السياسي الإسلامي اللبناني لا بد وأن يلحظ  التقدم الكبير الذي حصل على مستوى الإسلام السني (وتيار المستقبل والجماعة الإسلامية تحديداً) في هذا الصدد ( علماً انه كان محسوماً أصلاً  في  وعي وممارسة الشيعة منذ الامام السيد عبد الحسين شرف الدين وصولاً الى الامام السيد موسى الصدر)..

18=هذا التطور الفقهي والكلامي أمر ندين بخواتيمه كمسلمين  لرؤية الإمام الصدر ولاجتهادات الإمام شمس الدين كما للممارسة العاقلة والمتوازنة التي حاول الرئيس الحريري تجسيدها خصوصا حين كان يذهب إلى المعارضة.. وبالمقابل لم تعد العروبة ( وهي كانت الطرف الآخر من معادلة الانقسام الداخلي) تعني نزعة قومية لوحدة قسرية تفرضها دبابات الحزب الواحد والقائد الأوحد وتتحول إلى عصبية عشائرية جهوية مذهبية أين منها الطائفية السياسية اللبنانية..كما أنها لم تعد موجة اسلاموية لغلبة أكثرية..وصار الحديث يدور أكثر حول العروبة الحضارية: روابط اللغة والثقافة والتراث والتاريخ والجغرافيا والجوار والمصالح والعلاقات السوية الطبيعية والمنافع المتبادلة..وصار المثال الأوروبي والمثال الاميركي الفدرالي حاضرين أكثر في فهم ووعي واستشراف مصائر البلدان العربية خصوصا بعد انكشاف وانهيار التهويمات الإيديولوجية القومجية التي كانت تخفي أبشع إشكال التفتت والتجزئة والاستبداد..

19= إن الفهم الجديد للكيانية وللعروبة ولعلاقتهما التاريخية والمصيرية هو في الحقيقة فهم تسووي أي انه ليس "جوهريا"..إذ ليس هناك من جواهر أزلية مطلقة( غير الله ) بل حراك اجتماعي سياسي ثقافي ومساع تسووية على غير صعيد..وهذا الفهم التسووي للاجتماع اللبناني يستعيد في الحقيقة حقائق الاجتماع البشري ودروس التجربة اللبنانية وهو مدين أيضا للتطويرات الفذة للإمام شمس الدين كما للوثائق النظرية الصادرة عن المؤتمر الدائم للحوار اللبناني عام 1993.  ولقد عملنا على تأصيل وتعميق هذه المعاني مركزين بالأساس على ضرورة الوعي المسوؤل للمسألة الطائفية...ذلك أن تجاوز الطائفية والمذهبية والعشائرية نحو دولة الحق والمؤسسات وسيادة القانون إنما تكون بصيانة العيش المشترك أولا، وبمعرفة إدارة الاختلاف بالحوار ثانيا، وبالتسويات الحضارية النبيلة ثالثا، وبثقافة الانفتاح والوسطية والاعتدال وقيم الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان في مطلق الأحوال والأمكنة والأزمنة

20= أعاد هذا الحوار الفذ الخلاق موضعة الطوائف في إطارها الثقافي-الاجتماعي وحاول نزع "الاسطرة الدينية" عنها..فهي متحدات اجتماعية-ثقافية تملك دينامية لا تنبع من الانتساب الديني ( أو المذهبي )أو من تقوى الأفراد ( تدينهم والتزامهم: وهو حتما مضحكة في حالة بعض القوى الطائفية!) وإنما من العصبية..والعصبية هي مزيج نفسي سوسيولوجي ..فهي في اّن قوة تماسك الجماعة وشعورها بخصوصيتها ووعيها لطموحاتها الجماعية، كما هي تعبير عن هذا التوتر الذي يحرّكها ويدفعها تدريجا -ومن دون أن يكون لها حرية الاختيار- نحو السيطرة على السلطة ...أي وبلغة ابن خلدون  " إن الملك غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه"..وبلغة علم الاجتماع السياسي المعاصر فانه لا وجود للطائفة إلا داخل منظومة طائفية أي داخل حقل صراع على السلطة والتوزيع.....

21= وفي بلد متعدد الطوائف كلبنان ، يكون السؤال الدائم حول النظام السياسي الأمثل أو الأنسب الذي يحقق الاستقرار والاستمرار ويضمن الامن والامان ويكفل تحقيق الذات والازدهار للجميع .

وفي الدول التعددية هذه غالبا" ما يدور الحوار والصراع حول ماهية المجتمع والدولة والكيان ، وحول الانتماء والهوية ، وحول المعنى والدور . وقد عرف التاريخ السياسي الحديث بروز ثلاثة اتجاهات إيديولوجية:

الاتجاه اليعقوبي الراديكالي الداعي الى "المساواة الثقافية" أي الى القضاء على الاختلافات والتنوّعات تحقيقا" لمبدأ وحدة الجمهورية وسلطتها المركزية .. والمثال الفرنسي اليعقوبي حاضر أمامنا حيث وضع اليعاقبة لغة واحدة محررة من أية خصوصية ونظاما" تعليميا" موحدا" يقضي على لغات الاقليات او لهجاتها وعملوا على القضاء على كل ما يقف في طريق الوحدة السياسية والثقافية عبر الارهاب الثوري لبناء جمهورية واحدة موحّدة وعبر العمل الارادوي ونشاط الدولة.. وقد استوحى العالم الثالث هذه الايديولوجيا تحت شعار بناء الامة والحقيقة القومية الاجتماعية ومحاربة القبلية والعشائرية والطائفية ..

ومقابل ذلك تنشأ ايديولوجيا تعبئة الهويات استنادا" الى الأصل الاثني- الاقوامي أو الى اللغة أو الدين أو التاريخ أو الثقافة والدعوة الى الخصوصية والتمايز والى الانفصال أو الاستقلال الذاتي داخل الدولة الواحدة .. ومن الغريب ان نجد في  لبنان قوى سياسة تجمع بين الايديولوجيتين اي بين جمهورية اليعاقبة وبين خصوصية وتمايز من موقع طائفي او فئوي يؤسس لخطابه وسلطته تحت سقف الدولة الواحدة التي يريدها مركزية موحَّدة صاهرة تقمع المخالفين والمختلفين .. ويكفينا نموذج حزب الله الشيعي أو الحزب الاشتراكي الدرزي أو الحزب القومي السوري أو حركة أمل أو حزب البعث ، أو حزب الكتائب أو الكتلة الوطنية أو غيرها..

أما الاتجاه الثالث فهو المسمى بالوطنية التوفيقية اذ يدعو الى التوافق ضمن دولة- أمة- وطن أي على التعددية على أساس التجمعات القائمة والنامية وذلك لعدم واقعية أو امكانية القضاء على التجمعات وثانيا" بسبب العيش المشترك بينها(وهذا ما تؤكده التجربة اللبنانية كما تجارب عالمية اخرى) .

22= وفي الاطار السياسي الدستوري برز الكلام على الديمقراطية التوافقية أو ديمقراطية التوافق Konkordanzdemokratie وخصوصا" لدى جرهارد لاهمبروخ Gerhard Lahenbruch  وكان أسماها أولا" ديمقراطية التناسب Proporzdemokratie وقد صاغ العالم النيذرلندي آريند ليجبهارت Arend Lijbhart مفهوم الديمقراطية التوافقية باسلوب واضح وشامل... وفي حين ان  لاهمبروغ قد ركّز على معنى المفهوم السياسي الذي نشأ تاريخيا" بالنسبة  التعايش الديمقراطي التوافقي ، فان ليجبهارت قد ركّز على الآليات الدستورية الملائمة لذلك ..

23= وقد برز الى الوجود مؤخرا" تيار فكري كبير يُعيد النظر في صيغة النظام السياسي الأنسب في المجتمعات غير المتجانسة ، وحتى في المجتمعات شبه المتجانسة ، وفي نموذج تسوية النزاعات في الدول ذات الطوائف او الفئات او المجموعات المختلفة وذلك على أساس ان قرار الاكثرية (الديمقراطية العددية) في مثل هذه المجتمعات لن يكون الا قرارا" انحيازيا" لمصلحة المجموعة الاكثر عددا" وان صيغة التوافق بين المجموعات وتشاركها في السلطة هي الصيغة الانسب وهي صيغة لا تقوم الا على التسويات الدائمة.. وفي هذا الاطار نشير الى مدرسة مجلة Telos في أميركا والى مدرسة مجلة Krisis  في فرنسا ، كما نشير الى وثائق المؤتمر الدائم للحوار اللبناني  والى مجمل الحوار والصراع والتجديد الفكري الذي يرفض الاكتفاء بمدرسة النموذج المركزي الناجم مباشرة عن الثورة الفرنسية وعن تيارها الجمهوري اليعقوبي ، والذي يدعو الى اعادة الاعتبار لمدرسة النموذج الفدرالي الذي كان في أساس تجربة الولايات المتحدة الاميركية وغيرها . وتجدر الاشارة هنا الى ان النموذج الفدرالي التوافقي التشاركي هو الذي يلتقي مع الفقه السياسي الاسلامي كما عبّر عنه الامام الراحل محمد مهدي شمس الدين وخصوصا" في كتابيه : " نظام الحكم والادارة في الاسلام "، وفي " الاجتماع السياسي الاسلامي "، كما في وصيته الاخيرة....

نحو إطار مرجعي جامع

24=هل يمكن بناء وطن ودولة استنادا" الى أُطر مرجعية اُصولية لا تلتقي إلا على نقض الوطن وتهديم الدولة وتوزيع مغانمها؟ وأقصد بالاصولية هنا شتى أنواع الايديولوجيات القصوى ، التي تعتبر نفسها هي الحقيقة وهي الحل ( من قومية لبنانية أو سورية أو عربية أو اسلامية... إذ لا فرق بينها الا في علاقتها بالسلطة أو في موقعها المرحلي من النظام) !.

ان تحديد إطار مرجعي جامع هو الذي " يُسهّل التفسير المجمل الذي يجمع بين اللبنانيين كافة" أي انه يوفّق بين وجهات نظر لبنانية متناقضة او مختلفة ، ويتوافق مع طبيعة تكوين المجتمع اللبناني ، ويكون إطارا" للفهم وللعيش في آن معا". ان ما لا ينجح الاصوليون في فهمه هو ضرورة الفصل والقطع ما بين الايديولوجيا والسياسة، لكي يمكن تفسير وفهم وعيش وتكوين وتطوير مجتمعنا ونظامنا السياسي...

25= الاطار المرجعي الجامع لا يمكن ان يكون إسلاميا"، أو مسيحيا"، أو انصهاريا"، أو تقسيميا".. فكل إطار من هذه الاطر المرجعية كاف لوحده لتفجير الصيغة اللبنانية مرارا" وتكرارا".. وهذا ما قصده الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين حين أكّد على" انه لا يمكن قيام مشروع اسلامي او مشروع مسيحي في لبنان، لان ايا" من المشروعين سيفجر لبنان وسيفجّر نفسه". وقد حدد الامام فهمه للكيان اللبناني بقوله: ان " تكوين لبنان الحديث لم يُنجز لأن الفرنسيين أرادوا ذلك ، ولا لأن المسيحيين أرادوا ذلك وأجبروا المسلمين عليه ، أو لأن المسلمين أجبروا المسيحيين على ذلك، ولكن لأن المسلمين والمسيحيين معا" أرادوا ذلك. لذا أمكن إيجاد لبنان" . وحسب الامام فانه " في أول الامر كان هناك كيان مسيحي خالص، والمناطق الاسلامية في لبنان الفعلي كان يمكن ان تكون الآن جزءا" من سوريا " الا ان اللبنانيين توافقوا على تكوين هذا الوطن.. وهو اعتبر ان فشل صيغة 1920 وصيغة 1943 ، كان " لأن القيّمين عليها فشلوا في إدارتها" .. لقد فشل المسيحيون، والموارنة منهم بوجه خاص ، في جعل تلك الصيغة قابلة للتطور ومسايرة التغيّرات التي طرأت على لبنان ومحيطه وعلى العالم.. الآن نحن نصنع صيغة جديدة فيها الكثير من صيغة 1943 وفيها بعض التغيير الذي يستجيب للحقائق الجديدة أو للحقائق القديمة في لبنان ومحيطه. والذي يتحمل مسؤولية النجاح أو الفشل- لا قدّرَ الله - في هذه الصيغة الجديدة هم المسلمون . نجاح هذه الصيغة الجديدة هو مسؤولية المسلمين وليس مسؤولية المسيحيين.. من هنا قلنا ونكرر وسنظل نكرر بأن طريقة المسلمين في المشاركة في عملية الحكم والادارة وفي الخطاب السياسي وفي الخطاب التعبوي يجب ان تأخذ في الاعتبار هذا الامتحان. لا نريد ابدا" ولا نرضى أبدا" ان يكون هناك أي خطاب سياسي أو تعبوي يجعل المسيحيين يندمون أو يترددون في خيارهم الذي اختاروه في هذه الصيغة الجديدة. يجب أن تتوفر لها جميع عناصر النجاح ، لأنها إذا لم تنجح فسيكون المسلمون هذه المرة مسؤولين عن فشلها كما كان المسيحيون مسؤولين عن فشل الصيغة الأولى .من هنا ندعو السياسيين والقياديين الى أن يباشروا الأمور برفق ، وألا يدفعوا الأمور نحو أزمة في ما يتعلق بالاختيارات الكبرى في شأن الدولة والمجتمع ، وا ن تكون روح الحوار والانفتاح والإخلاص لهذا البلد ولشعبه الذي يستحق كل التكريم .. أن تكون هذه الروح هي الروح الحاكمة .لن يكون لبنان مسيحيا" ذا وجه عربي أو إسلامي ، ولن يكون إسلاميا" ذا وجه مسيحي أو أوروبي . لبنان هو لبنان . هويته تتكوَّن من تنوعه.. من هنا أقول : إذا كان الخطاب السياسي الإسلامي يعاني من خلل ما ، فعلى القيّمين على هذا الخطاب في الحكم وفي المجتمع أن يعيدوا النظر في عناصره لكي نخرج نهائيا" من عقلية الفتنة ، وندخل بصورة نهائية في آفاق الوحدة والتعاون لتثبيت وترسيخ صيغة العيش المشترك التي ينفرد بها لبنان في العالم .توجد مجتمعات متنوعة غير لبنان ، ولكنها حتى الآن فشلت في أن تصل الى هذا المستوى من النضج الروحي والإنساني والسياسي بحيث تخترع صيغة العيش المشترك " المقوننة " والمبرمجة(...)

ما العمل: نحو استراتيجية لبنانية ملتزمة

أ= المسلمون ولبنان

أقل التصارح بين اللبنانيين عامة، وفي مقامنا هذا بين المسلمين، الاعترافُ بأن العودة إلى شعار "الدفاع عن حقوق الطائفة" الذي قلما نجا فريق سياسي من التوسل به علانية أو من التوعد به ضمناً، حد الاستقواء بالخارج على شركاء الوطن والإفراط في التترس بمظاهر القوة والغلبة، إنما يورث اللبنانيين المتمسكين بمكتسبات التجربة اللبنانية، وبقيم الحداثة السياسية، إحباطاً لا شفاء منه. من هنا فاننا نرى أن التوادد المنافق بين اللبنانيين تحت عنوان التعايش بات يتدنى عن التحديات التي يواجهها الوطن وأن الأوان قد آن لأن تخرج من صفوف المجموعات الطائفية اللبنانية طلائع تسفه شعار "حقوق الطائفة" وتعلي شعار حقوق الوطن؛ ولعل الشيعة اللبنانيين الذين تعود شبهة التزاحم بين ولائهم الوطني، وبين دفاعهم عن حقوق "الطائفة"، إلى التورم، سواء في وجدانهم وفي سلوكات بعض أحزابهم، أو في نظرة الجماعات اللبنانية الأخرى إليهم، أولى اللبنانيين بأن يبادروا، أو أقله أن تبادر فئة منهم، إلى الصدوع، تحت طائلة الخروج على التضامن المذهبي، بأنه لا شيء  يعلو على ولائهم الوطني، مذكرين بأن هذا الموقف يجد سنده الديني والمعنوي في المراجعة الشجاعة التي قام بها الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين حيث أوصى الشيعة، في عداد ما أوصاهم، بـ "ان يدمجوا انفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم [...] وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميّزهم عن غيرهم تحت أي ستار من العناوين"، (الوصايا، ص27).

ومن هذا المنظار، ليس من شأن المسلمين أن يشكلوا بعد الرابع عشر من آذار، قوة كابحة للتغيير في لبنان، بل خليق بهم أن يشكلوا صمام أمان في مواجهة ما يترصد المنطقة العربية من "حروب أهلية".

ب= في ترميم مفهوم الدولة المدنية واتفاق الطائف

إن ترميمَ مفهوم الدولة المدنية الجامعة المانعة التي لا شريك لها في السيادة وفي رعاية أمن لبنان واللبنانيين، والمشاركةَ في بناء الدولة المنشودة هذه، هما الأفق الوحيد الذي يتطلعون إليه. وفي سياق هذا السعي الذي يشتركون فيه مع لبنانيين من شتى الانتماءات الطائفية والمشارب السياسية فإن اتفاق الطائف، الذي ارتضاه اللبنانيون سبيلاً دستورياً إلى تحديث نظامهم السياسي وإلى توفير العدالة والكرامة والمساواة في حقوق المواطنة، للجميع وبين الجميع، ــ إن اتفاق الطائف يبقى، في منأى من بداهة النظر إليه كنصٍّ يحتمل المراجعة باتفاق اللبنانيين وبما يلبي طموحات التحديث تلك، ــ يبقى الميثاق الملزم لجميعهم، والإطار الناظم لشأنهم العام وحياتهم المواطنية.

إن سيادة الدولة ما زالت تصطدم بعائق بنيوي كبير يتمثل في القيد الطائفي الذي يلقي بثقله على مستقبلنا الوطني، ويحول دون إرساء نظام ديمقراطي يضمن في آن معاً المساواة بين حقوق الأفراد واحترام التعدد الطائفي. ومثل هذا النظام المطلوب يستجيب لمعنى المواطنة الذي تجلّى في الرابع عشر من آذار، من خلال مساهمته في جلاء طبيعة العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه حياتنا الوطنية، وفي تعيين طبيعة الدولة القادرة على تجسيد هذا العقد. فالدولة القوية القادرة العادلة هي دولة تتمتع بسيادة فعلية، فتصون الاستقلال بوضع حدٍ للتدخلات الخارجية التي تستدعيها الصراعات الطائفية بصورة دورية. وهذا يعني أيضاً أن تتصرف الدولة بإرادة حرة، تحت سقف القانون، فتحرر اللبنانيين أفراداً وجماعات من مفهوم "فدرالية الطوائف" وتعيد الاعتبار الى الأبعاد الثقافية للتعدد الطائفي، بوصفه نوافذ حضارية على عوالم مختلفة، لا كهوفاً تقبع فيها الطوائف ، ما يجعل لبنان دولة مستقرة غير مرتهنة للتغيرات الاقليمية.

ج= في مسألة "المقاومة"

إن الخلاصة التي وصل إليها المسلمون اللبنانيون بعد طول تجربة ومعاناة هي أن المقاومة ليست غاية في ذاتها كما يحلو للبعض تصويرها جهلا أو تطرفا... والإسلام هو الذي علمنا أن كل ما في هذا الكون حتى الدين نفسه وجد لأجل الإنسان وليس العكس..ألم يأمر الله الملائكة بالسجود لأدم ؟ ألم يكرّم الله الإنسان ويفضلّه على كل المخلوقات ؟ ألم يعين الله الإنسان خليفة له على الأرض؟ ألم يقل السيد المسيح "إن السبت وجد لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل السبت"...فالإنسان وكرامته وحريته هي أسمى غايات الدين ومقاصده. ذلك أن مقاصد الشريعة الواضحة والمتفق عليها بإجماع الفقهاء والمتشرعين من كل المذاهب هي ثلاثة أقسام: ضروريات وحاجيات وتحسينات، وقد حصروا الضروريات في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال - وبعضهم جعل النفس قبل الدين- وقالوا إن هذه الأمور الخمسة قد ثبتت لديهم بالاستقراء وليس من الإسلام وحده بل "بالنظر إلى الواقع وعادات الملل والشرائع"....وأما الحاجيات فهي كل ما قامت الحاجة إليه من اجل رفع الضيق والحرج والمشقة (الدين يسر لا عسر).. وأما التحسينات فهي في الأخذ بما يستحسنه العقل من العادات والمستجدات وتجنب ما يستقبحه منها، سواء في مجال الحاجيات أو الضروريات...وأضافوا إلى كل قسم من هذه الأقسام ما هو له كالتتمة والتكملة (تكميلات) وجعلوا الضروريات أصلا للحاجيات والتحسينات والتكميلات باعتبار أن "مصالح الدين والدنيا مبنية على هذه الأمور الخمسة المذكورة" أي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال...و كما اتفقوا على أن أحكام الشرع معللة بجلب المصالح ودرء المفاسد..ويعترف العلماء والفقهاء أن مصالح العباد في الدين والدنيا صارت اليوم تشمل الحق في حرية الرأي والتعبير والعمل السياسي والديمقراطية في الحكم والسلطة (أو الشورى إن شئت) والحق في العمل والمسكن وفي التعليم والصحة وفي الحياة الحرة الكريمة... فالمقاومة هي إذن في شرع الإسلام والمسلمين أداة أو وسيلة في خدمة هدف أو أهداف الإنسان والمجتمع والأمة في الوحدة والحرية والكرامة والعدالة..فلا يوجد عالم أو فقيه يقول لك (كما ذهب احدهم مؤخرا) إن المقاومة هي الأصل والمبدأ المطلق وان المجتمع أو الوطن أو الدولة أو مقاصد الشرع، هي فرع تابع أو لزوم مكمل لغرض المقاومة الذي يصير كالمطلق أزلي سرمدي وعلى مستوى العزة الإلهية (والعياذ بالله).ولم نقرأ أو نعرف لأحد من المسلمين رفعاً لشأن الجهاد إلى حد اعتباره بديل الدين أو أصل الأمة أو أساس المجتمع.. وكل ما عرفناه وقرأناه وتعلمناه ووعيناه وعرفه ومارسه قبلنا كل المسلمين هو أن الجهاد باب من الأبواب وانه مشروط بشروطه وانه تحت إمرة الإمام العادل (عند الشيعة)أو الخليفة (عند أهل السنة) وان الشرعي المقبول منه هو الجهاد الدفاعي أي المقاومة ضد احتلال أو ظلم وطغيان وان هذا الجهاد له أبواب تفصيلية في فقه المسلمين وله شروط واعتبارات تقع كلها تحت مستوى مقاصد الشرع ومصالح العباد أو تحت مسمى الحرب العادلة... وفقهاء المسلمين الذين كان الورع والتقوى والعلم يمنعهم من الإفتاء مخافة الوقوع في الخطأ وتحمل مسؤولية الفتوى، كانوا أكثر ما دققوا وربطوا وعقدوا الفتاوى المتعلقة بالجهاد.. ومن يراجع كتب الفقه وتاريخ الإسلام، السني والشيعي والزيدي والخارجي والظاهري، يدهش لكون إعلان الجهاد كان مقيدا بألف قيد وقيد..وكما في كل الشرائع السماوية، فان الإسلام أرسى الضوابط والحدود وحدد السلوكيات والأخلاقيات الواجب إتباعها إذا كان لا بد من الحرب...والحرب العادلة فقط وليس مطلق حرب (أي الجهاد الدفاعي والمقاومة)..... فليست الحرب بالمتعة أو العبادة (كما يقول البعض اليوم جاعلا من الإسلام دين حرب وسيف لا دين حق وعدل ومكارم الأخلاق)، بل هي آخر الدواء حين يكون ذلك مناسبا للمجتمع والأمة... فأين نحن اليوم من الفهم الإسلامي للجهاد وللحرب وللمقاومة؟؟؟

وفي الشرع السياسي الوضعي الدولي المقاومة هي كما قال كلاوزفيتز عن الحرب "امتداد للسياسة بوسائل أخرى"..هي وظيفة نضالية محددة محكومة بأسلوب وطريقة وبضوابط واطر، وبمرجعية سياسية واضحة من حيث حفظ المصالح وجلبها ودرء المفاسد وردعها..وهي شرعية ومشروعة ضمن ضوابط وحدود المجتمع الدولي وقوانينه وأعرافه التي يعترف الإسلام بها كلها على قاعدة الوفاء بالعهود التي نوقعها وندخل ضمنها (إن العهد كان مسؤولا)... وفي المعنى الوطني، أو السياسي الوضعي، فان المقاومة، أية مقاومة، هي حركة سياسية مسلحة ترتبط بإطار ناظم شامل وعميق هو ميثاق البلاد ودستورها وما اتفق عليه أهلها من نظام حكم ومؤسسات، وما تعاهدوا عليه من أهداف عليا وغايات.. وإلا تحولت المقاومة إلى ميليشيا والى حب السلاح... كما أن الميليشيا ليست شتيمة بل وصف للقوى الشعبية المسلحة غير النظامية والتي كانت عنوان افتخار في التجربة الفلسطينية وقبلها في تجارب العديد من الشعوب وعلى رأسها الشعب الاميركي نفسه خلال حرب الاستقلال..أو التجربة الفرنسية أو السويسرية أو الأوروبية عموما في حرب الأنصار والمقاومة ضد النازية والفاشية.ولكن بعد قيام الدولة المستقلة يصير من الواجب الديني والوطني انضواء المقاومة تحت راية الدولة والنظام وإلا صارت قوة فئوية خارج الدولة وفوق الدستور وفي مواجهة مع مصالح الناس وأمنها واستقرارها وتلك من الضرورات الشرعية الواجب حفظها والتفكير فيها أولا..أي قبل أي شيء آخر... وبها تقاس الأمور وليس عكس ذلك...

 أما من حيث احتكار "حزب الله" لمشروع المقاومة فقد كان موقف الشيخ محمد مهدي شمس الدين قاطعاً حازماً أعلنه في كل المناسبات ومن على أعلى المنابر.. فالمقاومة "نهضت تحت سقف مشروع الإمام الصدر والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، المشروع الوطني الإسلامي الإنساني لبناء الدولة والمجتمع في لبنان وعلى ثوابت الكيان اللبناني ومسلّماته.. والمقاومة نمت في ظل هذا المشروع، فهي مقاومة الشعب اللبناني، كل الشعب اللبناني، لا فئة واحدة منه، وكل المناطق اللبنانية، لا منطقة واحدة منها، وهي مقاومة الدولة والمجتمع والجيش والأهالي والأحزاب.. وكل ذلك تحت سقف، وفي ظل، المشروع الوطني الذي هو الحصن والحضن والمرجع والمآل... إن المقاومة ليست غاية بحد ذاتها، وليست مشروعاً خاصاً بحد ذاته، ناهيك عن أن تكون حزباً أو فئة خاصة خارج مشروع الدولة والمجتمع في لبنان.. المقاومة أداة ضغط سياسية لها غاية تحرير لا غير، ووظيفتها أن تخدم هدف التحرير الذي يقوم به المجتمع بجميع مؤسّساته السياسيّة والأهليّة.. إنّ هذه الرؤية هي الرؤية الوطنيّة الحقيقيّة للمقاومة".

د= في عروبة لبنان

إن عروبة لبنان لا تخرج، ولا يمكن أن تخرج، عمّا جرى على العروبة، من حيث هي عنوان حضاري يجمع لا شعار سياسي يفرق ــ ما جرى عليها، خلال العقود الماضية، من استئناف نظر في مفرداتها، ومن إعادة تعريف لآفاقها؛ ولعل أنضج تعبير، ليومنا هذا، عن تلك المراجعات لمفهوم العروبة ما ورد في "إعلان الرياض" في ختام القمة العربية التاسعة عشرة في آذار 2007، من أن "العروبة ليست مفهوماً عرقياً عنصرياً، بل هي هوية ثقافية موحِدّة تلعب اللغةُ العربية دورَ المعبّر عنها والحافظِ لتراثها. وهي إطارٌ حضاري مشترك قائم على القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية". ومن نافل القول أيضاً أن عروبة لبنان، استئناساً بنص إعلان الرياض، لا يمكن أن تقوم إلا على "ثقافة الاعتدال والتسامح والحوار والانفتاح، وعلى رفض كل أشكال الإرهاب والغلوّ والتطرف وجميع التوجهات العنصرية الإقصائية [...]". هو كذلك ولو أنه لا ضائر من التذكير بأن لبنان، في سيرته المعلومة لدى الجميع، لا يحتاج إلى دروسٍ لا في الوطنية ولا في العروبة.

ه= في الصراع العربي ــ الإسرائيلي

إن لبنان، بحكم التاريخ والجغرافيا، وبإرادة التزامه بموجبات التضامن العربي وبمبادىء الحق الإنساني، كان وما يزال في  صميم الصراع العربي ــ الإسرائيلي. بيد أن مكانه هذا لا ينبغي له أن يرتب عليه ما يزيد على المقدار المنصف من التزامه في إطار التكليف العربي: له ما للعرب وعليه ما عليهم ضمن رؤية عربية واحدة. وقد وقف لبنان، وهو يقف اليوم، مع شعب فلسطين وسلطته الوطنية، في ما تختاره من سياسات، مؤداها التوصل إلى إقامة دولة حرة سيدة قابلة للحياة وعاصمتها القدس، مع التمسك بازالة المستوطنات وجدار الفصل العنصري،وبحق العودة وفق القرار الدولي 194. من ثم فإن نصيب لبنان من مكابدة ذلك النزاع، ومعالجته، محكومٌ، خصوصاً بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000،وبعد حرب تموز 2006، بأن يكال بمكيال الاستراتيجية العربية الموحدة التي تبلورت في مبادرة السلام العربية التي أعلن عنها خلال قمّةِ بيروت 2002، والتي توثقت في قمّةِ الرياض 2007.

"إما أن توضع استراتيجيّة عربيّة كاملة لتحمّل أعباء قضية فلسطين، ويكون لبنان والجنوب جزءاً منها، وإلا فلا يمكن أن نوافق أبداً على أن يكون الجنوب أرضاً محتلة.. ونحن سنكون أول المجاهدين وأول الشهداء إذا كانت هناك خطّة عربيّة شاملة.. أما إذا لم تكن هناك خطة، وتكون هناك مزايدات وعنتريات وتناقض وتمزّق عربي، فلمصلحة مَنّ يضيع الجنوب؟"(شمس الدين).

"نحن في لبنان محكومون بثلاث معادلات، المعادلة الوطنيّة: الإسرائيليون يحتلون أراضي لبنانية، والمعادلة القوميّة أو العربيّة: الإسرائيليون يحتلون فلسطين العربيّة والجولان.. والمعادلة الإسلامية: هم يحتلون بلاداً إسلامية وشرّدوا شعبها وينتهكون مقدسات إسلاميّة.. المقاومة تخدم المعادلات الثلاث.. فكوننا لبنانيين نقاوم، وكوننا عرباً نقاوم، وكوننا مسلمين نقاوم، وإن كنا نفضّل أن لا يكون للمقاومة في لبنان هوية دينيّة.. وإذا تمّ انسحاب إسرائيل إلى ما وراء الحدود الدوليّة مع فلسطين من دون شرط.. ووفقاً للقرار الدولي 425. إذا تم ذلك لا يعود عندنا في لبنان معادلة وطنية.. تتوقف المقاومة.. ولكن هذا لا يعني اعترافاً بشرعية الكيان الإسرائيلي من الناحية القوميّة ومن الناحية الدينيّة.. هذا الكيان غير شرعي ومقاومته مشروعة بل واجبة.. ولكن نحن بعض العرب في لبنان، وبعض المسلمين في لبنان.. ولا يمكن أن نأخذ على عاتقنا تنفيذ قرار عربي على المستوى القومي، أو إسلامي على مستوى الأمّة الإسلاميّة، وحدَنا.. ومن هنا لا يمكن أن نستمر في المقاومة باعتبارها قومية عربية أو مقاومة الأمة الإسلامية.. وما لم يكن هناك قرار عربي أو إسلامي قابل للتنفيذ، لا يقتصر على مجرّد الشعار السياسي، فنحن جزء منه، وإلا فإن قدرتنا على المقاومة تتوقف عند حدود الانسحاب الإسرائيلي من أرضنا.." (شمس الدين).


  كلمة الدكتور  ساسين عساف

1- في الحياد الدولي
2- المعطى الجغرافي في رسم الاستراتيجيات، لبنان الدولة الحاجز
3- لبنان بين " المطامح " و " المطامع "
                     - لبنان و" المطامح " السورية
                     - لبنان و" المطامع " الاسرائيلية
                     - في الموقف من سوريا واسرائيل ومقاربة العدو  ومصادر تهديد لبنان 
4- اللجوء الى التاريخ دفاعا" عن خصوصيّة لبنان وتعظيم الذات الكيانية تعدّد الآراء من سنن الاجتهاد.

الدكتور نبيل خليفة له اجتهاده في الحياد بين اسرائيل وسوريا، وأنا لي اجتهادي في مقاومة اسرائيل وفي التكافؤ والتكامل مع سوريا.

من هذا الموقع قرأت الكتاب الذي يصحّ القول فيه انّه كتاب اشكالي بامتياز، انّه كتاب المرحلة بكلّ عناوينها والسجالات.

بين الدكتور نبيل وبيني من العلاقات الفكرية والودّية ما لا يقوى على افساده اختلاف في الرأي والتقدير.

عرفته صاحب بناء فكري متماسك. قرأته منذ أواخر الستّينيات فشدّني اليه وضوح في الرؤيا وعمق في التحليل وصدق في الموقف ونزاهة في التزامه لقضيّة لبنان وانسانه.

من منطلق المعرفة اليقينية بفكره وشخصه، ومن موقع الاحترام والتقدير أسجّل ملاحظاتي حول كتابه: " جيوبوليتيك لبنان، الاستراتيجية اللبنانية، بحث جيو/سياسي في واقع لبنان ودوره ومستقبله ومصيره."

هذه الملاحظات رتّبتها وفق عناوين استوجبتها اشكاليات انتقيتها بعناية لما لها من قدرة على تظهير الآراء المتعدّدة فتكتمل لدى القارئ جوانب الصورة وينجلي تعدّد مراياها.

في الحياد الدولي

              ينطلق الدكتور نبيل في طرحه الحياد الدولي استراتيجية للبنان من بعض المسلّمات، منها:
- حدود الدولة اللبنانية تهدّدها مطامع اسرائيلية ومطامح سورية ورغبة دولية في النفوذ والسيطرة.
- الدولة اللبنانية دولة/حاجز تخضع للتجاذب الاسرائيلي/السوري.
- الدولة اللبنانية دولة صغيرة عاجزة عن تحقيق التوازن مع هاتين القوّتين، قوّة العدو الاسرائيلي وقوّة الخصم السوري.
وعليه،

انّ الحلّ هو حياد لبنان الدولي المبني على تفاهم لبناني/عربي/دولي، وعلى اقتناع اسرائيل وسوريا.. فالحياد، في رأيه، يضع اسرائيل وسوريا في جانب والارادة الدولية المجسّدة للحياد في جانب آخر.. حينذاك تفوّق القوّتين يواجه بسلاح القانون الدولي الضامن لأمن الدولة المحايدة.

يتحكّم بهذا الطرح شعور بالاستهداف والضعف ازاءه وبأنّه لا سبيل الى بناء القوّة المتوازنة مع طرفيه وبأنّه لا سبيل الى الخروج من دائرة الاستهداف وحال الضعف الاّ بالحياد. حول هذا الطرح أسجّل الملاحظات الآتية:

- مادام لاسرائيل في لبنان مطامع ولسوريا فيه مطامح وما دامت للدول الكبرى رغبة في السيطرة عليه أو بسط نفوذها فيه فكيف لهذه الجهات الثلاث أن توافق على حياد لبنان؟! أمّا القول انّ لبنان عاجز بالمطلق عن مواجهة مطامع اسرئيل ومطامح سوريا ورغبة الدول في السيطرة عليه فاشاحة عن منجزات ثلاثة كانت للبنان ردّا" على تحديات هذه الجهّات الثلاث: انسحاب القوّات الأطلسية في العام 1982-1983، انسحاب الجيش الاسرائيلي في العام 2000، انسحاب الجيش السوري في العام 2005
- ما دام هذا الحياد يشترط تفاهما" بين اللبنانيين فانّ تفاهما" بينهم على الموقف من اسرائيل وعلى طبيعة علاقة لبنان بسوريا قد يبطل موجبات الحياد التي منها الخلاف على السياستين الدفاعية والخارجية. في حال الاتفاق على السياستين تبطل تلك الموجبات.
- ما دام هذا الحياد يشترط تفاهما" عربيا" فهل هذا التفاهم ممكن في ظلّ التناقضات العربية الحادّة؟ وفي ظلّ شلل النظام العربي الرسمي الممثّل في جامعة الدول العربية وفي مؤسسة القمّة العربية؟ وفي ظلّ وجود 400 ألف فلسطيني في لبنان قضيّتهم هي محور تلك التناقضات؟ ألا يشكّل الفلسطينيون طرفا" آخر معنيا" بحياد لبنان؟
- ما دام هذا الحياد يشترط تفاهما" دوليا" فهل الدول الخمس المعنية في مجلس الأمن خصوصا" الولايات المتّحدة الأميركية على استعداد لمثل هذا التفاهم؟ لقد استخدمت الادارات الأميركية المتوالية منذ سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم لبنان عصا" وجزرة في تعاملها مع سوريا وحوّلته الى كوندومينيوم سوري/اسرائيلي ورسمت لكلّ منهما خطه الأحمر حماية لمصالحه الحيوية وأمّنت الدّعم العسكري والتغطية الديبلوماسية لحروب اسرائيل عليه ومنحت سوريا حرّية التصرّف بشؤونه لقاء اشتراك قوّاتها في " تحرير الكويت "، وفي زمن شولتز أرادت الحجر عليه وفي زمن كيسينجر أرادت توزيعه على اسرائيل وسوريا والفلسطينيين.. فهل باتت اليوم جاهزة للموافقة على حياده؟!
- وما دام هذا الحياد يشترط اقتناع دول الجوار فهل تكوّن لدى اسرائيل وسوريا وفلسطين مثل هذا الاقتناع؟! اسرائيل انسحبت من لبنان وهي تحمل فضلا" عن مطامعها التاريخية رغبة في الثأر منه.. الدكتور نبيل يتّخذ من ميشال شيحا مرجعا" لمعظم طروحاته. ماذا يقول ميشال شيحا في موقف اسرائيل من الدول العربية ولبنان؟ يقول ما يلي: " كيف يمكن لدولة اسرائيل وقد أضحت على حدودنا مرفأ ارتباط لجميع يهود العالم أن تدع الدول العربية ولبنان في مقدّمها تعيش وتزدهر بسلام.." أليس الحياد في رأي الدكتور نبيل هو ازدهار للبنان وسلام؟! اذا كان هذا هو موقف اسرائيل كما بيّنه ميشال شيحا فكيف لها أن ترضى بحياد لبنان؟

سوريا انسحبت من لبنان وهي تحمل فضلا" عن " مطامحها التاريخية" خلافا" مع نصف حكومته ونصف شعبه فهل يعقل أن توافق على حياده؟!

الفلسطينيون الموجودون فيه مهدّدون بخسارة حقّ العودة وبالتوطين أوليس لهم موقف من مسألة الحياد؟!

ويبقى السؤال المركزي: هل المواجهة بين المطامع والمطامح تنتهي مجّانا"؟

قد يكون لاسرائيل مصلحة في حياد لبنان مشروطة بتوقيع اتفاقية سلام.

الحياد يوجب اعترافا" باسرائيل واقامة علاقات ديبلوماسية معها، فهل لبنان جاهز لمثل هذا الاعتراف؟ أين هو المنطق في أن يطلب من اسرائيل اعتراف بدولة لبنانية حيادية من دون أن تبدي هذه الدولة استعدادا" للاعتراف بها؟ اذا كانت السياسة فنّ الممكن فأين الممكن في اقناع دولة اسرائيل بحياد الدولة اللبنانية بدون اقناع الدولة اللبنانية بالاعتراف بدولة اسرائيل؟ هل يمكن اقرار حياد لبنان بدون أن يوقّع لبنان معاهدة سلام مع اسرائيل؟

سويسرا أصبحت دولة محايدة بعد توقيعها معاهدة سلام دائم مع فرنسا في العام 1516 ولكن الجيش الفرنسي في العام 1789 عاد فاجتاح أراضيها. المانيا كانت من ضمن الدول الضامنة لحياد بلجيكا واللوكسمبورغ ومع ذلك لم تتورّع عن غزوهما في الحرب العالمية الأولى. هذان دليلان الى أنّ الاعتداء على الدول المحايدة أمر ممكن. فهل تؤتمن اسرائيل على حياد لبنان؟! يقول هنري أبو خاطر:

" تنزع بعض الفئات في لبنان الى المطالبة بحياده سلما" وحربا" علّه يباعد بين الخطر الصهيوني وبين نفسه. انّ الحياد لا ينقذ لبنان على المدى الطويل من خطر التوسّع الصهيوني على أرضه ومياهه.."

والسؤال الآخر: هل يؤدّي الحياد الى الاعتراف باسرائيل؟ الجواب عند باسم الجسر: " الحياد الذي لا يعترف باسرائيل يعدّ من المفارقات الفكرية.." والجواب الثاني عند العميد ريمون ادّه: " المغزى الحقيقي للحياد اقامة علاقات سياسية وتجارية مع اسرائيل وهذا ما لا يمكن أن نوافق عليه.."

اذا اقتنعت اسرائيل بحياد لبنان مشروطا" أو غير مشروط باتفاقية سلام واعتراف لبنان بها  فأين مصلحة سوريا في هذا الحياد؟

قد تجد فيه سعيا" لفصل لبنان عنها.. وذاك سعي فشل لمرّات.. واليوم أصبح مستحيلا" بعد انخراط فئات لبنانية واسعة في المواجهة الاقليمية وبعد ممارسات الضغط على سوريا ومحاولات تطويقها من لبنان. اذا فرضت الأمم المتّحدة عقوبات اقتصادية على سوريا ماذا يكون موقف لبنان المحايد؟ سويسرا مثلا" التزمت فرض العقوبات الاقتصادية على العراق وهذا تحوّل في ممارسة مفهوم الحياد. وبعد نهاية الحرب الباردة رأت الحكومة السويسرية أنّ التعاون مع الناتو ( حلف الشمال الأطلسي) لا يخلّ بمبدأ الحياد، وهذا تحوّل آخر في ممارسة مفهوم الحياد، ما يعني أنّ الحياد حقيقة متغيّرة وهو مفهوم معقّد مطّاط ومبهم، ليس له مدلول ثابت. رئيس دائرة القانون الدولي في وزارة الخارجية السويسرية بول زيغر يعتبر أنّ الحياد مفهوم يصعب فهمه حتى داخل سويسرا.. فالوضع الحالي السويسري يتمثّل في جغرافيا سياسية مغايرة دفعتها الى استكمال الحياد بمفهوم: " الأمن عبر التعاون." وسوريا لن ترضى بأقلّ من " أنّ أمنها من أمن لبنان."

أين مصلحة سوريا في الموافقة على حياد لبنان سؤال يستدرج السؤال التالي: هل الحياد يخرج لبنان من جامعة الدول العربية؟ الجواب عند شارل مالك: " الحياد يحتّم علينا الخروج من عضوية الجامعة أو على الأقلّ من الالتزام ببعض بنودها.."  ثمّ يضيف: " وهذا شيء مستحيل وحتى اذا كان ممكنا" فلا يجوز.." والجواب الآخر نجده في دراسة نشرها " العمل " الشهري في العام 1975 وهي تتعلّق بالحياد الدائم للبنان: " لا تستطيع الدولة ذات الحياد الدائم أن تكون عضوا" في أيّة منظّمة سياسية اقليمية.."

أمّا جواب الدكتور نبيل فهو: " الحياد لا يعني عزل لبنان عن محيطه العربي... الذي يشكّل جزءا" منه.." هنا أطرح السؤال الآتي:

ما معنى أن يكون لبنان جزءا" من محيطه العربي؟ ما طبيعة هذا الجزء؟ ما طبيعة هذا الكلّ؟ كيف هو لبنان جزء من كلّ؟ هل هو جزء من مصالحه؟ هل هو جزء من هويّته؟ هل هو جزء من نظامه الرسمي؟ هل هو جزء من مؤسساته؟

قد نجد جوابا" عن هذا السؤال في ما يضيفه الدكتور نبيل : " الحياد لا يلغي مصالح لبنان المشتركة مع محيطه العربي.." هذا الجواب يستدعي سؤالا" آخر: " هل ثمّة مصالح يؤمّنها طرف لطرف بدون أتاوة؟ كيف لسوريا مثلا" أن تؤمّن مصالح لبنان وهو محايد بينها وبين اسرائيل؟! أمونة هي عليها أم رهان؟!

بعد ذلك يرتفع الدكتور نبيل بالحياد الى مستوى آخر يتجاوز مستوى المصالح فيقول: " الحياد لا يلغي علاقات لبنان الاتنية واللغوية مع محيطه العربي.." السؤال: هل هذه العلاقات التي هي جوهر الهويّة والانتماء هي أصلا" قابلة للالغاء؟!

كيف لاقتناع دول الجوار، اذا"، أن يتكوّن؟

هناك ثلاثة سبل لتكوينه: بالاقتناع الذاتي/المجّاني، بتأمين المصالح، وبالاكراه.. فأيّ منهما متوافر أو أين هي قدرة  لبنان على توفيره؟

- ما دام هذا الحياد يضع اسرائيل وسوريا في جانب والارادة الدولية المجسّدة له في جانب آخر أوليس في الأمر تسليم بأنّ الأخلاقيات المنتصرة للحقّ هي التي تقود سياسات الدول خصوصا" سياسات الدول العظمى المسؤولة عن تطبيق القانون الدولي؟ هذا والقانون الدولي يضمن أمن الدول كافة المحايدة منها والمنحازة. ولكن أين هو؟ من يطبّقه؟ وكيف؟ أليست اسرائيل دولة استثنائية تعلو عليه وتتعالى؟ أليست اسرائيل هي المعتدية على المجتمع الدولي وعلى الارادة الدولية وعلى القانون الدولي ومؤسساته الضامنة والمسؤولة عن تنفيذه وذلك منذ القرار 181 والقرار 194 حتى القرار 1860 مرورا" ب300 مئة قرار وبيان رئاسي لم تلتزمها اسرائيل؟ انّها الدولة الوحيدة في العالم التي تتعامل مع الأمم المتّحدة ومجلس الأمن والقانون الدولي باستهتار واحتقار!

انّ القانون الدولي القادر على حماية الدولة المحايدة هو نفسه القادر على حماية لبنان من مطامع اسرائيل ومطامح سوريا.. أليس في لبنان من يدّعي أنّ اسرائيل نفّذت القرار 425 وأنّ سوريا نفّذت القرار 1559 انصياعا" للارادة الدولية؟

انّ نظريّة الانتقال بحماية لبنان من الحماية بالسلاح الى الحماية بالقانون الدولي مسألة فيها نظر.. وما المانع من اللجوء الى الاثنين معا" من دون اللجوء الى الحياد؟

- ما دام الحياد هو رهان لبنان السلام بعد نصف قرن من الرهان على لبنان الحرب فانّ لبنان الحرب لم يكن خيارا" لبنانيا".. اسرائيل بوجودها وعدوانها واحتلالاتها لأرض لبنان ومؤامراتها عليه عبر تعاملها مع فئات متنوّعة من أبنائه منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي وبداية خمسينياته حتى اليوم هي التي أوجدت لبنان الحرب.. جاء في كتاب الدكتور نبيل ما يلي: " لقد سعت الدولة العبرية دائما" الى احتياز لبنان... مدفوعة بمبرّرين لاهوتي توراتي حول أرض اسرائيل وديموغرافي عنوانه هجرة اليهود الى فلسطين.." انّ سعي الدولة العبرية هذا يضع لبنان في صميم استراتيجية التوسّع الصهيوني فكيف لاسرائيل أن تقبل بحياده؟!

أمّا الكلام على " لبنان السلام " وعلى الحياد رهانه فقد يفهم منه البعض دعوة للسلام مع اسرائيل أو للتقليل من خطورة عقيدتها التوسّعية أو اقامة نوع من التعايش السلمي بين لبنان وبينها وذلك بالعودة الى تطبيق اتفاقية الهدنة للعام 1949. فهل هذا ما يمكن استنتاجه من هذا الكتاب؟ الجميع في المبدأ الى جانب نظرية " لبنان المسالم"، ولكن لبنان المعتدى عليه لا تصحّ فيه سوى نظرية " لبنان المقاوم ."

" الدولة المحايدة تتخطّى ثقافة العنف وتلتزم ثقافة السلام.. الدولة المحايدة لا تحارب ولا تحارب.." كلام جميل ولكنه جدير بالسؤال: ثقافة العنف ازاء من؟ وثقافة السلام مع من؟ لبنان يقاوم ولا يحارب.. الثقافة الصهيونية هي ثقافة العنف المقدّس، ثقافة الحرب والتدمير ومحو الآخر..

انّ البعض في لبنان يتحدّث عن " ثقافة السلام ". أنا أريد أن أسأل: السلام مع من؟ .. انّ هؤلاء لديهم خطأ في تقدير الآخر وفهم استراتيجياته.

الدكتور نبيل يدعو الى " سلام تسامحي شكّل اللبنة الأساسية في ثقافتنا التاريخية " .. وفي هذه الدعوة سوء تقدير الآخر والذات معا".. فالآخر جحيمنا وما زال منذ اغتصابه لأرض فلسطين وهو لا يسعى الى سلام معنا بل الى فرض سلامه علينا، ما يعني ادخالنا في سلامه PAX ISRAELIANA ، وهو لا يعرف السلام المبني على التسامح، ونحن بدورنا خليق بنا ألاّ نقبل الاّ السلام العادل المبني على اعادة الحقوق كاملة الينا والى الفلسطينيين ليس فقط لأنّهم أشقّاؤنا بل لأنّهم شعب مقتلع من أرضه وله الحقّ الكامل في العودة اليها. ومن باب الاستطراد أسأل: أين هو السلام التسامحي في ثقافتنا التاريخية؟ انّ نظرة واقعية الى تسوياتنا السلمية لم تقم على سلام تسامحي بل على التقاء مصالح وارادات خارجية فرضت علينا تلك التسويات منذ العام 1840 حتى تسوية الدوحة أيار 2008

" ثقافة السلام " في رأي الدكتور نبيل تخرج اللبنانيين من "استراتيجية الموت والدمار الى استراتيجية الحياة " ذلك أنّ "علاقة توجد بين الرؤية الخاصة للعالم في كلّ ثقافة وبين الاستراتيجية "، ما يعني تفريقا" بين استراتيجية نابعة من ثقافة الحرب والموت  واستراتيجية نابعة من ثقافة السلام والحياة..

انّ " ثقافة الموت "، بالمعنى الذي يشير اليه البعض ومنهم الدكتور نبيل، هي ثقافة الحقّ في مقاومة الاحتلال، ثقافة الاستشهاد في سبيل القيم والأرض وليست ثقافة حرب وموت.. انّ ثقافة المقاومة لا تصنع الحرب والموت. ثقافة الاحتلال والاغتصاب والتهجير والقتل والتدمير والاقتلاع والاستعمار والتوسّع والعدوان هي التي تصنع الحرب والموت.

انّ ثقافة السلام والحياة الحقيقيين هي الثقافة المبنية على حماية الحقّ الانساني والاّ تحوّلت الى ثقافة اذعان ومذلّة..

" ثقافة اللاّمنتمي " أحيانا" هي " ثقافة السلام والحياة "..

ثقافة " المثقّف العضوي " الذي تحدّث عنه غرامتشي هي نقيض  ثقافة " اللآّمنتمي " الذي تحدّث عنه سارتر..

انّ ما يسمّيه البعض " ثقافة الحياة " ويدعو اليه يليق به ما تسميته "ثقافة العيش "..  

         أمّا الكلام على اسقاط الرهان على " لبنان الحرب" فقد يفهم منه    البعض دعوة للعودة الى نظرية " لبنان قوّته في ضعفه.." فهل هذا ما يمكن استنتاجه من هذا الكتاب؟

يبدو هذا الاستنتاج سليما" الى أن نقرأ في الكتاب تبنّيا" لنظرية الشهيد جبران تويني القائلة منذ العام 1983 بحياد لبنان حيادا" مسلّحا" مستمدا" من ارادة اللبنانيين عاكسا" لطباعهم وأمانيهم وتاريخهم وتراثهم، عماده جيش قادر يفرض حياد لبنان ويحسمه بالقوّة.."

بشأن هذه النظرية أسجّل السؤال الآتي: حياد مسلّح عماده جيش قادر يفرض حياد لبنان ويحسمه بالقوّة ... يفرضه على من؟ ويحسمه ضدّ من؟ متى أصبح للبنان جيش قادر على القيام بمثل هذه المهمّة فلا حاجة بعد ذلك للحياد.. 

القوّة في الضعف والسلامة في الحياد مقولة لا شأن لها في عالم متصادم حتى الالغاء.

اذا أردنا أن نستخلص متطلّبات الحياد ممّا سبق نجملها بالآتي:

  • موافقة جميع اللبنانيين أو غالبيتهم الساحقة
  • موافقة الدول المجاورة ( سوريا واسرائيل )
  • موافقة الدول العربية
  • موافقة الدول العظمى
  • قدرة الدولة المحايدة على حماية نفسها بنفسها
  • القبول بدور وساطة للدولة المحايدة والتعامل مع المتحاربين بدون انحياز ( القيام بوظيفة وسيط بين اسرائيل وسوريا! غريب أمر هذه الوظيفة!) وذلك في اطار ما يسميه بعض المنادين بالحياد "تأدية الدور الاقليمي للبنان ورسالته الكونية.."

تعليقا" على هذه المتطلّبات يقول شارل مالك: " انّ واحدا" من هذه المتطلّبات غير متوافر للبنان.."

واذا أردنا أن نجمل مستلزمات الحياد نقرأ في الكتاب ما يلي: " حياد لبنان، في الوعي الوطني اللبناني (؟! أدعوة هي لتشكّله؟) ليس أيّ حياد كان بل هو حياد يجسّد ارادة وآمال الشعب اللبناني وتضامن الأسرة العربية وعطف الأسرة الدولية.." انّ لي بشأن هذا الكلام ملاحظتين:

  • - لا أرى أنّ هذه المستلزمات متشكّلة أو هي قيد التشكّل.. والمسألة ليست ارادوية..
  • - انّ لغة العطف في العلاقات الدولية تنتمي الى أمومة لم تعد قائمة وشرعية.. انّ لغة المصالح هي السائدة حتى في التبنّي..

وقبل هذه المستلزمات وتلك المتطلّبات  يبقى السؤال المركزي هو الآتي:

أين هي الظروف الموضوعية التي يجب أن تتوافر لجعل استراتيجيا الحياد قابلة للاقرار والتنفيذ؟

انّ لي من الملاحظات ما يشي بأنّ هذه الظروف غير متوافرة.

مقبولية الطرح تحدّدها معطيات وظروف سياسية. الرئيس شارل حلو طرح فكرة الحياد في العام 1958 تخوّفا" من الخطوة الوحدوية التي أقدمت عليها مصر وسوريا ثمّ تراجع عنها في العام 1964 عبر بيان توضيحي نشر في الأوريان والجريدة وبعد 36 ساعة على نشر هذا التراجع انتخب رئيسا" للجمهورية.. وفي عهده راح يحذّر من مخاطر فكرة الحياد في الصراع العربي/الصهيوني.. وخلال الحرب الأهلية عاد وغيّر موقفه فقال بلبنان سويسرا الشرق على الصعيد السياسي..

قد يكون للبنان نصيب من نظرية الحياد عند تقاطع المصالح الدولية والاقليمية الذاهبة في هذا الاتجاه. قد يستفيد من لحظة تلتقي فيها المصالح. انّ قراءة عادية في المصالح المعلنة وبرامج تحقيقها تنبئ بأنّ المنطقة متّجهة الى المزيد من تصادم المصالح وقد يكون لبنان مجدّدا" الساحة المفتوحة لهذا التصادم ما دامت قادرة على امتصاص سائر التصادمات التي يتحاشى كلّ معنيّ بها أن تحدث في ساحته، فكيف له أو لسواه أن يوافق على حياد لبنان؟!     

نظرية لبنان المحايد تستمدّ قوّتها من افتراض حسن النوايا عند الأقربين والأبعدين، وليس بمثله تبنى استراتيجيات الدول؟

التوازن في النظام الدولي قد يساعد على طرح الحياد، أمّا طرحه في زمن الفوضى الدولية لغياب التوازن وانعدام الميل الى ايجاده بين القوى فمسألة فيها نظر.. لذلك، أن يكون " وجود الدولة المحايدة ضرورة للمحافظة على التوازن الدولي " مبدأ ساقط في الواقع الدولي الراهن.

أمّا تأمين " حماية السلم الدولي بايجاد حاجز يفصل بين دولتين قويّتين لتجنّب الاحتكاك أو التصادم بينهما " فلي بشأنه ثلاث ملاحظات:
- السلم الدولي حاليا" له من يحميه.. لقد أقامت الولايات المتّحدة الأميركية من نفسها شرطيا" دوليا" يلاحق المخلّين بالسّلم الدولي!
- ايجاد حاجز فاصل بين دولتين لمنع الاحتكاك والتصادم هذا ما لا ينطبق على واقع لبنان وسوريا واسرائيل، فبين سوريا واسرائيل جبهة طويلة اشتعلت لفترة وهدأت لفترات.
- لبنان لا يقع على تقاطع الدول المتعادية أو المتحاربة، انّه طرف في الصراع وفريق.
وأن يكون " الحياد لمصلحة الدولة المحيّدة والقوى العظمى " فمبدأ سليم. أمّا اليوم فهو لمصلحة " القوّة العظمى ".. وتاليا" لمصلحة ربيبتها اسرائيل.. 

أخيرا" يرتقي الدكتور نبيل بالحياد الى درجة تقيم منه مبدأ كيانيا" ميثاقيا" لا يستمرّ الكيان أو الميثاق الاّ به، فيحوّله الى قيمة وجود أو لا وجود.. ويستند في هذا الى رأي الأستاذ ادوار حنين القائل: " الحياد تتويج للميثاق الوطني ."

بشأن هذه الارتقائية أسجّل الملاحظات الآتية:

-  الميثاق الوطني، ميثاق 1943، وضع قبل ايجاد الكيان الصهيوني ويوم كان لبنان ذا وجه عربي ويوم كان الشعار سليما" لضرورات استقلالية كيانية لا للشرق لا للغرب، لا للوحدة لا للحماية الأجنبية.. وهو بالطبع مختلف عن وثيقة الوفاق الوطني، وثيقة الطائف التي أصبحت دستورا"، والتي تقوم على معادلة علاقات لبنان المميّزة بسوريا ونهائية كيانه العربي هويّة وانتماء يترجمهما في الميادين كافة..

-  المبدأ الكياني الميثاقي له أن يجسّد ارادة اللبنانيين. معظم الذين طرحوا الحياد الدولي للبنان ( بصيغ مختلفة، حياد دائم، مؤقّت، ايجابي...) مسيحيون، سياسيين ومفكّرين. السؤال: كيف لهذا الطرح أن يعبر الى أرض الواقع ما لم يحظ بتأييد مسلمين، سياسيين ومفكّرين؟!

كيف يطرح الدكتور نبيل الحياد حيادا" مستمدّا" من " ارادة اللبنانيين" ومشفوعا" باستفتاء شعبي وهو يدرك أنّ هذه الارادة يتعذّر لا بل يستحيل اجماعها على طرح الحياد أقلّه في الظرف الراهن وهو يدرك تاليا" أنّ الاستفتاء الشعبي هو دفن للفكرة قبل ولادتها؟!

أن يكون الحياد رهانه وأن تكون قناعته أنّه سينجح فهذا اجتهاده.. أمّا اجتهادنا فهو أنّ الرهان كي ينجح يبنى فوق الوقائع والمعطيات الاعيانية لا الأفكار والحقائق الاذهانية وأنّ المسألة ليست مسألة قناعة بل فرص امكان.. أوليس الهدف من وضع هذا الكتاب, كما جاء في مقدّمته, تقديم رؤيا لمستقبل لبنان " بالخروج من الأوهام "؟ ما يرتّب على صاحبه نقد المستحيل وطرح الممكن..  

المعطى الجغرافي في رسم الاستراتيجيات،

لبنان الدولة/الحاجز

                        يتبنّى الدكتور نبيل في كتابه نظرية الالماني راتزل الذي نشر في العام 1897 كتابا" بعنوان: " الجغرافيا السياسية "، أسّس فيه نظرية ارتباط السياسة بالجغرافيا. ويتبنّى كذلك في السياق نفسه رأي نابليون القائل: " سياسة الدول قائمة في جغرافيتها."

نظرية راتزل، النظرية التقليدية في مدى ارتباط السياسة بالجغرافيا، تضخّم هذا الارتباط وتغالي في تأثير الجغرافيا في السياسة لأنّها تعتبر أنّ الانسان هو سجين الجبرية التي تفرضها الأرض والبيئة.

قابلتها نظرية " الجغرافيا الانسانية "، النظرية الجديدة التي جاء بها الفرنسيان فيدال دو لا بلانش وجان برون والتي تأخذ بآراء راتزل ولكنها لا تبلغ ذلك الحدّ من الجبرية ولا تمعن ذلك الامعان في الخيال.. وهي نظرية تحدّ من حجم تأثير الجغرافيا في السياسة وتعتبر أنّ الانسان حرّ يستطيع الافلات من جبرية الطبيعة فيضعف تأثير الجغرافيا ويتقلّص دورها في رسم السياسات، وهي تخلص الى أنّ الصراعات السياسية في المجتمعات القديمة تتوقّف كثيرا" على الجغرافيا أمّا في المجتمعات الحديثة فهي لا تتوقّف عليها الاّ قليلا".

وفي هذا الاتّجاه القائل بأنّ الجغرافيا تضاءلت أهمّيتها في وضع الاستراتيجيات الشاملة كتب الجغرافي الأميركي باومن ما يلي: " لقد سلخت عمري كلّه أحاول أن أشرح للناس أنّ البيئة الطبيعية لا تعني بالنسبة اليهم الاّ ما يريدون حقّا" أن يروه فيها.."

كذلك سبيكمان ( 1893- 1943 ) رأى أنّ الجيوبوليتيك هو منهج في التحليل ، والجغرافيا هي العامل الأوّل في رسم السياسة الخارجية ولكنّه حذّر من اتّخاذها قاعدة لكلّ شيء..

ما معنى هذا الكلام؟

هذا يعني أنّ التصوّرات أو الحقائق الذهنية يمكن اسقاطها على الواقع المادي. ويعني تاليا" أنّ الجغرافيا قد تستخدم ذريعة لوضع نظريات تهدف الى تسويغ بعض السياسات ( تستخدمها عادة العقائد القومية الساعية الى بناء الدولة/الأمّة ) والسياسات أفكار وعقائد.. والصراعات السياسية هي بين عقائد وأفكار قد تحدّها الجغرافيا وقد تنفتح لها وقد تزول.. الثقافات والعقائد والقيم تعطي الصراع السياسي صورته ومضمونه.. العوامل الثقافية في الصراعات السياسية هي أشدّ تأثيرا" من العوامل الجغرافية.. وهذا ما نعنيه عندما نقول صراعنا مع اسرائيل هو صراع وجود لا حدود.. وهذا ما نعنيه كذلك عندما نقول انّ خلافنا مع سوريا هو خلاف عائد الى طبيعة العقائد والقيم التي يبنى عليها النظام السياسي لا خلاف حدود.. فالجغرافيا يكيّفها الانسان وفق حاجاته ما يحدو على الاستنتاج أنّ "الجغرافيا الانسانية" هي أشدّ تأثيرا" في السياسة من " الجغرافية السياسية". انّ ارادة الانسان المستمدّة من مجموعة اعتقادات وقيم هي أقوى من جبرية الطبيعة في اختيار سياساته ورسم استراتيجياته أي تحديد هويّته السياسية مضمونا" وموقعا" ودورا". وهذا ما يطرح سؤالا" اشكاليا" حول مدى تأثير المعطى الجغرافي في تكوين الهويات السياسية في زمن العولمة والثورة المعلوماتية التي لها الدور الأفعل في هذا التكوين  فضلا" عن زمن الصواريخ عابرة القارات والأقمار الجوّالة في الفضاءات والقواعد المزروعة في المحيطات.

زمن العولمة هذا ألغى وظيفة الدولة/الحاجز.

ما هي هذه الوظيفة؟

- الوساطة؟ هل بمقدور لبنان أن يقوم بمثلها بين اسرائيل وسوريا؟ هل سوريا واسرائيل تسعيان الى اقامة دولة وسيطة، دولة/حاجز، بينهما كدولتين في طور التوسّع؟ هل ينطبق على الدولة اللبنانية توصيف دولة وسيطة ذلك تبعا" لمقولة أنّ الوسط يتحوّل الى وسيط؟ وسيط بين من ومن؟ بين العدو الاسرائيلي والمنافس السوري كما يميّز بينهما الدكتور نبيل؟ أو بين من له في لبنان مطامع وبين من له فيه مطامح على حدّ تمييزه بينهما كذلك؟
- منع الاحتكاك والارتطام؟ أوليست اسرائيل على حدود سوريا وسوريا على حدود اسرائيل؟
- تأمين التوازن؟ ما طبيعة هذا التوازن؟ سياسي؟ أمني؟ استراتيجي؟ هل الدولة اللبنانية هي موضع تجاذب بين سوريا واسرائيل كلّ منهما " يتمنّى جذبها نحوه " كما يقول الدكتور نبيل؟ وتحاشيا" لهذا التجاذب تقوم الدولة اللبنانية بتأمين التوازن المصلحي بينهما. اذا كانت سوريا تتمنّى ذلك لألف اعتبار وآخر ومنها أنّ الدولة اللبنانية بحكم الهويّة والانتماء وبحكم الروابط القائمة بين اللبنانيين والسوريين هي منجذبة حكما" الى سوريا، فالسؤال المطروح هو: هل انّ اسرائيل على درجة من الغباء السياسي كي تتمنّى جذب الدولة اللبنانية نحوها؟!
- تأمين الحياد؟ اذا كانت الدولة/الحاجز لا تجد تعبيرها السياسي الاّ في صيغة الحياد، واذا كان الحياد يشترط كما يرى الدكتور نبيل اقتناع سوريا واسرائيل فهذا يفترض أنّهما تسعيان فعلا" الى جعل لبنان دولة وسيطة بينهما.. وهذا افتراض غير واقعي.

 "... وبعد العام 1948، كما ورد حرفيا" في الكتاب, تحوّل لبنان وبشكل مباشر الى دولة/حاجز بين سوريا واسرائيل.. ولا يزال..."

أن يكون لبنان دولة/حاجز بين سوريا واسرائيل ومجال تنافس بينهما واحد من باب المطامع وآخر من باب المطامح يفترض ما يلي:
- أن تكون سوريا واسرائيل منفردتين غير قادرتين على تحطيم هذا الحاجز لمنعته امّا الجغرافية وامّا السياسية.
- أن تكون علاقة الدولة اللبنانية بهما أو موقفها منهما على سويّة واحدة.
- أن يكون لبنان غير معني بالصراع أو بالتنافس بينهما.
- أن يشكّل لبنان فاصلا" جغرافيا" بينهما.
- أن يستشعر لبنان ثقل خطراسرائيل وسوريا عليه بالدرجة نفسها.
- أن يكون للبنان الأهمّية نفسها لدى الدولتين.

انّ واحدا" من هذه الافتراضات غير موجود واقعيا".. وان لم يكن الأمر كذلك أكتفي بطرح الأسئلة الآتية:

  • - لماذا يميّز الدكتور نبيل بين المطامع والمطامح؟
  • - لماذا يميّز بين " العدو " و" المنافس"؟
  • - لماذا ورد في كتابه أنّه " ليس لموقع لبنان ذات الأهمية بالنسبة لكلّ من اسرائيل وسوريا "؟ ..

لبنان هو ممرّ بين سوريا واسرائيل وليس حاجزا".. انّه نقطة وصل لا فصل..

الجغرافيا السياسية قد تحوّل لبنان الى ضحيّة.. فالموقع الجيوبوليتيكي هو الأكثر تغيّرا" وتحوّلا" في الدور وفي الوظيفة نظرا" لاعتبارات التغيّر النوعي المستمرّ في نمط العلاقات بين القوى الكبرى من جهة ونظرا" لتبدّل القوى الكبرى بين مرحلة وأخرى من جهة ثانية.

خطورة تحويل لبنان الى دولة/حاجز تقطع الطريق امّا على اسرائيل المتّجهة من أجل التوسّع شمالا" وشرقا" وامّا على سوريا المتّجهة من أجل التوسّع جنوبا" وغربا" تتمثّل في الآتي:

في حال تمّ توقيع معاهدة سلام اسرائيلية/سورية تصبح الدولة اللبنانية بحكم المنتهية.. وهذا ما حصل للدولة العثمانية. تعاملت معها بريطانيا كحاجز جغرافي سياسي في وجه تمدّد روسيا القيصرية جنوبا" وغربا" وعندما وقّعت المعاهدة البريطانية/الروسية انتهت الدولة العثمانية.

وهنا نسأل: اتفاقية الخطوط الحمر للعام 1976 ونظرية الكوندومينيوم ألم تكونا بداية نهاية الدولة اللبنانية؟

لبنان و" المطامح " السورية

             في تحليله لنظرة سوريا الى لبنان يعتمد الدكتور نبيل المدخل الايديولوجي الذي يقوده الى النتائج الآتية:
- سوريا ترفض ترسيم حدودها مع لبنان لأسباب ايديولوجية سعيا" للوصول الى ما تسمّيه حدودها الطبيعية.
- لبنان هو جزء من كلّ جغرافي سواء كان هذا الكلّ سوريا الكبرى أو الوطن العربي الكبير.
- سوريا، بحكم عقيدتها البعثية الوحدوية، تتطلّع الى السيطرة على لبنان وضمّ الجزء الى الكلّ في وحدة قسرية على الطريقة البسماركية.

بشأن اعتماد المدخل الايديولوجي في تحليل الوقائع السياسية أسجّل الملاحظات والأسئلة الآتية:
- تحليل الوقائع السياسية يستدعي التزام أصول المقاربات الواقعية لأنّ المقاربات الايديولوجية غالبا" ما تكون مبنية على " اللامعقول السياسي ". ومن شروط " المعقول السياسي " قراءة المتغيّرات ووضع المقاصد على محكّ الوسائل، والارادات على محكّ القدرات، والقدرات على محكّ الالتزامات. فهل مقاربة الموقف السوري في "السيطرة " على لبنان مدخلا" لتحقيق مشروع سوريا الكبرى تمّت وفق هذه الشروط؟ هل قرأت فيه المتغيّر؟ هل طابقت بين مقاصده ووسائله، وبين اراداته وقدراته، وبين قدراته والتزاماته؟
- الايديولوجيا في رأيي تنتمي الى عالم " اللامعقول السياسي ". وخطورة اعتمادها مدخلا" في التأريخ وفي التحليل السياسي تكمن في الدعوة الى الايغال في الحقائق والتصوّرات الذهنية المنفصلة عن الوقائع بدون التنبّه الى ما بين الحقائق والوقائع من فروق.
- هذا، وليست السياسة علما" خالصا" وليست ترجمة حكمية للعقيدة السياسية، وليس لها قانون ثابت خال من الاستثناء. فهل السياسة السورية في " السيطرة " على لبنان مدخلا" لتحقيق مشروع حلم سوريا الكبرى كما يؤكّد الدكتور نبيل هي ترجمة حكمية للعقيدة القومية؟!
- انّ المطلق في الايديولوجيا أو في العقيدة السياسية أو حتى في العقيدة الايمانية الدينية هو ليس ما نعثر عليه في الوقائع. ما نعثر عليه هو نسبي ومنحرف ومشوّه فمن غير الجائز التعامل مع ما نعثر عليه بوصفه حقائق مطلقة خصوصا" متى كنّا في صدد بناء سياسات واستراتيجيات دول وشعوب. وعليه،
- انّ الايديولوجيا وحدها قد لا تشكّل القاعدة السليمة لتفسير التاريخ، لذلك من أخطر الأمور أن نتوسّلها كي نصل الى فهم الوقائع.
- انّ التحليل السياسي للموقف السوري من لبنان في هذا الكتاب خاضع لنظرية منتقاة هي تحكّم الايديولوجيا من حيث هي مجموعة حقائق بالتاريخ من حيث هو مجموعة وقائع.
- الوقائع لا يتيسّر استيعابها الاّ من خلال آليات التفكيك والتحليل والاستقراء الاعياني وليس من خلال التمثّل الاذهاني. وهذا هو الفرق بين القراءات الحفرية في الواقع التاريخي والقراءات الاسقاطية عليه. اسقاط الايديولوجيا على الحدث هو المنهج الذي اعتمده الدكتور نبيل في استيعاب الموقف السوري الساعي الى السيطرة على لبنان مدخلا" لتحقيق مشروع سوريا الكبرى. وعليه،
- انّ التاريخ يقرأ بالوقائع ولا يقرأ بالايديولوجيا. التاريخ لا يكتب بالايديولوجيا بل بالسياسة.
- وفي سياق استيعابه للموقف السوري الايديولوجي من لبنان يستحضر الدكتور نبيل لتدعيم وجهة نظره أقوالا" للرئيسين ريغان وميتران ولوزراء الخارجية كيسينجر وشولتز وسترو ولعدد من الباحثين أمثال ايف لاكوست وميشال فوشيه واليزابيت بيكار.. هنا نسأل: أليس بالامكان أن نقرأ في هذه الأقوال تسويغا" لسياسات الدول المعنية؟ لماذا التسليم المطلق بها حقائق منزلة؟ ولماذا البناء عليها؟ أيصحّ بناء رؤيا استراتيجية على مثل هذه الأقوال؟ أوليست هذه الأقوال مشروطة بأحداث ومتغيّرات ورغبات ومصالح؟ انّ الفكر النقدي والمنهج الشكّي لا التسليمي ولا الذرائعي هو الأساس في استجلاء الوقائع والحقائق الصالحة لوضع الاستراتيجيات.

أمّا بشأن النتائج التي قاده اليها المدخل الايديولوجي أسجّل الملاحظات التالية:
- الكلام على رفض سوريا لترسيم الحدود ولاقامة العلاقات الديبلوماسية وعلى عدم اعترافها القانوني بنهائية الكيان اللبناني أصبح من الماضي. وهذه واحدة من الاشكاليات التي تثيرها المقاربات الايديولوجية. هناك مشاكل حدود بين العديد من دول المنطقة العربية ولكن هذه المشاكل لا تدخل حكما" في باب العقائد. الدولة السورية مقيّدة بالقوانين والمعاهدات والمواثيق العربية والدولية. أمّا التذرّع بايديولوجيا حزب البعث الحاكم فالوحدة العربية طموح لديه لا يحول دون اعتراف الدولة السورية بالدولة اللبنانية. فحزب البعث حزب عقائدي له الحقّ في النضال السياسي والفكري المشروع للوصول الى الوحدة. وهذا ما هو منطقي وان لم يكن مقبولا" لدى هذه الجهة أو تلك. أمّا ما هو غير منطقي هو بناء استراتيجية دفاعية عن حدود لبنان السياسية (عن الكيان الجغرافي) على أساس وجود عقائد سياسية وجماعات سياسية تسعى، في لبنان كما في سوريا، بموجب ما تسمح به القوانين من حريات سياسية وفكرية وتنظيمية، الى وحدات سياسية اقليمية.

•-         هذا الكلام يفتح على مسألة أخرى: العقائد القومية طوّرت برامجها ووسائل عملها في اتّجاه وحدات سياسية ما فوق وطنية أو قطرية مختلفة عمّا كان يطرحه الفكر القومي في الخمسينيات والستينيات في سعيه لاقامة الدولة القومية أو الدولة/الأمّة وما رافق ذلك من كلام على ألسنة المعادين للفكر القومي العربي على ضمّ والحاق ودمج بالاجتياح والقوّة.. فالرئيس عبد الناصر أكّد في " الميثاق" رفضه القاطع لفرض الوحدة بالاكراه وأكّد تعدّد أشكال الوحدة ومرحلّيتها. وحزب البعث العربي الاشتراكي بدوره اعتبر أنّ الوحدة الاتحادية أو الفيدرالية هي الصيغة الأفضل لتوحيد الأقطار العربية وميشال عفلق نفسه هو منظّر " الخصوصيّة "..

•-         الوحدة كما هي مطروحة اليوم في الخطاب القومي داخل سوريا وخارجها تأتي في تشكيلها منسجمة مع اتجاهات العصر، عصر التكتّلات والتحالفات الكبرى كما أنّها لا تتناقض ولا تتعارض مع الولاء والاخلاص للتراب الوطني والانتماء اليه.

•-         الوحدة كما هي مطروحة اليوم في أدبيات الفكر القومي ضرورة ولكنّها ليست غاية في ذاتها. والمشكلة لا تكمن في فكرة الوحدة نفسها وانّما في النظرة الى كيفية تحقيقها. وهي عمل اختياري يتمّ بين دول متساوية اعتباريا" وقانونيا" وكتّابها من مفكّرين قوميين معاصرين يتّخذون من دول المجموعة الأوروبية خير مثال. هذه الكتابات تعمل على تفكيك آليات الفكر القومي التقليدي ومسلّماته وبديهياته المعنوية وعلى اعادة تركيبه بما يقتضيه العصر وبعيدا" عن التثقيل الايديولوجي فيجعل فكرة المصلحة الأساس الواقعي المادّي للوحدة. وهو يتوخّى التكاملية العربية لاسيّما في المجال الاقتصادي. التكاملية لا تلغي الخصوصيات وهي تسقط الشكل الوحدوي الاندماجي الشامل. وهو يحترم وجود الدولة القطرية أو الوطنية ويعيد اليها الاعتبار السيادي والاستقلالي.

من هنا أستولد فأضيف الملاحظات الآتية:
- عدم جواز اتّخاذ أخطاء الممارسة السورية في لبنان ذريعة لادانة الايديولوجيا القومية أو الفكر القومي العربي عموما" فسوريا دولة اقليمية أساسية تنماز بمركزيّة حكم قوي يديره عقل استراتيجي وبراغماتي نجاحي في آن، تجمّعت لديه أوراق اللعبة في المنطقة وفي لبنان تحديدا" بطلب لبناني وتغطية عربية وتكليف دولي. هكذا أقارب الموقف السوري من لبنان وفلسطين والعراق وهذا ما ينسجم تماما" مع ما قاله باتريك سيل بعيدا" عن الاغراق في التحليل الايديولوجي للنيل من الفكرة القومية، قال: " اعتراف القوى الدولية بدور سوريا لن يكون الاّ حين تبسط نفوذها على لبنان والأردن والفلسطينيين وتشكّل كتلة على درجة كبيرة من القوّة والتأثير في مركز الأحداث العربية.."

•-         عدم جواز الاعتماد على ايديولوجيا القومية العربية التقليدية في استخراج الأحكام على ما هو قائم في هذه المرحلة. فالفكر القومي متجدّد ومتعدّد من الديني الى الليبرالي الى الماركسي..

•-         عدم جواز التركيز فقط على الاتجاهات القومية التيوقراطية والشمولية فهناك اتجاهات قومية ديموقراطية في المجال السياسي وعلمانية في المجال الايديولوجي وحضارية في المجال الفلسفي واقتصادية المضمون وحوارية المنهج وسلمية الممارسة.

•-         عدم جواز حرمان العرب من حقّهم في السعي الى اقامة دولتهم القومية ما داموا محاطين بثلاث دول قومية: ايران، تركيا واسرائيل. الاشكالية ليست في الحقّ أو في السعي اليه أو في من يقود هذا السعي انّما هي في صيغة هذه الدولة وسبل قيامها.. والصيغة المطروحة اليوم لا تنقض ولا تناقض الكيانات الوطنية والاقليمية، والاحالة هي لكتابات المفكّرين القوميين الوحدووين نديم البيطار  ومحمّد صالح الهرماسي وعبد الاله بن قزيز ومحمّد عابد الجابري ومحمّد صالح المسفر ومحمّد جابر الأنصاري وأحمد بهاء الدين شعبان وكتابات كلّ المفكّرين القوميين العرب المعاصرين المعروفة أسماؤهم في منشورات مركز دراسات الوحدة العربية واصدارات معهد الانماء العربي.. وهي كتابات تجمع على أطروحة الجابري القائلة: " العلاقة بين القومي والقطري يحدّدها نوع من الاتّحاد بين الدول القطرية يجعل التكامل بينها حقيقة واقعية ونامية ".

وخلاصة القول في المدخل الذي اعتمده الدكتور نبيل وفي النتائج التي انتهى اليها استجمعها في ما يلي:
- المدخل الايديولوجي قاده الى بناءات فكرية خلّفها خطاب قومي أنهى صلاحيته مفكّرون قوميون جدد. هذه البناءات تقوّي التناقض بين الدولة السورية والدولة اللبنانية وتسوّغ " للكيانيين " خوفهم من "المطامح " السورية. النظرة الواقعية ترينا الأمر على خلاف ذلك، فالدولة السورية باتت ازاء الدولة اللبنانية أمام حقيقة موضوعية ممنوع تخطّيها. أمّا أن يسعى حزب من هنا أو حزب آخر من هناك لجعل الدولة اللبنانية تنخرط في مشروع تكاملي بين الدولتين فهذا ما لا يتناقض مع سيادة كلّ منهما لا في مرحلة السعي ولا في مرحلة التمكين ما دام الانخراط في المشروع اختيارا" حرّا" تحدّده الارادة العامة.

•-         الدولة السورية، حتى ولو أدارها حزب البعث الذي يعتبر الدولة اللبنانية منتجا" استعماريا"، تدرك تماما" أنّها اعترفت بالدولة اللبنانية دولة مكتملة الشروط السيادية لمجرّد توقيعها على المواثيق والمعاهدات العربية والدولية ولمجرّد خضوعها لأحكام القانون الدولي وانتمائها الى مؤسسات الشرعية الدولية. واذا أردنا أن نسلّم جدلا" بأنّ هذه الفكرة تشكّل خلفيّة الموقف الايديولوجي لسوريا من لبنان نعود الى ما أورده الدكتور نبيل في كتابه حول اسقاط مشروع فيصل: "... ولكن الحلفاء الغربيين (فرنسا - بريطانيا) أسقطوا مشروع المملكة وطردوا الملك فيصل بعد ثلاثة أشهر فقط من اعلانه ملكا".." لو لم يفعل الغربيون ذلك لقامت تلك المملكة ولكان لبنان جزءا" منها .. ألم يكن في حكومة فيصل وزراء لبنانيون ومنهم مسيحيون بالتحديد؟ وهذا ما يعنيه من يقول انّ كيان لبنان السياسي هو منتج غربي أو استعماري، فالحلفاء الغربيون هم الذين "صنعوا" الكيان اللبناني السياسي وسائر الكيانات التي تشكّلت منها مملكة فيصل..

  • - الخلاف على " لبنان التاريخي " و " سوريا الطبيعية " لم يعد يستقيم الكلام عليه في حساب المرحلتين الراهنة والآتية وحساب السياسات والاستراتيجيات الواقعية. هذا الكلام استنفد أغراضه في زمن التشكّل أو تكوين الدولتين السورية واللبنانية في عشرينيات القرن الماضي. لقد أبطلته تبدّلات حاصلة في موقف جماعات واسعة من المواطنين اللبنانيين وموقف مسؤولين سوريين ازاء استقلالية الكيان اللبناني. ألا يكفي كلام الرئيس حافظ الأسد : " نحن شعب واحد في دولتين مستقلّتين "؟!

•-         البناء على نظرية " الحدود التاريخية " التي يلجأ اليها الكيانيون في لبنان كما الوحدويون التقليديون في سوريا لم يعد من بناءات المرحلة في رسم العلاقات بين الدول واستراتيجياتها فضلا" عن أنّ هذه النظرية لا تاريخ ثابتا" يؤيّدها.. انّها تسميات جغرافية كانت تتقلّص حدودها أحيانا" وتتّسع أحيانا" أخرى..

•-         انّ طرح مشروع " سوريا الكبرى بحدودها الطبيعية " أسّس له المستشرق الفرنسي  لامنس حينما كانت السياسة الفرنسية تخطّط لبناء " دولة سوريا الطبيعية" ثمّ عاد عنه لطرح مشروع بناء دولة لبنان الكبير بعد تعديل أجرته وزارة الخارجية الفرنسية على سياستها في المنطقة. عاد فأحياه في بناء فكري متماسك الزعيم أنطون سعادة لمواجهة " مشروع اسرائيل الكبرى" فجاء ردّا" طبيعيا" عليه وعلى معاهدة سايكس بيكو التي وجد فيها الزعيم مؤامرة للتمكّن من زرع الكيان الصهيوني في منطقة جزّأها الاستعمار كيانات هشّة وضعيفة. بعد ذلك تبنّى حزب البعث العربي الاشتراكي هذا الطرح تمهيدا" لوحدة عربية شاملة تتشكّل من اتّحاد وحدات اقليمية تقوم على فكرة الدولة/المحور في اقليم فكانت سوريا هي الدولة/المحور في اقليم بلاد الشام. قيادة البعث، وعلى رأسها الرئيس حافظ الأسد، بنت استراتيجية تصدّيها لمشروع اسرائيل الكبرى على أساس أنّ سوريا هي الدولة/المحور في الجبهة الشرقية. هذه الاستراتيجية أظهرت سوريا قوّة اقليمية تتّجه الى التوسّع، التوسّع السياسي في رأيي لا التوسّع الجغرافي، وما من قوّة الاّ وتتّجه الى التوسّع وبسط النفوذ تحقيقا" لمبدأ توازن القوى في الصراعات الاقليمية والدولية. وهذا هو قانون حماية الذات والمصالح الحيوية.. فالمؤرّخ أو المحلّل السياسي حين يتجرّد من ايديولوجيته في نظرته الى منطق القوّة الصهيونية ومنطق القوّة العروبية المضادّة تتّضح له حقيقة الموقف السوري من مشروع حلم سوريا الكبرى مسقطا" من ذهنه أحكامه السالفة على " الايديولوجيات العروبوية "..

•-         قوانين " الجغرافيا السياسية " و "الجغرافيا الانسانية " تؤكّد أنّ الدولة اللبنانية ليس بامكانها أن تستقلّ استقلالا" تاما" عن سوريا، بمعنى الانفصال أو القطيعة، وأن تمارس سيادتها سيادة مطلقة، بمعنى الحياد ولو اتّصف بالايجابي، الاّ بالتبعيّة لدولة أخرى أو بتأمين حماية ما حتى ولو كانت دولية. وعليه،

•-         سوريا تحدّد للبنان مصيره الأمني والسياسي. مصر بخروجها من معادلة الصراع العربي/ الصهيوني حدّدت مصائر فلسطين والأردن وسوريا ولبنان.. واذا خرجت سوريا اليوم من هذه المعادلة ألا تحدّد للبنان مصيره؟ وعليه،

•-         انّ لبنان لا يستقلّ عن سوريا الاستقلال الذي يرغب فيه البعض من منطلق اعتبارها تهديدا" وجوديا" للكيان اللبناني من دون أن يصبح عدوّا" لها أو تابعا" لأعدائها أو محميّا" من " مطامحها " بشكل أو بآخر، حماية أو وصاية دولية واقليمية.. فالقرار المستقلّ الذي ينادي به البعض في هذه المرحلة بالذات من مراحل تاريخ الصراع في المنطقة يعني حكما" تبعيّة للقرار الأميركي أو حمايته أو وصايته ولن يذهب به الى أيّ شكل من أشكال الحياد. واذا كان منطلق بعض " السياديين " هو أنّ سوريا تشكّل تهديدا" وجوديا" مستمرّا" للبنان بصرف النظر عن طبيعة النظام الحاكم فيها فهذا يعني طلب الحماية الأجنبية مجدّدا" ولكن مغلّفا" هذه المرّة بنظرية الحياد..

•-         قوانين الجغرافيا السياسية والوقائع التاريخية تؤكّد أنّ لبنان امّا أن يكون ساحة لحروب الآخرين في زمن الحروب الصغرى وامّا أن يكون في زمن الحروب الكبرى موطئ قدم لقوى الاحتلال الأجنبي أو رأس جسر لها أو منصّة للانقضاض على سوريا ما يثبت صحة نظرية " الخاصرة الرخوة ".. وهذا هو العمق التاريخي والمعنى الاستراتيجي لخطاب الرئيس رياض الصلح الذي ورد فيه هذا المبدأ الميثاقي التأسيسي الأوّل: " ولا نريده للاستعمار ممرّا" أو مستقرّا".

•-         ولكي لا يسقط في الأولى، لبنان الساحة، ولا يسقط في الثانية، لبنان الممرّ أو المستقرّ، ينبغي اللجوء الى قوانين الجغرافيا ليس فقط السياسية بل أيضا" الانسانية والاقتصادية والأمنية والثقافية التي تقول بضرورة التكامل مع سوريا وعدم الابتعاد بلبنان الى خارج مداره الطبيعي.. لذلك أقول:

•-         انّ شعار " سيادة، حرية، استقلال " المرفوع في وجه سوريا أتمّ وظيفته في ظرف تاريخي معيّن وفي ظلّ ممارسات سورية بعضها  سيّئ ولكن أن يتحوّل الى شعار/هاجس، الى " قلق حقيقي يصل الى حدود الهاجس "، كما جاء في كتاب الدكتور نبيل، أو الى خوف دائم مرضي من سوريا أسمّيه ( syriafobie) نبني عليه نظرية ثابتة في العلاقات بين الدولتين قوامها تلطيفا" " الحياد الايجابي " فذاك سير بلبنان عكس ما تمليه قوانين الجغرافيا الطبيعية والانسانية.. ثمّ اذا كانت سوريا" فعلا" على هذه الدرجة من الضعف والعزلة التي يصوّرها لنا الدكتور نبيل لماذا هذا الذعر التاريخي منها؟!

•-         "... واليوم تزداد عزلة سوريا.." البناء على هذه الفكرة يؤدّي الى المكان الخطأ في التفكير الاستراتيجي. أنا لا أدّعي أنّ سوريا لم تمرّ في حالات ضعف وعزلة وحصار كما أنّها مرّت في حالات قوّة وانفتاح وتعامل ايجابي مع المحيط والعالم ولكن الباحث الاستراتيجي يتجاوز هذه الحالات المتبدّلة ويشدّ ناظريه الى الاتّجاه العام في التاريخ.. فسوريا منذ سبعينيات القرن الماضي أظهرت نفسها للأقربين والأبعدين أنّها قوّة اقليمية صاعدة لها ما تقوله في زمن التفاوض من أجل السلم ولها استراتيجيتها في زمن الصمود والاستعداد للحرب.

•-         حال لبنان مع سوريا هو حال من لا يملك الاّ الحوار والجرأة في الدفاع عن مصالحه معها.. وأنا أحترم جدّا" المعادلة التي أقامها الدكتور نبيل في كتابه في الصفحة 196 والتي تصلح فعلا" لبناء علاقات لبنانية سليمة حين قال: " أن يأخذ اللبنانيون بالاعتبار هموم سوريا وهواجسها الحقيقية (الأمن في رأيه) كما يعني بالمقابل أن تستجيب سوريا لهموم لبنان الكيانية الوجودية ( الحرية في رأيه ) في اطار الاحترام النابع فقط من الاعتراف بالشرعية الدولية للكيان اللبناني السيّد الحرّ المستقلّ.." ولي في هذا السياق ملاحظة تفيد أنّ تثقيل معيار الحرية لدى اللبنانيين، خصوصا" المسيحيين منهم، في رسم علاقاتهم بالآخرين وتحديدا" سوريا فيه شيء من الغلوّ فلقد تعامل الجميع مع السوريين وشاركوهم الحواجز الأمنية وتسمية ضباط الارتباط والعمليات الاستخبارية وأشركوهم في حياتهم السياسية بالجزئيات والكلّيات وأمضوا معهم شهور عسل وما أعدموا يوما" وسائل التودّد اليهم وبخاصّة بين عامي 1976 و1978 .. أمّا القول كما ورد في هذا الكتاب انّ " الحقيقة التاريخية التي ينبغي الاعتراف بها في هذا المجال هي أنّ سوريا هي التي بدّلت موقفها من المسيحيين وليس المسيحيون هم الذين بدّلوا موقفهم من سوريا.." فقولي فيه هو الآتي: هنا انتقل الدكتور نبيل من الكلام الايديولوجي الى الكلام السياسي، الى التحليل والاجتهاد في قراءة المواقف السياسية وتحوّلاتها ما يتيح للقارئ أن يكشف الوجه الآخر من التحليل القائل بأنّ المسيحيين (بعضهم في رأيي، ومختزلو خطّ أكثريّتهم التاريخي في رأي الدكتور نبيل والاّ ما كان ليجمل) هم الذين بدّلوا موقفهم من سوريا ظنّا" منهم أنّ السلام مع اسرائيل بات قاب قوسين أو أدنى بعد زيارة الرئيس السادات الى القدس والقاء خطابه في الكنيست واعلان سوريا ادانتها ورفضها لما سمّته آنذاك زيارة الاذعان والسلام المشبوه ما رتّب اعادة خلط الأوراق في المنطقة وتحالفاتها.. لذلك أقول في مجال التحليل والاجتهاد لا "حقائق تاريخية ينبغي الاعتراف   بها.."  

من تلك الاجتهادات كذلك احتساب اخراج الجيش السوري من لبنان من منجزات حركة 14 آذار. مع تقديري العالي لتضحيات جماهير هذه الحركة واستشهاد عدد من قيادييها أضيف الى ما ورد في كتاب الدكتور نبيل ما يلي: ما أخرج الجيش السوري من لبنان هو الموقف السوري من الاحتلال الأميركي للعراق وعدم رضوخ سوريا لبنود مذكّرة باول ورفضها لدعوة اسرائيل في أن تتسلّم أمن الجنوب وأن تنزع سلاح حزب الله فتهدأ الجبهة هدوء جبهة الجولان، وما أخرج الجيش السوري من لبنان كذلك هو الموقف السوري الرافض لطرد قيادات المقاومة الفلسطينية من دمشق قيادات حماس والجهاد والجبهة الشعبية واغلاق مكاتبها الاعلامية، ما أخرج الجيش السوري هو تحالف سوريا الاستراتيجي مع ايران واصرارها على تعزيز ترسانتها العسكرية بسلاح كوري شمالي متطوّر، ما أخرج الجيش السوري من لبنان هو الرهان الأميركي على عرب الاعتدال وتفكيك الثلاثي السوري/المصري/السعودي لاسقاط النظام العربي الرسمي تمهيدا" لاقامة نظام شرق/أوسطي جديد أو كبير..

ومن تلك الاجتهادات كذلك احتساب وقف تمادي النظام الأمني السوري/اللبناني العبث بمصير لبنان واللبنانيين من منجزات حركة 14 آذار. على أصحاب هذا المنطق أن يحسموا أمرهم في اتّجاه واحد وليس في اتّجاهين متناقضين: يقولون أخرجنا الجيش السوري من لبنان ولكن سوريا ما زالت موجودة فيه من خلال جهازها الأمني ثمّ يتّهمون تاليا" هذا الجهاز بارتكاب مسلسل الاغتيالات السياسية، فكيف تكون حركة 14 آذار قد حقّقت انجازا" بوقف تمادي النظام الأمني العبث بمصير لبنان واللبنانيين؟! والمسلسل مستمرّ.. وفي كلّ يوم تصريح على ألسنة بعض قيادات تلك الحركة محذّرا" من امكان العودة اليه.

ومن تلك الاجتهادات كذلك الجزم بأنّ القرار 1559 " أنهى مفاعيل الحلم التاريخي السوري بضمّ لبنان على مراحل.." هذا الحلم، مع التسليم الجدلي بوجوده وبامكان تحقيقه، هو خاضع لتعديل موازين القوى وتبدّل المصالح الدولية. فالدّعم الأميركي للوصاية السورية وربّما لما هو أبعد من الوصاية قد يعود ما يعني أنّ الحلم قابل للتحقّق مرّة أخرى.. وقبل هذا القرار صدر القرار 520 فما كان مآله؟ ألم يكن بتصرّف الارادة الأميركية؟ من هنا أرى عدم جواز الرهان على مثل هذه القرارات التي تتبدّل بتبدّل الاتجاهات والمصالح..

لهذا كلّه لا نرى سوى التفاهم مع سوريا على استراتيجية تكافؤ وتكامل في العلاقات بين الدولتين لأنّها المعطى الجغرافي والانساني الأثبت في مصير لبنان..

هذا هو حال لبنان مع سوريا حال من لا يملك الاّ أطروحة التكافؤ والتكامل معها بقوّة الثقة بالذات وليس بقوّة التبعيّة أو الممالأة.     

أمّا حال لبنان مع اسرائيل فهو حال من لا يملك الاّ مقاومة عدوانها بقوّة قوّته وليس بقوّة ضعفه..

لبنان والمطامع الاسرائيلية في الايديولوجيا والتخطيط الاستراتيجي  

 1-  الحدود والأرض

           أ - التوسّع والاسترجاع

           - الميثاق اليهوي/الأبرامي يشكّل الأصل الغيبي للادّعاء التاريخي القائل بحقّ اليهود في امتلاك أرض كنعان .. والجنوب اللبناني منها.. اذا" الجنوب هو أرض في رسم التوسّع بالاسترجاع.

           - حدود الكيان الاسرائيلي حسب بن غوريون: " بعد الاحتلال البريطاني قسّمت البلاد الى أربعة أقسام: القسم الشمالي/الغربي المكوّن من الحدود الشمالية للانتداب حتى نهر الليطاني تمّ الحاقه بلبنان.." اذا" الجنوب حتى الليطاني هو أرض اسرائيلية ملحقة بلبنان. ويعتبر بن غوريون في كتابه " أرض اسرائيل" أنّ متصرّفية جبل لبنان هي الحدود الشمالية للدولة اليهودية." ويقول في كتابه " بعث اسرائيل ومصيرها "( 1954): " ليست المسألة مسألة احتفاظ بالوضع الراهن فعلينا أن نقيم دولة غير متجمّدة، دولة ديناميكية تتّجه الى التوسّع."

وايزمن في " الكتاب السنوي " لحكومة اسرائيل عام (1955): "حدود الدولة.. لا تنقص من الحدود التاريخية لأرض اسرائيل."

ليفي أشكول عام 1964 قال: " انّ الأرض التي تملكها دولة اسرائيل لا تغطي في الحقيقة سوى 20% من فلسطين التاريخية..

نستنتج من كلّ هذا أنّ لاسرائيل حدودا" ممكنة يجسّدها الواقع الجغرافي للدولة العبرية الراهنة وأنّ لها حدودا" دائمة تجسّدها فلسطين التاريخية الممتدّة شمالا" حتى الأوّلي..             

          ب - التجزئة

                تجزئة لبنان أو تفكيكه نقطة مركزية في التفكير الاستراتيجي الصهيوني، وهذا ما بدا ظاهرا" في ثلاث وثائق:

  • - رسالة بن غوريون الى موشي شاريت (27/2/1954) التي تنصّ على انشاء دولة مسيحية في لبنان واجتزاء حدوده.
  • - رسالة ساسون الى موشي شاريت في العام نفسه التي جاء فيها ما يلي: " الموارنة لم يتخلّوا عن أحلام اعادة لبنان المسيحي... تفكيك الكيان اللبناني من شأنه أن يخلخل كيانات الدول العربية.."
  • - " استراتيجية اسرائيل في الثمانينيات " التي وضعها أودد بينون عام 1982 وترجمها اسرائيل شاهاك وهي في رأيه تجسّد وجهة نظر شارون وايتان القائلة: " الكيانات العربية هشّة يسهل هدمها بسبب خليط الأقليات الاتنية والدينية المتعادية ما يتطلّب اقامة حاميات اسرائيلية في الأماكن المركزية بين الدويلات الصغيرة.."

          ج-  المفاوضات

                        في مؤتمر مدريد لم يعترف الوفد الاسرائيلي المفاوض صراحة بحقّ لبنان بوحدة أراضيه ضمن حدوده المعترف بها دوليا". طالب باعادة ترسيم الحدود انطلاقا" من أنّ اسرائيل لها الحقّ بحدود آمنة وقابلة للدفاع عنها.

انّ نظرية الحقّ في الأمن والمدى الحيوي أو الاستراتيجي تلغي نهائية الحدود وثباتها وتطرح مبدأ الحدود المتحرّكة أو المفتوحة على التوسّع أو المصالح.

وبغية تطبيق هذه النظرية تصرّف الوفد الاسرائيلي على أساس أنّ القرار 425 لم يعد موجودا" وأنّ اتّفاقية الهدنة لعام 1949 لم تعد قائمة.. وهذا ما يعني من وجهة نظر اسرائيل أنّ الحدود القائمة حاليا" بموجب اتّفاقية الهدنة ليست حدودا" دولية..

2 - الأمن

            لبنان مجال لاختبارات الأمن الاسرائيلي وذلك بشعار " سلامة الجليل ". الجنوب حاجة ملحّة لضمان هذه السلامة. ولبنان كلّه دخل فعليا" في المجال الحيوي للأمن الاسرائيلي. ولكن،
- الحزام الأمني زال بشكليه، الاحتلال المباشر والاحتلال غير المباشر (شريط سعد حداد وأنطوان لحد)
- تأمين سلامة الجليل بالاجتياح لم ينجح (1978)
- فرض الأمن باجتياح بيروت (1982) ارتدّ عليها مقاومة وقتلى وانسحابا" سريعا" ومكبّرات الصوت تدعو أهالي بيروت الى عدم اطلاق النار على جنودها المنسحبين.
- فرض الأمن من طريق السلام بالاذعان سقط ( اتفاق 17 أيّار)
- الحرب الوقائية والخاطفة (1993 و1996) لم تثمر.
- المواجهة المباشرة مع المقاومة على امتداد سنوات أسفرت عن انسحاب سريع ومفاجئ في العام 2000 وتحرير الأرض ياستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
- الحرب التدميرية على لبنان ومقاومته انتهت ولم توفّر سلامة لا للجليل ولا للداخل الاسرائيلي وما زالت صواريخ المقاومة تهدّد الأمن الاسرائيلي.
- اخراج المقاومة من المعادلتين العسكرية والسياسية فشل عبر القرارين 1559 و 1701

بعد كلّ هذا نقرأ في كتاب الدكتور نبيل ما يلي:

" ... النظرة العامة للمسؤولين الاسرائيليين لم تعد تعتبر، ظاهريا" على الأقلّ، (استدراك تسويغي؟) أرض لبنان جزءا" من أرض اسرائيل بالمعنى الجغرافي المباشر..( هل ثمّة معنى جغرافي غير مباشر؟ ما هو؟) من ذلك تصريح ( التصريح لا يرقى الى مستوى الوثيقة التاريخية) مناحيم بيغن: "انّ اسرائيل لا تطمع بشبر واحد من الأراضي اللبنانية." (1982) وفي مختلف الظروف، يتابع الدكتور نبيل، لم يضع الخطاب الرسمي الاسرائيلي (أيّ خطاب وفي أيّة مرحلة وعلى لسان من؟) الأراضي اللبنانية في عداد "أرض اسرائيل".. (ص. 158)

اذا كان فعلا" الدكتور نبيل مقتنعا" بهذا الكلام أسجّل عليه ملاحظتين:
- بهذا الكلام يكون قد هدم بنفسه ركنا" من ركني نظريّته في الحياد القائمة على مطامع اسرائيل ومطامح سوريا، مطامع اسرائيل في الأرض وفي المياه وفي الصيغة..
- وبهذا الكلام يكون قد ناقض نفسه لكلام آخر وارد في الصفحة 168 جاء فيه: " اسرائيل دولة عنصرية توسّعية... سعت دائما" الى احتياز لبنان... مدفوعة بمبرّرين: لاهوتي توراتي حول أرض اسرائيل وديموغرافي عنوانه هجرة اليهود الى فلسطين، وبالتالي ضرورة توسيع الحيّز لاسكانهم..."

من كلامه الأخير هذا نفهم أنّ لبنان جزء من استراتيجية التوسّع الاسرائيلية، فكيف لنا أن نشكّ ولو للحظة في مطامعها بالرّغم من خطابها الرسمي الذي كما رأى الدكتور نبيل لا يضع الأراضي اللبنانية في عداد "أرض اسرائيل" ؟!

لبنان في مواجهة المطامع الاسرائيلية

            طروحات " القوّة " أي قوّة لبنان في قوّته وليست في ضعفه يقول الدكتور نبيل أنّها انمازت بمقاربة فيها الكثير من الطوباوية..

أنا أرى أنّ الطوباوية هي في المنطق الآخر واستند في رؤيتي هذه الى أمرين، واحد يتعلّق بما أصاب لبنان منذ قيام الدولة العبرية، وآخر يتعلّق بنصوص واردة في الكتاب نفسه. 

- ما أصاب لبنان منذ قيام الدولة العبرية حتى اليوم من تدخّلات وتهديدات واعتداءات واحتلالات هو من تداعيات منطق قائل: قوّة لبنان في ضعفه. لا " الصيغة الفريدة " أمّنت له الحماية من اسرائيل ولا الصداقات الدولية.. وهذه هي وقائع لا ينكرها متبصّر.
- أمّا النصوص المستلّة من الكتاب التي لا أجد فيها أيّ ملمح طوباوي فأوردها بحرفيتها كما يلي:

"... راحت اسرائيل تنكفئ عن قسم كبير من هذه الأراضي المحتلّة امّا بالمعاهدات(مصر،الأردن) وامّا بانسحاب في ظلّ مقاومة مسلّحة (لبنان 2000) ص. 158

"... ولعلّ في رأس تلك الموانع " الممانعة " اللبنانية شعبا" ومقاومة في التصدّي لمطامع اسرائيل التاريخية في لبنان: فكريا" وسياسيا" وعسكريا" من زمن ميشال شيحا في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات وصولا" الى المقاومة الاسلامية (الشيعية) من أواسط الثمانينيات حتى العام 2000

"... مع حزب الله تحوّل لبنان دولة المواجهة الوحيدة.. وأصبح الحزب يشكّل تحدّيا" جدّيا" لاسرائيل في مرحلة الاحتلال وبعد التحرير وحقّق انجازات مؤكّدة في حرب تموز 2006، كما هدّدت قدراته الصاروخية التي أطلقها على اسرائيل بشكل مكثّف، في البحر والبرّ، هدّدت جدّيا" أمن اسرائيل.. وازداد هذا التهديد خطورة باعلان الأمين العام لحزب الله أنّ لدى الحزب صواريخ قادرة على أن تصيب كلّ مكان في اسرائيل، ممّا يعني في اللغة الأمنية امكان قصف منطقة ديمونا في النقب حيث توجد مفاعلات اسرائيل النووية أو منطقة طبريّة حيث يوجد شريان نظام اسرائيلي المائي.." ص. 165

"... أمام باراك هدف استعادة قدرة الردع لجيش اسرائيل في مواجهة حزب الله.." ص. 165

يستنتج الدكتور نبيل من هذه النصوص أنّ ثمّة هاجسا" أمنيا" سيواجه اسرائيل للعام 2008.. وأنّ حزب الله أفقد الجيش الاسرائيلي قدرته على الردع.

هنا أطرح الأسئلة الآتية: أيستنتج الدكتور نبيل من نصوصه ما هو طوباوي؟! ما هو مصدر هذا الهاجس؟ أنظرية قوّة لبنان في ضعفه أم نظريّة قوّة لبنان في قوّته؟

واذا كانت اسرائيل قد عملت وما تزال تعمل على أن يكون لبنان دولة ضعيفة، على حدّ تأكيده في الصفحة 168، فكيف تستقيم معادلة قوّة لبنان في ضعفه؟!

ويضيف الدكتور نبيل: "... ويختصر ميشال شيحا في كتابه فلسطين هذا الموقف بالقول: انّ اسرائيل لا تريدنا مسلّحين بل تريدنا ضعفاء في كلّ شيء... أي أن ترانا بدون سلاح.."

من هنا نفهم أنّ اسرائيل لا تريدنا أقوياء بقوّة السلاح أفلا نواجه مطامعها بطروحات " القوّة " التي رأى الدكتور نبيل أنّها انمازت بمقاربة فيها الكثير من الطوباوية؟!

من كلّ هذا أستخلص ما يلي:
- انّ للسياسة غايات والقوّة وحدها هي الوسيلة التي لا محيص عنها لتحقيق تلك الغايات.
- القوّة هي المعيار الرئيس في العلاقات الدولية حتى الديبلوماسية لا تكون فعّالة ما لم تستند الى القوّة.
- لبنان يعيش في محيط خاضع لقوّة اسرائيل واسرائيل لا تستخدم الاّ القوّة ولا ترتدع الاّ بالقوّة. والتسليم المسبق بأنّ لبنان غير قادر على بناء قوّة تردع قوّة اسرائيل لتسويغ نظرية الحياد كما أوردنا في بابه مسألة فيها نظر..

يقول سبيكمان " انّ التصوّرات والمثل السياسية ما لم تسندها القوّة تبدو قيما" ذاوية.."

انّ التجريدات الأخلاقية التي منها نظرية قوّة لبنان في ضعفه لا تتّفق مع الواقع السياسي الدولي والاقليمي المحكوم بسياسة القوّة..  

في الموقف من سوريا واسرائيل ومقاربة العدو ومصادر تهديد لبنان

                    بعد عرضنا لاشكالية لبنان والمطامح السورية واشكالية لبنان والمطامع الاسرائيلية نعرض اشكالية الموقف منهما ومقاربتهما عدوّين للبنان كما نفهم من النصّ التالي:
"... فهناك جهّات سياسية وعقائدية ... ينطلقون من مسلّمة ميتافيزيقية (غيبية) وليس علمية لمقاربة موضوع " الآخر" أي العدو... ولأنّهم يسقطون على الآخر التصنيف الديني فانّهم سيصلون حكما" وحتما" الى النظرة الواحدية للعدو أي: هناك عدوّ واحد وهو بالتأكيد اسرائيل.."

بشأن هذا النصّ أسجّل الملاحظات الآتية:
- كنّا قد قرأنا كلاما" آخر يفرق بين اسرئيل وسوريا، بين عدو وخصم، بين طامع وطامح.. يبدو أنّ التفريق بينهما كان لغويا" أو نظريا" بدليل أنّ مضمون هذا النصّ واضح لجهة الموقف منهما ومقاربتهما عدوّين يتساويان في درجة تهديدهما للبنان.
- الانطلاق من مسلّمة غيبية لاعتبار اسرائيل عدوّا" لدى فريق يعادل في رأيي الانطلاق من مسلّمة ايديولوجية لاعتبار سوريا عدوّا" لدى فريق آخر، فالمسلّمات الميتافيزيقية كما الايديولوجية تنتمي الى اللاّمعقول السياسي، وهذه تؤدّي كما تلك حكما" وحتما" الى النظرة الواحدية للعدو.. وهذا هو شأن جهّات سياسية وعقائدية تنطلق من مسلّمة ايديولوجية وتسقط على الآخر التصنيف الايديولوجي في الوصول الى أنّ سوريا هي العدو.
- الجهّات السياسية والعقائدية التي يشير اليها هذا النصّ لا تعتبر اسرائيل عدوّا" لأنّ اليهود هم أعداء الدين بل لأنّ دولة صهيونية عنصرية استعمارية احلالية توسّعية أغتصبت أرض فلسطين واحتلّت أراضي سورية ولبنانية. الأعداء هم الصهاينة من كلّ الأديان فهناك صهاينة ليسوا يهودا" وهناك يهود ليسوا صهاينة. وهذا واضح في كلّ الأدبيات السياسية العائدة لمعظم تلك الجهّات خصوصا" القومية منها.. واذا كانت جهة من تلك الجهات تعتمد التصنيف الديني للآخر الذي هو اسرائيل فلأنّ اسرائيل صنّفت نفسها دولة يهودية وشنّت على العرب حروبها الدينية وطمست معالم القدس الاسلامية والمسيحية.. أمّا القول بأنّ حزب الله في نظرته الى اسرائيل ينطلق من " قراءة قرآنية " تعتبر أنّ اليهودي هو صاحب مشروع قائم على ذهنية شعب الله المختار فأطرح بشأنه الأسئلة الآتية:
- أشرعية الكيان الصهيوني شرعية دينية أم لا؟
- أهو فوق القوانين والمواثيق والقرارات الدولية أم لا؟
- ألم يؤسّس على مجموعة أساطير ومنها اختيارية الشعب ووعدانية الأرض؟
- أليس هو كيانا" مقدّسا" في رأي الصهيونية العالمية يهيّئ نفسه لمجيء المسيح المنتظر بعد انتصار اسرائيل في معركة مجدّون وقيام الهيكل؟
- ألا تعتقد الصهيونية العالمية أنّ هذا الكيان يحمل " رسالة خلاصية؟"
- أليست الصهيونية العالمية هي التي فرضت على هذه المنطقة صراعا" من طبيعة دينية؟ (صراع الآلهة على الأرض) وهو صراع مفتوح لا ضوابط له ولا قيود الاّ ارادات السماء!
كنت أفضّل عدم الدخول في مثل هذه المتاهات الغيبية التي أقحم نفسه فيها الدكتور نبيل وفي " القراءة القرآنية " التي هي ليست واحدة في أيّ حال وذلك في شرحه لموقف حزب الله من اسرائيل واعتبارها عدوّا" من باب قرآني ومقاومتها من باب " الجهاد " أو " التكليف الشرعي ". ليس المهمّ لماذا يعتبر حزب الله أنّ اسرائيل هي العدو.. المهمّ أنّها باحتلالها لأرض فلسطين وأرض لبنان وأرض سوريا هي عدوّ .. وأسطع الحقائق هي التي تدرك بالبداهة.. هذا، فضلا" عن أنّ الدكتور نبيل نفسه يعتبر أنّ ما هو مطامع لدى اسرائيل هو مقدّس لا يتغيّر كما أورد في كتابه ص. 356

تأسيسا" على هذا الفهم الغيبي أو الديني القرآني لموقف حزب من اسرائيل يفرّق الدكتور نبيل على المستوى القيمي بين نموذجين للمقاومة، بين ما يسمّيه "المقاومة اللبنانية" ومقاومة حزب الله. انّ هذا التفريق على المستوى القيمي لا يستقيم. قد يستقيم فقط على المستوى السياسي. أوليست مقاومة حزب الله ممارسة تاريخية في الدفاع عن القيم؟ هل القيم الاسلامية (قيم العقيدة الشمولية) التي دافع عنها حزب الله واستشهد في سبيلها آلاف الشهداء هي غير قيم الانسان ككائن حرّ وغير الكرامة البشرية والحرية التي يقيم منها الدكتور نبيل مساحة الفصل بين "المقاومة اللبنانية" ومقاومة حزب الله.. ألا تكفي صرخة " هيهات منّا الذلّة؟ ".

أمّا القول بأنّ حزب الله " لا يؤمن بشيء اسمه كيان اسرائيلي ولا يمكن له أن يعترف بهذا الكيان الغاصب حتى ولو اعترف العالم كلّه به " فهذا من حقّه كحزب على المستويين الاعتقادي أو الايماني والسياسي. فالاعتراف السياسي بهذا الكيان أو عدم الاعتراف به هو من شأن  الحكومة اللبنانية ولحزب الله الحقّ المطلق في تأييد موقفها أو معارضته أو المشاركة في اتّخاذه. انّ من يمنح الشرعية القانونية لهذا الكيان هي الحكومة اللبنانية. أمّا مسألة اعتباره  كيانا" غير شرعي حتى ولو اعترفت به حكومات العالم كلّه ومنها الحكومة اللبنانية فهي حقّ لأيّ حزب أو فريق أو فئة أو فرد على أن يلتزم في نضاله ضدّه القوانين اللبنانية والقانون الدولي والاتفاقيات الدولية. وعليه انّ مقاومة حزب الله لعدوان هذا الكيان واحتلاله للأرض اللبنانية تلتزم حدود ما تنصّ عليه تلك القوانين وتلك الاتفاقيات.. وعدم ايمانه بشيء اسمه كيان اسرائيلي فمسألة حقّ ايماني اعتقادي لا يحقّ لأحد انتزاعه منه.. فالقيود لا توضع على الاعتقادات بل على الممارسات.. فهل حزب الله هو الذي يعتدي على الكيان الغاصب لمجرّد أنّه لا يمكن له أن يعترف به؟!  

وفي مقاربته للجهّات التي تهدّد لبنان تعدادا" وتصنيفا" يميّز الدكتور نبيل بين مصادر تهديد حكمي وقائم ومصادر تهديد مشروط ومحتمل. مصادر التهديد الحكمي والقائم هي اسرائيل وسوريا والفلسطينيون والارهاب الدولي وايران. أمّا مصادر التهديد المحتمل والمشروط أو المقيّد ب (اذا) فبادية في هذا النصّ:

"... وأيّة جهّة أو دولة ( أميركا ودول أوروبا ) أو اقليمية أو عربية اذا حاولت أن تفرض على لبنان قواعد عسكرية أو أحلافا" عسكرية أو أيّة خيارات سياسية أو أمنية أو اقتصادية تضرّ وتناقض مصالح لبنان الحيوية.."

بشأن هذه المقاربة وهذا النصّ أسجّل أربع ملاحظات:
- أن توضع اسرائيل وسوريا والفلسطينيون وايران والارهاب الدولي على سويّة واحدة في تعيين المصادر التي تشكّل تهديدا" حكميا" وقائما" للبنان مسألة فيها نظر. والنظرة الواحدية اليها لا تستقيم لا من حيث المبدأ ولا من حيث الواقع، لا من حيث الخطاب ولا من حيث الممارسة.
- جوهر الخلاف بين اللبنانيين هو تحديد العدو وتعيين مصدر التهديد للبنان، وهو، تاليا"، تحديد هويّته السياسية وتوجيه مصالح لبنان الحيوية.
- أيّ فريق سياسي في لبنان ليس مخوّلا" تحديد " أيّة خيارات سياسية أو أمنية أو اقتصادية تضرّ وتناقض مصالح لبنان الحيوية .." هذا النصّ يوحي بوجود " أحد ما " يمتلك هذا الامتياز!.. أنا من الذين يرون أنّ أميركا حاولت وتحاول أن تفرض على لبنان قواعد عسكرية وأحلافا" عسكرية وخيارات سياسية وأمنية عبر تلزيمها لبنان لاسرائيل حينا" ولسوريا حينا" آخر وللاثنين معا" في كلّ الأحيان، واقتصادية عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تضرّ وتناقض مصالح لبنان الحيوية.. بهذه المعايير تبدو أميركا مصدر تهديد للبنان.. وسواي يرى عكس ذلك.. أين الفيصل في كلّ هذا؟!
- في قراءته للموقف الأميركي، وبعيدا" عن قيود تلك ال "اذا" الشرطية، نقع في الكتاب على نصّ يخالف هذا النصّ المشروط بها، ومتحرّر من قيودها، يقول:
"... في ضوء هذا المعطى النفطي الجديد أصبح من المعقول والمنطقي اعطاء تفسير وتبرير اضافي للموقف الأميركي الحازم وحتى " الحيوي " ازاء حرية لبنان وسيادته واستقلاله.. أكثر من ذلك صار ممكنا" تفسير الكلام الذي يتردّد منذ فترة عن سعي أميركا الى اقامة قاعدة عسكرية في لبنان على الشاطئ الشمالي.."

أنا لا أفهم الموقف الأميركي الذي يعتبره الدكتور نبيل حريصا" على حرية لبنان وسيادته واستقلاله من جهة ولا أفهم في الوقت نفسه الموقف الأميركي الساعي الى اقامة قاعدة عسكرية في لبنان من جهة أخرى! واذا كانت القاعدة المفترض انشاؤها هي للهيمنة على حقول النفط كما يرى الدكتور نبيل فماذا يبقى من اعتباره الموقف الأميركي الحازم والحيوي ازاء حرية لبنان وسيادته واستقلاله؟! الاّ اذا كان الموقف الأميركي الحازم والحيوي يعني حرية لبنان وسيادته ازاء سوريا واستقلاله عنها ولا يعني تاليا" حرّيته وسيادته ازاء أيّ كان واستقلاله عن الجميع بمن فيهم أميركا..

وبالاستناد الى النصّ السابق الذي يحدّد مصادر التهديد للبنان بكل دولة تحاول أن تفرض على لبنان قواعد عسكرية أو خيارات اقتصادية تضرّ وتناقض مصالح لبنان أسأل الدكتور نبيل: ما الفرق بين المحاولة الواردة في النصّ الأوّل والسعي الوارد في النصّ الثاني؟ أنا لا أرى فرقا" بين الاثنين، وبالاحتكام الى المعيار الذي وضعه الدكتور نبيل نفسه في النصّ الأوّل أجد أن أميركا تشكّل مصدر تهديد حكمي وقائم للبنان.

اللجوء الى التاريخ دفاعا" عن خصوصية لبنان

وتعظيم الذات الكيانية

                  هذا الكتاب ينتمي الى كتابات المدرسة التأريخية القائلة بتاريخ للبنان خاصّ ومميّز في ذاته ومنفصل عن تاريخ محيطه وتحديدا" تاريخ " سوريا الطبيعية " أو " بلاد الشام."

هذه المدرسة لها مصادرها ومؤرّخوها الكثر الذين منهم: ابن القلاعي في زجليّته، حيدر الشهابي في " الغرر الحسان"، طنوس الشدياق في " أخبار الأعيان في جبل لبنان"، بطرس نجيم في " المسألة اللبنانية " (بالفرنسية) الأب بولس قرألي في " تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني "، فيليب حتّي في " لبنان في التاريخ "، كمال الصليبي في " تاريخ لبنان الحديث " وذلك قبل أن يطلّق هذه المدرسة في كتابه " بيت بمنازل كثيرة "، فضلا" عن أسد رستم وفؤاد أفرام البستاني.. ولكن، على الرغم من أهمّية هؤلاء جميعأ, فانّ الأب اليسوعي لامنس هو مؤسّس المدرسة الفينيقية في تاريخ لبنان التي نشطت خلال عهد الانتداب وهو الذي ملأ مجلّة " المشرق " بأبحاث دعمت هذه المدرسة التي تركّز على استقلالية المقاطعات اللبنانية عن محيطها العربي والتي أسّست لفكرة " القومية اللبنانية " وللكيانية اللبنانية وللخصوصيّة اللبنانية..

هنا أشير الى أنّ الأب لامنس نفسه كان مترجّحا" بين الكلام على وحدة سوريا وعلى جغرافيا سوريّة واحدة وعلى شعب سوري واحد وبين نقيض هذا الكلام على خصوصيات تسوّغها الحواجز الطبيعية بين سوريا ولبنان.. وهو عندما كان يتكلّم على الفينيقيين فهو لم يكن يربطهم بلبنان فقط بل انّه كان يتكلّم عليهم من حيث انتشارهم في سوريا وفلسطين ولبنان.

لهذه المدرسة مدرسة تقابلها هي مدرسة تاريخ سوريا ولبنان.. ومن أبرز أعلامها البطريرك اسطفان الدويهي في " تاريخ الأزمنة " الذي قرأ فيه تاريخ الموارنة من خلال قراءته لتاريخ بلاد الشام، أحمد الصفدي الذي كتب تاريخ فخر الدين المعني الثاني وعلاقاته بالأسر الاقطاعية في مختلف أنحاء بلاد الشام وليس في المناطق اللبنانية فقط. كذلك فعلت تقارير القناصل وكتب الرحّالة الذين لم يتحّدثوا عن المقاطعات اللبنانية بمعزل عن مقاطعات بلاد الشام. ومن مؤرّخي هذه المدرسة زكي النقّاش وعمر فرّوخ.

ثمّة مدرسة ثالثة في التأريخ تناولت تاريخ لبنان كجزء له خصوصيته في بلاد الشام. من أعلامها: المطران يوسف الدبس في " تاريخ سوريا"، جرجي ينّي في " تاريخ سوريا "، الأب لامنس في " سوريا " (بالفرنسية) الذي يعتبر أنّ للبنان وضعا" خاصا" في تاريخ سوريا وذلك قبل أن يضع كتابه "تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من آثار " الداعم لانشاء كيان لبناني مستقلّ عن محيطه بناء على طلب من سلطات الانتداب الفرنسي وحيث يظهر الخصوصية اللبنانية ويطلق فكرة لبنان/الملجأ.

المحاججة التاريخية بين هذه المدارس تثير اشكالية الانتماء اللبناني الى هويّة ما، اشكالية الهويّة التاريخية التي كانت محور خلاف ونزاع بين اللبنانيين.. أمّا وقد حسمت هويّة لبنان السياسية فالتاريخ لم يعد يشكّل قوّة اسناد في الصراع مجدّدا" على الهويّة.

هذا والشعوب تصنع تاريخها وهوياتها ولا تنتمي اليه أو اليها فقط والاّ تحوّل الانتماء الى تاريخ ما قوّة اكراه وتسلّط. انّ الامتثاليّة لتاريخ ما توقف حركة التاريخ عن تطوّرها. انّ تعليب التاريخ أو استحضاره بغية استخدامه في الصراع الايديولوجي هو اعتداء عليه فضلا" عن أنّ المحاججة التاريخية لا توصل الى اليقين المبرم. لذلك،

أرى عدم جواز اقحام التاريخ في مشاكل الحاضر خصوصا" متى كانت مقاربتها مقاربة ايديولوجية. فالتاريخ لا تستوعبه الايديولوجيا. والايديولوجيا تحوّل التاريخ الى املاء، الى نصّ املائي مغلق. والتاريخ هو مادة للبحث المفتوح لا الاملاء المقفل.. وهذا هو الفارق بين الباحث والمؤدلج. الباحث يدرس والمؤدلج يملي. الباحث يطرح المقدّمات وصولا" الى النتائج.. المؤدلج يضع النتائج مسبقا" ثمّ يسعى الى تأكيدها..

في ضوء هذا وجدت أنّ هذا الكتاب هو كتاب ايديولوجي بامتياز..

الايديولوجيا قراءة مضلّلة للواقع. من أضاليلها ما يلي:

  • - لبنان لا ينتمي حضاريا" الى الحضارة العربية، لبنان المسيحي ينتمي الى الحضارة الغربية، لبنان هو جزء من العالم الغربي.
  • - لبنان ملجأ الأقليات سياسيا".
  • - لبنان حاجز جغرافي وحضاري وسياسي في وجه العروبة.
  • - الجبل يواجه الصحراء ويحمي الخصوصية ويفتح على المتوسّط، انّه يعطي لبنان مناعته بفصله عن الصحراء ووصله بالبحر.

الايديولوجيا لا تعبث بالتاريخ فقط بل يبدو كذلك، من خلال هذه الأضاليل، أنّها تعبث بالجغرافيا فتسخّرها لتحديد الهويات لا السياسية فقط انّما الحضارية كذلك.. انّ الجغرافيا على افتراض حسن التعامل معها تبقى أضعف العناصر المحدّدة للهويات.

هويّة كلّ شيء بما فيها هويّة شعب ما تتحدّد في تطوّره لا في سكونه. الهويّة ليست معطى ثابتا" في التاريخ وفي الجغرافيا بل متحوّل. والباحث يتعامل معها حركة في التاريخ وفي الجغرافيا أمّا المؤدلج فيأسرها في تصوّرات ذهنية جامدة ومطلقة ويستخدمها حقيقة ذهنية مجرّدة في سجاله الايديولوجي لتسويغ شرعيّة امتيازها أو انميازها.

هذا الكتاب وفي هذه النقطة بالذات ينتمي الى تلك الكتابات التي تقارب هويّة لبنان كما لو كانت تعيد صناعتها. لذلك أجد أنّه مغرق في استنباط الخصوصية اللبنانية وأنّه استنساخ نظريّ لأفكار ايديولوجية سابقة تحدّرت من ايمان لاهوتي سرمدي بقيمة لبنان وانسانه وجعلته صاحب رسالة أو دعوة كما لو كان معطى الهيا" تحميه العناية. دليلي الى ذلك استنساخه أو استحضاره للنصوص التاريخية التي تؤلّه التراث اللبناني متّخذا" منها "حكمتها" كما لو أنّها كانت نصوصا" دينية غير قابلة للنقض أو الاجتهاد، حقائقها ثابتة وصالحة في أيّ زمان وفي أيّ سجال خصوصا" سجال الهويّة.

انّ التذرّع بمثل هذه النصوص لا يوفّر البناءات اللاّزمة للنصوص الجديدة والتوقّعات والاستراتيجيات السياسية والعامّة. والقاعدة في هذا هي أنّ صلاحية النصوص التاريخية، مع التسليم المبدئي بصحّة حقائقها، هي محدودة بحركيّة الواقع المتحوّل وحيويّة العقل المبدع وبالنظرة البراغماتية لعالم السياسة التي تجعل صاحبها أو الكاتب فيها أو الباحث في شؤونها يدرك حدود المعقول متجاوزا" المعيارية النصّية التي لم تعد صالحة للسير على هديها في الحديث عن مستقبل لبنان كما لو كان تاريخه رسالة نبيّ أو كما لو كانت حضارته من مملكة السماء..

هذا الكتاب يحاول أن يضع قواعد للدراسات السياسية والاستراتيجية الجديدة متوسّلا" في طروحاته حصاد كتّاب القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لا استقراءات الواقع الراهن من دون التنبّه الى ما بين الماضي والحاضر من فروق.

انّ الاستناد الى كتابات هؤلاء أو استنساخها أو استحضارها لمواجهة خصوم " الهويّة " لا يصحّ أساسا" لبناء تصوّر استراتيجي لمستقبل لبنان لأنّ تلك الكتابات جاءت لظروف خاصّة بأصحابها الذين وضعوها على قاعدة التحدّي والاستجابة ( قاعدة توينبي ). تحدّيات اليوم تختلف عن تحديات الأمس والاستجابة لها تاليا" ينبغي أن تكون مختلفة.

انّ الكيانيين اللبنانيين الذين ناضلوا في سبيل " لبنان الكبير " واستقلال الدولة اللبنانية بكيانها الجغرافي الراهن بدأوا باحياء تاريخ لبنان المتخيّل وتاريخ لبنان الموضوعي على السواء لأنّ المشكلة التي واجهتهم كانت مشكلة الجغرافيا فظنّوا أنّ لبنان هو ثمرة تاريخ وأنّ تاريخه يصنع جغرافيته أو يثبّتها ازاء من كان ينفيها أو ينكر ثباتها. من هنا نشأت الرغبة لديهم في تعظيم هويّة لبنان التاريخية فمنهم من وقع في " المثالية " المغرقة في " الأسطورية " أو " أسطرة التاريخ " (mythifier l' histoire) فاستولت عليهم نزعة حماسية صريحة فألبسوا لبنان ثوبه الرسالي الأخلاقيّ المطلق ( حرية، مساواة، عدالة،ديموقراطية..) فضلا" عن أبعادها الفلسفية واللاهوتية والروحية فبات لبنان لبنان الجمال والشعر والأبجدية والثقافة والاشعاع والمنارة والكنز والواحة والعظمة والخلود... لبنان المقدّس!

يقول خوسيه أنطونيو سانتياغو في كتابه " الأمّة المقدّسة " ما يلي:

" انّ تحويل التاريخ الى مقدّس هو ما يسمح بتكوين الأمّة اذ يجعل الجماعة ثابتة جوهريا" رغم مرور الزمن."

وهذا ما فعله الدكتور نبيل أسوة بالذين سبقوه الى هذا التقديس اجازة للكلام على " أمّة لبنانية ".

هذا الكتاب يستنسخ عقيدة " الأمّة اللبنانية المقدّسة " بالاستناد الى "تاريخ منتقى" تبعا" لدوافع ايديولوجية تتبنّاها فئات لبنانية معيّنة. هنا التاريخ يوظّف في خدمة الايديولوجيا. وعليه،

يبدو علم التاريخ المعتمد في هذا الكتاب استرجاعا"لصياغات وضعت في الأصل بهدف التسويغ والدعوية والتبشير ( كتابات ميشال شيحا تشكّل المصدر الرئيس لهذا الكتاب ).

الشكّ المنهجي الذي هو أصل حاكم في علم الاقتباس يدقّق في مراجعه قبل توظيفها في سياق تاريخي مختلف عن السياق الذي وضعت فيه أصلا" حتى لو كانت الدوافع الايديولوجية مشتركة. من هنا نستخلص ما يلي:

هذا الكتاب من وجهة نظري ليس متحرّرا" من قيود فكرية مسبقة، قيود تبشيرية دعوية وضعت في ظرف تاريخي تأسيسي خدمة للايديولوجيا الكيانية. هذا الكتاب مشدود الى مراسي ميشال شيحا الأخلاقية.

هذا الكتاب يعمل لصالح الدعوة الكيانية ويسعى الى تكريس تلك القيود اذ يجد فيها أطاريح فكرية جاهزة لمقارعة أصحاب الدعوات الوحدوية في زمن مختلف عن زمن التأسيس الأوّل جرى فيه تعديل نظري جذري للموقف من الكيان اللبناني وللموقف من الوحدة.

العودة الى أدلجة الكيان الكيان اللبناني بالأطاريح الفكرية نفسها التي استخدمها الكيانيون الأوائل لم تعد من ضرورات المرحلة، والاتّكاء على أدبيات ميشال شيحا وفهمه للبنان وغناه النفسي والفكري وذكائه وفنّه وتجربته الانسانية هو اتّكاء على أمور لم تعد قائمة وتاليا" انّ مستقبل لبنان لا يبنى على مثل هذه الأناشيد..المستقبل يبنى على ما هو قائم.. هذا الاتّكاء هو عمل استرجاعي يتجاوز الواقع بما لا ينطبق عليه. هذا العمل الاسترجاعي يشدّ القارئ الى ماض حنيني متخيّل أكثر ممّا يشدّه الى مستقبل اجرائي قابل للتحقّق لا بل يضيّع عليه بوصلة المستقبل الممكن أو دليله اليه.

انّ " دعوة لبنان التاريخية " كونه وطن الحرية والتعدّدية والحوار ودعامة أساسية من دعائم حقوق الانسان والديموقراطية والسلام اصطفائية لا هوتية مصطنعة متحدّرة من بعد ثقافي ديني/توراتي وانجيلي توحي لأصحابها أنّ لبنان له قدره منذ الأزل! هذه ليست دعوة بالمعنى الرسولي.. انّها دعوة بالمعنى الوثني أو الاصطفاء الكاذب. أمّا بالمعنى الواقعي/التاريخي فالدعوة هذه هي ارث متوسّطي تشاركت في صنعه شعوب المتوسّط المنتشرة على ضفّتيه وليست خصوصيّة محض لبنانية.. يقول نيتشه في المتوسّط انّه أكثر بحار العالم انسانية.

هذه " الدعوة التاريخية " الكامنة وراء الرغبة في تعظيم الأنا دفعت الدكتور نبيل الى الربط التعسّفي بين الأرض اللبنانية كجزء من فينيقيا، بين الفينيقيين الذين عاشوا فوق هذه الأرض، وبين الدولة اللبنانية بحدودها الراهنة وبين اللبنانيين بواقعهم الراهن، بين الديموقراطية الفينيقية والديموقراطية اللبنانية كأنّ تاريخ الثقافات أو الحضارات موصول ولا يتعرّض لما يسمّى في علم اجتماع المعرفة " القطع المعرفي ".. انّ المتغيّر هو الثابت الوحيد في المجال الثقافي أو الحضاري. هذا هو قانون تاريخي لا شكّ في سلامة أحكامه. يقول:

" المنحى الديموقراطي اللبناني أشبه بحبّة الحنطة داخل النفس اللبنانية منذ الفترة الرومانية الى اليوم.."( ملاحظة على الهامش: في الصفحة 120 ثمّة ما يناقض مضمون هذا الكلام!) وفي موضع لاحق يجعل الديموقراطية "نزعة أصيلة لدى الشعب اللبناني" على امتداد التاريخ، ويرى فيها " ثروة لبنان الدهرية." 

هذه المسحة الروحانية الجليلة تجلّت كذلك في رؤيته " للطاعة المحبّة " في التقليد الرهباني حيث رأى في هذه الطاعة " منتهى الروحية الديموقراطية اللبنانية الحقّة قبل هبوب رياح الديموقراطية للثورة الفرنسية بمئة سنة."

أليس في هذه الرؤيا توسّع في استخدام مصطلح الديموقراطية؟ أوليس فيه مقارنة لا تستقيم في سياق تاريخي أو فكري؟

ومن الاتّكاء على أدبيات ميشال شيحا الى الاتّكاء على أدبيات يوسف الحوراني حول " الشخصية اللبنانية " التي نجحت بأن تكون " قوى حضارة ذات فتوحات ذهنية انسانية عظيمة.." لماذا هذا الغلوّ والارتفاع ب"الشخصيّة اللبنانية" التي هي في رأيي شخصيّة افتراضيّة تخييلية من مستوى الوقائع الى مستوى الحقائق السرمدية؟

انّ الاتّكاء على هذه الأدبيات والتمسّك بها بدون نقد أو تقويم يجعلها بمثابة حقائق مشكوك بصحّتها و" تاريخانيّتها " وتاليا" حقائق غير صالحة أساسا" لبناء فكري استراتيجي قابل للتحقّق.

هذه الأدبيات، خصوصا" أدبيات ميشال شيحا، كوّنت في أذهان الكثيرين "صورة نمطية" عن لبنان يصعب عليهم كسرها أو النيل منها أو تفقّد معالمها والتبصّر في ما هو حقيقي منها وما هو زائف متخيّل..

هذه " الصورة النمطية " شبيهة الى حدّ بعيد بالصورة النمطية التي كوّنتها النزعة الشوفينية لدى شعوب أخرى تجد في نفسها اختيارية ما أو تفوّقا" ما يجعلها مصابة بعقد التشاوف أو التعالي أو المركزية الذاتية حتى النرجسية

القاتلة، من ذلك نقرأ:

" للبنان على الخريطة مكان البلد الذي له قدره منذ الأزل. والأساس في تراثه اثنان: نوعية الانسان وثروات الذكاء/التفوّق."

هذه الصورة خلقت لأصحابها اشكالية مع الذات ومع الآخر.. فلا الذات قادرة على تجسيدها ولا الآخر يعترف له بها أو هو يسلّم له بالامتياز والانمياز بالتفوّق النوعي/الذكائي أو المعرفي.

هذه الصورة وضعت أصحابها في موقع الخصومة مع الذات والصدام مع الآخر لأنّها تكوّنت من خلال فهم لاهوتي يضع " الذات الكيانية اللبنانية " فوق التاريخ بما يتجاوز الوقائع والمتغيّرات والممكنات..

" لبنان النصّ اللاهوتي " شيء و " لبنان النصّ التاريخي " شيء آخر..

من نصوص شيحا اللاهوتية اقتبس الدكتور نبيل ما عدّه كلاما" نبويا" في ماهيّة لبنان وهويّته:

" بلد صغير، أكيد، بلد جدّ صغير: أمّة صغيرة ، ممكن.. ولكن ليس شعب صغير أبدا"..

هذا " الكلام النبوي " المصرّ " على تعظيم الذات منطلقا" للحضارة الى الشرق الأوسط والعالم " ينمّ عن ارادوية طاغية نألفها في الخطاب الايديولوجي وهي بطبيعة الحال تتنافى وواقعية " البحث الجيو/سياسي في واقع لبنان ودوره ومستقبله ومصيره.."

لاهوتية الأرض أو المكان أو الجغرافيا ( الجبل المقدّس، والجبل الملهم...) ولاهوتية الشعب ( الشعب المتفوّق، النوع الذكي الحضاري الديموقراطي الأصيل.. ) تعودان الى فكر غيبي/ أسطوري/ اسراريEsoterique  يمنعنا من النظر الى هويّتنا معطى واقعيا" متحوّلا" في التاريخ.

هذا الفكر أنتجه لاهوتيون من لبنان في سياقات مختلفة عمّا هو سياسي (عظات الأب ميشال حايك مثلا" ) فجاء مفكّرون سياسيون مؤدلجون ليستغلّوه ظنّا" منهم أنّ " المقدّس " يحمل في ذاته قوّة منعته وأنّ قوّته هي في سرّ تكوينه ما يفرض تهيّب الآخرين ازاءه.

لا موجب أبدا" لالباس لبنان الثوب اللاهوتي كي ندخله في الأسرار المقدّسة وكي نرتفع به الى درجة التعالي الطوباوي، فلبنان اليوم هو كما هم أبناؤه اليوم بهويّته الواقعية المتحوّلة في التاريخ وليس بهويّته الغيبية الثابتة في الأبوكاليبس.

انّ وضع الاستراتيجيات عمل اعياني لا اذهاني يبنى على الوقائع المتحوّلة وليس على الحقائق الثابتة. واذا احتكمنا الى المبدأ الفلسفي القائل لا حقائق خارج الوقائع يسقط الكثير من الكلام الذي بنى عليه الدكتور نبيل خليفة تصوّره للاستراتيجية اللبنانية.