ندوة حول كتاب القاضي  د. حاتم ماضي

" مفهوم السلطة في قانون العمل "

كلمة المحامي هيكل درغام
كلمة رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي غالب غانم
كلمة الدكتور سامي منصور

كلمة الدكتور مارون بستاني



  كلمة المحامي هيكل درغام

ايها الحفل الكريم 

   لقد اولتني الحركة الثقافية - انطلياس شرفا كبيرا بتكلفي ادارة هذه الندوة حول كتاب الرئيس د. حاتم ماضي 

                "   مفهوم السلطة في قانون العمل "

        اني اقف بمهابة وتقدير في هذه الندوة  امام هالتين كبيرتين : 

الهالة الاولى  :

          متكونة من وجودي في حضرة  قضاة رؤوساء كبار،  ورجال قانون لهم  المقدرة  ،  والمعرفة ، والعلم ، ساهموا في صوغ ايجابيات مرحلة من تاريخنا القضائي،  والقانوني الوطني الحالي  ، في طليعتهم الرئيس الاول لمحكمة التمييز المدنية رئيس مجلس القضاء الاعلى د. غالب غانم ، صديق الحركة الثقافية ، ومؤازرها في مجمل برامجها الثقافية ، والوطنية . والرئيس سامي  منصور ، الذي شغل عدة مناصب قضائية ، استاذ في كليات الحقوق، وهو حاليا يشغل منصب رئيس غرفة في محكمة التمييز المدنية ، بالاضافة الى توليه رئآسة معهد الدروس القضائية  .

المحامي العميد د. مارون البستاني ابن الدوحة البستانية الذي يشغل حاليا منصب عميد كلية الحقوق في جامعة الحكمة،  ويدرس الحقوق في جامعات اخرى،  له العديد من الدراسات القانونية شارك في الكثير  من الؤتمرات القانونية  المحلية والدولية 

والرئيس د. حاتم ماضي الذي شغل عدة مناصب قضائية - رئيس محكمة جنايات جبل لبنان - قاضي تحقيق اول في بيروت - محقق عدلي في جريمة عين علق، وهو يشغل حاليا رئيس عرفة في محكمة التمييز المدنية - يدرس الحقوق في جامعة الحكمة له دراسة معمقة حول قانون اصول المحاكمات الجزائية  .   في معرض بحثه يتصف بالقانوني البارع ، وبراعته تتجلى بالاحاطة الواسعة بعلم القانون ، ووقائعه ، والوقوف على احدث النظريات القانونية والاجتهادات القضائية ، وتتجلى براعته ايضا بالممارسة العملية مما يمكنه من ايجاد المخارج ، والنتائج والخلاصات لكل بحث تناوله وهو صاحب شخصية وطنية وانسانية واسعة الافاق  . 

اما الهالة الثانية      فهي تتجسد بالكتاب موضوع الندوة بعنوان  : 

                " مفهوم السلطة في قانون العمل "

  هذه الدراسة المرجع ، الشاملة المتخصصة عن قانون العمل ، وعن العلاقة القائمة بين رب العمل،  والاجير، وما يرافق ذلك من تطور تشريعي بين المفاهيم،  والقواعد المرسخة لهذه المبادىء،  المكونة لعقد العمل ، ومن مفهوم الاجر لقاء العمل ، والبدل المتساوي وفق طبيعة الخدمة المؤداة ، والحقوق المتبادلة بين طرفي العقد الاكثر نفعا لكلا الفريقين مع ما يستتبع ذلك من شذوذ  لهذه القاعدة ، والولوج الى مفهوم السلطة لاحد طرفي العقد اي صاحب العمل الذي يملك سلطة التأديب ، والادارة ، وانهاء العقد ، وتعديله  

يقول المؤلف ان السلطة في قانون العمل هي من اهم سمات هذا القانون ، يسميها المؤسسة التي   نشأت ، وترعرعت في كنف الحق الذاتي ، واصبحت تتطور تباعا الى ان وصلت بشكل او بآخر الى القانون الخاص ، وهي تتخذ اربعة اشكال  :

-  السلطة الاقتصادية التي تتعلق بقرارات صاحب العمل 

-  السلطة الادارية الاجتماعية ، اي ادارة العمل 

-   سلطة تنظيم العمل 

-  سلطة التأديب   

   لقد اعتمد المؤلف اسلوب التعمق العلمي في البحث عن تطور مفهوم السلطة وهو صاحب المعرفة الواسعة  ، وهو يتحلى بقدرة استنباط لمجموعة كبيرة من الراجع ، والوثائق ، والاجتهادات للوصول الى تحديد مفهوم خاص   بالسلطة ، قد يكون اول من تطرق بنجاح الى هذا الموضوع ، وبات عن جدارة يتمتع بأمتياز خاص لهذا العلم الذي قاربه العديد من العلماء والفقهاء ، ولكن النتيجة المتوخاة لم يصل اليها احد ساه ، وذلك  باعتماده طرق البحث العلمي الموضوعي  ، بحيث افرد لكل عنوان اومفهوم يتعلق بالموضوع المراجع والابحاث المختصة به، ليأتي النص والاستنتاج محاطين من كل جوانب المعرفة المتعلقة بهما .

 في شرحه لقانون العمل لم يترك بابا يتعلق به الا وتطرق اليه، عرض المبدا،   المقارنة ، التحليل الموضوعي ، سرد النظريات والمدارس  الفقهية ،   والقانونية ، ليصل الى الخلاصة التي يفرضها الواقع العلمي المتطور  آخذا بعين الاعتبار احقية الواجب القانوني لطرفي العقد 

 اننا نعتبر هذا الكتاب هو من الاهمية بمكان  بحيث ان كل باب تطرق له ممكن ان تدار ندوة حوله ، لاجل التعمق بما توصل اليه الكاتب من تحدبد مفاهيم ومبادىء جديدة لقانون العمل  . 


كلمة رئيس مجلس القضاء الأعلى

  القاضي غالب غانم

        يطمئن المرء عندما يرقب ظاهرة من الظواهر فيستبين له ان ثمة ما هو مختلف في إشارة من إشاراتها او في وحدة من وحداتها. ففي بابل اللغات تفلته اللغة الصرّاح. وفي غمار الآراء يميل الى حيث الحكمة والرؤيا. وفي حقول الفن وسائر وجوه الإبداع لا يستوقفه إلا كل ذي علامة مضيئةٍ دالةٍ على فرادته.... وأمام انهمار المؤلفات وخروج آلاف الآلاف من الصفحات من بطون المطابع، يروح يسأل نفسه: أين الخصوصية، وأين الجدّة، وعلى الأقل أين الجدوى؟ ولماذا تهدر الدقائق وترهق النفس ويستلب وقت القارئ استلاباً بغير حق إذا كان ما نقدمه خاوياً او متفسخاً او مضلاً او سقيماً او مجترّاً او مسطحاً او عاجزاً او خابطاً خبط أعشى في طرح كان عليه ان يحسن رسم الطريق الى مقاربته منذ شرارة الفكرة وتفتّق النبع حتى أبعد أبعاد المحتوى وآخر النهر؟

        أقول ذلك، وأسارع الى الإضافة انه لو لم يكن المصنّف الذي التأم هذا اللقاء على اسمه واسم صاحبه من الفئة التي حصّنت نفسها بوجه هناتٍ ذكرت، وحملت ميزات تعزز انتسابها الى الآثار السويّة النافعة، لما كنت بدأت كلمتي بهذا التصدير. لقد نجا، بالفعل، من الانتساب الى عالم الأوراق الخاوية، وحتّم على القارئ المتبصّر ان يضمه الى لائحة الكتب التي تأخذ مكانها اللائق في مكتبة العلم القانوني، لبنانية كانت أو عربية.

        لأجل ذلك، وقبل أن ألامس الموضوع من بعض زواياه وعلى الأخص من إحدى زواياه الأساسية، أتوجه بفرحٍ ال قاضٍ طويل الباع في القانون... الى زميل من الزملاء الذين هم موضع اعتزازي... والى كاتب لم يهدر وقته ولم يعبث بأوقات الناس، قائلاً له ان ما في الكتاب من مزايا هو عاكس ملامح صاحبه، ومقدراته. وان ما أندفق فيه من أفكار وآراء ودقائق وأسئلة ومسائل ومطارحات ومعالجات وخلاصات تحليلية ومراجع... نقلنا إلى ما نصبو اليه من مناخات البحث العلمي، والكرم الحاتميّ!

        من غير المستطاع ولا المؤاتي ان نتتبع في مقام هو اميل الى الاحتفاء اكثر منه الى المناقشة أبواب الكتاب وفصوله جميعاً وصولاً الى شعابه وجزئياته... ومن غير المنصف من نحو آخر، ألا نذكّر ببعض ما ورد فيه، حتى ولو تمّ ذلك بالصورة العجلى.

        يبدأ المؤلف رحلته في تقصّي مفاهيم الحق والدعوى والنظام القانوني والارادة والسيادة منذ محطّة القوانين القديمة وصولاً الى أحدث النظريات الاجتماعية. ثم يوازن بين الحق الذاتي ومفهوم السلطة محاولاً تحديد السلطة من حيث علاقتها بالقوة والعدالة، متمثلاً بمعادلة باسكال المأثورة التي جاء فيها:

La justice sans la force est impuissante, la force sans la justice est tyrannique

ومتوقفاً أمام ما يسمّى في الحق الإداري السلطة الاستنسابية التي ينبغي الا تكون اعتباطية او تعسفية، ثم مستطرداً الى تحديد الطبيعة القانونية للسلطة في تشريع العمل ومفرّقاً، هنا، بين المدرسة العقدية والمدرسة النظامية او المؤسساتية التي أطلقها Hauriou، حجة القانون الدستوري والإداري وكل قانون ذي هدف جماعي، في مستهّل القرن العشرين... ومشيراً من ثم الى نظريات أخرى: كالنظرية الأبوية، ونظرية التفويض القانوني، والنظرية الألمانية التي ترى في السلطة عقداً من عقود القانون العام، ونظرية الكنيسة الكاثوليكية التي مسحها مطلقوها، كالمعتاد، بمسحة إنسانية.

        وينتقل، بد ذلك، الى البحث عن سبب السلطة الكامن في عقد العمل متبصّرا في عناصر هذا العقد وخصائصه، ومعالجاً رابطة التبعيّة ومبيّناً خصوصية الأطباء والمحامين والفنانين وسواهم في هذا المضمار، ومرتداً الى عقد العمل لتبيان طوارئه وأنواعه ومحتواه. ونقطع حقولاً خصيبة عديدة عابرين بعدها مسافات الخصخصة واندماج المصارف وتحويل المشاريع والامتيازات وأثر ذلك على حقوق العامل، قبل الوصول الى قسم آخر في الكتاب يتحدّث عن أشكال ربّ العمل في التنظيم، والتأديب، ومداهما ووجوههما والرقابة عليهما... وسلطة الإدارة الاجتماعية في الصر والإنهاء هذه عن طريق العلم المسبق والإنذار، ومشروعية سبب الصرف اجتناباً للتعسّف، مع التذكير بما  قاله جوسران حول ان عقد العمل هو، أكثر من أيّ عقد آخر، الأرض المختارة لنظرية التعسّف...

        كل ذلك والأفكار يتوالد بعضها من بعض، والنظريات تسند الكتف الى الكتف والمقارنات تتكثّف والمراجع تتزايد صفحة بعد صفحة، والجولات تتتالى لا في قانون العمل وحده، بل في القانون المدني، الأب الأعلى لكلّ القوانين، وفي القانون الإداري... والاجتهادات تنهال من أصواب مجلس الشورى ومحكمة التمييز ومجالس العمل التحكيمية ومن فرنسا ولبنان وبلدان عديدة ذات تجارب متلونة في هذا المضمار... وكل ذلك أيضاً والبحث على درجة كبيرة من التوازن، والتساوق، والموضوعية، والشمول، والروح النقدية، والكفاف الأسلوبي الذي هو، في ميدان القانون، سلامة لغة لا تخلو من النبض والإشراق.

        مسألة المسائل في الكتاب هي، برأيي، استقراء الواقع في سبيل مواكبة ثنائية تطالعنا في قانون العمل، وفي قوانين شتّى، هي ثنائية القوّة والعدالة، بوحيٍ ممأ أطلقه باسكال.

        في كل سلطة بعض العنف، وفي كل تحرر بعض الفوضى.

        الأنظمة المغلقة على مدى الحرية مضرة ضرر بعض الحريات المتفلتة من النظام.

النظرة الى العامل وكأنة امتداد للآلة خطرة كالنظرة الى رب العمل وكأنه شيطان رجيم.

        المغالاة في تدخل الدولة لتعزيز وضع العمال على حساب قابلية المشروع للحياة سلبية كإطلاق يد صاحب المشروع في توسّل كل ما يضمن له الكسب على حساب أجساد العمال وأرواحهم.

        عَسفُ السلطة كتراخيها، وكبت الإرادة كإيلائها فوق ما يقضي توازن المصالح.

        القوة صدام إذا أعوزتها العدالة، والعدالة استرحام إذا أعوزتها القوة...

        والسلام السلام، في حقل قانون العمل، هو الاهتداء الى صيغة مثلى تحقق التوازن بين طرفيه الرئيسين. نقول ذلك بالموضوعية المطلقة مقرين بأن وجداننا، وما تنشأنا عليه، يحملنا الى الضفة التي يكون فيها الطرف الأضعف: عاملاً مكدّاً مستبسلاً، ومحروماً اينما كان، وحدثاً أدار له الدهر ظهر المجنّ، وامرأة تبذل ما يجاوز طبيعتها وطاقتها، ومعلّما قيل انه كاد ان يكون رسولاً، لا لحقيقة ما قيل.. بل لأنه يعطي أضعاف ما يطلب منه ويأخذ أقل مما يستحق!

        وهذا يعني ان الصاق فكرة الرسولية بالفئات التي تعطي الكثير وتأخذ القليل هو إرضاء لها بالشعر، والتبجيل، والتخدير، وهروب من أداء الواجب، ومن الأنصاف.

        ان معيار التوازن واكب هذا العمل الكثير الجدية، منذ الصفحات الأولى حتى الخواتيم. ولا عجب إذ الأسلوب هو الإنسان، والمضمون أيضاً هو الإنسان... وذلك ان ما في الكتاب من توازن كان مرآة للمخزون الكامن في ثقافة صاحبه وفي تجربته ذات الشعاب والافاق، وذات العمق والاختمار!

        لقد حاولنا مرةً، في هيئة تحديث القوانين، ان نتصدّى لقانون العمل، فجمعنا ما جمعناه، وعدّلنا ما عدلناه، ولم يكن كثيراً. انها محاولة نحو عقد اجتماعي جديد، نحو أفقٍ صفاء ووئام وعدالة. ويشير صاحب الكتاب الى ان ثمة مشروع متقدّم في خياراته، أعدّته الحكومة ولم يسلك نهايات الطريق بعد.

        وعليه، فإن كل محاولة لتعديل قانون العمل تكون ناقصة إذا غضّت الطرف عمّا ورد في كتاب القانوني الكبير، الصديق الدكتور حاتم ماضي، من آراء ومقترحات. انه كتاب قليل الادعاء كثير العطاء.

وهو النوع الذي لا يخجل به صاحبه، ولا ييأس منه قارئه.

وانه، وصاحبه، جديران بالتفاتة عرفان، وبانحناءة تكريم!

  كلمة الدكتور سامي منصور

        أن تكون موضوعياً في البحث أو في مناقشة موضوع تحبّ أو تكره الخوض فيه هو في ذاته تحدٍّ للباحث أو المناقش، فالخشية هي في أن لا يَحكُمَ دون ميل، وفي ذلك سبب للتنحّي، تنحّي القاضي أو ردّه. فكيف إذا اجتمعت في مَن كانت هذه الندوة حول كتابه صفات الزمالة وروحية الانتماء إلى عائلة واحدة، عائلة القضاء. عصامي إلى أقصى الحدود وصديق إلى أقصى الحدود. عرفته منذ عرفت كلية الحقوق في الصنائع، صنائع ادمون رباط وخليل جريج وعاطف النقيب ومصطفى العوجي ونقولا أسود وغيرهم. هذه الكوكبة التي لا تُعوَّض. ومع ذلك أيُّها الصديق قبلت التحدّي محاولاً أن أكون موضوعياً في هذه الندوة المخصّصة لكتابك فأتجاوز قدر الإمكان كلّ ما هو شخصي أو تحكمه عاطفة المحبّة والأخوّة، ولن أتنحَّى.

        عنوان كتابك أيُّها الصديق: قد استوقفني:

        السلطة في قانون العمل. دراسة مقارنة مع قوانين فرنسا، مصر، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، قطر... فهل للسلطة في قانون العمل مفهوم خاص يميّزه عن غيره من القوانين فتستحقّ الدراسة؟

        يجيب المؤلِّف على ذلك بما يأتي: "إن السلطة في قانون العمل هي من أهمّ سمات هذا القانون وهي التي تميّزه عن باقي فروع القانون لأنها العلامة أو المؤشّر على أن العمل هو عمل تابع. ولأنه عمل تابع Subordinné فهو خاضع لقانون العمل الذي لا يرعى إلاّ العمل التابع (ص 8)". "ولهذا ليس ما يمنع أن نسمّي قانون العمل ﺑ "قانون السلطة" وإن السلطة في قانون العمل أو التبعية القانونية للعامل لصاحب العمل هي أهمّ سمات هذا القانون. وهي بمعنى آخر سبب وجود هذا القانون. إنّ القانون الخاص وإنْ كان يأبى الاعتراف بفكرة السلطة، ودائماً حسب المؤلِّف، "إلاّ أن قانون العمل يُعتبر الأرض المختارة لهذه الفكرة" (ص 10). ولعلّ فكرة السلطة هي التي حملت الكاتب إلى النتيجة الآتية: إنه إذا كان صحيحاً أن قانون العمل قد وُلد من رحم القانون المدني ومن المادة 624 موجبات وعقود تحديداً إلاّ أنه انفصل عنه بصورة تدريجية بحيث أصبح ممكناً القول أن ثمّة فرعاً جديداً من فروع القانون قد وُلد (مقدّمة الكتاب).


        صحيح أيُّها الصديق، إن سمة قانون العمل هي سلطة صاحب العمل التي تتّخذ عدّة أشكال أو أنماط: السلطة الاقتصادية التي تتعلَّق بقرارات صاحب العمل ذات الطابع الاقتصادي مثل اختيار الشكل القانوني للمشروع واختيار نوع الإنتاج والسوق والآلة ونوع الزبائن... وسلطة الإدارة الاجتماعية أي سلطة إدارة العمل وسلطة تنظيم العمل وسلطة التأديب. وهو ما عالجه المؤلِّف في الجزء الثاني من الفصل التمهيدي للكتاب. ولكن الصحيح أيضاً هي أن السلطة موجودة في أيّ فرع من فروع القانون، وقد تكون هي المعيار الذي يطبع فرعاً من فروعه قصدت بذلك القانون العام. فالسلطة هي الأساس في فكرة الدولة وفي عقودها الإدارية من خلال البنود الخارقة إضافة إلى معيار تحقيق المرفق العام، وهنالك سلطة الدولة والسلطات في الدولة ومبدأ الفصل بينهما، وتجاوز حدّ السلطة كأحد أسباب إبطال الأعمال الإدارية... والسلطة هي أيضاً الأساس في مواضيع عديدة في القانون الخاص من ذلك في العقود المدنية والمسؤولية. ففي العقود هنالك مبدأ سلطان الإرادة "فقانون العقود، حسب المادة 166 من قانون الموجبات والعقود، خاضع لمبدأ حرية التعاقد. فللأفراد أن يرتّبوا علاقاتهم القانونية كما يشاؤون بشرط أن يراعوا مقتضى النظام العام والآداب العامة والأحكام القانونية التي لها صفة إلزامية..." وعن هذه السلطة تولَّدت القوّة المُلزمة للعقود. والمسؤولية هي المقابل للإخلال في السلطة:

أوّلاً: سلطة الإنسان على نفسه (التبعة الناجمة عن العمل الشخصي- المادة 122 م.ع) من هنا اشتراط المشترع التمييز كعنصر أساسي مكوّن لهذه التبعية. فهو العنصر الأساسي في إمكانية ممارسة هذه السلطة.

ثانياً: سلطة الإنسان على غيره، فالأصول والأوصياء مسؤولون عن كلّ عمل غير مباح يأتيه الأولاد القاصرون المقيمون معهم والخاضعون لسلطانهم (المادة 125 موجبات وعقود). وكذلك المعلّمون وأرباب الصناعات مسؤولون عن الضرر الناجم عن الأعمال غير المباحة التي يأتيها الطلبة أو المتدرّجون الصناعيون في أثناء وجودهم تحت مراقبتهم وسلطتهم (المادة 126 موجبات وعقود) والسيّد والولي مسؤولان عن ضرر الأعمال غير المباحة التي يأتيها الخادم أو المولى في أثناء العمل أو بسبب العمل... بشرط أن يكون لهما سلطة فعلية عليهما في المراقبة والإدارة..." (المادة 127 موجبات وعقود).

ثالثاً: سلطة الإنسان على الأشياء: فحارس الجوامد المنقولة وغير المنقولة يكون مسؤولاً عن الأضرار التي تحدثها تلك الجوامد حتى في الوقت الذي لا تكون فيه تحت إدارته ومراقبته الفعلية. (المادة 131 موجبات وعقود). وفكرة الحراسة بتعبير القضاء اللبناني هي التي تقوم على استقلال حارس الأشياء وسلطته في الإدارة والإشراف والمراقبة الفعلية وإصدار التعليمات والأوامر ولو لم يكن مالكاً لهذه الأشياء. فالحراسة ترتبط بالسلطة. ونفس الفكرة هي الكامنة في مسؤولية حارس الحيوان عن ضرر حيوانه وإن يكن قد ضلّ أو هرب (المادة 129 موجبات وعقود). وفكرة السلطة عينها هي التي تبرز عند تعريف الحقّ العيني بتمييزه عن الحقّ الشخصي. فهو السلطة المباشرة للإنسان على الشيء. ومرور الزمن المكسب للحقّ العيني هو التعبير عن فكرة السلطة والسيادة: سلطة الإنسان وسيادته على الشيء بحيازته له المدّة الزمنية المنصوص عنها في القانون العقاري بشكل هادئ وعلني ومستمرّ بدون التباس والتصرّف به تصرّف المالك في ملكه في العقارات غير المقيدة في السجل العقاري...

        أيُّها الصديق: إنّني أتّفق معك تماماً في ما كتبته في مقدّمة الكتاب: "أن تكتب في قانون العمل - والقول لك- يعني أنّك اخترت أن تكتب في ما هو سهل وممتنع في آن. كما يعني أنّك اخترت قانوناً يتطوّر باستمرار إلى درجة يصعب عليك معها أحياناً أن تواكبه. هذا التطوّر المتسارع أدَّى إلى أمرين: الأوّل هو النزعة المتزايدة عند هذا القانون إلى الانفصال عن القانون المدني الذي وُلد في كنفه. والثاني هو بداية تكوين مبادئ قانونية جديدة ليست معروفة إلاّ في قانون العمل بحيث أصبحت تعتبر قواعد قانون العمل من النظام العام".

        ولكن اسمح لي أيُّها الصديق أن أُضيف إلى ما قلت: فقانون العمل قد انفصل فعلاً في الوقت الحاضر عن القانون المدني. إنه كالتحكيم الذي وإن نشأ في كنف القانون القضائي الخاص والقانون الدولي الخاص، إلاّ أنه أصبح في الحاضر مكوّناته: مجتمعة وهو مجتمع التجارة الدولية وقضاؤه الخاص وهو التحكيم وقانونه، وهو ما يملكه المحكم من سلطة في اختيار القواعد التي يراها مناسبة عند عدم وجود إرادة تختار الإجراءات أو القانون المطبّق. فقانون العمل هو أيضاً له مجتمعه الخاص: أصحاب العمل والعمال، وقضاؤه المتخصص: مجالس العمل التحكيمية. والمبادئ والقواعد القانونية الخاصة به، مثال على ذلك: مبدأ الحقوق المكتسبة ومبدأ عدم التعسّف ومبدأ الاتفاقات الأفضل. إنه ليس كبقية القوانين: فهو قانون اجتماعي بامتياز، وهو قانون النظام العام وأيضاً بامتياز. فالأحكام التنظيمية في قانون العمل ليست هي من فئة النظام العام الداخلي الذي أشارت إليه المادة 166 موجبات وعقود المذكورة كقيد على الإرادة وعقوبة مخالفته البطلان المطلق للعقد أو البند المخالف وحسب، وليست هي من فئة النظام العام الدولي الذي يعرفه فقه القانون الدولي الخاص باستبعاد كلّ قانون أجنبي يصدم قاعدة أساسية يقوم عليها المجتمع اللبناني وحسب. إنها من فئة النظام العام الواقي، ذلك النظام العام الموصوف الذي يطلق نوعاً من النصوص القانونية الحاذفة لسواها. فالسلطة فيها تكمن في أن هذه النصوص النظامية في قانون العمل تفرض نفسها مباشرة عندما يكون عقد العمل منفّذاً في لبنان ولو كان أطرافه من الأجانب أو لبنانيين تعاقدوا في الخارج أو مع شركات أجنبية في الداخل أو الخارج. إنه قانون حتمي التطبيق، أو ما يطلق عليه الفقه الفرنسي قانون بوليس Loi de police. وهل من سلطة أشدّ من ذلك؟

        أيُّها الصديق: محتويات كتابك غنية وغنية. إذ ليس من موضوع يثيره عقد العمل إلاّ وبحث في الفصل التمهيدي وقسمي الكتاب. ولا مجال للتعداد أو التذكير ففي الكتاب عرض مسهب لفكرة السلطة في عقد العمل، مصدرها وسببها القانوني والمدارس التي تتناولها من عقدية ونظامية ومؤسّساتية وحدود هذه السلطة، وعناصر عقد العمل وهما العمل المأجور وعنصر التبعية وأنواع هذا العقد، الطوارئ التي تعترضه. كما عرض الكتاب لتحويل العقد أو انتقال السلطة، الأشكال والآثار، وحالة الخصخصة وأبعادها على ذلك العقد، كذلك أشكال السلطة ونماذجها من اقتصادية وإدارية وتأديبية والرقابة على ممارسة هذه السلطة وفكرة النظام الداخلي في المؤسّسة وحالات الإلزام بوضعه وطبيعته القانونية في علاقة صاحب العمل بالعمال وبالإدارة والنظريات في الموضوع وحالات الصرف من الخدمة ومدى مشروعيتها وحقوق العامل المصروف وسلطة التأديب ومدى ارتباطها بقاعدة أن لا جريمة دون نص وأن لا عقوبة دون نص ومرور الزمن على الخطأ التأديبي... وماذا بعد؟

        مراجع الكتاب هي أيضاً غنية، وتمتاز بتنوّعها وحداثتها، من فقهية وقضائية. حتى أننا نستطيع القول: إنه قلّما نجد مؤلّفاً مرجعياً في قانون العمل، أو قراراً قضائياً، وتحديداً عن قضاء العمل في فرنسا أو لبنان إلاّ وعدت إليه. وكنت أتمنّى أن يكون الأمر هو نفسه بالنسبة لبقية القوانين العربية التي عدت إليها وذكرتها في مؤلّفك.

        وفي الخاتمة، إسمح لي أيُّها الصديق أن أُعيد طرح عنوان البحث من الأساس فأتساءَل وقد يتساءَل بعض الحاضرين: هل إن السلطة هي دائماً في القدرة على الإخضاع؟ وهل السلطة هي امتياز لصاحب السلطان؟

        فكم من سلطة وضعت أيُّها الصديق في مَن ليس أهلاً لها أو أُسيء استخدامها. فأدَّت بالنتيجة إلى هدم أصحابها. إنها كذلك الكائن الأسطوري الذي يأكل نفسه. فالسلطة قد تكون أقوى عندما تقوم على الإقناع والحكمة فتأسر الإرادة، وقد تتحوَّل إلى عيب مبطل للعقد عندما تُستعمل لاستغلال الطرف القوي اقتصادياً في العلاقة القانونية وتعيب رضاه، كما في حالة الهوى الجامح الذي قد يقع فيه صاحب المال الباشا أو البيك في بعض المجتمعات والذي نصّت عليه بعض القوانين العربية، من ذلك المادة 140 من القانون المدني القطري رقم 22/2004 أو مصادرة الإرادة Captation التي اعتبرها الاجتهاد الفرنسي واللبناني صورة من صور الخداع المُبطل للعقد. ثم، ألا يتولَّد في حالات عديدة عن الضعف سلطة؟ إنّها السلطة المقابلة لتواجه كلّ تعسّف أو لتطالب بحقوق. لقد قلت في كتابك أيُّها الصديق: إن العامل هو الطرف الأضعف في العلاقة
(ص 9) وأن عقد العمل هو عقد إذعان وموافقة (ص10) ولكن أليس لهذا الطرف الضعيف من سلطة وحقوق ضاغطة وعنها تتولّد القوّة: الحقوق النقابية، والحقّ بالإضراب، والمطالبات الاجتماعية، وعقود العمل الجماعية، وقانون الضمان الاجتماعي، وهنالك المنظّمات والاتفاقيات الدولية لحماية العمال وهي لا تُحصى... لقد بحثت في مؤلّفك ايُّها الصديق: مفهوم السلطة في قانون العمل من زاوية سلطة ربّ العمل وعلاقة التبعية والذي أعتبره جزء أوّل في البحث. فعسى أن تبحث في جزء ثان السلطة في قانون العمل من زاوية العامل والضمانات ووسائل تحقيقها.


  كلمة الدكتور مارون بستاني

أيُها الحفل الكريم

        عندما يمارس الإنسان نشاطَين في الوقت نفسه، لا بدّ من أن يطغى واحد على الآخر، ومن النادر أن يتوازن الأمران بالتمام والكمال. غير أن الرئيس حاتم ماضي خرج عن هذه القاعدة. منذ فترة وأنا أتساءَل أية صفةٍ هي الغالبة لديه؟ هل هي رسالة القاضي؟ أم هي سمة الأستاذ الجامعي؟ في المجالَين كان مجلاًّ ... لم يعتمد الرئيس ماضي في وجهَي نشاطه، القضائي والأكاديمي، المنحى التصادمي بل المسعى التوفيقي. وهكذا، أصبح النشاطان كرافدَين يلتقيان في النهاية ليصبّا في مجرى واحد، مجرى نهر المعرفة الواسع الذي لا يحدّه حدود والذي يبقى بحالة نهَم مستمرّ، مهما حاولنا إشباعَه. هو لا يأبهُ إطلاقاً لمسألةِ مصدَرِ الروافد التي تغذّيه طالما أنها تُغني منسوبَه زخماً وحجماً، وتزيد تدفّقه دفعًا وعطاءًا. هكذا هو الرئيس حاتم ماضي... لا يسمه في الأوساط القضائية رنّةٌ مميّزة، ولذِكرِه في أروقة الجامعة صدىً خاص... هو من فئة الرجال الذين يتركون أثراً أينما حلُّوا، ويطبعون النطاق الذي فيه يعملون بلمسة خاصة لا تتوفّر إلاّ لقلّةٍ من المميَّزين.

        شرّفني حين دعاني مع أصدقاء ولا أعزّ، للمشاركة في هذه الندوة حول كتابه الجديد.

        منذ ما يقاربُ العقدَ من الزمن، زاملتُه خلالَه في كلّيات الحقوق... وكان من النادر أن يمرَّ أسبوعٌ دون أن نلتقي... نتبادلُ الآراء... نحكي أموراً... نتطرَّق لمواضيعَ لا مجالَ لأن نحكيها مع كُلِّ الناس... فيها شجونٌ وأحلامٌ وشوق إلى تغيير نفترضه قادماً لا محالة... وكنت خلال كلّ هذه المدّة أعتقدُ أن اهتماماتِه منصبّةٌ على القانون الجزائي وعلى أصولِ المحاكمات فيه، حيثُ تشكِّلُ كتاباتُه مرجَعاً أساسيّاً. وإذ بي أكتشفُ أن قانونَ العمل يَشغلُ أيضاً حيّزاً مهمّاً من تفكيرِهِ واهتماماتِه، وأن مقاربَته للمواضيع هي مقاربةٌ جديّةٌ وعميقة، وهو كعادتِه لا يتقبّل المقاربة السطحيّة، بل يغوصُ دائماً إلى العُمقِ ويَلِجُ أبداً إلى اللبّ.

        سوف أقسم مداخلتي إلى قسمين:

        في القسم الأوّل: أعرضُ فيه لبعض المزايا الملفتة في الكتاب.

        في القسم الثاني: أتناولُ الطرحَ الجدلي الذي تُثيره اليوم بعضُ المبادئ التي يقوم عليها قانون العمل.

أوّلاً: في بعض المزايا الملفتة في الكتاب

        1- أهمُّ ما يستوقفُ الباحثُ القانوني عند قراءة مقتطفات من كتاب الرئيس ماضي هو تلك النظرة الشاملة للموضوع، الضابطة لتفرّعاتِه، المسيطرة على تعرّجاتِه... إنّها هيبةُ الأستاذ الجامعي وخبرةُ القاضي الطويلة التي تضبطُ التفاصيل وتردُّها دائماً إلى الأصل... وعلى الرغم من تشعّب مادة الكتاب، نرى بأنها تُساقُ بتسلسلٍ منطقي، مشدودةً برابطٍ متين إلى المبادئ العامة... إنّها هرميةُ القانون، حجرُ الزاوية في البناء القانوني كما كان يَطيبُ
ل Kelsen أن يردِّدَ في كلّ مناسبة. فالأفكار لا تُطلق في الهواء... هي معلّقةٌ دائماً برابطٍ ما إلى مبدأٍ أساسيّ، هو بمثابة المنارة التي لا تغيبُ أبداً عن نظرِ المؤلِّف مهما استفاضَ في الشروحات وغاصَ في التفاصيل. إنه الصفاءُ الذهني لمن تمرَّسَ في القانون وأَلِفَ المعاجمَ الحقوقية وأَلِفَته خلالَ سنوات وسنوات مليئةٍ بالعطاءات. الرئيس حاتم ماضي فسَّر القواعد القانونية، وطبَّقها قاضياً، وشرحَها أستاذاً جامعياً، فانقادت له بعدَ كلّ هذه الخبرة مطيعةً صاغرةً، وانسابت بعفوية في مؤلِّفِه، فاستحالت قريبةَ الفهمِ سهلةَ المنال، على الرغم من تعقيداتها، فصحَّ فيه قول Domat "مهمّة الأستاذ الجامعي كما المؤلِّف، هي في إعطاء الشروحات الواضحة للمواضيع المعقّدة". "Des explications claires aux choses obscures".

        2- تظهر ثقافة المؤلِّف الواسعة في الفصل التمهيدي الذي يمكنُ أن نُدرجَه ضمن بابَين: باب فلسفة القانون وباب تاريخ القانون، ذلك أن مادة هذا الفصل التمهيدي تتخطّى الحدودَ المألوفةِ لقانون العمل، إذ تعرضُ لنظرتِه السلطة في القانون الخاص، وكيف أنّها تطوّرت، وكيف تركَّزت على فكرة الحقّ الذاتي، وتبيِّنُ علاقتَها بمفهومِ المصلحة، ومدى استنادها إلى المدرسة التعاقدية وإلى المدرسة النظامية، مستنيرةً بدراسات الخالدين من كبار القانونيين أمثال Kelsen و Duguit و Dabin و Ripert و Josserand و Rou Bier وCarbonnier وسواهم.

            صحيح أن قانون العمل حديثُ العهد، ولكنه فرعٌ من أصل، انبثقَ عن القانون المدني وأخذ عنه نظرية العقد، ونظرية المسؤولية: المسؤولية التقصيرية، ومسؤولية التابع والمتبوع، ونظرية التعسّف في استعمال الحقّ، ومفهوم القوّة القاهرة وسواها من النظريات التي نجد أثرها جليّاً في صفحاتِ الكتاب وشروحاته.

        3- من يتصفَّح الكتاب بتعمّق، يجد فيه منهلاً ليس للطالب فحسب، بل وأيضاً لرجل القانون الذي يرغب في العودة إلى ينبوعِ الفكرِ القانوني وإلى الأصولِ الفقهية.

            إن كتاب الرئيس ماضي يجيب على التوجّهين: طالبُ الحقوق يجدُ فيه منطاداً سحرياً ينقلُه إلى عالمِ القانون الرحب برفق الأستاذ القدير الذي يبسِّط المعقّد ويشخِّص المجرّد. وصاحبُ المهنة الحقوقيّة يجد فيه رياضة فكريّة وتقويماً لما أحدثته الممارسة في طريقة أدائه من اعوجاجٍ وتشدّدٍ في المنطق المتراخي، وتذكيراً بأهمّ المراجع لمن يرغبُ في الاستفاضة.

        4- تمتاز الصياغة القانونية عن غيرها بمفرداتها الخاصة، وأناقتِها ووضوحِها وبُعدِها عن المغالاة. وقد لاحظنا في الفترة الأخيرة تَراخياً كبيراً في أصول الصياغة، سواء القضائية منها أو الفقهية أو التشريعية. غير أن كتاب الرئيس ماضي أعاد الأمور إلى نصابها، فاستعادت الصياغة القانونية ميزاتِها وصفاءَها، وأناقتَها وسهولتَها ووضوحَها، فأتت المعلوماتُ مستساغةً، وحملت المعاني بدقّة ونقلت الفكر بصدق.

        هذه بعض من مزايا الكتاب، وهي غيضٌ من فيض، برزت بقوّة ممّا استوجب التطرّقَ إليها والتنويه بها.

ثانياً: في الطرح الجدلي الذي تثيره اليوم بعضُ المبادئ التي يقوم عليها قانون العمل.

        لا بدّ في هذه النَدوة المميّزة، كما تقتضيه أصول اللعبة الجدلية، من أن نطرح المشكلة التي تُثار اليوم حول فعالية قانون العمل، مشكلة القواعد القانونية التي تهيكل هذا القانون، بعد تسليط مجهرِ الواقع عليها. فالتطوّرات والمتغيّرات تأتي أحياناً لتهزّ بعض المعتقدات الراسخة، وتنمِّي الشكَّ لدى رجل القانون الذي يتولَّد عنده قلقٌ عميق وهو ينظرُ إلى التراثِ القانوني المتجذِّر والذي بدأ يلهثُ في رحلتِه الطويلة بعد أن تتالت عليه ضرباتُ التطوّرات غير المرتقبة، وبعد تبدُّلِ العادات وقواعدِ السلوك، وبروزِ مصادر قانونية جديدة لم تكن معروفة سابقاً.

        هنا ينبغي أن نتساءَل: هل ما زال اليقينُ مكيناً لدى الفقهاء بأن القواعد القانونية الأساسية التي قام عليها قانون العمل، ما زالت ثابتة، تؤدِّي الغاية من وجودها، وتؤمِّن الحماية الكافية للطرف الضعيف في عقد العمل، لا تتأثَّر بالعوامل الخارجية تماماً كعامودٍ من رخام في أروقة قصور العدل، كما يَطيبُ أحياناً تشبيهُها؟ وأين هي ثورة الواقع على القانون؟ ولماذا اضطّرّ فقهاء كبار لأن يتكلّموا عن تراجع القانون Le decline du droit أو عن التبدّلات الجذرية في القانون SAVATIER: Les metamorphoses du droit أو عن القانون القابل للإلتواء CARBONNIER: flexible droit.

        لقد بدأ الشكُّ يتسرَّبُ شيئاً فشيئاً إلى ذهن رجل القانون، حول جدوى بعضِ القواعد القانونية التي يقوم عليها قانون العمل والتي لم تعد تتماشى مع الواقع ولم تعد تأتلف مع ما هو سائدٌ اليوم.

        1- إذا كان العملُ حقاً لكلِ إنسان، كما تنصُ عليه شرعةُ الحقوقِ الاقتصادية والاجتماعية، فهل تفكي مجموعةُ المبادئ التي يتضمّنها قانون العمل لصيانة هذا الحقّ؟ وما قيمةُ القواعد القانونية إذا لم يتوافر لها إطارٌ عمليٌ صالحٌ لتطبيقها؟ وما قيمةُ الانتظام العام الذي يرعى مبادئَ قانون العمل إذا لم تتوفّر فيه فرصُ العمل للراغبين؟ وما الجدوى من أفضلِ القواعد القانونية لهذا الفرع من القانون إذا لم يتأمّن العملُ لشبابنا وخرّيجي جامعاتِنا؟ وهل تنفع القواعد القانونية العادية في الأزمنة غير العادية التي تنهارُ فيها كبرياتُ الشركات والمصارف والمصانع؟ ويمسي الآلافُ بين ليلةٍ وضحاها عاطلين عن العمل؟ وما هو تأثيرُ تدخُّل الدولة الداعم للمؤسّسات المُشرفة على الانهيار، على العلاقات التعاقدية للعاملين فيها؟ كما هو حاصل اليوم في عددٍ كبير من الدول الصناعية؟

        2- إلى متى يستمرّ فصلُ البُعدِ الاقتصادي عن العقد، وبخاصةٍ عقد العمل، والاكتفاءِ بالبُعدِ القانوني المجرّد؟ أوليست الظروفُ الاقتصادية هي المؤثّرُ الأوّل على علاقات العمل في كلّ الأزمنة؟ تؤثّر على الأصول المعتمدة لفسخ العقد، على مقدار الأجر، على مفهوم البطالة التقنية Le chomage technique، على هيكلية المؤسّسات، على دمجِها ببعضها، على إقفالِ وَحَداتِ الإنتاج في أمكنة ونقلِها إلى بلدانٍ أخرى تكون فيها كلفة الإنتاج منخفضة، وحيث تمسي القواعد القانونية التقليدية عاجزةً عن تأمين الحدّ الأدنى من الحماية للمستخدمين.

        3- خصَّصَ المؤلِّف كلّ الفصل التمهيدي لمفهومِ السلطة لدى ربّ العمل. وإذا كان بالإمكان تحديدُ المركزِ الحقيقي للسلطة، سلطةِ ربِّ العمل، في الأنماطِ التقليدية المبسّطة للمؤسّسات، فهل يبقى الأمرُ كذلك بعد بروزِ ظاهرة تجمّع الشركات، Le grouppement des sociétés، حيث تختلط المصالحُ والأدوار؟ وأين يكمنُ حينئذٍ مركزُ السلطة الحقيقية في القرارات؟ هل لدى شركة الهولدنغ؟ أو الشركات المتفرّعة؟ أو الشركات المنبثقة؟ أو الشركات المندمجة؟ وفي هذه الحالة، هل تنحصر مصلحةُ المشروع في شخصٍ معنوي واحد؟ أم في المجموعة بكامِلها؟ أو في الشركة الأم؟ وما هو أثرُ كلّ ذلك على علاقات العمل، وعلى مناقلات المستخدمين من مركز إلى آخر؟ وأين هي الحدودُ الدقيقة والفاصلة بين كلّ التشعّبات والتداخلات؟ وماذا يبقى من مبدأ نسبية مفاعيل العقود الذي ما زلنا نعتبرُه ركناً أساسياً في نظرية العقد، عقد العمل؟

        4- لم يعد المفهومُ التقليدي في قانون العمل هو السائد حيث تتعارضُ مصالحُ ربّ العمل مع مصالح المستخدمين الذين ينتظمون في نقاباتٍ عمّالية لانتزاعِ مطالبَ لهم عن طريقِ نضالٍ مستمرّ مع عدوٍ تقليدي، هو ربُّ العمل.

            في جريدة Le Monde بتاريخ 14/3/2009 نُشر مقال تحليلي يُبيِّن انعدامَ الدورِ التقليدي للنقابات العمّالية، وأن أصول اللعبة تبدّلت كلّياً، وقد اعترفت صراحة قياداتُ هذه النقابات بأن السلوكيات المعتادة في النضالِ النقابي أمست بدون جدوى وبدون أية فعالية إزاءَ عنفِ الأزمة الاقتصادية الحالية.

            من جهة ثانية، يتبلور اليوم شيئاً فشيئاً مفهومٌ جديد لما يُسمَّى المشروع Entreprise حيث يتشارك الفرقاء (ربّ العمل والمستخدمون) لإنجاحِه وجني الفائدة منه. وهكذا، برزت فكرةُ إشراكِ المستخدمين في النتيجة، وتوزيعِ الأسهم عليهم بهدفِ تنمية حسّ الشراكة عندهم. وبدأت تتحوّل نزعة الصراع بين طرفي الإنتاج: أي طرفي عقد العمل، إلى رغبةٍ في التعاون، ومفهوم النزاع القضائي إلى نيّة في التحكيم الحبّي، وإرادة ربح الدعوى على الخصم إلى تفضيل مسعى الوِساطة كوسيلة جديدة لفضّ النزاعات.

        5- في البدء كان القانون بفروعه كافةً، يُعتبر سلسلةً متماسكةً من القناعات الثابتة... إذا كانت القاعدةُ القانونية التفصيلية متوفّرةً، نحترمها ونطبّقها، وإذا لم تكن متوفّرةً نسترشد بالمبادئ العامة التي لم يكن ليزيدَ عددُها عن عددِ أصابعِ اليد: الحريّة التعاقدية، احترام الملكية الخاصة، أركان المسؤولية الثلاث... ومن هذه المبادئ المسلّمات، نستنبطُ القواعدَ التفصيلية من أجلِ حلّ أية مشكلة طارئة.

            أمّا اليوم فقد تزايدت القوانين والمراسيم والقرارات الإدارية بشكلٍ كبير وغير منتظم، خاصةً في نطاق قانون العمل، وأُضيفت مصادر جديدة، وتعدّدت الأنظمةُ الداخلية للمؤسّسات وتكاثرت العقود الجماعية التي أمست تغطّي قطاعات بأكملها. وهكذا ابتعدت القواعدُ القانونية، رويداً رويداً، في التشريعات الحديثة عن صرامة القاعدة القانونية الثابتة، والآمرة، والشاملة، والمُستلهمَة من مبادئ القانون الطبيعي... وأصبحت مجرّد أوامر تتحكَّم بها الظرفية والآنية، فهي حيناً ناقصة، وأحياناً غير مدروسة، وأحياناً أخرى مدسوسة بهدف أناني، وهي تارةً تتبدّلُ بسرعة الريح وطوراً ذاتُ صياغةٍ مهلهلة.

            إزاء كلّ ذلك، هل يكون من الواقعية بشيء الإبقاء على قرينةِ إلمامِ الناس بمختلف التشريعات القائمة؟ والتشبُّث بقاعدة عدم إمكانية الاعتداد بجهل القانون؟

            كتب العلاّمة الفرنسي René SAVATIER في مجلّة Dalloz مقالاً شهيراً تحت عنوان: "Linflation legislative et l'indigestion sociale" "التضخّم التشريعي وتعذّر هضم المجتمع لهذه التشريعات".

            في هذا الجوّ الملبّد بالشكوك والمُفعَم بتساؤلات عديدة، يأتي كتاب الرئيس ماضي بعمقه وجدّيته وصفائه ليحملَ بعضاً من طُمأنينة لرجال القانون القلقين من المتغيِّرات التي أصابت عالمهم، ومن الهزّات التي زلزلت قناعاتٍ كانت راسخةً لديهم.

        إن من يقرأ كتاب الرئيس ماضي يقتنع أنه، وعلى الرغم من الشوائب والنواقص في التشريعات، يمكن للقانون الوضعي، إذا أُحسن تطبيقُه، أن يؤمّن الاستقرار والعدالة، وأن لا يقفَ حائلاً دون التطوّر، وأن يصمد بوجه المتغيّرات فيطمئنَّ الناسُ، كلُ الناس، إلى مصيرهِم... حينئذٍ، يمكننا أن نردِّدَ مع المحتفى به، كما ورد في كلمة الإهداء التي تتوِّجُ مؤلّفه، إنه بمثلِ هذا النتاج الفكري الذي يستحقّ عليه كلّ ثناء، يُبقي المستقبل موعداً يستحقّ الانتظار على الرغم من ظلم الحاضر وظلامةِ أهله.